Tuesday, October 26, 2010

الحوار مازال مستمرا مع رئيس جامعة عين شمس د. علياء رافع


لا أخفي على قارئي أنني ترددت كثيرا أن يكون موضوع مقالي عن رئيس جامعة أعمل بها، لأنه قد يكون هناك قيما غير متوازنة، قد تشكك في صدق ما يقال، أو من يقول، ولكنني تغلبت على هذا التردد، لأننا في حاجة إلى إلقاء الأضواء على كل ما هو إيجابي في هذا المجتمع، والحاجة إلى أن نتكاتف جميعا أيا ما كانت إنتماؤتنا الحزبية أو الفكرية، يجعمعنا هدف واحد، وهو أن نشارك في صنع مستقبل مشرق لمصر.واليوم ومع إدراكي بإنتماء رئيس الجامعة للحزب الوطني، وتحفظاتي على كثير من سياسات هذا الحزب وإشتراكي في الرؤية التي يتبناها د. البرادعي، إلا أن تسجيل ما أراه إيجابيا في أسلوب القيادة الذي يتبناه د. ماجد الديب رئيس الجامعة ضرورة، لا حكما على هذه الشخصية، ذلك أن هذا الحكم المبكر ظلم لأي قيادة في بداياتها، لأن الإنجازات لا تظهر إلا بعد مرور وقت كاف.  ولكن لا شك أن وجوده في هذا الموقع في ذلك الوقت مكسب للعملية التعليمية في جامعة عين شمس، وهو ما تكشف لي مبدئيا من هذا الحوار الذي عقد في كلية البنات، وهي كلية جمعت أسماء كبيرة في عالم الفكر والعلم، منها د. يونان لبيب رزق، ود. عبد الوهاب المسيري، وغيرهم الكثيرون.     
أبدأ بتسجيل إندهاشي المبدئي عندما علمت أن رئيس الجامعة سيقيم حوارا مع طالبات الكلية، وأن أعضاء هيئة التدريس مطالبون أن يتواجدوا في هذا الحوار. كنت مندهشة لأنها سابقة لم أشهدها من قبل، بل ولم أر رئيس الجامعة السابق مرة واحدة في أي لقاء مع أساتذة الكلية. ومع ذلك كنت على وشك أن أحجم عن الحضور،لأنني أثمن وقتي، وحسبت أن هذا اللقاء هو نشاط صوري كما تعودنا في كثير من الأحيان، ولكن عندما طلبت مني العميدة شخصيا ضرورة تواجدي في هذا اللقاء، ولإحترامي لشخصها، قبل تحسبي لمركزها، فإنني حرصت على أن أكون متواجدة قبل الميعاد بوقت كاف، وعندما مر الوقت ولم يظهر رئيس الجامعة إلا بعد ساعة من الميعاد المعلن عنه، شعرت بالتوتر، وحسبت أن يوما من أيام العمل قد ضاع بالفعل. وأخيرا جاء رئيس الجامعة ومعه وكيل الجامعة لشئون الطلاب د. العوام، وعدد من مساعديه. بدأت الاحتفالية، ولم تهدأ نفسي إلا بعد أن بدأ الحوار، وأخذت الطالبات يسألن  على  إستحياء، والأساتذه يرفعون أيديهم في جرأة مطالبون بالكلمة، وتنحاز العميدة للطالبات، ولكنها لا تحرم الأساتذة كذلك، وورئيس الجامعة يدير الحوار ويتجاوب مع الطالبات ويظهر إحترامه لهن، ويشير إلى ضرورة التعامل معهن بود وتفهم، ضاربا بنفسه مثلا لهذا، ومقاوما كل الإتجاهات والانتقادات السلبية نحو الشباب وإتجاهاته التي أبداها عدد محدود من أعضاء هيئة التدريس، وإذا بالساعتين تمران بسرعة فائقة، وتبدل شعوري بالضيق الذي غمرني في أول اللقاء، إلى شعور بالتفاؤل، ومن هنا جاء تصميمي أن أسجل إيجابيات هذا اللقاء.
