Wednesday, September 12, 2012

لنقرأ رسائل الثورة مجددا فقد يكون لنا فيها مخرجا


لنقرأ رسائل الثورة مجددا فقد يكون لنا فيها مخرجا
د. علياء رافع
عندما قامت ثورة الخامس من عشرين يناير اهتز لها العالم أجمع،  ولم تر فيها شعوب الأرض أنها مجرد انتفاضة شعب من أجل الثورة لحريته وكرامته، ولكنها رأت فيها أملا للبشرية جمعاء. وذلك لأسباب عديدة، نذكر أنفسنا ببعض منها. أولا أنها لم تكن ثورة قد تم الإعداد لها مسبقا بشكل تنظيمي، وإنما ما تم الإعداد له دعوة لتظاهرة يعبر فيها الشباب بشكل خاص عن رفضهم لنظام بوليسي قمعي، ويدعون إلى عدد محدد من الطلبات، ولكن تحولها إلى ثورة لم يكن يتوقعه أحد.  ولم يتوقعه المحللون السياسيون، على الأقل لم يكن يمكن أن يتبادر إلى ذهن من يتحدثون ليلا نهارا عن المتغيرات الاجتماعية والسياسية والعلاقات الدولية والاحتمالات والسيناريوهات المتعددة،  أنه من الممكن أن تخرج الملايين دون إعداد أو تحضير.  وبعد الحدث العظيم، انبرت العقول ترصد وتحلل وتتوقع وتنصح. وكانت إرادة الشعب وتصميمه تعبيرا رائعا عن دعم القوى الغيبية العظمي. واستطاع الشعب العظيم أن يقوى موقف الجيش الذي كان يخشى توريث الحكم ويرفضه، ووجد في هذه اللحظة فرصته الكبيرة. هكذا أراد الله بمصر خيرا.  وفي خلال ثمانية عشر يوما خرج طاغية من الحكم مذموما مدحورا. كانت الرسالة هي "إذا الشعب يوما أراد الحياة فلابد أن يستجيب القدر، ولا بد لليل أن ينجلي ولا بد للقيد أن ينكسر".
ثانيا تلك الثورة العظيمة لم تكن لها قيادة مركزية تقودها، وإنما كانت حركة الجماهير تلقائية وطبيعية، وهذا مما أظهر للعالم طبيعة شعب مصر، الذي يصبر طويلا، ويظن به الآخرون أنه شعب يقبل القهر والظلم، وتكشف الأيام عن أصالته وشجاعته. ولم يكن صبره يوما متناقضا مع شجاعته وإقدامه، لأنه شعب مؤمن، لا يعيش الإيمان زيفا أو كلاما أو شكلا، ولكنه يعيش الإيمان حياة ورؤية واتجاها وتوجها. ففي صبره يحتسب إلى الله. وفي إقدامه إلى حد الإستشهاد يجأر إلى الله. هذه هي طبيعة الإسلام والمسيحية معا في شعب مصر، فهو يشترك في سمات واحدة لعقيدته وإن اختلفت أشكالها وتباينت. ولذا لم يكن غريبا أن يقف المسلمون  ملتفين حول المسيحيين عند القيام بالقداس، ولم يكن غريبا كذلك أن يقف المسيحيون وراء المسلمين عند إقامتها للصلاة. لا يصح أن نطلق عن هذا تسامحا، لأن المسلمين والمسيحيين في أعماقهم لا يفرقون بين بعضهم البعض، إنهم كتلة واحدة وقلب واحد.
إن الرسالة الثانية التي أعطاها لنا هذا المشهد أن الدين الحق تحت كل الأسماء يؤكد "الإيمان بالله" قوة تقوي العزم وتشحذ الهمم، وليست شكلا يتجسد في نقاب وإطلاق لحية، وتقصير جلباب، وتعليق صليب أو قرآن، تأكيدا للفرقة وإدعاء بالأفضلية. هذه الرسالة هامة للغاية في ذلك الوقت الذي يشيع فيه السلفيون مظاهرا تفرقهم عن سائر الشعب، مستخدمين في ذلك شعارات لا يعيشونها، مثل شعار "الحرية"، وهو بالنسبة لهم وسيلة كي يمارسوا فكرهم وطريقتهم، وليس غاية يحترمونها لأنفسهم كما يسعون لتحقيقها لغيرهم، وكيف تكون غاية وقد قرروا واتخذوا موقفا ثابتا من الذين ينهجون غير نهجهم من المسلمين، فيطلقون عليهم في أحسن الأحوال أنهم جاهلون بأمور دينهم، وقد يصل بهم الأمر إلى وصمهم أنهم غير مؤمنين، وأما غير المسلمين فإنهم يعتبرونهم "كفارا"، هذا شأنهم في السعودية وشأنهم في كل مكان يتواجدون فيه. إنهم يعتبرون أنفسهم في حال هدنة مع هؤلاء الكفار، ويتناسون أن الله وحده هو الحكم، وأنه تعالى ليس له شريك في الملك وليس له ولي من الذل. إذا تذكرنا رسالة المحبة والسلام، رسالة المسيحية والإسلام وأننا في الثورة قد أظهرناها وأكدناها، لعلها تكون لنا تذكرة نخرج بها من الانجراف نحو التنابذ بالألقاب، ونحو التفرقة بيننا، ونعود مرة أخرى للتآلف والتآخي.
ثالثا لم تستخدم الثورة العنف، ولأنها كانت ثورة شعب  فإنها اتسمت بالسلمية، ولهذا فإنها حفرت لها مكانا عميقا في تاريخ الشعوب، وكما قيل فإن التاريخ كتب صفحة ناصعة عميقة لهذه الثورة ستظل في وجدان الإنسانية، مؤكدة أن السلام وحده هو الطريق إلى التغيير، وأن العنف لا يتولد عنه إلا العنف.
رابعا: السلوك الرائع للشعب في ميدان وميادين التحرير كان سلوكا يعبر عن تحضر شعب على أرقي ما تكون الحضارة. في وسط هذه الملايين، لم يحدث تحرشا، ولم تسجل حالة سرقة واحدة. كان الجميع كتلة من التعاون والتآلف. وكأن الأرض قد تحولت إلى الجنة فتحيتهم فيها سلام. وشاعت جو من السكينة، شعر بها الجميع وتحدث بها الجميع، فتحول المكان إلى بقعة مباركة قدسية. وكأن الله خاطبنا في تلك اللحظات مؤكدا أن الأرض يمكن أن تكون غير الأرض.  إن تلك الروح هي انعكاس لتألف هذا الجمع على هدف واحد، ذابت فيه الأهداف الجزئية الشخصية، وأصبحت الحرية والكرامة الإنسانية رؤية تحرك تلك الجموع، ولا تجعل للحياة قيمة أو معنى إلا بها. تصبح الرسالة الرابعة في هذا المشهد الطوباوي، أن حلمنا أن تكون مصر تعبيرا عن الحضارة الإنسانية التي تعيش في قلوب الشعوب في كل مكان.  وأننا شعب قادر على تحقيق هذا الحلم. 
إنني أذكر نفسي وأذكر قارئي بهذه الرسائل الهامة التي يجب أن نعيشها مرة أخرى، ذلك أن شبح الإحباط واليأس قد بدأ يدب إلى القلوب، ونغمة أن الرئيس والحكومة سيقوموا نيابة عنا بكل شيء ملأ الأفاق، وخطاب المنة، ونبرة السيطرة بدأت تعلو رويدا رويدا.  وبدلا من قراءة الرسائل التي يرسلها الشعب هنا وهناك في شكل إضرابات، واعتراضات، ونحاول أن نقنن وننظم ونستمع، إذا بالحكومة تلوح مرة أخرى بالقوانين المجحفة التي تريد أن تكمم الأفواه.
نريد للثورة أن تحقق أهدافها، وأن يشعر الشعب أن الزمام بيديه، فلا نخسر زمنا آخر من تكسير إرادة هذه الشعب العظيم، الذي لن تنكسر إرادته أبدا بإذن الله تعالي.  

