Tuesday, October 25, 2011

قيادة من أجل السلام د. علياء رافع

عندما ينشر هذا المقال سأكون في الطائرة متجهة إلى لندن في مؤتمر عالمي عن القيادة، ودوري  هناك هو أن أجلس على مائدة حوار لأقدم رؤيتي عن كيف نعيد رسم أهداف القيادة لتكون من أجل السلام. مهمتى أن أتحدث عن الثورة المصرية. وقد دعيت إلى هذا الحوار في مارس من هذا العام، أي بعد قيام الثورة المصرية بشهرين، وذلك ونحن والعالم منبهرون بما حدث، وغير مصدقين لما رأينا. كانت الثورة مهيبة، وكانت شجاعة المصريين وتحضرهم مشهدا وقف العالم كله يتطلع إليه. 
وبإعتباري دارسة لعلوم الإجتماع، لم تكن هذه الثورة تعبر عن أي نظرية إجتماعية سابقة، ولم أعرف لها مثيلا في تاريخ الإنسانية، من حيث أنها لم تكن ذات قيادة مركزية. حتي إئتلاف الشباب الذي دعا إلى المظاهرات، لم يكن يتوقع أن يخرج الشعب كله بهذا الزخم وهذه القوة. لم يدبر أحد لهذه الثورة، لم تبدأ من تنظيمات تحتية من أجل قلب نظام الحكم.  وعلى الرغم من خروج الملايين إلا أنها كانت سلمية إلى أقصى الحدود. عبرت الثقافة والتنظيم في ميدان التحرير عما يمكن أن يكون عليه مجتمعنا، عن آمالنا وأحلامنا في أن نتعاون معا، نعيش بسلام، يرعى بعضنا البعض، يساعد من معه من ليس معه.  إنه مجتمع المدينة الفاضلة الذي تحلم به مصر وتحلم به البشرية كلها. 
ولكن أين ذهب المصريون الذي عاشوا معا في هذا الميدان وفي كل مكان في مصر، لماذا عدنا إلى الفوضى، والإعتداء والتزاحم، والأنانية، لماذا ضاعت الرؤية؟ هل سنعود القهقري مرة أخرى؟ هل يمكن لمن ذاق معنى الحرية، والكرامة الإنسانية، وكسر حاجز الخوف أن يختفي وراء السدود، ويعيش بلا أمل؟  لا أعتقد أن هذا يمكن أن يحدث. ومن يظن أن هذا ممكنا فهو لا شك قد فقد الرؤية والبصيرة. ولكن الخوف كل الخوف أن  تتحول مقاومة القوى المضادة التي تريد لنا أن نعود مرة أخرى إلى الجحور المظلمة إلى مقاومة تستخدم العنف.
لقد كتبت عدة مقالات معبرة عن قلقي لعدم وجود قيادة تأخذ بزمام الأمور، وتعبر عن طموح هذا الشعب، وتعكس شخصيته وأخلاقه الأصيلة التي تكاد تختفي عن أعيننا مرة أخرى، ولكن هذه المرة أريد أن أكتب عن مواصفات هذه القيادة بصرف النظر عن الأشخاص، تلك المواصفات التي يمكننا أن نستقرأها من تاريخ الإنسانية، عندما نحاول أو نضع أيدينا كيف بدأت التغيرات الكبرى التي أضافت إلى التاريخ الإنساني نقلة نوعية في التقدم الحضاري.
سنجد أن التاريخ دائما يبدأ من القدماء المصريين، ويبدأ بشكل خاص من مينا موحد القطرية، وهذا التوحيد له رسالة قيمية قبل أن يكون  حدث تاريخي، أن ينضم الشمال والجنوب في نظام واحد يعني أن هناك حالة صراع قد انتهت وحالة سلام قد بدأت، ولا بد أن يكون إنتهاء حالة الصراع قد تمت بنقلة نوعية أخرى في الوعي والأخلاق. وينقلنا هذا إلى إستخدام هذا المقيا س" ارتباط التقدم الحضاري بالوعي الأخلاقي" في تأمل اللحظات العظيمة التي حدثت فيها تحولات خطيرة.  نجد أن الأديان قد نقلت الإنسان أيضا من حالة وعي إلى حالة أخرى تختلف تماما عما قبلها، ولا أتحدث هنا فقط على الأديان الإبراهيمية، أو المنزلة عن طريق الوحي، ولكن أتحدث أيضا عن  معلمي البشرية العظام، التي جاءت رسالتهم الأخلاقية متوائمة ومتناغمة مع الرسالات السماوية.  كل هذه الرسالات قد غيرت تاريخ الشعوب، وتحول هذا التغير إلى العالم أجمع.