أولا: الإهتمام بالطلاب  وتشجيعهم على مخاطبة القيادة العليا للجامعة مباشرة بدا لي أنه تغيير أساسي في رؤية العلاقة بين القيادة، والفئة التي نريد أن نقدم لهم الخدمة، حيث أنها هدمت تلك الحواجز الهرمية، التي تصيب الإنسان باليأس والإحباط،  هذا إلى بالإضافة إلى أن أسلوب الخطاب كان به التشجيع الذي يغذي سياسة التمكين، التي هي ضرورة للشعور بالإنتماء للمؤسسة التعليمية التي ينخرط فيها الطلاب، ومن ثم إلى المجتمع. وهذا هو الأسلوب الذي يجب أن تتسم به أي قيادة في أي موقع، هذا بالإضافة إلى ضرورة تغيير نوعية العلاقة بين الأستاذ الجامعي والطلبة من علاقة تتأكد فيه المسافات، وتصدر فيها الأوامر الصارمة، إلى علاقة من الإقتراب الإنساني، والإستماع الصادق، وتحفيز الطالب على التعبير عن ذاته، والثقة فيها.  
ثانيا: لقد ضرب خطاب رئيس الجامعة على وتر حساس للغاية، ألا وهو فتح الباب أمام الطالبات وأعضاء هيئة التدريس للدلو بدلوهم في مناقشة حرة عبرت عن إمكانية المشاركة في تحسين أوضاع جامعة عين شمس. أقول أن هذا وتر حساس لأننا في بلدنا الأم الكبيرة مصر، قد سحبت من تحت أقدامنا هذه القدرة، وأصبح المواطن المصري لا يرى له أي دور في رسم القرار، والمشاركة في إتخاذه. فهناك عوائق حقيقية تهدد أمن المواطن المصري، مثل إمتداد قانون الطواريء على مدى ما يقرب من ثلاثين عاما، ومهما أكدت الجهات المعنية أنه لا يستخدم إلا في حالات تهدد الأمن القومي، إلا أن المواطن العادي يحجم عن المشاركة السياسية بكل أطيافها، تجنبا للمخاطر التي يمكن أن يتعرض لها. هذا بالإضافة إلى الوهن في الحياة الحزبية، وعدم الثقة في نزاهة الإنتخابات.  في ظل هذا الجو الخانق، جاءت قرارات رئيس الجامعة الفورية بإدراج عدد من طالبات الكلية في برامج فعلية لإنشاء قناة فضائية للجامعة، وغيرها من الأنشطة المستقبلية، ظهرت  بارقة أمل في أن الحوار ليس صوريا، وليس دعائيا، ولكنه حوار فاعل. ولكن ما أتمناه أن يمتد هذا الأثر خارج أسوار الجامعة، وأن يكون الطلبة قادرين على إختيار تياراتهم السياسية والحزبية، دون خوف من تهديد أمني.
ثالثا: تحدى رئيس الجامعة  روح البكاء والشكوى التي نلقاها في كل مكان، ووضع المسئولية على أجيال الشباب في خلق حاضر أفضل، ومستقبل أكثر إشراقا، وذلك برؤية تنويرية ترى أن الهدف من التعليم هو إعداد طالب متميز في عالم يذخر بالتنافسية، مؤكدا على الشخصية المتكاملة القادرة على التفاعل مع معطيات القرن الواحد والعشرين. ولعل من أبرز الخطوات من أجل تأهيل الطالب لهذا التميز هو برنامج التطويرالمستمر والتأهيل للإعتماد، الذي يتم في ظل منظومة متكاملة لتحسين التعليم في مصر، ولكن ليسمح لي رئيس الجامعة الموقر أن أذكر له أمرا بديهيا، قد أشفقت على نفسي من إثارته في كل  لقاء خاص بجودة التعليم في مصر، ألا وهو أن الخطوة الأولي في أي تحسين المؤسسة التعليمية تبدأ بالإرتفاع بكفاءة أعضاء هيئة التدريس علميا، وذلك عن طريق تخصيص ميزانية مناسبة للإشتراك في المؤتمرات الدولية وتسهيل إجراءات هذا الإشتراك، وتوفير البيئة الداعمة داخليا للأستاذ ليكون وقته مستثمرا داخل الكلية.
