Tuesday, May 25, 2010

التدين والشخصية المصرية في عالم متغير د. علياء رافع


يعقد المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية مؤتمره السنوي تحت عنوان الشخصية المصرية في عالم متغير، وهو موضوع أهنيء عليه المركز وأحيي كل القائمين على التنسيق لهذا المؤتمر الهام. وكان من المفروض أن تكون مداخلتي في هذا المؤتمر عن "الشخصية المصرية وأنماط التدين بين الماضي والحاضر"، ولكن حالت  الظروف دون الانتهاء من ورقتي في الوقت المحدد، ومع ذلك فإن إعداد هذه الورقة بما تطلبه هذا من تفكير عميق  ودراسة متأنية في معنى "الشخصية"، و"أنماط التدين" كان متعة فكرية، ولكنه أثار كثيرا من الشجن والألم. وقد يكون هذا الموضوع في حد ذاته مشروع لكتاب ودراسة.
وقبل أن أبدأ في طرحي للموضوع، فإنني أتمنى أن تكون الدراسات المقدمة لهذا المؤتمر موضع إهتمام على مستوى أوسع من قاعات الإلقاء، وأرفف الكتب، بل إن هذا الموضوع يصلح أن يكون محورا لمؤتمر قومي، يعيد رؤية ودراسة ما يحدث من تحولات في الشخصية المصرية، ويستشرف رؤية لسياسة تعليمية وإعلامية تساعد على بناء شخصية مصرية أصيلة ومعاصرة، تحمل الخصائص الأساسية التاريخية، وتكون قادرة على مواكبة التغيرات في عالم يذخر بالمتناقضات ويفتقد أرضية مشتركة حضاريا وفكريا يمكن أن تبنى عليها تواصل الشعوب بعضها مع البعض الآخر. ويطلق علماء الاجتماع على هذا الواقع "مابعد الحداثة".  والسؤال هو هل سينتقل هذا العالم المشتت إلى واقعنا الثقافي والفكري في أرض الكنانة؟ يبدو بالفعل أننا نسير نحو هذا الاتجاه من التمزق والتناقضات الصارخة في السلوكيات والأفكار والممارسات. ولم يعد الخطاب الإصلاحي بصورته التقليدية قادرا على تخطي هذا التفتت والتشرذم السائد في العالم والمنعكس على أرض مصر.
أردت في هذه العجالة أن أبين أهمية الموضوع الذي يناقشة المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية، وهو مركز له تاريخه العريق وإسهاماته المشهودة في دراسة ومكافحة الجريمة، وتقديم دراسات جادة وهادفة للمجمتمع المصري.  أما عن أنماط التدين وتغيرها، وعلاقة هذا بالشخصية المصرية، فلقد بدأت أطروحتي بقضية رئيسية أعتقد أنه لن يختلف عليها إثنان، ألا وهي أنه على الرغم من أن التدين قضية شخصية تتعلق برؤية الفرد الخاصة، إلا أنها تؤثر على مجموع العلاقات الاجتماعية والإنسانية والبييئية التي يمارسها في الحياة الواقعية. وبالتالي فإن الممارسات التي تعبر عن التدين هي المظهر المشهود الذي يمكننا من خلاله أن نتعرف على نوعية هذا التدين، ليكون محلا للدراسة والفهم. 