وعندما ننظر إلى الثورة المصرية، سنجد أيضا أنها قد أحدثت نقلة نوعية في رؤية المصريين لأنفسهم من ناحية، وقدرتهم على التعبير من ناحية أخرى. لقد كان ميدان التحرير بشهادة الجميع تعبيرا عن عالم مثالي خيالي كما سبق القول، ولكن إستمرارية هذا الوعي بوحدة المصريين، وتآلفهم مع بعضهم البعض، ومن ثم مع العالم أجمع لا بد أن يستمر من خلال توفير البيئة التي يمكن أن ينمو فيها، ومن خلال تواجد قيادة شعبية تلم الجمع، وتوضح الرؤية، وتساعد الشعب على بلورة الغاية. من أهم صفات هذه القيادة أن تكون قادرة على تجميع المصريين على أهداف قومية واحدة، نابعة من إرادتهم وليست مفروضة عليها، معبرة عن أحلامهم، وليس من أجل خدمة القيادات السياسية. هذه القيادة لا تنحاز لطبقة على حساب طبقة أخرى، ولا لدين على حساب دين آخر، ولا للرجل ليقهر المرأة ولا العكس أيضا. إنها قيادة صادقة، تستطيع أن تتخاطب مع الجماهير وتؤثر فيها، ليس عن طريق القدرة الخطابية التي تدرس في أماكن مختلفة، ولكن عن طريق التعبير بصدق عما يحتاجه المصريون، فهي قيادة منهم ولهم وبهم.
ومن أهم صفاتها أن تكون قيادة تعمل على السلام الإجتماعي، ليس بترديد كلمات قد مللنا الإستماع إليها، ولكن من خلال تجميع المصريين جميعا بدون تفرقة حول هدف قومي، يشعرون فيه بوحدتهم، وليس تفرقهم، تكون هذه القيادة واعية بالتاريخ المصري، وإمتداد الشخصية المصرية التي من أهم ما يميزها الإيمان بالله، وهو إيمان وجودي وليس شكلي.  إن القيادة التي ننتظرها تعيش هذا الإيمان دون أن تتشدق به، نشعر بقوة الإيمان مما تحمله هذه القيادة من قدرة على حل الصراعات، والتصرف التلقائي النابع من القلب، وليس من محاولة لاسترضاء أو إرضاء فريق على حساب الآخر.
قد لا تكون هذه القيادة متواجدة في شخص واحد، ولذا علينا أن نوجدها، لا بد أن نعمل على تجميع قوانا كشعب، لتتواجد هذه القيادة التي إذا تأملنا ما أشرت إليه من صفاتها، لوجدنا قد تجمعت في شعب عبر نفسه في لحظة تاريخية ستسجلها صفحات التاريخ باعتبارها حركة تحول في تاريخ الإنسانية، لأنها ستكون ملهما لكل العالم. وسواء إستطعنا أن نستكمل الطريق الآن أو بعد وقت ما، فإن هذه الثورة قد دخلت التاريخ بالفعل لتغيره، وتضيف إليه، ونحن نشهد ارهاصات هذا التحول الآن في العالم كله، وأصبحت هذه الثورة نموذجا سيعيش في ضمير الإنسانية وسيختزنها عقلها الجمعي من أجل المستقبل.   

Tuesday, October 18, 2011

من وراء أحداث ماسبيرو؟ د. علياء رافع


لقد ظل هذا السؤال حائرا في معظم عقول المصريين، وأحسب أنه سيظل يتردد دون إجابة لفترة ما، ولكن في النهاية سينكشف الأمر، وما كان لغزا سيصبح مفضوحا.  وعندما أطرح هذا السؤال، فإنني لا أدعي بالطبع أن أكون قادرة على الإجابة عليه. إذ انه من السهل أن تشير أصابع الإتهام إلى عدد ممن يريدون للثورة المصرية أن تفشل، ولكن من الصعوبة أن يثبت أي إنسان إن ظنونه حقيقة.
