Tuesday, September 28, 2010

همام والشخصية المصرية د. علياء رافع


عاش معنا همام في رمضان وإستمر في الوجود، بكل ملامحه وكلماته وأخلاقياته ودعاباته. إذ لم ينته المسلسل عند إنتهاء مشاهدته، وإنما هو مستمر في وجدان من شاهده بما عبرت عنه الشخصيات من مواقف، وأخلاقيات، وصراعات، وانتصارات وهزائم.  ولم يكن هذا النجاح إلا نتيجة لجدية وإتقان وتناغم بين كل من شارك فيه، وبلغ أداء يحيى الفخراني ذروة تفوق فيها على نفسه.  هذه البساطة التي تبلغ حد الإعجاز في التعبير عن تلك الشخصية، جعلت المشاهد ينسى أن هناك يحيى الفخراني، وشيخ العرب همام، وأظن أن هذا التفوق يعود ليس فقط لبراعة الفنان، ولكن لأن شيخ العرب بشخصيته التي تمزج بين الخلق الرفيع وبين القوة، بين الإخلاص والحنكة السياسية، بين الإيمان واحتواء أبناء الوطن من المسيحيين واالشعور معهم بالأخوة والمحبة دون تفرقه، كل هذه الصفات وغيرها تعيش في أعماقنا ، ولقد عبر الفنان يحيى الفخراني عن تلك الأصالة المصرية الكامنة في أعماق كل واحد منا، لأنه واحد من المصريين.
وبلغ الفنانون الذين إشتركوا في هذا العمل قمة تفوقهم. وأزعم أن كل من قام بدور في هذا المسلسل سيكون أمام تحد قاس في أعماله المستقبلية.  لم يشدني المسلسل فقط لموضوعه وتعريفه بجزء من تاريخ هذا الوطن، ولكن أمتعني كذلك اللمسات الإنسانية التي زخرت بها كل حلقة، وأعتقد أنني يمكن أن أشاهد هذا المسلسل مرة ومرات، من أجل متعة التذوق لفن راق وأداء عال، وإنسانيات رفيعة، سواء كان ذلك في علاقة همام مع ابيه أو أخيه، أو زوجتيه، وأبنائه، وقومه، أو في تلك العلاقات المتشابكة من حب عميق لعاشق يحترق قلبه، ولكن لا يخبو نور هذا الحب، بل يظل وهاجا مضيئا، فتخرج منه نغمات وكلمات، يعيش فيها ومعها المحبون والمتصوفون على السواء. ونهتز لهذا الصراع الإنساني الذي يعتمل في قلب الشيخ إسماعيل الذي عبر عنه عبد العزيز مخيون بإقتدرا، لقد ارتبط مع إبن عمه شيخ العرب برباط وصفه أنه مثل اللحم والعظم في الجسد الواحد، ولكن تلك النوازع والأهواء وسوء الظن يعتمل في قلبه، ويعكر صفو هذه الحميمية، إنها طبيعة البشر، إنه الضعف الإنساني الذي يهددنا جميعا، والذي يجب أن نعيد حساباتنا مع أنفسنا دائما، حتى لا ننزلق في أوهام تجعلنا نخسر أقوى العلاقات وأفضلها في حياتنا، بل وقد يتعدي هذا الخسران الأمر الخاص، ويذهب إلى الأمر العام. ويمتزج الكوميدي مع الدراما في وصف الحياة اليومية التي تعيشها الضرتان في علاقة متأرجحة ما بين الغيرة الطبيعية لعاشقتان لرجل واحد، والتعاطف الإنساني، بل والصداقة والحميمية بينهما
نلمح تلك اللمسات الإنسانية في الحياة اليومية لذلك المجتمع الصغير، الذي يكثر فيه العبيد، ولكنهم مكرمون، وليسوا مسخرون أو مستعبدون، ولهذا فإن إخلاصهم وحبهم وتفانيهم في الخدمة يجيء تلقائيا، لأنهم يعتبرون انفسهم جزءا ونسيجا من هذه الحياة ومن الأسر التي يعيشون فيها ومعها، ولا يعتبر هذا تزييف لوعي، لأن طبيعة المجتمع وأسلوب الحياة فيه جعلت السيد والعبد علاقة لا تقوم على القهر ولكن على الحب والإخلاص، فتصبح كلمة عبد غير ذات دلالة، ولكنها تعبير عن إحتواء أسرة لفقراء لا يملكون قوت يومهم.
