Tuesday, March 29, 2011

أنا حر.. دعني أفكر د. علياء رافع


ألهمتني إيمان فهيم بهذا العنوان، وإيمان فتاة شابة تحاول أن تنشر الوعي السياسي بين أبناء المجتمع  الذي تعيش فيه وخارجه أيضا، وتحاول كذلك أن تكون مجموعات من أجل التوعية السياسية في المرحلة المقبلة. ولقد شدتني هذه العبارة لأنها تعبر عن جوهر ما نريده في المرحلة القادمة، نريد أن يتاح للمواطن حرية الإختيار، إنطلاقا من فكر مستقل لا يجري وراء شعارات خادعة أو براقة، تذهب  في بعض الأحيان إلى حد الإستخفاف بالعقول.
 وكلنا يعلم هذا الإعلان الذي ظهر على صفحة الأهرام قبل أيام قليلة من  الإستفتاء على الدستو، وفيه دعوة صريحة للإجابة بنعم على التعديلات الدستورية، والتي بدت كأنها تتمشى مع أوامر الدين والإعتصام بحبل الله. وكثير منا قد رأي الشيخ محمد يعقوب، وهو يتحدث عن "غزوة الصناديق" ، ونصر الله لأن الغالبية أجابت بنعم، وأعقب حديث بعد ذلك بتكبيرات العيد، وكأن الإجابة بنعم هي إنتصار ديني.  وسمعنا قوى تسييس الدين وهي تدعو الناس إلى الإجابة بنعم، لأنها واجب شرعي. في الحقيقة لم أكن قادرة على تصديق أن كل هذه الأشياء تحدث بالفعل في الشارع المصري، وبعد ثورة لم ترفع شعارا دينيا واحدا، إنما جمع بين المشاركين فيها إيمان بالله لا يعرف مسحييا أو مسلما.
لن أتوقف عند القول أن الإستفتاء أمر دنيوي، وأن هؤلاء قد إستخدموا الدين في السياسة بشكل فج للغاية، ولكن  يشغلني من صدق هذه الإدعاءات وسار خلف هؤلاء المزيفين للدين، والذين يفسدون الحرية والمناخ الذي خلقته ثورة 25 يناير. وما أريد أن أتناوله في هذا المقال هو محاولة لنفض الغبار عن أفكار بالية ترسخ التبعية الفكرية تحت مقولات دينية. ثانيا التعرف على الأسباب التي تجعل البعض – حتى المتعلمين منهم – يتقاعسون عن التفكير المستقل النقدي، وينصاعون نحو ما يستمعون إليه سواء من أدعياء التدين، أوعن طريق وسائل الإعلام، أو عن طريق أصدقاء ينصحونهم فينصاعون. وفي النهاية فإنني أود أن نناقش كيف  يمكن أن نخلق ثقافة عامة تشجع على التفكير المستقل، حيث يشعر الفرد أنه مسئول عن قراره، وأنه ينبغي أن يتبع أسسا منطقيأ، ويثقف نفسه معرفيا حتي يصل إلى الإختيار الذي يشبع قناعته الشخصية. . 
أما بالنسبة لما يخص القضية الأولى، فإننا نلاحظ أن هناك من العبارات التي يساء إستخدامها إساءة بالغة مثل "إسئلوا أهل العلم إن كنتم لا تعلمون"، أو "أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم".  هذه العبارات يتم إستخدامها لإضعاف قدرات الإنسان على التفكير، ويتم تأويلها ليهيمن البعض على أفكار الآخرين. ولكن هذه العبارات التي جاءت في القرآن أري أنها تعبير عن علاقة طبيعية لا تؤدي إلى إلغاء الفكر، بل تنميته، فسؤال أهل العلم يعني أن يتجه الإنسان نحو المعرفة. واقع الحياة يبين لنا أن الطالب عندما يستخدم خبرة أستاذ فإنه قادر على أن يحصل الكثير من المعارف في وقت أقصر كثيرا مما لو كان يعتمد على نفسه بدون عون، وهذه المعارف تتيح له أن يستكمل طريق المعرفة بالبحث والإجتهاد، وليس بالطاعة والإنصياع لما يقوله الأستاذ. الهدف من سؤال أهل العلم هو تمكين طالب المعرفة على التحصيل المعرفي، وليس إيقافه عن البحث والإجتهاد الإكتفاء بما يقوله الأستاذ.