وعندما أطرح هذا السؤال، فإنني في الواقع أريد أن أمحو هذا التحليل الإختزالي الذي يرجع السبب إلى قوة واحدة فقط،، إذ يري البعض أن أتباع الرئيس السابق قد أرسلوا مرة أخرى بلطجدتهم، ويرى الآخرون أن الشرطة قد خانت الأمانة كعهدها في السابق،  أو أن الشرطة العسكرية قد تجاوزت حدودها، وخرجت من دور الحماية إلى دور الاعتداء، ويرى فريق آخر يتهامس في سرية بالغة، ولكنها تنتشر انتشار النار في الهشيم أن الأقباط يريدون أن يحولوا مصر كلها إلى ديانتهم، ويعلنون أن المسلمين غزاة، وهم الذين بدأو بإثارة الشعب مع الشرطة العسكرية.
 وتبعا للتشخيص السابق يمكن وضح الحلول،   ذلك أن البلطجية من السهل القبض عليهم، لأنهم معروفون وكانوا يتعاونون مع جهاز أمن الدولة السابق، وأما الشرطة العسكرية والشرطة التابعة لوزارة الداخلية، فإنه من السهل أيضا أن يعاقب كل من خالف أوامر قيادته، سواء من الشرطة أو من الجيش. أما إذا كان الأقباط هم الذين بدأوا بالإعتداء على الجيش،  على الرغم من أن هذا لا يعقل، ولكن قد يكون البعض منهم قد استشاط غضبا، وبدأ في التصرف بهستيرية، إذن يمكن أيضا القبض على هؤلاء والتحقيق معهم. لماذا لا يحدث كل هذا الآن ومباشرة. وهذا سؤال آخر لا إجابة له. ولكنه يضع المجلس العسكري أمام إختبار هام، فهو إما أن يبدأ مباشرة في مساءلة الجناة في هذه الاعتداءات، أو سيفقد ثقة الشعب فيه تماما. وفي هذا خطورة بالغة على مجرى الأحداث فيما بعد.  أخشى أن يتحول الأمر إلى الشك في أن القيادات نفسها هي التي تريد إجهاض الثورة. وقد بدأ هذا الشك في الزيادة مع التباطؤ في السير قدما نحو تحقيق الأهداف البسيطة والمعلنة للثورة، ومع الاسترخاء الأمني وترك البلطجية أحرارا، والقبض على مدنييين ونشطاء سياسيين بتهمة البلطجة ومحاكمتهم عسكريا، وتحول الإعلام إلى أداة لحجب الحقيقة والتحريض وخلق مشاكل وفتن. وما أبشع أن يحفز الإعلان الرسمي المواطنين للنزول دفاعا عن الجيش. ولا يقال وزير الإعلام مباشرة بعدها.  وهذا حادث متكرر، فما حدث يوم 28 يونيو على سبيل المثال كان تكرار ليوم 28 يناير، ومازال وزير الداخلية يقوم بعمله. لا أريد ولا أتجرأ ولا أحب أن أتهم قيادات المجلس العسكري بالتواطؤ مع النظام السابق، ولكن لا أفهم ولا أستطيع أن أقبل هذه الممارسات.
عندما ننظر إلى ماحدث من زاوية أخرى، لندرس ما هو المستهدف من قتل الأقباط،  ومهاجمتهم بهذه الطريقة الهمجية، ولنتأمل أيضا ما هو الهدف من تصوير مدنيين يتهجمون على ممتلكات عامة، ويتهجمون على الشرطة العسكرية. سنجد أننا لن نتمالك أنفسنا من الغضب والسخط المتجه في كل مكان.. يتولانا الغضب من الشرطة العسكرية التي إعتدت على مدنيين مسالمين، يقومون بمظاهرة للتعبير عن غضبهم إزاء ممارسات أقل ما يقال فيها أنها غير عادلة. وينتاب البعض الغضب والسخط تجاه الأقباط الذين يعتدون على جنود من الجيش، والجيش هو رمز لكرامة المصريين كلهم. ونغضب جميعا ونسخط لأن الأمن غير متوفر، والمؤسسات التي من المفروض أن تحمينا فإنها أقل ما يقال عنها، أنها أضعف من أن تقف في وجه "حزمة من البلطجية"، وهو ما يجعل هذه المؤسسات في موضع إتهام من جميع الشعب.