Tuesday, March 20, 2012


أملنا في رئيس يعبر عن روح الثورة
د. علياء رافع

 نفاجأ كل يوم بإزدياد عدد المتقدمين للترشح لرئاسة الجمهورية، وفي أحد البرامج التليفزيونية فوجئت بعدد من هؤلاء يستضيفهم الإعلامي المعروف حافظ المرازي، وأذهلني الكثيرون منهم الذين انبروا مدافعين عن حقهم في الترشح، مؤكدين أن الماضي السياسي لرئيس الجمهورية القادم ليس هو العامل الأساسي في الاختيار. لا أعتقد أنني في حاجة لشرح سبب ذهولي، ولكن هذا التعليق يثير قضية على جانب كبير من الأهمية ألا وهي ما هي الصفات الشخصية والمكتسبات الفكرية والسياسية التي ستحدد اختيارنا للرئيس القادم؟

لا أخفي على قارئي أن وجود د. محمد البرادعي  في قائمة المتقدمين للرئاسة، كان سيسهل علي الاختيار، ذلك أنني كنت على قناعة تامة بأنه خير من يصلح لقيادة هذه  المرحلة والوصول بنا إلى بر الأمان. وتبدو الساحة الآن خاوية ممن يجعلني أشعر بالإطمئنان التام لصحة الاختيار. ولكنني على الأقل أدرك أن هناك قائمة من المرشحين المعروفين خارجون تماما عن مجرد التفكير في مجيئهم، بل أري البعض منهم خطرا داهما على مستقبلنا. وعلى قائمة هؤلاء السيد منصور حسن، الذي كنت أكن له كل الاحترام نتيجة لموقفة من انسحابه من الساحة السياسية بعد الزج بكل المفكرين الذي عارضوا السادات في السجون، ولكن للأسف فإن تصريحاته أثناء مذبحة مجلس الوزراء كانت دون المستوى. وأذا كان قبول الرأي الآخر ضرورة في مجتمع حر، فإنني لا أري أن تجاهل جرائم قتل الأبرياء، وسحل الفتيات يدخل في زمرة "حرية الرأي".  وبالطبع فإن الفريق أحمد شفيق خارج القائمة تماما، ولو أنه استقال يوم 2 فبراير 2011، لكان له وضع آخر، وقدرته الفائقة في المراوغة في أي حوار أجري معه، لا يمكن أن يجعلنا مطمأنين على الإطلاق. وإذا كان السيد عمرو موسى قد تألق في مرحلة مفاوضات مدريد مع إسرائيل، ولكن مواقفه المداهنة للنظام السابق وعدم وضوح الرؤية لديه، تجعلني أتراجع عن اختياره. وأما الشخص الرابع الذي لن أتردد في عدم انتخابه فهو د. سليم العوا. فعلى الرغم من إعجابي ببعض كتاباته، ولكنه غير متوافق مع نفسه، وتصريحاته تتناقض مع بعضها البعض، مما لا يكسبني أي ثقة فيه. وأما الشخص الخامس الذي استبعده برغم احترامي لصراحته وتوافقه مع نفسه وثباته على مبادئه فهو الشيخ حازم صلاح أبو اسماعيل، ويرجع ذلك إلى أنني أقرأ فيما بين السطور أنه يريد أن يسير بالبلد تدريجيا نحو فكر إسلامي واحد. فعلى الرغم من غزارة قرائاته وحجة منطقه إلا أنه أحادي الرؤية.  ولا يبقي أمامي في الاختيار سوى حمدين صباحي ود. عبد المنعم أبو الفتوح. كانت لأحاديث حمدين صباحي بعد الثورة أثرها الجيد في بناء ثقة في شخصه ووطنيته على الرغم من أنني لست ممن يرون في الناصرية النموذج الأمثل للمرحلة القادمة. وأما د. أبو الفتوح فإن اعتداله في الرؤية وقبوله للرأي الآخر في الدين، يدفعني أن أختاره، مع تحفظ واحد وهو خشيتي أن يكون تحت العباءة انحياز للجماعة التي انبثق منها.  لم أذكر السيدة بثينة كامل على الرغم من أنني أدرك جيدا أن القيادة النسائية قادمة بلا شك، وأن العالم في حاجة إليهن اليوم أكثر من أي وقت مضى. ومع احترامي لدورها الوطني، ولكن لا يبدو لي أنها تملك من القدرة إدارة بلد مثل مصر. وآمل أن تظهر الأيام سيدات أخريات ليكن جديرات بهذا المنصب الخطير. أما من أعلنوا ترشحهم أخيرا من المعروفين على الساحة السياسية، فإنني أرى أنهم دون المستوى.  ولا أود أن أتحدث عن هؤلاء الذين سحبوا أوراق الترشح، متصورين أن شهرا واحدا كافيا لكي يعرفهم الناس وينتخبونهم.

هذا التلخيص السريع لرؤية خاصة يشير إلى أنه لا يوجد في الساحة قيادة ترضي كل ما أتطلع إليه في الرئيس القادم، وأحسب أن غيري يشاركني في هذا الرأي أيضا. وهذا يعني أن الشخصية القيادية التي نبحث عنها غير موجودة. نعود للسؤال الأساسي ، ماهي المتطلبات الأساسية التي نتطلع إليها في رئيس مصر القادم. أو بعبارة أخرى ما هي القدرات الخاصة الضرورية التي تتطلبها المرحلة القادمة؟  أدلي بدلوي وأحترم من يختلف معى.

أولا: أن يكون قادرا على استيعاب معنى الثورة المصرية، وليس فقط مجرد أحد المشاركين فيها، لأن هذه الثورة نقلة نوعية في الوعي، وليست مجرد تغيير لنظام سياسي. وقدرة استيعاب دلالة هذه الثورة لا بد أن تظهر في ثقة متناهية أن الشعب يملك  قوة إبداعية لمواجهة التحديات، على الرئيس أن يعمل على تفعيلها والاستفادة منها، ولذا لن يكون خطابه السياسي مليئا بإدعاء البطولة العبقرية والقدرة على تحقيق المعجزات.  ويعني هذا رؤية جديدة لمعنى الديمقراطية فلا تختزل إلى مجرد انتخابات نيابية، ولكن تخلق نظاما يعطي للكفاءات الموجودة في كل المجالات المكنة من التعبير عن أفكارهم ومقترحاتهم في مواجهة تحديات في شتى المجالات من أجل تحقيق نهضة مصرية شاملة.

ثانيا: أن يدرك أن الإنسان المصري هو الثروة الحقيقية ويتعامل معه من هذا المنطلق، وتوضع الأولويات السياسية من هذا المنظور، فيكون التعليم من حيث هو أداة للبناء الإنساني الركيزة التي تنطلق منها نهضة مصر. التعليم تنمية إنسانية وليس حشو العقل بالمعلومات وإيقافه عن العمل والإبداع. التعليم الذي ينمي قدرة المتعلم على أن يكتسب المعرفة بنفسه، ويستخرج منه ما يجعله شغوفا لاستكمال مهاراته بجهوده الخاصة ، سواء كان ذلك عن طريق القراءة أو الرسم أو غيرها.

ثالثا: أن يؤمن أن الحرية هي أساس النهضة الحقيقية، فلا يتحدث من منظور الإحاطة بالمطلقات، ولا يفرض رؤيته على المجتمع ، ولا يتصور أنه سيسير بالمجتمع من نقطة أ إلى نقطة ب  تبعا لخطة فكرية ومرجعية مسبقة. ولهذا يحترم الاختلاف، ويؤمن أن الزبد يذهب جفاء وأن ما ينفع الناس يمكث في الأرض تلقائيا، لأن هذا هو القانون إذا توفرت الحرية. ولهذا لن يكون هناك محاولة فوقية للتحكم ووضع قيود على الحرية.