وبالنسبة لما يحدث الآن في مصر، فإننا أمام أكثر من ظاهرة تتطلب الإنتباه ولفت النظر، وأضع على قمتها إزدياد عدد المنقباب بإعتبار أنها ظاهرة آخذة في الإزدياد بشكل كبير،  ومن دراساتي السابقة عن وضع غطاء للرأس في نهايات السبعينيات وبدايات الثمانينيات، كان اتشار هذه الظاهرة في ذلك الوقت تأكيدا للهوية الدينية، التي تريد أن تنشر فكرا إصلاحيا أخلاقيا في ظل ما طرأ على المجتمع المصري مع سياسة الانفتاح، وما صحبها من فساد وتغير قيمي، وتغيرات سياسية جذرية، أنتجت نوعا من الإغتراب الذي واجه الشباب خاصة والمجتمع المصري عامة، ولكن لأن الشباب هو دائما الفئة الحساسة والتي يبدأ منها حركات التغير الاجتماعي، فإن الدين مثل لهم أرضا ثابته يمكن أن ينطلقوا منها ليواجهوا ما أصاب المجتمع من تخلخل قيمي وبنائي. شباب ذلك الوقت أصبحوا الآن في سن النضج، ونقلوا لبناتهم وأبنائهم تلك القيم التي تمسكوا بها.  وأما اليوم فلا يمكن أن ننسب إلى غطاء الرأس هذه المعاني، في ظل مجتمع أصبح معظم سيداته وبناته من كل الطبقات، وعلى كل المستويات العلمية والتعليمية والمهنية يضعن غطاءا على رأسهن. إن غطاء الرأس أصبح زيا شائعا، لا شك أنه ما زال يعبر جزئيا "عن الإلتزام الديني"، ولكنه لا يؤكده. أقصد أن الشابات اليوم يرتدين هذا الزي إستجابة لشكل أصبح هو الشائع والمنتشر، ولكن لا يدل هذا –كما كان سابقا – أن الدين يأخذ محور إهتمامهن. وفي هذا الصدد أصبح هناك إحتياج لزي آخر يؤكد "التدين" والإلتزام، ومن هنا أعتقد أنه قد برز النقاب ليكون هو الوسيلة التي ترسل بها الفتاة رسالة إلى المجتمع تعبر عن شخصيتها وإلتزامها.
إذا وضعنا في الإعتبار أن هذا الزي هو إختيارشخصي، فإن هذا لا يمنع من الإعتراض عليه أيضا، ولقد عرضت في مقال سابق التداعيات الأمنية والفكرية لإنتشار هذا الزي، وأقولها مرة أخرة في عجالة، ذلك أن هذا الزي من الناحية الأمنية من الممكن أن يستغل في جرائم كثيرة، لأن اختفاء الهوية يشجع المجرمين على تهديد الأمن، دون أن يكون هناك وسيلة للتعرف عليهم أو الإمساك بهم. وأما من ناحية قضايا المرأة فإنه يؤكد مفاهيم مغلوطه عن الدين لا تتماثل مع إحترام الأديان للإنسان بعامة، فهذا الاختفاء يؤكد أن المرأة كلها عورة وبالتالي يقلل من شأنها ويضعف من ثقتها بنفسها، ويحجبها عن أخذ أدوار قيادية في حياتها.
  وأما في صدد "التدين"،  فإن هذا الزي وغيره من المظاهر التي تريد أن تؤكد الإنتساب الديني، أعتبره تهديدا لأصالة الرسالات الدينية التي تدعو جميعها إلى تطهير القلب من الشوائب، والعمل الصالح المتجه إلى كل البشر، دون إعلان، فالشجرة الطيبة تعرف بثمارها، وكلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها بإذن ربها في كل حين. وهذا الاتجاه المنصب على الشكل إتجاه دخيل على الثقافة المصرية، التي كان الضمير أول وأعظم إكتشاف قامت عليه حضارتها. وهذا الاتجاه هو نتاج للتعرض عن طريق المعايشة أو التواصل عبر الإنترنت، أو مشاهدة البرامج الفضائية لإتجاهات دينية متشددة، تؤكد على الشكل بإعتباره غاية.