رابعا: أشار رئيس الجامعة إلى أهمية القدوة، ومرة أخرى فقد ضرب على وتر حساس، ذلك أن القيم الأخلاقية الأصيلة في تدهور مستمر، وإذلال الأستاذ للطالب معنويا ظاهرة موجودة في الجامعات المصرية، وهي تحطم ثقة الطالب في نفسه، بل وتحوله إلى شخصية مهزوزة، أو قد تكون آلية دفاعه عن نفسه هو أن يصبح شخصية مكررة من الأستاذ الذي كان يشكو منه. لا أريد مثلك يا سيدي أن أركز على السلبيات، ولكن الإهتمام بإنشاء جيل واثق من نفسه كما أشرت، يتطلب أن تتوافر له البيئة الداعمة لذلك، بدءا من المرحلة المبكرة في روض الأطفال، وخلال كل مراحل التعليم ما قبل الجامعي، وصولا إلى التعليم الجامعي. وبقدر ما يدمي قلبي أن أراني عاجزة عن فعل شيء في هذا الشأن، بقدر ما أتمنى أن تكون هناك وسيلة لتغيير هذا الواقع، ولنفكر جميعا كيف؟
خامسا: التركيز على أن العلم قيمة عليا، وأن النقد الذاتي هو السبيل إلى التحسن المستمر، نقطتان متصلتان وهامتان لا بد من تزكيتهمما، وهما دعامتنا من الأخلاقيات التي نشأت على أساسيها الحضارة المصرية، التي يستلزم الإنتماء إليها اليوم، ألا نقف متشدقين بها، ولكن أن نبني عليها.  
أعتقد إن من يشرق الأمل في وجدانه في ظل ما تمر به بلدنا من أزمات وما يواجهنا من تحديات هو من يستطيع أن يرى أفقا قد لا يراه غيره، وأحسب أنني من هؤلاء الذين يحتمون بالأمل حتي يمكن أن نؤدي مهمتنا في هذه الحياة على أكمل وجه،  وهو أمل لا يخضع فقط للتحليلات الإقتصادية والسياسية والاجتماعية على أهميتها، خاصة وأن أستاذ الجامعة لا بد أن يكون مؤمنا  بالمنهج العلمي وأهمية التشخيص قبل العلاج، وإنما نوع الأمل الذي يملأ نفسي والذي رأيته يملأ وجدان رئيس جامعة عين شمس أ.د. ماجد الديب هو أمل من نوع آخر،  فهو يعتمد على الثقة في الشباب، ولذا فإنه أعطي من وقته الثمين أكثر من ساعتين في حوار مع طالبات كلية البنات، حرص فيها أن يستمع وأن يتفهم ويشجع هذا النشء الذي إمتلأ قلبه بالخوف والتشكك ويقف بقوة مع من يشككون في قدرات شبابنا وما يقال عن إستهتاره أو تطرفه.
ويبدو أن هذا النوع من الأمل موجود في قلوب الكثيرين، ولكن أن يكون موجودا في رئيس جامعة، فهذا يعني الكثير،  لأنه من هذا الأمل يمكن أن ينشر الشعور الإيجابي في المحيط الجامعي الذي يترأسه، ومن خلال هذا الأمل أيضا يمكن أن تصبح أعقد المشكلات منظومة قابلة للتفكيك ومن ثم الحل. وهذه الروح هي ما تحتاجه القيادات في كل مجال، لأنها الروح التي تمكن من حولها أن يعمل بكل طاقاته، ويعطي من كل ما يملك للكل. 
.  وثقتي في الشباب، وهذه الثقة ليست حلما، ولكنها حقيقة أعيشها مع طالباتي، ومع من يشاروكنني الأنشطة الثقافية المختلفة التي تجمعنا. وعلى الرغم من أن هناك كثيرا من المعوقات التي لا يستطيع أن ينكرها إلا أعمى أو جاهل، تقف حجرة عثرة في إنطلاقة هذا الشعب، إلا أن ما يذخر به القلب من أمل هو الوجاء من الإحباط واليأس.