رابعا: أن يدرك أن الأخلاق الرفيعة لا تنتشر بالوعظ وإنما تنتشر بالمثالية والقدوة الإنسانية الحقيقية، وتنتشر عندما يعطي الإنسان حقه في أن يكتشف ذاته وإمكانياته الخلاقة، فيحترم إنسانيته، ويعف عن الدنايا، ويتطلع إلى التطور الأخلاقي تلقائيا. ولذا فإن مؤسسات التنشئة والتي تبدأ بالأسرة يكون لها اهتمام خاص، ومن داخل هذه المؤسسة يجب أن تشعر المرأة بإنسانيتها، فلا يختزل وجودها إلى أدوار اجتماعية، أو إنسانيتها إلى واجبات مفروضة عليها، وإنما تعامل بإحترام لتفردها بما وهبها الله به من إمكانيات، تتواصل بها مع نفسها ومع بيئتها الاجتماعية والثقافية، فتصبح قادرة على العطاء وتستمتع به، وذلك في ظل رؤية شاملة، تسمح لها أن تمارس حقها الإنساني في التعبير عن ذاتها، وفي نفس الوقت حقها الإنساني في أن تكون أما تراعي أبناءها.  ولهذا يجب أن  تكون هناك رؤية جديدة تنظم قوانين العمل، حتي لا تظلم المرأة ولا يظلم الرجل كذلك.

خامسا: نأمل أن يتمتع بالإنسانية والرحمة فلا يسمح بالتعذيب في السجون – مهما كانت المبررات – و أن يدرك أن القوة الحقيقية ليست القوة الأمنية، ولكنها محبة الشعب عندما يدرك أن العلاقة بينه وبين من يحكم البلاد علاقة إنسانية، وليست علاقة أستعلائية.

سادسا: ألا تسود النغمة العنترية طريقة في العلاقات الخارجية، بل يكون قادرا على حفظ التوازنات الإقليمية والعالمية، وفي نفس الوقت حافظا لمصر كرامتها ومكانتها. إذ تقلقني تلك النغمة التي تتردد من حيث لآخر أن السلام مع إسرائيل سيكون محل تفكير، أو أن أمريكا عدو يجب أن نحذره. لقد عفا الزمن على هذه الطريقة في جذب شعبية داخلية على حساب أمن وأمان مصر. وهناك فرق بين أن نكون قادرين على الدفاع عن حقوق الشعب الفلسطيني، وبين أن يكون طريقنا إلى هذا إعلان حرب مع إسرائيل. كذلك هناك فرق بين الوعي أن أي معونة من الخارج من الولايات المتحدة أو غيرها تستهدف مصلحة البلد الذي يمول، وبين أن نتخذ من هذا البلد عدوا نتجنبه.

هذه بعض المتطلبات التي كنت أتمنى أن أجد واحدا من المرشحين للرئاسة يتمتع بها، ولكنه لم يظهر بعد. وهل يمكن أن يظهر في هذه المرحلة؟ الله أعلم.

Tuesday, March 13, 2012

وصال مع الإنسان في كل مكان

د. علياء رافع
بدت لي السبع أيام التي قضيتها في كينيا وكأنها دهر كامل، لم يكن الأمر انتقال من بلد إلى بلد، ولكن شعرت أنني انتقل من عالم إلى عالم آخر تماما. وعندما ركبت الطيارة في طريق العودة، بدا لي أنني إنسان قد أضيف إليه الكثير. كان حديثي  في مركز الأمم المتحدة بنيروبي عن التحول النوعي في الوعي، وانتقل هذا الحديث من كلمات إلى تغيير حقيقي في وعيي الذاتي والشخصي.  تحولت كل موضوعات البيئة والمحافظة عليها من رؤية تعتمد على العلم والفكر، إلى وجدان يتألم لتآكل طبقة الأوزون ونفاذ الموارد الطبيعية ووجدتني أسمع صراخ الأرض وهي تولول على أبنائها الذي يقتلونها ويقتلون أنفسهم، وصراخ الأطفال وهم لا يستطيعون التنفس، ولا يجدون نقطة المياه، وصراخ البشر في كل مكان وقد انهمر الجليد ليبتلع اليابس من الأرض ويغرق أهلها. إذا لم نستيقظ اليوم، فإننا هالكون غدا لامحالة، قد لايرى جيلنا، أو جيل أبنائنا هذه الأهوال، ولكن ألسنا مسئولين عن الأجيال القادمة؟
وعندما تواصلت مع أحفادي وأحفاد البشرية، تفتح قلبي ليتواصل مع أرض كينيا وأهلها أرى المعاناة والفقر والإهمال في البنية التحتية في بلد إفريقي ثري بمناخه المعتدل، وتنوعه البيئي، واخضرار غاباته، وخير المطر الذي ينهمرعليه فيروي أرضه السمراء ويطرح فيها الزرع والنماء. وعلى الرغم من كل ذلك تنتشر البيوت الصفيح والأكواخ البالية التي لا مثيل لها في بلادنا بهذه الكثافة وبهذا الوضوح. لماذا يختلط التقدم الرائع في التكنولوجيا بالثبات المخجل في مستوى الحياة والمعيشة. كينيا تلك الأرض التي ظهر فيها الإنسان الأول، وبفضل كفاحه استمرت الحياة، ونشأت الحضارات.
الإنسان في كينيا وفي كل مكان يريد أن يعيش حياة طيبة، تحترم فيها آدميته، ويحفظ فيها كرامته، هل هذا أمر مستحيل التحقق؟ على قدر ما يبدو الأمر بسيطا، على قدر ما تقف أطماع البشر حجر عثرة أمامه.  وقد أدرك الساسة في كل البلاد أن بقاءهم في مركز السلطة والقوة والنهب يعتمد على خلق واختلاق الفقر، حتى ينشغل الناس بمشاكل البقاء على قيد الحياة عن المطالبة بحقوقهم الإنسانية. ويعتمد هؤلاء على نشر الجهل حتي إذا ما كانت هناك مؤسسات تعليمية تتدعي أن تقوم على التعليم والتربية. يستخدم ذو السلطان هذه المؤسسات كي تمجد أعمالهم، وتلهي شعوبهم عن رؤية الواقع والحقيقة. ليس هذا حكرا على كينيا، ولكن ما رأيناه ونراه في بلادنا، بل وفي كل مكان، لن ننتظر حتي تتغير النظم السياسية، لقد علمتنا الثورة المصرية أن الأمر بيد القاعدة البشرية، ولكننا في حاجة إلى الوصلة والوصال الإنساني.