 وأما بولس فهو الكاتب والمعلم في نفس الوقت، هو الشخصية التي تذخر بالجدية وإتقان العمل، ولا تتهاون بأي قدر لأي مستيب أو مستهتر. إنها الصفات التي خلقت الحضارة المصرية بشموخها وكبريائها وسموها.  والعلاقة بين بولس – الذي ينتمي كلية إلى أهل مصر القدماء- وبين العربي همام الذي نزح من المغرب وإستقر في مصر، فأصبح مصريا عربيا علاقة لا نشعر فيها بإغتراب بين هذا وذاك، أو إستبعاد من أي نوع، ولكن إمتزاج طبيعي تلقائي وحميمية أصيلة ليس فيها أي إدعاء أو أي إيحاءات بأفضلية من عربي على مصري أو مصري على عربي لإختلاف الأصل أو الدين.
هذه المسلسلات الهادفة لا تقطع الوقت ولا تقتله، وإنما هي قيمة مضافة لكل مشاهد، وليسمح لي القاريء أن آخذ من شخصية همام مثالا لإبراز سمات للشخصية المصرية، على الرغم من لقبه "شيخ العرب". هذا اللقب الذي جاء تمييزا  للهواريين بأصولهم وانتسابهم إلى الرسول، وبين المماليك الذين جاءوا إلى مصر كعبيد، لا يكاد يعرف لهم أصل، ولا بلد، فكلمة مماليك تطلق بشكل عام، مشيرة إلى هؤلاء الذين ليس لهم أصول أو جذور في مصر، ولا تمييز في هذا اللفظ بين مملوك أسود أو أبيض أو أصفر، فكلهم مماليك. وعلى الرغم من أن القبيلة التي جاء منها همام قد نزحت من المغرب، إلا أن إستقرارها في مصر، قد أكسبها صفات خاصة، إمتزجت فيها القيم الدينية الإسلامية الصوفية، بأخلاقيات المصريين وتوجهاتهم. 
ولذا فإن أهمية هذا المسلسل ترجع ليس فقط إلى أنه لفت الانتباه إلى شخصية تاريخية لها أصالتها ودورها الوطني، ولكن لأنه أعاد إلينا إحساسا عميقا بالإسلام الذي عبر عنه المصريون، لأنهم إستقبلوا هذه الرسالة بحب وتقدير وتحولوا إليها تدريجيا لأنها عبرت عن الإيمان الذي ملأ قلوبهم منذ فجر التاريخ، وهو أقرب ما يمكن إلى الرسالة السمحاء التي جاء بها الرسول (صلعم) لأنها ترتكز على الإيمان القلبي، وليس الشكلي، والتي ينتج عنها خلق رفيع لا يعرف الغدر والخيانة. فليس هذا ما يعبر عنه القيم التي تنقل إلينا إفتراء على الإسلام  عبر القنوات الفضائية، وعبرت عنه موجات العائدين من البلاد العربية، وليست هذه الرؤية هي تلك التي تستخدمها جماعات تسييس الإسلام. سبغ ذلك الإيمان التلقائي على شخصية همام السياسية طابعا خاصا، حيث امتزج الإيمان والإخلاص والقيم، بالحصافة والتخطيط للنصر دون تعارض. وهو ما يفسد النظرية السياسية التي رسمها ميكافيللي والتي تقوم على الغدر وتبرير الوسيلة غير الأخلاقية في سبيل الوصول إلى الهدف.
سنجد أيضا أنه إيمان لا ينجرف نحو الشعوذة والدجل، ويفرق بين إتجاه صوفي خالص يؤمن بالغيب ويشعر بالحضور الإلهي، وبين أفكار لا يقبلها العقل أو المنطق. وهزنا الشيخ سلام من الأعماق، ببراءة الطفولة، وعمق الإيمان، والمنطق العفوي الخالي من تأثيرات الأعراف والزيف الاجتماعي الذي ينحاز تلقائيا إلى قيم إنسانية رفيعة تنحاز للحب، حتي لو كانت الأعراف تقف أمامه، ويري الحق حقا والباطل باطلا دون إلتباس، فيكون وهو الأقل ذكاء وانتماء إلى الحياة الدنيا، ناصحا لأخيه الأكثر حنكة وتجربة وقدرة، وعندما تختفي شخصية الشيخ سلام بإنتقاله إلى عالم البقاء، يفقد همام تلك البوصلة الأخلاقية التي كانت تنير له طريقه، ويقع في أخطاء تقوده تدريجيا إلى الهزيمة.  