Tuesday, October 19, 2010

ما زال النيل متدفقا بالعطاء : في ذكرى رحيل محمد السيد سعيد د. علياء رافع


إهتزت كل مشاعري وأنا أري عملاقا في قامة الأستاذ سيد ياسين يقدم إسهامات د. محمد السيد سعيد في ذكرى رحيله بكل التقدير والموضوعية، وبلغ به التأثر حدا جعله يتوقف عن الكلام. وتحولت كلمات الأستاذ وعبراته التي جاهد في التحكم فيها  إلى سميفونية رائعة تضرب أنغامها خارج حدود القاعة التي اجتمعنا فيها، وتتواصل مع تاريخ مصر الحضاري، وقامتها الشامخة، وثرائها الإنساني. إنها سيمفونية بدأت من عمق التاريخ، وتتواصل مع سريان النهر في أرض مصر مؤكدا أن مصر لن تموت، وأن النهر البشري المصري سيستمر متدفقا بالعطاء دون توقف.
لم تكن مصر هبة النيل، بل كانت هبة أبنائها الذي إستئنسوا النهر، وأقاموا على ضفاف هذا النهر حضارة هي بداية لعطاء متواصل للإنسانية. حضارة مصر ليست حكرا على أبنائها، ولكنها ملك للعالم أجمع، اجتمعت فيها الأخلاق والعلم والإيمان، الفن والعمارة والإبداع بكل أنواعه. كان الأجداد يرسون قواعد للنمو والتقدم، ولم يتصوروا أننها سنغني ونشدو بما قاموا به، دون أن نضيف إليه، ونطوره، ونخرج للعالم بعطاء متواصل وحضارة متجددة. ولكن عندما يظهر الرواد والمفكرون في كل المجالات على مر  العصور، فإنهم يأخذون المسيرة إلى الأمام، ويستمرون في التغلب على الأحراش الفكرية التي تمنع تدفق النهر الإنساني إلى مساره ليروي أرض القلوب والعقول، ويعود بمصر إلى مكانتها الحضارية التي تستحقها. وفي ذكرى محمد السيد سعيد، المفكر المصري الجريء رغم ما كان يرتسم علي قسماته من هدوء، والثائر رغم كلماته الموزونة المتأنية، اجتمع لفيف من المفكرين، متجهين لا إلا التطنيب والإثناء على هذا المبدع، ولكن من أجل إحياء فكره بمناقشة ما قدم والانتفاع به والإضافة إليه 
في هذا المكان في جريدة نهضة مصر منذ عام، وبعد أن فجعني خبر رحيل د. محمد السيد سعيد،  قلت لنفسي ولقرائي أن الشهداء لا يموتون، ذلك أن هذا الرجل  كان شاهدا على عصره، ومتخذا من القلم الحر سلاحه المغوار يدافع به عن حق التعبير، حتى لو كان من يدافع عنهم مختلفون معه في الرأي والرؤية، يدافع عن حق الحياة، منبها الحقوقيين والتنفيذيين أن من يترك الفقر ينهش في جسم الأمة، ولا يهتم بهموم البائسين المطحونين، فإنه يخترق حقا أساسيا من حقوق الإنسان. ذلك أن حقوق الإنسان عنده لم تكن مجرد شعار يرفعه، ولكنها كانت برنامجا متكاملا يدعو إليه. لم يكن هذا الرجل ينظر إلى مكسب سريع، أو إبراز لشخصه ولذاته، ولكنه دفع ثمنا باهظا لجرأته وإعلانه عما يؤمن به، فدخل السجن ولاقي من التعذيب ما لاقي. 
وقدم الأستاذ الموسوعي الذي لا يحتاج مني إلى تعريف أوإشادة، فهو أستاذ الأساتذة، وصاحب الرؤية الواسعة والنظرة الثاقبة لما يدور هنا وهناك، محليا، وإقليميا ودوليا، ويضرب مثلا مستمرا في تواضع العلماء والانفتاح على المعرفة بلا حدود، إنه الأستاذ سيد ياسين. إن تلك العلاقة الإنسانية بين جيلين، والتي نمت وترعرت من خلال حب مصر، والبحث الرصين المنهجي عن الإستفادة والإفادة  من العلوم الإنسانية بشمولها وإتساعها ورحابتها، تعدت العلاقة الشخصية بين فردين، وأصبحت مثالا للتجمع الإنساني الذي يتوثق من خلال وحدة الهدف وصدق النية، وعلمية المنهج.