كينيا تتحرق شوقا إلى المصريين، يحبهم أهلها ويحترمونهم، رأيت مصر بلدا عملاقا بما يتواجد فيها من علم ومن خبرات بشرية يمكن بها أن تمتد يدها إلى بلاد أفريقيا السمراء. هكذا قال أحد البسطاء عندما عرف أنني مصرية، تدفق منه الكلام بصدق وحيوية، لماذا لا تتعاونون معنا أيها المصريون، لماذا تنظرون إلينا بتعال، وتبعدون عن أرضنا؟ وبصرف النظر عما إذا كان هذا واقعا أم إسقاطا، فإن هذه الأرض وأهلها الطيبون في حاجة إلينا، ونحن في حاجة إليهم.
وفي وسط هذا البؤس الإنساني في كينيا، أذهلتني السيدة الإيطالية كوكي جولمان التي توفي زوجها الشاب منذ سنين على هذه الأرض، ومن بعده إبنها الصغير، ولكنها أصرت أن تستمر في الحياة في كينيا من أجل المساهمة في الحفاظ على البيئة، ومساندة أهلها وإنشاء مدارس لتعليمهم. واشترت محمية طبيعية تبلغ آلآفا من الفدادين، وأنشأت عليها منتجعا يعتمد على الطاقة الشمسية، ويتناغم مع الطبيعة في كل شيء، بدءا من الإعداد البسيط، من خيم قماشية متناثرة، إلى ما بداخل هذه الخيم من أثاث يعتمد كله على ما يوجد في البيئة.  وعشت في هذا المنتجع أربع ليالي في ضيافة السيدة كوكي التي تعاونت مع المبادرة النسائية العالمية للسلام، والأمم المتحدة كي تتم وقائع هذا اللقاء وجلساته في هذه الأجواء الطبيعية، خاصة ونحن نتحدث عن صرخة الأرض التي لا نبالي بها، والتي ننتهك خيارتها، غير مبالين بالأجيال القادمة.
كان لهذاالاقتراب الحميم مع الطبيعة، وتلك الحياة البسيطة أثره في أيقاط وعيي بهذه الأرض الحنون التي نعيش عليها، ولا نكاد نحمد لها فضلها على ما توفره لنا من خيرات كي نعيش بها، توجه الحضور في جلساتهم وكلماتهم إلى تفعيل العلاقة بين البشر وبين الطبيعة، خاصة الأرض.  هذا الجمع الذي بلغ ثمانين شخصا قادمين من أنحاء العالم  قدموا رؤاهم في كيفية أيقاظ الوعي بأننا مرتبطون بالطبيعة حولنا بشكل عام وبالأرض بشكل خاص، وأن هذا التواصل ينبغي أن يقوم على الاحترام، وليس الانتهاك. وفي أحد الجلسات قدمت شابتان من الصين فيديو عن كيف تستهتر الدول المتقدمة بالموارد الطبيعية وكيف تستنزفها استنزافا، وهو ما سيشكل على أحفادنا خطرا حقيقيا، وسيتسبب عنه انقراض الجنس البشري تدريجيا، لنضوب موارد المياه التي هي أساس كل شيء حي، وللتغيرات المناخية الناتجة من التلوث المناخي، وارتفاع درجات الحرارة على سطح الأرض بعد أن خلقنا جدارا خانقا حولها من ثاني أكسيد الكربون.
في هذا الزخم من الأحاديث والصلوات والاحتفالات برزت التجارب الإنسانية الرائعة التي تعتمد على جهود ذاتية، تعبر عن حركة شعبية في مختلف أنحاء العالم تقف أمام توحش الحكومات والنظم السياسية، فها هي د. سكينة يعقوبي من أفغانستان تحدت طالبان، وكانت من ضمن هؤلاء السيدات اللائي أصررن أن يعلمن الفتيات رغم كل شيء، حتي أن حياتها كانت في خطر، فكانت تنتقل من مكان إلى مكان هربا من تعقب طالبان لها، وكانت جريمتها أنها تعلم الفتيات. والآن أنشأت مدارس تبدأ من التعليم الابتدائي إلى الثانوي، وفي سبيل إنشاء جامعة. ألتقيت أيضا بهذه السيدة التيلاندية الرقيقة الراهبة التي تركت وراءها زوجا غنيا، وعملا يدر عليها ربحا وفيرا لتهب نفسها لخدمة المرأة والأطفال. وأما هذا الشاب الأمريكي فإن تعاطف مع كمبوديا ومأساة شعبها، وعاش ليخفف من آلام الفقراء والبائسين وضحايا الحرب، ويبذل حياته من أجلهم، ويقول في بساطة شديدة ما معنى الحياة إذا لم نكن قادرين أن نرى ما وراء طموحاتنا الذاتية. وأما ليلي الحسيني فإن شجاعتها أبهرتني كما أبهرت الجميع. فهي فتاة فلسطينية نابهة، تقوم بدراستها في جامعة هارفارد، ولكن شجاعة ليلي أنها فتاة فاقدة للبصر، وجاءت إلى هذا اللقاء دون مساعدة خاصة، فهي تسير وحدها بدون حتى عصاة، معتمدة على الله، وعلى كرم البشر. تتحدث عن التحديات التي تقابل الشعب الفلسطيني بشجاعة ولكن بدون أن تختلط كلماتها بالكراهية والتعصب، تلقي نكاتها الساخنة فاضحة بذلك الفكر العنصري للصهيونية الإسرائيلية، وتثير حولها ودا ومحبة وتعاطفا.
هذا قليل من كثير من النماذج الإنسانية التي جاءت لتصلي من أجل أن يلهم الله البشر سواء السبيل، وأن يعملوا من أجل الحياة، وألا يقتلوا الأرض، فيقتلون أنفسهم. ركبت الطائرة لأعود بروح جديدة، أصلي أن يحفظ الله الحياة على هذه الآرض وأن يهدي أبناءها ليعرفوا ويقدروا نعمة الحياة، وينعكس هذا في وعيي أن أحافظ على نقطة الماء، والكهرباء، وكسرة الخبز، و... كل ما تجود علينا به الطبيعة، في حمد دائما وشكر مستديم. الحياة نعمة تستحق أن ندافع عنها في كل صورها، بدءا من أنفسنا والحفاظ عليها، إلى نهرنا العظيم، وشمسنا المشرقة. والحياة قيمة تتأكد بالحرية والكرامة الإنسانية شعارات ثورتنا العظيمة التي ستظل تضيء للعالم طريقه، فمهما واجهنا من صعاب، فإننا قادرون بإذن الله على اجتيازها.. الدنيا بخير، والله أكبر.  