عندما يتحول الدين إلى الاهتمام بالشكل وتاكيد أهميته يصبح المجتمع كله في خطر عظيم، وهم ما نشهده اليوم من تناقض بين انتشار تلك المظاهر الدينية وبين الإنحلال الخلقي الذي يضرب بشدة في الكيان المجتمعي ويشهد بذلك إزدياد الفساد، وتعاطي المخدرات، وإنتشار الزواج العرفي وغيره من مظاهرالإنحراف. أضف على هذا ما ينتجه الاهتمام بالشكل الديني من مشاكل نفسية، وذلك عندما يغيب القصد والهدف والغاية من الفعل، ويصبح جل الاهتمام هو الأداء. ومن دراستي لحالات إنسانية، كانت هناك الكثير من الحالات التي عشن شعورا بالصراع الداخلي والخوف المستمر من المعصية، مما جعلهن لا يستطعن أن يكن على ثقة بأي قرار يتخذن، أو أي فعل يقمن به، ناهيك عن الشعور باللامعنى والخواء الداخلي. أقول قولي هذا لا إعتراضا على الممارسات الدينية، ولكن تبجيلا للمعنى والهدف والمقصد من هذه الممارسات، فعند تحولها إلى غايات في ذاتها، فإنها بالضرورة تفقد معناها.
وأما الملاحظة الثانية التي أحب أن أتعرض لها في موضوع التدين، فهو إستغلال جماعات الإسلام السياسي مفتاحا هاما للشخصية المصرية ألا وهي رغبتها في التدين، وإنطلاقا من هذه الحساسية الخاصة لهذا الشعب، ينفذ هؤلاء إلى الشباب الذي يبحث عن قيمة ومعنى للحياة، فيصبح الإنضمام إلى هذه الجماعات والإنصياع إلى فكرها هو قمة التدين من وجهة  نظرهم. هذه الرؤية التي تجعل من البعض مهيمنا ومسيطرا على الآخرين لها جذورها الفكرية في الوعي العام الذي يعطي البعض قدرة على إملاء ماهو حق وباطل، ويمنع الآخرين من قدرتهم على الاستنتاج والاستنباط واستفتاء القلب، وهو إتجاه تتبناه كثير من المؤسسات الدينية هنا وفي العالم الإسلامي، ولذا نفاجأ بأسئلة في غاية الغرابة عن أمور قد تبدو بديهية من الناحية الأخلاقية، وليست في حاجة إلى فتوى.
 ويختلط على الكثيرين ما يقدمه الإسلام السياسي من فكر، وما تدعو إليه الرسالة الإسلامية من منهج.  ويظنون أن من يقولون  أن  "الإسلام هو الحل"، و"أن القرآن دستورنا" يملكون رؤية متطابقة مع ما جاء به الله سبحانه وتعالى. ويجعل هذا الاختلاط الكثيرين غير قادرين على التمييز بين خطورة فتح الباب لهذا الفكر للتغلغل إلى السلطة، وبين من ينادون بقوانين وضعية مطلقة، ولا يحاولون الإسترشاد بالهدي السماوي. ويدفع هذا الاختلاط الكثيرين إلى التضامن والتعاطف مع الإتجاهات التي تسيس الدين وتأسلم السياسة.   ويعتبر الكثيرون ممن يينتمون إلى هذا الفكرأن تأييدهم لهذه الجماعات هو قمة التدين، إلى الحد الذي يعتقدون أنهم مستعدون للشهادة في سبيل نشر هذا الفكر والدفاع عنه. هذا النمط من التدين في حاجة إلى حركة تنويرية جديدة، مثل تلك الحركة التي قادها رفاعة الطهطاوي، والتي تولد عنها حركات الإبداع الفكري الديني في بدايات القرن العشرين على يد محمد عبده.   
وإذا كان الحديث عن أنماط التدين متصلا ومتواصلا مع الشخصية المصرية، فإن خصائص هذه الشخصية ليست ثابتة، ولكن الرجوع إلى جذورها وفهم تطورها التاريخي عبر الزمان، من شأنه أن يضيء لنا الطريق اليوم إلى نقاط القوة والضعف التي يجب أن ندرسها، لنعيد إلى ثقافتنا الأصيلة حيويتها، ومرونتها، وقدرتها على النمو دون التشوه. وللحديث بقية.