ويكفيني في هذه العجالة أن أنقل خطاب د. محمد السيد سعيد  إلى المصريين في الكتاب الذي قام بتحريره تحت عنوان حكمة المصريين ، إصدار مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان. فهو يقول: " لقد آن الأوان لوقف عذابات هذا البلد وإنهاء بؤسه وضعفه، آن الأوان لأن نمنح هذا البلد مناعة حقيقية ضد غوائل الزمن وافتراء الطغاة من الداخل والخارج. آن الأوان لأن نقطع دابر اليأس ونعيد الأمل ببريقه وروعته إلى مصر والمصريين. آن الأوان لأن نستعيد لمصر سعادتها ومجدها وسؤددها وأن نصنع مستقبلا يليق بالبلد الذي ولدت فيه الحضاة وإبتدأ فيه التاريخ"  إنها صرخة أطلقها إلى جيل الشباب الذي عليه مسئولية الأخذ بزمام الأمور، والسير قدما بخطى واثقة، مزحزحا كل ما يشدنا إلى تقديس الماضي، والرجوع إلى الوراء.
وتأكيدا لهذا الإتجاه فإنني أقول لطلابي دائما أن إعتزازنا بالأهرامات يستلزم منا أن نتلقى الرسالة التي أراد أجدادنا أن يرسلوها إلينا عندما أقاموا هذا الصرح الذي تحدى الزمن، ومازال لغزا نبحث عن سر بنائه. وينظر إلي الطلاب وهم في حيرة من أمرهم، وهل يتكلم الجماد؟ أقول لهم ليس الفخر أن نتشدق بالكلمات عن أجدادنا، ولكن الأهم أن نتعلم منهم. لقد إستطاعوا أن يصنعوا هذه المعجزة بالتضامن والمحبة، فلم يكن الهرم مجرد قبر لحاكم، ولكنه تعبير عن وحدة أبناء النيل في هدف واحد. ولهذا فإننا إذا توحدنا على هدف نهضة مصر، حتي لو إختلفنا في الرؤى، فإننا يمكن أن نصنع المعجزات.
 والهرم الذي نريد أن نبنيه اليوم ليس هرما من حجارة نضعها جنبا إلى جنب، ولكنه تجمع للمصريين ليواجهوا التحديات الداخلية والخارجية، ولا ينتظروا تغير القيادات حتي يتغير المجتمع، بل إن التغير يجب أن يبدأ دائما من القاعدة، لا تثويرا لها كما يدعو البعض في إتجاه العنف، أوالعصيان المدني، ولكن من خلال إيقاظ الوعي الذي يجعل كل فرد منا مسئول عن الكل، وأجد أن المفكر الألماني إيمانويل كانط كان محقا عندما قال "تصرف كما لو أنك تشرع للعالم أجمع"، وهي نفس الفلسفة التي قامت عليها حضارة مصر "الإصلاح الأخلاقي بإحياء الضمير"، ذلك أن الفساد ينتشر ويتفشى لأنه أصبح القانون الحاكم، وليس الإستثناء الانحرافي، بدءا من الإهمال في القيام بالمسئوليات المهنية، وانتهاء إلى بيع أرض مصر بأبخس الأسعار، والتهاون في ثرواتها، وعدم التفكير في مستقبلها. إن المسئولية الملقاة على عاتق كل المصريين في هذه اللحظات الحاسمة، هو أن يكونوا على قدر من الشجاعة في مواجهة كل أنواع الفساد حولهم، بدءا بمراقبة أنفسهم، والتعالي عن رؤية مصالحهم الشخصية في اختياراتهم لمن يمثلهم. ذلك أن أي قيادة سياسية هي إفراز للفكر العام في المجتمع. مجرد الرفض للواقع، هو أحد آليات تغييره.
إن الهرم الذي نريد أن نبنيه اليوم لن يتم بناؤه إلا إذا تخلصنا من رواسب التفكير في القدرة على "إمتلاك الحقيقة" وفرضها على الآخرين، فهذا حقا هو الحجر العثرة التي تقف أمامنا متمثلة في أيديولوجيات متعددة، كلها يستبعد الآخر ويتخذه عدوا، ويحب أن نزيح هذا الحجر بالفكر النقدي، وإتاحة الفرصة لكل الأصوات والرؤي إلى التفاعل، ولنترك تلك الثنائيات التي تفرق ولا تجمع، والتي تضع دائما الحقيقة في لونين "ابيض وأسود"، متجاهلة كل ألوان الطيف ومشتقاتها. حقا مازال المنهج الديالكتيكي لهيجل  له فاعليته في التقدم الإنساني على أرض الواقع عندما يتاح للإنسان الحر أن يعبر عن رأيه، وأن يخرج من تقوقعه داخل مصالحه الخاصة، وتجمده الفكري، ويقبل أن يكون ناقدا لما يظن أنه الحقيقة، ليصل إلى رؤية أكثر نضجا ونماء، بإستكمال الرؤية من خلال النقد والفكر الآخر. إنها روح الإبداع التي يبشر بها محمد السيد سعيد، منتظرا أن تزدهر في الأجيال الشابة، المتطلعة إلى إختراق الصعب، واكتشاف الطريق.