Tuesday, March 6, 2012

صرخة الأرض والنقلة النوعية في الوعي


صرخة الأرض والحاجة إلى نقلة نوعية في الوعي موضوع  مثار في الاجتماع الذي دعيت إليه في نيروبي لألقي كلمة في مقر الأمم المتحدة المخصص للمشروعات البيئية.   حقا إن الأرض تصرخ ولكن لا يوجد من مجيب، وتئن مما فعله أبناؤها به، ولا قلب يعطف عليها، لأن العالم أصبح عالما أنانيا، يلتهم فيه الكبار الصغار.
وعند تحضيري للكلمة التي سألقيها هناك، راجعت  التدهور البيئي الذي حدث على مدى قرنين بسرعة متزايدة  في أواخر القرن الماضي، وبصورة أسرع في مستهل هذا القرن.  فوجئت أنه منذ القرن التاسع عشر، كان هناك إدراك  لتآكل طبقة الأوزون نتيجة لزيادة ثاني أكسيد الكربون، ولكن لم يتنبه أهل الأرض إلى الخطورة المتزايدة، وانغمسوا في مزيد من التدمير، في وهم أنهم قادرون على السيطرة على البيئة واستخدامها من أجل الإنسان. ولا بد أن ندرك اليوم أن الخطر البيئي قد أصبح يهدد الحياة على هذه الأرض فعلا، وليس قولا. فهل سيأخذ أهل الأرض الأمر بجدية ويحاولوا أن ينقدذوا  أجيالنا القادمة، أم سيزداد التدمير، فيحد أحفادنا أنفسهم أمام مصير محتوم لا مناص منه. إن مسئولية استمرارية الحياة تقع علي عاتقنا جميعا اليوم، وسننتحمل مسئولية الأجيال القادمة أمام الخالق الأعظم إذا لم ننتبه إلى إنقاذ هذه احياة.
وعلى الرغم الجهود الرائعة للعلماء، في محاولة للحفاظ على البيئة، إلا أننا في هذا اللقاء نناقش أمرا أكثر خطورة ألا وهو كيف يمكن أن تحدث نقلة نوعية في وعي أهل الأرض، تخرجهم من الأنانية والنظرة القصيرة إلى الترابط الإنساني، والتعاون من أجل مستقبل الجميع، لأن الدمار لن يميز بين بلد غني متقدم، وبلد في سبيله إلى التقدم.   ومن المدهش حقا أن نعلم أن الدول الكبرى هي المسئول الأول عن الدمار البييئي الذي يحدث على مستوى العالي، وأنها هي ايضا التي تملك القدرات المعرفية على حماية البيئة، ولكن تقاعست دولة مثل الولايات المتحدة عن تنفيذ الكثير مما اتفق عليه الكبار في مؤتمرات عدة بدءا من مؤتمر ريو جانيرو 1992، ووصولا إلى مؤتمر طوكيو، مرورا بمعاهدات كثبرة.  لا يكفي اللوم ولكن الرجاء هو في إيحاد يقافة عالمية قادرة على تبني منظورا آخر. هذا هو الإسهام الذي تقدمه المبادرة العالمية النسائية للسلام،  والتي شرفت بدعوتها لحضور هذا اللقاء. 
وقد نشأت هذه الحركة منذ عشرة أعوام تماما، على الرغم من أنها  بدأت بمجموعة من النساء، ولكنها تضم رجالا أيضا،  وقناعتي تتفق مع الاتجاه العام لهذه الحركة، حيث أصبحت النساء رمزا للرحمة وروح الأمومة التي يفتقدها العالم اليوم. وهذا التجمع النسائي من مختلف أنحاء العالم من أجل السلام سينتج عنه بالضرورة تشجيعا لنفس الروح أن تنتشر. 
ومن أجمل ما يمكن أن نكتشفه في ثقافتنا وديننا أن النظرة إلى الطبيعة في الإسلام تتميز بالاحترام، بل إن القرآن قد جعل أعطي لكل الكائنات قدسية، حيث تحدث عن تسبيحهم لله سبحانه وتعالى، وشكرهم له، وتحدث عن الطيور وكل الكائنات الأخرى أنها "أمم" أمثالنا. سنشعر بالخجل من أنفسنا وقسوة قلوبنا عندما نقرأ عن كيف بشر الرسول إمرأة بالجنة لأنها قد أشفقت على قطة، وأعطتها لبنا تشربه.  سنقف في إجلال واحترام لتلك التعليمات الصارمة أنه لا يجوز لأي جيش يحارب أن يقطع شجرة أو يدمر الطبيعة  للبلاد التي يحاربها. يدهشنا قول رسول الله صلي الله عليه وسلم عندما  قال بكل قوة إذا قامت القيامة وكان بيد أحدكم فسيلة فليزرعها.  هكذا نرى أن ديننا العظيم – وكل الأديان -   قد احترمت الحياة في كل صورها. ولا شك أن هذا نتيجة طبيعية لأي قلب مؤمن.
إذن ما نحتاجه اليوم بالإضافة إلى العلم واسهاماته الرائعة، فإننا نحتاج إلى قلوب آمنة مطمئنة مؤمنة متواصلة بالمحبة مع كل البشر، ومع كل الوجود. ولكن كيف يحدث هذا ونحن على كل المستويات نتنتافس من أجل السلطة والحكم، سواء كان الحديث موجه على مستوى سياسات الدول الداخلية، كما يحدث الآن من قتل بشع للإنسان في سوريا، أو على مستوى سياسات الدول بعضها مع بعض، كما حدث عند غزو الولايات المتحدة وحلفائها للعراق، فقتلوا ودمروا الإنسان، كما لوثوا البيئة بدم بارد لا يعرف الرحمة.
ما يعطينا الأمل – ولا ييأس من رحمة الله إلا القوم الكافرون  - أن تلك التجمعات التي تنشأ تلقائيا على مستوى العالم وتدعو إلى المحبة والرحمة تتزايد، وعلى الرغم أننا قد لانكون شاعرين بوجودها الآن إلا أنه سيكون له أثر مفاجيء. ويحضرني هنا ماحدث في الربيع العربي، وخاصة في الثورة المصرية التي انفجرت بركانا ثائرا رائعا في اللحظة التي ظن جيلنا وكثير من الناس أن الشعب المصري قد تملكه اليأس، ونخر الفساد في عظامه. هناك وعي تحتي ينتشر في العالم يدعو إلى المحبة بين البشر، ويتخطي التعصبات الدينية، ويحاول أن ينبي أرضا مشتركة تجمعها  المباديء الإنسانية القائمة على التلاحم البشري، وإدراك أننا بعضنا من بعض، وأنه لا فرق بين إنسان وإنسان إلا بالعمل الصالح النافع الذي يشع خيرا للعالم أجمع.   أتمنى أن أعود بمزيد من الأمل من أجل العالم ومن أجل مصر.     