إذن المستهدف أن ينتشر الغضب والسخط بين المصريين بعضهم البعض، وأن يزيد شعورنا بالتشتت والإنقسام. وذلك في الوقت الذي سيتحدد فيه مستقبل مصر عندما يتم إنتخاب المجالس النيابية التي سترشح الهيئة التأسيسية للدستور، والتي سيقع على عاتقهم رسم الصورة التي ستكون عليها مصر في السنين القادمة. لا شك أن هذا التشتت يخدم قوى مختلفة، فهو من ناحية يخدم المجلس العسكري إذا كان في نية هذاالمجلس أن يمتد وجوده في حكم البلاد لأطول فترة ممكنة. وكذلك فإن حال الفوضى والحزن والتشتت يخدم التيارات الدينية الأكثر تنظيما وخبرة في دخول الانتخابات النيابية، ويخدم هذا الحال أيضا مؤيدي النظام القديم الذين ما زالوا  يحلمون أنه بالإمكان أن يعودوا في مراكز قوة، ويعيدو القيادات التي تحاكم اليوم. وفوق كل هذا فإن من مصلحة إسرائيل أن ترى هذا البلد في هرج ومرج وفوضى قد تؤدي إلى حرب أهلية إذا لم يتم تداركها. تكره إسرائيل أن ترى مصر قوية، لأنه إذا شبت مصرت ,إشرأبت إلى بناء مجتمع قوي، فإن هذا يهدد أمانها وأمنها. فهي لا يمكن أنت تأمن لجانب العرب عامة والمصريين خاصة.   
وإذا كان البحث عن المجرم في أي جريمة يبدأ بالبحث عمن لهم مصالح من القيام بهذه الجريمة فإننا في هذه الحال، سنجد أن أكثر من قوة وفصيل سيكون مستفيدا إذا ما انشغل الناس بالحالة الطائفية ونسوا الحالة المصيرية التي يمر بها البلد. والسؤال هل تعمل كل قوى على حدة أم أنهم يعملون معا؟ وكلا الفرضين ممكن. ولكنني أتوقف هنا لأقول أنه إذا كان فرض أن الجيش يريد أن يبقي لأكبر وقت في السلطة، إلا أنه ليس من مصلحته أن يثير سخط الأقباط عليه بهذه الطريقة. ومن ناحية أخرى، فإن خلق عداء بين المجلس الأعلى وبين الشعب سيؤدي بالضرورة إلى مزيد من الفوضى، ليست في صالح الجيش إلا إذا كان يخطط لضرب الجماهير، وهذا احتمال غير وارد. ولكن هذا لا ينفي أن الجيش بصورة أو أخرى لم يكن على قدر المسئولية في حماية المتظاهرين، ويجب أن يكون هناك تحقيقا ما في هذا الشأن. وعلى الرغم أنه من مصلحة الإخوان أن تنشغل القوى السياسية والرأي العام بالجانب الطائفي ومشاكله، إلا أنه ليس من المنتظر بعد أن استطاع الإخوان أن ينشئوا أحزاب مدنية يضمون إليها أقباط أن يقوموا بإستعداء هذا القطاع العريض من جمهور الناخبين. الإخوان المسلمون أذكى من أن تكون هذه الفتنة طريقهم إلى الوصول إلى مجلس الشعب. ولا يبقي لنا ممن لهم مصلحة سوى أتباع النظام القديم ممن هددت الثورة مصالحهم، وأيضا القوى الخارجية المتربصة بنا، وفد يكون هناك تحالف بين القوتين. يخرج بنا هذا التحليل إلى نتيجة يصعب التأكد منها أيضا. ولكنها تقودنا في النهاية إلى أن نرمي وراء ظهورنا السؤال الحائر  "من راء أحداث ماسبيرو" مؤقتا، متجهين إلى كيف  نبني علاقة قوية بين المصريين أقباطا ومسلمين، وكيف يمكن أن نضغط على المجلس العسكري ليسير في إتجاه تحقيق مطالب الثورة، دون أن نرفع شعارات العداء معه.