لقد كان محمد السيد سعيد تجسيدا لهذه الروح التي لم تتوقف عن محاولة البحث عن السبل المتعددة في كل الأفكار، حتي إحتار في تصنيفه المحللين، لأنهم تعودوا أن يقسموا الاتجاهات بخطوط واضحة فاصلة، ولم تكن شخصيته لتقبل التقولب أو التقوقع. هذه الروح لم تمت برحيل أحد أبناء النيل من المصريين، ولكنها ستظل متجددة ومستمرة، وأقولها بملء الصوت "مصر ما زالت بخير"، ومستقبل مصر في أيدينا، في أيدي هذا الشعب، وليست في أيدي الحكام. فعلى الرغم من تلك النغمات البائسة اليائسة، والسطور السوداء المتشائمة، فإن ضوء الأمل وإشراق المستقبل يتسلل ببطء وهدوء إلى أرواحنا المعذبة، عندما نرى شخصية مصرية أصيلة ومبدعة تتجدد وتحيا وتبعث في أبناء مصر. وليس هذا تجاهلا للواقع بكل ما يذخر به من مشاكل وعقبات، ولكنه مواجهة لهذا الواقع بالعمل وليس بالكلمات. . يرحل فارس ولكن رحيله يفجر بركان العطاء في القلوب والعقول. تتحول الكلمات إلى طاقة ملهمة، وإلى عمل رصين يتجه نحو هدف واضح الملامح، كلنا يريد نهضة مصر. 

Tuesday, October 5, 2010

خواطر أولية عن الفتن الطائفية وقضية الإنتماء د. علياء رافع


إنشغل الرأي العام المصري بما قاله الأنبا بيشوي عن القرآن، وبيان مجمع البحوث الإسلامية في هذا الصدد، وتعليق البابا شنودة على ماحدث.  ولقد تم إحتواء الأزمة في الظاهر على الأقل، ولكن لا بد من إثارة الأمر بصورة أكثر عمقا، فهناك إحتقان خفي بين المسلمين والمسيحيين، ويزيد إنتشار التيار المتشدد على المستوى القاعدي الطين بلة. ولعله يجب أن ندرك أن هذه الفتن المتوالية هي إنعكاس لوضع عام يجب مناقشته والخوض فيه بكل صراحة. وحتي يمكن أن يزيل هذا الإحتقان فيجب أن نرى الأمر على مستوى  آخر غير المستوى الذي ظهرت فيه. وهذا ليس قولي ولكنه قول ألبرت أينشتين، الذي أوجد بالفعل منهجية فاعلة في فك الصراعات والخلافات بكل أنواعها.