Tuesday, February 28, 2012

لن يتوقف قطار الثورة عن بلوغ غايته


أعتقد أنه هناك إجماع على أن الثورة قد أسقطت رأس النظام ولم تسقط النظام الفاسد، والأدلة لا تعد ولاتحصي. ولكنني أضيف أن ما يحدث الآن يفوق في القبح ما كان يحدث في عهد مبارك. أعداد المعتقلين في السجون العسكرية يتزايد، الانفلات الأمني لا يزال يتفاقم، وما أبشع ما حدث من اعتداء على المرشح المحتمل للرئاسة د. عبد المنعم أبو الفتوح من ملثمين – هذا إ           ذا اعتبرنا أن الحادث جنائيا وليس سياسيا – بالإضافة إلى  تزامن هذا الإعتداء مع حادث لعضو مجلس الشعب حسن البرنس الذي طالب بإيداع الرئيس المخلوع مستشفى سجن طرة.  وأما إفراغ قناة مثل قناة التحرير من أصحاب الرأي الحر الذين كانوا يحققون نسبة مشاهدة عالية جدا فهذا أمر يضيف إلى هاجس تصاعد كتم الحرية والرأي. أين ذهبت دينا عبد الرحمن بأدائها الرفيع وشجاعتها المشهودة؟ أين حمدي قنديل بأسلوبه المتميز واختياره للموضوعات التي تهم الرأي العام؟ أين إبراهيم عيسى بقدراته الإعلامية الجذابة والثاقبة؟ اختفي هؤلاء في غمضة عين من قناة أقبل عليها الجماهير لأنها عبرت عن "الميدان" اسما ومعنى "التحرير".  وفقدت  قناة التحرير الحرية.  وبدأ الهجوم على قناة الأون تي في، وتم قطع بث برنامج معتز مطر. وهي إشارات لسياسات قمعية تتزايد في القوة، مثلما حدث على صعيد الشارع، حيث بدأت الاعتقالات بسيطة وغير مرئية يوم 25 فبراير، و9 مارس، وتصاعد القمع العلني يوم 28 يونيو (مسرح البالون)، و9 أكتوبر(ماسبيرو)،  و19 نوفمبر (أحداث شارع محمد محمود) ثم 16 ديسمبر (أحداث مجلس الوزراء). ومع كل حدث يزداد الاستفزاز والإثارة.
لقد قلت وأقول مرارا وتكرارا أن الزمن لا يعود إلى الوراء، وأن القطار سيسير إلى المحطة التي حددها القدر، ولن يعوقه عائق عن المضي في الطريق، ولكن عرقلة القطار ليهديء من خطوه خطر علينا جميعا، لأن الزمن لا ينتظرنا، ولأن العالم يسير بسرعة أكثر كثيرا مما نتصور. وسيحاكم التاريخ من يقومون بتعطيل السير بجرائم متعددة، فهؤلاء يدافعون عن أنفسهم ومصالحهم ولا يهمهم في هذا السبيل ما يمكن أن يحدث للبلد، بل أزعم أنهم يريدون أن يذيعوا الفوضى والفساد، ويقوضوا أركان الدولة. لا تسألني من هم الذين أشير إليهم.  أستطيع أن أقول لك بكل قوة وثقة، ليسوا الثوار- حتي ولو أخطأ بعضهم التعبير أو لم يكن صائبا في اختيار القرار -  ولا أومن بنظرية اللهو الخفي. إذا درسنا الماضي البعيد والماضي القريب لأدركنا أن من يريد أن يوقف حركة الشعوب يذهب دائما إلى الجحيم الدنيوى والأخروي، بالتأكيد لن يفلت مستبد من العدل الإلهي، وتستمر حركة التاريخ  في السير لا توقفها أي قوة.
 وفي هذه اللحظات الحاسمة في تاريخنا لا أستطيع إلا أن أقارن بين ما كنا عليه من أوضاع متردية، وما نحن عليه الآن من وضع أكثر ترديا. ويبدو لي للوهلة الأولى أن ما كنا عليه من سوء أفضل مما نحن عليه الآن. ولكن ما أخشاه فعلا أن يستمر الحال في التردي أكثر مما نحن عليه. لا يهديء من روعي أن العسكر سيعودون إلى سكناتهم قريبا، وأن رئيسا منتخبا سيتولى أمور البلاد، وأن دستورا على وشك الظهور لينظم حياتنا السياسية والاقتصادية والتشريعية.  وعدم الإطمنان الكامل ليس حالة نفسية غير مبررة، بل إنها وليدة قراءة لما حدث في السنة الماضية من قوة مضادة للثورة تحارب روحها الوليدة بكل قوة. وأحسب أنني بحاسة الأمومة أدرك الأخطار المتربصة بهذه الروح الوليدة.
شاهدنا كما شاهد العالم ميلاد لروح مصر، قال البعض "هذا شعب يتعرف على ذاته وشخصيته"، وتحقق في 18 يوما الحلم الطوباوي التي حلمت به البشرية، ولم يصدق العالم أن الحلم الإنساني بعالم يملأه السلام والوئام، والتعاون والنظام والانتظام يمكن أن يتحقق. كانت هذه مصر بشخصيتها وأصالتها. نزل الناس بعد رحيل المخلوع إلى الشوارع ينظفوها ويزينونها، وتكونت مبادرات شعبية للبناء والتنمية. انتظم المرور في الأيام الأولى لرحيل المخلوع، وتغيرت أخلاقيات القيادة، فأصبح كل يسير في طريقه دون محاولة "للكسر" والسباق المجنون. ولكن ما حدث بعدذلك كما نعرف جمعيا كان مؤسفا للغاية، وسأشير إليه سريعا لأن مقالاتي منذ تلك اللحظات كانت تتابع الأحداث وتتفاعل معها.
كان من الغريب أن تندلع أحداث فتن طائفية في أطفيح وامبابة وأسوان وقنا. بدا كأن الشعب الذي كان في ميادين التحرير والذين يعدون بالملايين وكأنهم قد هبطوا من السماء فجأة، ولأن هذا التصور لا يتناسب مع التفكير القويم والمنهج العلمي السليم، الذي لا بد أن يصل إلى أن ميادين التحرير – وإن لم تكن كل مصر كما يحلو للكثيرين أن يقولوا – إلا أنها تعبر عن الأغلبية العظمي من هذا الشعب، فهي عينة عشوائية (بالمعنى العلمي للكلمة) موزعة على أنحاء الجمهورية. بالتأكيد اختفت روح الطائفية تماما أثناء الثورة. كان هذا مذهلا بالنسبة للكثيرين وبالنسبة لي، ولكن انكشف جانب لم نكن على وعي به، وهي أن ما يبدو أنه احتقان طائفي ليس إلا صناعة مدبرة تستثير وتثير روح الفرقة، لينشغل الناس عن مراقبة الحاكم والمطالبة بحقوقهم ويغوصوا في الشقاق. واستمرت بعد ذلك سياسة التفرقة، وهي سياسات تذكرنا بما كنا ندرسه صغارا عن الاستعمار "فرق تسد".  ولعبت سياسة التفرقة على أوتار الرغبة في السلطة والتطلع إليها، وهي رغبة وأهواء لقيادات تعبر عن قوى سياسية. لهذا وقعنا في الخطأ العظيم، ألا وهو قبول استفتاء على ما سمي "بتعديلات دستورية".  ما زلنا ندفع ثمن هذه الخطأ الفادح إلى اليوم. وهذا هو مبعث القلق لأن كتابة دستور في هذا الوقت سيثير من اللغط أكثر مما يمكن أن يثير من التوافق، ويسخر الفرقة أكثر مما يجمع الأمة. لن تترك التيارات السياسية التي يقال أنها ذات مرجعية دينية (التعبير الغامض الذي لا أفهمه) الفرصة، ستحاول أن يكون الدستور متوائما مع طموحاتها السياسية ومع طبيعة تفكيرها في إدارة البلاد، والتي قد تذهب في تشددها وغلوائها إلى ما يتعارض مع الحقوق الإنسانية ولايتناسب مع الشخصية المصرية. من ناحية أخرى فإن العقلية العسكرية التي سيطرت على الحكم لمدة ستين عاما، لن تقبل أن تتنازل عن السلطة المتاحة لها الآن، ولذا سيكون الدستور القاعدة التي تبني عليها شرعية تسلطها وتحكمها في البلاد.
وأما عن انتخاب رئيس للجمهورية، فإن بدء الحديث عن "رئيس توافقي" لا يبشر بخير، لأنها عبارة تتناقض بشكل صارخ مع مبدأ احترام إرادة الجماهير. يشير  مثل هذا الأسلوب من التفكير إلى أن هناك عزما على "ايجاد" أو "اختيار" وتدعيم  شخصية يسهل اخضاعها للعسكر، ولا تعارض طموحات جماعة الإخوان المستقبلية. ولا أستبعد في هذه الحالة محاولات لتزوير الانتخابات بطرق مبتكرة. والجميع يشهد أن انتخابات مجلس الشعب لم يتم تزويرها في صناديق الاقتراع، ولكن لم تكن هناك معايير موضوعية لضمان نزاهة الفرز. إضافة إلى التجاوزات الأخرى التي كانت تجرى في جذب المواطنين البسطاء إلى انتخاب ممثلي الأحزاب ذا المرجعية الدينية في الدوائر الانتخابية. ولذا فإن مجلس الشعب الحالي الذي يستمد شرعيته من انتخاب الجماهير، لا يعبر فعلا عنها. وأخشى أن يتم نفس الشيء في انتخابات رئيس الجمهورية.
أتوقف عند هذه الحد من الشكوك والظنون المبررة، وأعود إلى تلك اللحظات الرائعة بعد الثورة، كان في إمكان القيادات العسكرية أن تكتسب تأييدا وطنيا كاسحا ، ولكن الأهم هو أننا كنا أمام فرصة رائعة لبداية نهضة وأقامة نظام جديد بمعنى الكلمة.  كان يجب أن تكون الخطوة الأولى أقالة وزارة شفيق لعدم شرعيتها، والشروع في تكوين لجنة تأسيسية لكتابة الدستور. والبدء فورا في إعادة هيكلة أو إعادة تنظيم وزارة الدخلية لعودة الأمن في أسرع وقت ممكن، وبالتوازي مع  محاكمة سياسية للمتورطين في قتل المتظاهرين، وأولئك الذي أمروا بإنسحاب القوات الأمنية يوم 28 يناير 2011،  وأيضا التحقيق مع من أمر بفتح السجون لخلق حالة من الرعب بين المواطنين. لم يحدث شيء من هذا، بل واستمر التباطؤ الرهيب في الاستجابة لمتطلبات بديهية. لماذا لم يحدث ما كان متوقعا؟  سيتكشف الأيام القادمة عن إجابة هذا السؤال. ولكن الإجابة العفوية والسريعة والتي تحضر أي متأمل للأحداث هو أن هناك مصالح مشتركة بين النظام القديم والنظام الحالي، وأن القضاء على أحدهما يتضمن إدانة للآخر.
تم إهدار فرصة عظيمة بإقتدار، ولكن الأمل في تخطي الحدود والقفز على العوائق موجود. حقا هناك تكتيتكات واستراتيجيات تعمل على استبقاء النظام القديم، ولكن مهما حاول من يحاول أن يستمر في إحكام قبضته على مقادير البلاد، فإن الله أكبر، ولن يذهب دم الشهداء هباءا.  

Tuesday, February 21, 2012

امتهان "الوطنية"