إذن يجب أن تتجه جهودنا في المرحلة القادمة إلى تحقيق العدالة والضغط على القوة الحاكمة في السير إلى هذا الطريق بكل السبل التشريعية أولا، والقضائية.  وما حدث في ميدان التحرير لمدة 18 يوما هو تعبير عن حقيقة العلاقة الحقيقية بين المصريين. وأما ما نشاهده من عنف، فهو عارض مرضي، يجب أن نعالجه بالإستئصال، ذلك أنه  قد ينقلب الفيروس الصغير إلى مرض عضال إذا لم نبدأ بمقاومة هذه النزعة الطائفية الغريبة، وأضع على مسلمي هذا الشعب مسئولية عظيمة، حيث أن الأقباط في حاجة إلى الإحتواء في هذا الوقت العصيب، وفي حاجة إلى التعاطف، والمحبة والسعة والإطمئنان، وهم أقل عددا ولكنهم ليسوا أقلية، لأنهم جزء لا يتجزأ من شعب واحد تجمعه كل القيم المشتركة والثقافة الواحدة. ومازلت أتطلع إلى قيادة تلم الشمل، وتقود المسيرة، وهي ليست في المجلس العسكري بكل تأكيد.  

Tuesday, October 11, 2011

25 يناير و6 أكتوبر : روح واحدة د. علياء رافع

كان العبور معجزة، كما كانت ثورة يناير معجزة، والإعجاز هنا يعتمد على تلك الإرادة التي وحدت المقاتلين وووحدت الشعب نحو أهداف واحدة، ذابت فيها الأثرة، وتجلى فيها الإيثار، وعمر القلوب إيمان عميق يحفز على الإبداع والعمل والفكر، وينشر الأمل والبشر في النفوس في أحلك اللحظات. إنها معجزة لأنه لم يكن لها مقدمات راسخة.  في أكتوبر 73، كان عار النكسة محبطا لآمالنا، وسالبا ثقتنا في أنفسنا. ولذا عندما جاء العبور وإستطعنا أن نكسر خط بارليف الذي كان بمثابة حاجز جبلي رملي يبدو إستحالة تدميره، فإن الشعور بالفخر عاد مرة أخرى إلى أرواحنا.  وعندما خرج الشباب يوم 25 يناير، كان الكثيرون وأنا منهم نظن أنها مظاهرة ستنتهي كما حدث من قبل مع مظاهرات مثيلة، ولكن أن يخرج ملايين البشر في هذه القوة وهذا الهدير البشري مطالبين بتغيير النظام، فلقد أظهر هذا أن إستمرارية حياة الشعب المصري بهذه القوة معجزة.
بالنسبة للسادس من أكتوبر فإن الآمال والأحلام والتطلعات لعودة الحلم العربي مرة أخرى كانت قوية للغاية، ذلك أن هذا التضامن العربي هو الذي حقق النصر، ولعبت كل دولة عربية دورها بتناغم وتناسق في ظل سيمفونية واحدة، هل ينكر احد دور المملكة السعودية والدول العربية البترودولارية في إستخدام سلاح البترول، وهل نستطيع أن نغفل دور ليبيا في شراء خراطيم المياه التي إستخدمت في هدم الساتر الترابي، محاولة بذلك أن تخدع المصدر، وكان التناسق بين الجيوش العربية التي تقف على حدود إسرائيل رائعا. وهكذا. فجر العبور أملا في أن يعبر الشعب العربي من مرحلة التخلف إلى التقدم. وكانت تلك التجربة نموذجا مصغرا على إمكانية تحقيق هذا العبور.  ولكن مبادرة السادة للسلام المنفرد مع إسرائيل ضربت هذا الحلم في مقتل. وتفرق العرب مرة أخرى، وبغياب مصر عن محيطها العرب ووضعها المحوري، أمكن حدوث حروب عربية عربية، تجسدت في غزو العراق للكويت، ثم بعد ذلك تآزر العرب مع القوى الغربية الأمريكية على إستعادة الكويت، وإتاحة الفرصة لجيوش أجنبية للدخول والتمركز في بلادنا العربية.