وتطبيقا لهذه المنهجية، فإنني أثير بعض الخواطر الأولية في هذا الشأن، وأتصور أن أحد العوامل الأساسية  التي ساعدت وتساعد على إضعاف روح  الوحدة بين المصريين مسيحيين ومسلمين، يرجع إلى ضعف الإنتماء إلى الجذور الحضارية المشتركة التي تجمع كل المصريين، والتي كانت تسود بشكل طبيعي على مر التاريخ المصري، حتي في أحلك اللحظات ظلاما، كما كان الحال في عصر المماليك.  ويعود هذا الضعف أولا إلا الجهل بتاريخنا المصري وعدم معالجة هذا التاريخ من خلال رؤية الإستمرارية وليس التقطع, فنحن عادة أو أطفالنا خاصة ينظرون إلى المصريين القدماء على أنهم "آثار" من عهد سحيق، مثلهم في ذلك مثل أقوام لا تمت لنا ولا نمت لهم بصلة، ولا نركز على أن هذه الحضارة العظيمة قامت على إتقان العمل الذي هو قيمة مستمرة لا ينبغي أن تنقطع، وقامت على مراقبة النفس التي هي خطوة عظمي في التطور الإنساني، واكتشاف جديد كما قال هنري برستيد في تاريخ البشرية. ذلك أن الإلتزام بقيم الجماعة قبل نشأة هذه الحضارة العظيمة، كان ناتج من ضرورات إقتصادية معيشية كما يقول علماء الإنسان.  وقد تطور الوعي والإدراك إلى إكتشاف الضمير مع الإيمان بالبعث والجزاء في حياة قادمة. وقد توصل الإنسان المصري إلى كل هذا قبل الأديان  التي جاءت لتؤكد الإيمان بالآخرة، وتحس على العمل في الدنيا لعمارتها وتطويرها، وجعلت من العمل عبادة.  يجب إذن أن تبني مناهجنا الدراسية وبرامجنا الإعلامية على ترسيخ هذا الوعي بتلك الجذور الأخلاقية الإيمانية المشتركة، ليس فقط بين مسيحي مصر ومسلميها، بل بين كل مسلمي ومسيحي العالم. إضافة إلى أننا كمصريين لنا عادات وتقاليد مشتركة تجمعنا، ولانكاد نميز بين هذا وذاك إلا في أماكن العبادة المختلفة.
وأحسب أن التركيز على الأسس الأخلاقية الإيمانية الجوهرية المشتركة ستبعد بنا عن الخوض في المسائل العقائدية المختلفة، والتي هي مسئولية كل إنسان أمام نفسه، ولا ينبغي أن نضعها موضع مناقشة أو محاولة إقناع، لأنها تؤخذ على أنها قضايا مسلم بها، ومصدق عليها من جانب كل جماعة دينية، تبعا لما نشأ عليه أفرادها، وما تلقوه من تعاليم, آمنت عليها وبها الجماعة. وهذا هو الخطأ الكبير الذي وقع فيه رجل الدين المسيحي لأنه حاول أن يبرهن على صدق عقيدته بإستخدام آيات من القرآن، أجمع المسلمون على تفسيرها بصورة قاطعة تخالف عقيدة المسيحيين، وقد يقبل المسلمون تأويلات من علماء مسلمين، حتي لو جنحت إلى قراءة غير معهودة من قبل، وقد يرفضوها أيضا، ولكن الأمر لن يتعدى أن يكون هناك "خلاف في الرؤية"، أما إذا جاء التفسير ليخدم عقيدة أو رؤية قوم مختلفين في العقيدة، تصبح هناك حساسية مفرطة، خاصة وأن كل فريق يتربص بالفريق الآخر في ظل جو مشحون بالتفكك، لأن التركيز على ماهو مشترك مفقود. فإذا حاول البعض التشكيك في صدق بعض هذه الآيات، يصبح الأمر شديد الخطورة، وهو ما دعا مجمع البحوث الإسلامية إلى إصدار بيان صارم يضع فيه الخطوط الحمراء التي لا يجب تخطيها.