يتمنى كل مصري وطني أن تعيش مصر حرة ثقافيا واقتصاديا وسياسيا، ولا يختلف على هذا إثنان، ولقد كان جزءا من امتهان كرامتنا بدءا من سياسات الانفتاح غير المدروسة أن الغرب أصبح معبودنا ثقافيا، وانهارت اللغة العربية إلى الحضيض في مدارسنا، وأصبحنا نقابل طلبة في الجامعات يصعب عليهم الكتابة بلغتهم الأم. والسعداء هم ذلك النفر الذي استطاع أن يدخل مدارس أجنبيه مرموقة وقد تكون دولية من أجل الحصول على تعليم مقبول.  ونتجت لغة حديثة – لا أنقص من قدرها – وهي ما نسميه لغة الشباب، وهي لغة تعتمد على الكلمات المتقطعة والتي تحمل دلالاتها الخاصة عند المتحدثين بها.  وعلى أي الأحوال ليس الشباب من ألومه، ولكن انهيار التعليم هو الذي تسبب في هذا الانحدار الثقافي.
وأما من الناحية الاقتصادية فإنني لا أستطيع أن أجزم أنه كان بمقدورنا أن نوقف المساعدات الأجنبية، ولكن من الممكن أن يكون واضحا لدي كما هو واضح للكثيرين، أن المساعدات الأمريكية على وجه خاص قد جاءت إلى مصر في أعقاب معاهدة السلام، وكثمن مباشر لتحييد الموقف المصري تجاه القضية الفلسطينية, ولذا فإن من يتحدث عن المساعدات الاقتصادية لا يبنبغي أن يغفل الجانب السياسي المصاحب لها. لم تفرض الولايات المتحدة مبادرة السلام على السادات، ولكنها شجعتها عن طريق الدعم الاقتصادي. ويمكن لمصر أن تكون لها إرادة حرة في توجيه اقتصادها كما تشاء، ويجيء الدعم الخارجي في حالة ما إذا كانت هناك مصالح مشتركة للجانبين، ولذا فإن تصوير الأمر على أن الدعم الخارجي يعني بالضرورة غياب الإرادة الوطنية يعبر عن رؤية اختزالية بسيطة وغير واقعية في عالم اليوم.
على مدى الخمس والثلاثين سنة الماضية، وبدءا من معاهدة السلام، لعبت المعونة الأمريكية دورا لا ينكر في تنمية كثير من القطاعات الحيوية،  ومنها الزراعة على سبيل المثال. ولكن كانت هناك دول أخرى تقوم بمعاهدات مشتركة وتدعم مصر في كثير من القطاعات الاقتصادية الأخرى. وقد جاء هذا الدعم مساندا للإقتصاد المصري بشكل واضح. وإذا كان هناك سوء إدراة في وضع الأولويات، فإن هذا لا يرجع في حد ذاته للدعم الأجنبي، ولكن يرجع إلى اهتمامات القيادات السياسية السابقة.  ويمكن القول أنه من أحد ما يمكن أن يقال عنه تميز في الحكم السابق، هو قدرة مصر على حذب معونات واستثمارات أجنبية، ساعدتها على عدم الانهيار عندما حلت الأزمة الاقتصادية الكبري بالولايات المتحدة عام 2008 ، وتسببت في انهيار اقتصاد كثير من الدول المرتبطة بها، حتي أن دولة مثل نيوزيلندا أعلنت إفلاسها.  لا يعني هذا بالطبع الإشادة المطلقة بإدارة السياسية الاقتصادية لمصر في تلك الحقبة السوداء،  فنحن نعلم اليوم أن هناك مليارات قد تم سرقها من أموال هذا الشعب، وندرك جيدا أن السياسة الاقتصادية لم تكن تعني بالشرائح الدنيا من المجتمع، على الرغم من رفع الشعارات لذلك.  ولكن ليس هناك ربط بين قبول معونات أجنبية وبين ضعف الأداء الاقتصادي، ولكن الأكثر منطقية هو مراجعة كيفية صرف أموال المعونات الأجنبية، وهل تم توجيهها في الأهداف التي تساند البلد ومن أجل مصلحة شعبها، أم كانت تستخدم لتخدم مصالح الحكام.
والآن أتعجب من تلك النغمة التي تذكرنا بعصر الخمسينيات والستينيات،  وهي نغمة لا تصلح في عصر التشابكات الاقتصادية المعقدة، وتعاظم الاعتماد المتبادل بين الدول.  ويتم هذا تحت شعارات الكرامة الوطنية. وتختزل قضية الكرامة الوطنية في "قبول" أو رفض المعونات. وفي نفس الوقت نجد رئيس الوزراء يصرح في حزن ويأس بالغ عدم وقوف الدول العربية مع مصر في محنتها الاقتصادية. وتتم هذه التصريحات في الوقت الذي نعلم فيه جميعا أن الجيش المصري يعتمد اعتمادا كليا ومنذ معاهدة السلام على الدعم الأمريكي.
وتحتل أخبار المؤسسات الأجنبية التي كانت موجودة تحت سمع وبصر الأجهزة الحكومية الصفحات الأولى من حيث اتهامها بأنها تتدخل في شئون البلاد السياسية. ولا يخفي على أي متتبع لما يحدث على أرض مصر أن هذه الحملات تهدف إلى جذب الأنظار بعيدا عن تلك الجرائم المتوالية والتي راح ضجيتها شهداء وآخرها مذبحة بورسعيد التي لم تهز فقط الضمير المصري، بل وسمع صداها في العالم أجمع.
من ناحية أخري فإنني أسأل بعض الأسئلة البريئة التي قد يشاركني فيها الكثيرون أيضا، هل حقا يمكن للمصريين في الخارج أن يثقوا في هذا النظام الآن الذي يعيد نفس أسلوب النظام السابق، وهل يمكن أن يمولوا الصندوق الوطني المزمع إنشائه؟ ولماذا لا تكون الأولوية تشجيع المجتمع المدني على القيام بدوره في التنمية، فالمؤسسات المدنية قادرة على جذب الأموال لأن صرفها لتلك الأموال مرتبط بأهداف ومشروعات محددة يمكن تتبعها. أما أن نضع أموالنا في صندوق لا نعرف كيف سيتم استخدامه، فلا أعتقد أن المصريين يقبلون مثل هذه المغامرة.  ومن ناحية أخرى هل يمكن أن ننعزل عن العالم اقتصاديا ونعتمد على أنفسنا. 
إن الوطنية كلمة كبيرة لا يصح أن تمتهن بهذه الطريقة الساذجة، لأن الوطني هو من يحترم هذا الشعب ويحافظ على كرامة كل فرد فيه. ليس وطنيا من لا يحاكم من أهدر دم هذا الشعب طوال هذه السنوات الطوال، وليس وطنيا من يقتل أبناء هذا البلد بقلب خالي من المشاعر.  لقد فات أوان اللعب على عقول المصريين، لأن هذا الشعب قد استيقظ ولن ينام مرة أخرى.   