 أما الآيات  التي تدعو إلى الطاعة، فإن الطاعة تشير إلى إلإيمان بأن التعاليم الإلهية عن طريق التنزيل جاءت لخير الإنسان، وأن إتباعها لا يعني االإنصياع الآلي لما جاء في آي الذكر الحكيم،  فتكون النتيجة أن يخلو القلب  والعقل من مضمون الفعل الذي يحث عليه  النص المقدس.  الطاعة تستلزم أن يكون الإنسان قادرا على تفهم أهداف الأمر ومقاصده وغاياته العليا. فإذا كانت طاعة عبادات مثلا، فهذا يعني أن الإنسان قد قام أولا في قلبه الإيمان الذي يدفع إلى بعث الرغبة في التقرب إلى الله، والذي يجد صداه من حيث إتباع الوسائل التي بعث الله بها من خلال رسله، وهكذا تصبح طاعة الرسول تعبر عن إتخاذه أسوة. وهذا لا يعني أن أي إنسان يملك القدرة لإنسان آخر أن يرغمه أو يحثه على أن يشعر بما يشعر به، وبالتالي فإن طاعة الله بهذا المعنى هي علاقة خاصة بين الفرد وربه، وليس قانونا يمكن أن نصنف به الناس، أو نجبرهم من خلاله على القيام بهذا الفعل والإنتهاء عن غيره. وأتعجب كثيرا وأنا أري كيف حرفت عبارة "أولو الأمر" لتشير إلى الحكام، ,خاصة وأن الآية تتحدث عن "طاعة الله" كبداية. يمكن القول أن "أولو الأمر" في سياق هذه الآية تشير إلى من إتبع الهدي الإلهي، وأيضا الطاعة في هذا السياق ليس تحكم من شخص في شخص آخر، ولكن إحترام قائم على أساس أن  "أولو الأمر"، هم من نراهم يعبرون عن تجسيد التعاليم الربانية في حياة سلوكية فيصيرون قدوة. والإقتداء ليس تقليد فعل، وإنما تفهم منهج حياة.   
إن هذا الشرح والتحليل قائم من خلال الرؤية العامة للإسلام الذي جاء ليؤكد المسئولية الفردية، والتي حثت كل الناس على التدبر والتفكر وعدم إتباع الأسبقين دون مراجعة عقلية لما يقولون. ولهذا فإن الطاعة تبدأ بإختيار إنساني، وليس بتحكم فوقي من إنسان على آخر. والإختيار الإنساني على إتباع ما جاء به التنزيل، يستلزمه جهاد فكري قلبي ليصل الإنسان إلى الإيمان. دون هذا يصبح ما يقال عنه أنه طاعة هو أنماط سلوكية ثقافية غير ذات دلالة معنوية. وتستخدم هذه الآيات تبعا لذلك في تسخير الهيمنة من مجموعة من الناس على مجموعة أخرى دون أي نوع من التبرير. وليس هناك طاعة مفروضة على الإنسان ليبني إختياراته بناء على أوامر من إنسان آخر، لأنه ليس هناك أي إنسان يملك معرفة الحق المطلق والعلم بكنه الأشياء. ولذا فحتى إذا إختار الإنسان أن يستشير حكيما، فإن الحكيم يساعده على منهج عميق يرى من خلاله الأمور التي تحيره، ولكنه لا يأخذ القرار نيابة عنه.  