وأحسب أن هذا التفكك الطائفي – إذا جاز القول – هو أيضا أحد مظاهر التفكك العام الذي أخذ ينخر في جسم المجتمع، والذي جعل المصلحة الفردية تأخذ الأولوية بالنسبة للمصريين، خاصة وأن هناك تخاذل ويأس من أي إمكانية لتكافؤ في الفرص بين المواطنين – ليس المسيحيين والمسلمين – ولكن من له علاقة بأصحاب النفوذ، ومن ليس له علاقة بأحد. فإذا أضفنا إلى هذا أن المجتمع أخذ يسير في طريق التمييز بين أفراده  على مستويات عدة، لأدركنا كيف أن هذا من الممكن أن يؤدي إلى بناء حواجز نفسية عميقة بين أفراد المجتمع وكلنا يعلم أن خريجي الجامعات القومية أقل فرصة في الحصول على العمل من خريجي الجامعات الأجنبية. ولذا فإنه حتى مبرر الحفاظ على مجانية التعليم أصبح هراء، لأن الأًصل هو توفير فرص متكافئة للغني والفقير في الإعداد العلمي والمهني، وهو ما كان يؤدي إلى حراك إجتماعي صاعد، ولكن الشهادة الجامعية لم تعد صالحة لتوفير فرصة عمل، بل وأصبحت البطالة أكثر شيوعا في المتعلمين، لأنهم – على الرغم من مواردهم المحدودة فإنهم  يأنفون من القيام بأعمال لا تتطلب تأهيلا علميا. التعليم  مثال واحد من العديد من الأمثلة التي أدت إلى التفتت  والتفكك الإجتماعي، وغياب الوعي بالوطن الجامع الذي ننتمي إليه والذي يجب أن يعيش في وعينا. وأصبح المشترك بين أبناء هذا الوطن، هو الخوف وانعدام الثققة والاعتماد على القوة كل على حسب تعريفه وإمكانياته، حتي لوكانت قوة البلطجة.  وفي هذا الجو المشحون، يصبح "المختلف دينيا" أو حتي المختلف مذهبيا في داخل العقيدة الواحدة مصدرا للتهديد والخوف. وهو ماجعل إختفاء "كاميليا" قضية أثارت المسيحيين، والمسلمين أيضا، بينما كان السبب لا يتعدى أمورا عائلية خاصة في علاقة كاميليا بأسرتها، وهكذا نجد أننا أمام مواقف طبيعية وعادية، ولكنها سرعان ما تثير زوبعة عاتية، لأن هناك نارا خامدة، مهيئة للإشتعال مع أي قدوم ريح ولو بسيطة.
ومع غياب هذا الإنتماء إلى مصر تاريخا وحضارة وحاضرا ومستقبلا وسكنا ومأوى وقيما وأملا، تظهر بدائل أخري تربك الوعي الوطني، فتجد موجات التطرف المسلم والمسيحي بيئة صالحة للنمو، حيث يدعي بعضهم أن الأمل لمصر هو إحياء الخلاقة الإسلامية، والعودة إليها بأسرع ما يمكن، ويتبنون أفكارا سلفية، تهددنا بالرجوع إلى الوراء والخروج من حركة التاريخ والبناء، ويدعي بعضهم أن الأقباط هم أهل مصر الحقيقيين وأن المسلمين واردون ومحتلون. وقد أتاح الإنترنت لهؤلاء وهؤلاء مجالا للنزال، والمواقع كثيرة ومتنوعة. ولن يتواجد لهذه الأصوات صدى إذا ما حاولنا أن نعيد لمصر وجهها المشرق، ليس بالخطاب الديني وحده – على أهميته – وتأكيد ما هو مشترك في العقيدة بين المسيحيين والمسلمين من إيمان بالله وبالحياة الآخرة والأخلاق الطيبة، ولكن بخلق بيئة إجتماعية أقتصادية سياسية صالحة، وإيقاظ الوعي بمعنى مصر بالعلم والدراسة والثقافة، فلا يصبح الإيمان فكرة، ولكن أساسا للسلوك، ولا تصبح الأخلاق وعظا، ولكنها ممارسة في الحياة.
التصدي للفتنة الطائفية ليس بالحديث وحده، وليس بإنتهاز الفرص للدفاع عن "حقوق الأقباط"، أو "إثبات وجود مشكلة فكرية عند المسملمين"، وهذا هو محاولة لتأكيد المشكلة وليس حلها. إن من يظن أن الدفاع عن حقوق الأقباط هو مفتاح لحقوق الإنسان، يزيد الفتنة إشتعالا، وأما من ينظر إلى أهل مصر من منظور مشترك مدافعا عن حقوقهم الاجتماعية والسياسية والإنسانية فإن هذا هو المدخل الحقيقي للإقتراب والتقارب. والمصارحة والمواجهة مع الواقع.  وكذلك فإن الإعتراف بوجود مشكلة تطرف الفكري عند المسلمين، والتغلب عليها بالوعظ والإرشاد وحده لن يحل هذه المشكلة، ولكن إدراك الجذور التي أدت إلى دخول هذا الفكر ليجد بيئة صالحة لنموه، هي أولوية عملية،   وهذا هو المنهج الذي يجب أن يأخذ به من يريد أمن وأمان هذا الوطن،أي  ألا نحل المشكلة عند الوقوف عندها، ولكن نذهب إلى مستوى آخر من الرؤية لنصل إلى غايتنا.