Tuesday, February 7, 2012

العنقاء لا تموت إلا في خيال الجاهلين


كيف يكون الإنسان إنسانا إذا لم يعتصر الألم قلبه وهو يرى مذبحة استاد بورسعيد، وهي أشبه بالأهوال والكوابيس منها إلى الحقيقة، وأقرب إلى الخيال من الواقع. ولكنها أحد مشاهد المسلسل الرهيب وغير المعقول أو المقبول الذي تعيشه مصر منذ أن بدأت الثورة وإلى اليوم. متى تجيء النهاية، هل من سبيل أن نرى نورا في نهاية هذا النفق المظلم الذي دفعنا إليه دفعا. كيف ولماذا تقتل أرواح بريئة، ذنبها الوحيد أنها دافعت عن الحرية في ثورة مجيدة بيضاء . ظهر الألتراس وفرض نفسه بقوة على المشهد الوطني في ثورتنا الطيبة السلمية المباركة. وشباب الألتراس من أطهر وأجمل شباب مصر، يملك من النبل ما لايقل عما يملكه من قوة الشباب وجرأته وشجاعته. أحلامه خضراء وتطلعاته بريئة، وبحثه عن الحلم والأمل بدأ بتشجيع الكرة، ولكنه لم يتوقف عندها، وتجاوزها إلى بذل النفس في حب الوطن.
ولأن هناك من يريد لهذه الثورة أن تموت ولمصر أن ترجع القهقرى، فوجئنا بهذه المذبحة، بعد أن مر 25 ينايرهذا العام (عام 2012) وما تلاه من أيام بسلام، وبعد أن ظهر الشعب المصري مرة أخرى بقوته وعنفوانه وتطلعه إلى الحق والخير، واستخدم خلاقيته وإبداعه في مسيرات تلف أنحاء الجمهورية من أقصاها إلى أقصاها، لتجمع كل المواطنين. وبين هذه الأعداد الضخمة، يستتب الأمن دون شرطة، وتختفي البلطجة والسرقات بقدرة قادر.  وعلى مدار العام الماضي، كان هذا ظاهرة متكررة فعندما تختفي الشرطة من المظاهرات المليونية يترسخ الشعور بالأمن والأمان. وتختقي الجرائم خارج الميدان.  كان خروج الملايين يوم 25 يناير إشارة مطمئنة للإستثمار فإرتفعت البورصة. ولكن كيف لأعداء مصر أن يرضوا بحالة الإطمئنان. أبى هؤلاء إلا أن يستمروا في الحرب الخفية، فإذا بالسطو على البنوك يبدأ كظاهرة لم تشهدها مصر على مدار السنوات التي عشتها، وهي كثيرة. ويخطف أطفال من هنا وهناك في مسلسل بث الفزع والإرهاب، وترسيخ كراهية ما جاءت به الثورة، ثم يجيء ميعاد موقعة الجمل لحدث أبشع منها، ألا وهو هذه المذبحة الشنعاء، ليموت ثلاثة وسبعين شهيدا، ويعاني المئات من الجراح والإصابات.  
وفي خضم الأحداث توجه الاتهامات إلى مجتمع طرة حيث يقيم شلة النظام السابق، ويبدو واضحا للعيان أن هذا المجتمع يحتل الآن الشماعة التي أصبح يعلق عليها كل أسباب الفوضى في البلاد. إنهم الطرف الثالث الذي يظهر ويختفي تبعا لمواقيت محددة وخطط مرسومة. كانت إيران وأمريكا وإسرائيل أياد خفية في المرحلة السابقة، تلك الأيادي التي قتلت المتظاهرين وسحلتهم ودهستهم واقتلعت عيونهم، واليوم توجه أصابع الإتهام إلى المختفين وراء الأسوار. وتأخذ التحليلات مسارا معقدا تختفي فيه الحقيقة، بينما يبدو الأمر أسهال من ذلك كثيرا. أولا لماذا اختفت الشرطة المؤسسية والشرطة العسكرية، ولماذا تقاعس الموجود منها عن القيام بدوره؟ ولماذا أغلقت أبواب الممرات التي تستخدم في أحوال كهذه؟ ولماذا غاب المحافظ عن حضور الماتش؟ ولماذا لا يتم القبض مباشرة على من قاموا بالقتل وقد سجلت الكاميرات صورهم؟ بل أسهل من ذلك كثيرا فإن تحقيقا مع أفراد الشرطة الذين كان منوطا بهم أن يقفوا دون حدوث هذه المجزرة أن يعللوا سبب عدم تدخلهم، وأن الضباط المسئولين أن يحقق معهم فورا.  لا أريد أن اخوض فيما خاض فيه غيري من تأكيد وجود مؤامرة ما، ولكن أريد فقط أن أؤكد أن المسئولين المباشرين عن هذا الحدث هم من يديرون شئون هذا البلد.  ولن تقودهم هذه الفوضى إلى ترسيخ اقدامهم ليسيطروا على هذا البلد، بل إنها تضعف من شوكتهم، وتضعهم في مأزق عسير أمام هذا الشعب.
لم يعد مقبولا اليوم أن يتشدق البعض بالقانون والتحقيقات العادلة، لأن هذا أمر لم يحقق العدل في خلال العام المنصرم، ونحن نرى أحكاما بالبراءة لكل المتهمين في قتل الثوار أثناء الثورة، بل والعناية الفائقة برفاهة الأسرة الحاكمة السابقة وأعوانهم وما ينفق عليهم من أموالنا نحن الشعب الذي تحول الثوار فيه إلى متهمين بالبلطجة والجريمة. إذن ما هو المخرج؟ قبل أن أتحدث عن المخرج يجب أن أتحدث عن المحاذير التي تبدو واضحة للعيان، ولكن الفتنة تعمي البصر، وتجعلنا نسير على غير هدى.
أولا: وعلى الرغم من التحفظات الكثيرة من موقف الإخوان المسلمين وحزب الحرية والعدالة، وموقف هذا الحزب من هذه المجزرة في البرلمان، إلا أننا لا يجب أن ننشغل بمعارك جانبية بين بعضنا البعض ونترك القضية الأساسية. وموقف الإخوان من المتظاهرين أمام مجلس الشعب يسجل عليهم الكثير من المآخذ التي تجعل الشك في ترتيب ما مع المجلس العسكري يأخذ منحى التيقن. ومع ذلك فإنني أتمنى أن نتغاضى عن هذه الاختلافات ونركز على المطالبة بالإسراع بإنتخاب رئيس للجمهورية.
ثانيا: لا أدري لماذا ينزلق هذا الجمهور من المتظاهرين إلى الشرك المنصوب لهم في التوجه إلى أماكن ترفع من مخاطر المواجة مع الجيش أو مع الشرطة. أتفق تماما انه من حقهم أن يتظاهروا سلميا أمام وزارة الداخلية  رمزا لاحتجاجهم على السياسات الأمنية. ولكن في هذا الوقت الذي أصبحنا فيه على يقين أن شباب الثورة الناشط لا بد من القضاء عليه، كيف يستعيد النظام الذي لم يرحل قوته، علينا ألا نعطي لهؤلاء فرصة يبررون فيهم عدوانهم.  ومع إدراكي وعلمي أن اندفاع أهل مصر نحو وزارة الداخلية لم يكن عملا منظما من الحركات الثورية، بل هو رد فعل طبيعي نتج عن الغضب من أنهار الدم التي تزهق دون مبرر، إلا أنني أصر أن قيادات الحركات الثورية وإئتلافات شباب الثورة تتحمل مسئولية جزئية في تبصير الجماهير بهذا الشراك المنصوب لهم.
ثالثا: أصبح مجلس الشعب سلطة شرعية وحيدة على الساحة اليوم، ولكن لا يعني هذا أن ما يتخذه من قرارات فوق النقد. ولذا أرجو أن  الأكثرية الممثلة في حزب الحرية والعدالة أن تدرك خطورة هذه اللحظة التاريخية وأن تتعامل معها بقدر المسئولية التي وضعها الشعب على كاهل هذه المؤسسة.  والكثيرون محبطون من القرار الضعيف الذي لم يتعد أن يكون تكوين لجنة تقصى حقائق فيما حدث. كانت المجزرة تتطلب من مجلس الشعب أن يقود الثورة من داخل جدرانه مطالبا بإسقاط حكومة الجنزوري فورا وهو أضعف الإيمان، وطلب رئيس المجلس العسكري ليوضح موقف المجلس أمام البرلمان من خلال طلب إحاطة.
رابعا: أتمنى ألا يفقد المصريون إيمانهم أن الثورة ستصل إلى بر الأمان، وأنه لن يهزمها جبروت، ليس فقط لأن هناك دماء زكية قد سالت وغذت جذوتها، ولكن لأن الدفاع عن العدالة والحرية أصبح أغلى عند المصريين من الحياة تحت القهر والذل والظلم. ولأن هذه النفوس النبيلة التي تؤكد وجودها تملك من القوة الروحية ما يؤهلها لنصر الله وتأييده، ولأن المحبة التي تنتشر بين المصريين على اختلاف دياناتهم وطباقاتهم ومهنهم وأصولهم الثقافية أقوى من مسلسل التفرقة والدمار الذي بدأ بعد تخلي مبارك عن مسئولياته ولم ينته، ونجح جزئيا، ولكن طبيعة هذه الشعب أقوى من كل عوامل التفرقة التي تهدده.
بإختصار يجب أن نتجنب كل ما يثير التفرقة بيننا نحن المصريين، وألا نقع في فخ المواجهة الجسدية المباشرة مع قوات الأمن أو الجيش لا خوفا، ولكن صيانة للدم. مع الاحتفاظ بالضغط في اتجاهات أخرى، ونحن قادرون على هذا، وألا نفقد الإيمان بنصرة الحق، لأن الإرادة التي ظهرت لن تضعف أبدا، ولأن هذا الشعب النبيل الذي ظهر عنصره الأصيل سيجذب طاقات الخير التي هي اقوى من أعتى الأسلحة. ولنعلم جميعا أن الطغاة ضعفاء، وأنهم يتسلحون بالعنف لأنهم لا يستطيعون أن يواجهوا أنفسهم، وأن شوكتهم سريعة الإنكسار أمام سلمية الثوار وحشودهم. وليستمر الحشد إلى أن نحقق الحرية والكرامة والعيش الكريم لكل فرد على هذه الأرض الطيبة. من مصر ستنطلق رسالة السلام.