 بينما نجد أنه على مستوى الداخل المصري فإن إختفاء العدو الإسرائيلي من الوعي المصري، أفقد القضية لفلسطينية الدعم الشعبي المطلوب ، كما خلق جوا من الفراغ الوطني، حيث تحول تحرير فلسطين من حلم قومي إلى قضية هامشية، ولم يعد هناك بديل لحلم قومي آخر. في هذا الجو المليء بالفراغ المعنوي والأيديولوجي، جاء حكم مبارك ليكمل الحلقة التي بدأها السادات.  للأسف فإن نصر أكتوبر الذي جسد روح التضحية والفداء تم إفراغه من مضمونه، وإجهاض الروح التي كان من الممكن أن تبني صفحة جديدة تماما في تاريخ العالم. ومضى ما يقرب من أربعين عاما، وهي أعوام تعيد ميلاد أي أمة من جديد. كتبت أقول في أحد مقالاتي، كيف سنتقابل مع شهداء حرب 73 الذين قدموا دماءهم من أجل مستقبل أفضل لكل المصريين. لقد خذلهم نظام مبارك، وقتلهم مرة أخرى لأنه لم يحافظ على روح العبور.  بل على العكس فإن هذا النظام أخذ ينفث سمومه القاتلة حتي يحطم إرادة هذا الشعب، ويجعله في يأس مطلق، ومن ثم في إستسلام كامل لطغيانه. وفي اللحظات التي ظننا فيها أننا نقرأ المستبقل، إن غدا واضح المعالم، يجي الإبن ليأخذ مكان الأب، ويستمر النظام في سيطرته وإستبداده. في لحظات اليأس التي إنتابت الكثير منا، إذا بالشعب ينتفض إنتفاضة عظيمة، وتبعث فيه الروح التي ظن النظام أنه قتلها.  
نزلت غشاوة سميكة على الحاكم الظالم لم ير فيها أن إنتفاضة هذا الشعب العظيم أصيلة وحقيقية، ظن أنه أكبر من أن يخشى بعضا من هؤلاء المتمردين، وأن ترسانته البوليسية قادرة على قمعهم وإرهابهم. ولو أنه أدرك في تلك الحظات أن الأمر جد وما هو بالهزل، لكان تصرفه مختلفا تماما، ولتدارك الموقف، وحاول أن يتراضي مع الشعب الثائر من أول لحظة، منذ خروجه معبرا عن غضبه يوم 25 يناير.
ولم يكن 25 يناير إلا ومضة، وبداية لثورة هائلة عظيمة وقوية وهادرة. وبعد مضي تسعة شهور وعدد من الأيام على هذه الثورة، نجد أننا نسير في إجهاضها، كما حدث لإنتصار 6 أكتوبر. ويرجع ذلك إلى أن القيادات التي قدر لها أن تحكم هذا البلد لم تستطع حتي هذه اللحظة أن تستوعب ما حدث، فهي تتعامل كما لو كان الأمر المطلوب هو إصلاحات عجزت عن تنفيذها القيادات السابقة، وتسير في خط التغير إنطلاقا من هذه الرؤية، متبعة نفس أسلوب الحكم السابق وفلسفته، متجاهلة أن هناك ثورة حقيقية قد أحدثت تغييرا جذريا، ليس فقط عندما خلعت رئيسا وأجبرته على التخلي عن مهام رئاسته، ولكن لأن أهدافها كانت واضحة وصريحة، نادت بالحرية والكرامة الإنسانية، أرادت نظاما  لا يقهر، ولا يخرج العصا والجزرة تبعا لتكتيكاته، حتي يكسب موقف حينا، أو يفرض سياسته حينا آخر.  