وعلى الرغم من الفاصل التاريخي الذي يقف بيننا وبين همام (شيخ العرب) إلا أنه شخصية قريبة نكاد نلمسها ونراها،  بل وندرك مدى إفتقادنا لها، وشوقنا إليها. أين نحن من هذا الشموخ والاعتزاز بالذات القائم على إعلاء قيم الصدق والأخلاص والوفاء، وقد أصبحنا نعيش في جزر منعزلة، لا تحركها إلا المصلحة الذاتية، دون نظر إلى المصلحة العليا للوطن؟ ما الذي حدث للشخصية المصرية، كيف فقدت أصالتها؟ إنها أسئلة في حاجة إلى دراسات وليست دراسة واحدة، ولكن همام يوقظ فينا الحنين الدفين إلى هذه الشخصية. لقد أصحبت  ثقافتنا غريبة علينا، لأننا سرنا في مسيرة لا نتنمي إليها ولا تنتمي إلينا، ليس تقليلا من شأننا أو شأنها، ولكن لأننا تدريجيا قد فقدنا الثقة بأنفسنا.
 ويقدم هماما مفهوم غاية في العمق للقيادة، لأنه يكتسب قوته من إحترام قومه له وتقديرهم وثقتهم فيه، مما يلزمه أن يكون أمينا معهم، أو ما نطلق عليه اليوم ملتزما بمبدأ الشفافية. لا يخفي عنهم خافية، ويتجاوب مع آمالهم وأحلامهم. فهو لا يعيش في برج عاجي معزول عن الناس، ولكنه يعيش وسطهم وبينهم، يستمع إليهم ويأخذ بنصحهم. وإذا كانت القرارات الإستراتيجية التي يأخذها تكون منفردة، ولكن مع ذلك فإنه يتحمل المسئولية الكاملة لنجاح أو فشل هذه القرارات. قيادته تتسم أنها ما يمكن أن نطلق عليه اليوم العلاقة الأفقية في القيادة، حيث لا يوجد هيراركي، وإنما تكون قوة القائد إنعكاسا لقوة الشعب، وهذا عكس العلاقات الرأسية التي تجعل قوة القيادة في السيطرة وإضعاف القاعدة الشعبية العريضة.  إنه أيضا الأسلوب الذي لم نفهمه عن العلاقة بين حكام مصر في عهد القدماء المصريين وبين شعبهم،  وتصورنا أن كل حكام مصر كانوا نسخة مكررة من فرعون الذي أعلن نفسه إلها على شعب مصر واضطهد بني إسرائيل، والدراسات في المصريات تنفي هذا النوع من التعميم، ذلك أن الحكومة المركزية كانت ضرورة من أجل تنظيم شئون المصريين الذي إعتمدوا على النهر لتسير بهم الحياة، ولم يكن هذا يعني أنهم مضطهدون أو مسخرون، وإنما  كان فرعون يمثل لهم رمزا لإقامة العدل، يحكم بإسم حورس.  ومع ذلك لم يخل الأمر من خيبة أمل هنا وهناك لأن أي حاكم هو إنسان قد لا يعبر عن تلك المثل التي يتطلع إليها المصريون. وما نحتاجه اليوم هي صفات أخلاقية لقائد مثل همام، يقوى من إمكانيات شعبه، ويرضخ لما يريدونه، حتي لو طلبوا منه أن يتخلى عن القيادة. حينئذ سيكون رضوخه تكريما له، وليس تقليلا من قدره، لأنه سيكون على ثقة أن هذا الشعب قادر على إختيار من يعبر عنه، وتكون هذه الثقة مبنية على حصاد من التفاعل الذي يكون قد أقامه مع الشعب، فساعده على النضح السياسي.
لم يكن همام شيخ العرب مسلسل قد إنتهي، ولكنه قضية قد بدأت.