أنا لا أخشى على الثورة الأنتكاس، لأنني على ثقة أن هذا الشعب العظيم قد عادت إليه روحه مرة أخرى، ولن تموت هذه الروح بسهولة، ولكنني أخشى على هذا الشعب من الفتنة، وقد إختلطت الأمور، وغابت الرؤية، وإنفض الجمع والتألف الذي نصر هذه الثورة. لقد تخطت مرحلة النضال في هذه الثورة ما يحدث من تجمعات هنا، وهناك، ينبغي أن تكون ثورة في عقول النخبة والشباب الذين قاموا بالثورة. إننا في حاجة إلى تآلف كل القوى السياسية في كتلة موحدة ترسم الخطوات القادمة التي تخدم معنى الثورة، أي تتوجه إلى تغيير كامل في فلسفة وأسس الحكم الذي قام عليه النظام السابق.
والسؤال هو: كيف يمكن أن يتحول هذا إلى سياسة على أرض الواقع؟
ليست لدي الإجابة الواضحة، ولكن ينبغي أن يكون وراء أي قرار يؤخد مبدأ أخلاقي واضح المعالم، فمثلا عندما تصور البعض أن الإجابة "نعم" على قبول التعديلات الدستورية، سيسرع بخروج المجلس العسكري من الحكم، فإن هذا الإختيار لم يكن متمشيا مع منطق الثورة، ولهذا أدت نتيجة هذا الإستفتاء إلى ما نحن عليه الآن. بل وأقول أنه عندما قبل الشعب أن يكون هناك إستفتاء على "تعديلات" ، فإن هذا في حد ذاته يعتبر تراجع عن معنى قيام ثورة. لأن سقوط الدستور القديم (وليس تعديله) هو الرمز الوحيد على أن هناك ثورة قد قامت، والتخلي عن هذا الرمز ودلالاته، يعني أن هناك تخليا عن "الثورة".
ولكن هل نستطيع أن نعيد الأيام مرة أخرى، بالطبع لا، ولكن ما يمكن أن نتمسك به اليوم، هو عدم إتخاذ أي قرارات قائمة على مجرد محاولة التخلص من الحكم العسكري، إنما يجب أن يكون إنتهاء هذا الحكم مبنيا على خطوات تتمشى مع منطق الثورة.  ليس مقبولا التجاوزات التي تحدث على مسمع ومرأي الشعب والعالم فيما يتعلق بالإعتقالات المتوالية، وإستمرار قانون الطواريء، وتوجيه الإعلام بشكل فاضح، وتهديد الإعلام المستقل.
في المقالة السابقة أشرت إلى ضرورة ظهور قيادة، وقد لا تكون القيادة المطلوبة شخصا واحدا، وإنما قد تكون القيادة التي نحتاجها في تلك الحظات الحاسمة قيادة جماعية تتألف من النخبة والقوى السياسية، لتحمل على أكتافها عبء هذه المرحلة الهامة من تاريخ الوطن. وتتجه بكل الطرق الممكنة التي تؤهلنا لتشكيل هيئة تأسيسية وطنية تجمع كل فئات الشعب من أجل تشكيل دستور يعبر عن آمال هذا الشعب في هذه المرحلة. لست أطرح هنا قضية الإنتخابات أولا أم الدستور أولا، بل أضع كتابة الدستور هدفا أوليا ضروريا، قد تكون الإنتخابات النيابية وسيلة لتحقيقه، ولذا يكون الإنتباه إلى كل ما يضمن نزاهة الإنتخابات، وآليات الترشيح هي المعبر كي يجيء مجلس شعب معبرا عن إرادة الأمة، وهذه هي مسئولية القيادة الشعبية التي أتحدث عنها، والتي قد تكون فردا أو جماعة. إنها قيادة لا تستهدف القوة والحكم، وإنما تعرف دورها في هذه الفترة الحرجة، ويجتمع عليها الناس جميعا.
إذا كان هذا يبدو مستحيلا، فليس هناك في ذهني أو فكري بديل آخر يستطيع إدراكي أن يصل إليه، ولكن عندما يصل الإنسان إلى منتهى العجز، فإنه يترك الأمور إلى القادر القاهر، لعله يلهمنا ما فيه خيرنا.  ولكن في كل الأحوال فإن الأمل أن  تظل روح يناير وضاءة قوية أمل لا يغيب، لأنه الله الذي أظهر هذه المعجزة، قادر على أن يلهمنا الطريق لإستكمال المسيرة بعونه وإرادته، فهو نعم المولى ونعم النصير.