 لا يقتصر الإنصياع الأعمي دون تفكير على أسلوب القهر الفكري الذي يمارسه بعض من يدعون علما دينيا، ولكن ينطبق أيضا على الكثيرين الذي لا يعملون عقولهم عندما تشيع أفكار أو أقوال في وسائل الإعلام أو من خلال البعض الذي يستمعون إليهم دون أي نوع من التفكير النقدي. أقول قولي هذا، وقد جرت مناقشة بيني وبين طبيبة وأستاذة في الجامعة تفكر مثل الكثيرين أن د. البرادعي هو الذي ساعد أمريكا على الدخول في العراق، وأنه عميل أمريكي، ويريد أن يقفز على السلطة. أذهلني ترديد ما تقوله هذه الدكتورة المحترمة، وهو يتنافي مع أبسط قواعد "التفكيرالمستقل". ويذهلني أكثر أنها تتخذ هذا الموقف إزاء إنسان يرشح نفسه لرئاسة الجمهورية دون إهتمام بتمحيص ما جاء في الإعلام. ولم تبذل جهدا لترى وجهة النظر الأخرى. لم تحاول أن تعرف ما الذي فعله هذه الرجل بعد أن جاء  إلى مصر، وكيف آمن ووثق في قدرة الشعب المصري على التغيير. لم تبذل أي جهد في إستعادة ما حدث في العراق، وكيف وقف البرادعي ضد أكبر دولة في العالم، معلنا في الأمم المتحدة أن ماتقوله هو إدعاءات وليس حقائق، وأن العراق خالية تماما من أسلحة الدمار الشامل. لم تستوعب أن تلك الثورة العظيمة قد بلورت أهدافها من خلال رؤية البرادعي، دون أن يدعي الهيمنة أو القيادة، ولكنه كان على ثقة كاملة في قدرات الشعب المصري.
ولنستعيد ما كان يقوله الإعلام عن ثورة 25 ينايرمن أكاذيب، ثم يرددها الكثير من الناس بعد ذلك ممن لا يشاهدون القنوات غير المصرية، ويظنون فعلا أن وائل غنيم قد تلقى دراسات أمريكية في كيفية إحداث الثورة، وأو هؤلاء الذي يقولون أن شباب التحرير يأخذون رشاوي ووجبات جاهزة من مصادر أجنبية، إلى آخر هذه التخاريف ومازال الإعلام حتي اليوم يزيف الحقائق، فيصدقه الناس،  والكثيرون يظنون أن حالة عدم الأمن هي نتاج للثورة، وينسون سريعا أنه كانت هناك حرب لترويع الشعب المصري كله من القوى التي كانت تدافع عن وجودها في السلطة، حتي ينهزم الشعب المصري نفسيا، ويطالب ببقاء أو إسترجاع حكم مبارك. مازالت هذه القوى تعمل أيضا، وتحاول بطريق مباشر أو غير مباشر أن تجهض المحاولات الشعبية في الإعتراض السلمي تحت زعم أنه يهدد الإستقرار الأمني والإقتصادي.  
وحتى نخرج من هذه القوى المدمرة للإستقلال الفكري، هناك حاجة إلى خطاب إعلامي آخر، وسبل مختلفة من التفاعل من الجماهير. علينا أن نكف عن "توجيه" الوعي. والتعرف على أن تزييف الوعي يجيء من خطاب يعتمد على فكرة أنا أقول وأنت تسمع،  أنا أفكر وأنت تعمل، أترك لي كل شيء وثق بي، أنا أعمل من أجلك.   
إذا أردنا لهذه الثورة أن تستكمل طريقها، وأردنا لمصر أن تخرج من النفق المظلم إلى ضوء النهار، فينبغي أن نكون قادرين على التفكرير المستقل الحر، ونستخدم المنهج والمنطق مع التخلص من الهوى والمصلحة الخاصة، يمكن إذن أن تتضح الرؤية، ونستطيع أن نصل بمصر إلى المكانة التي تستحقها.  

Tuesday, March 15, 2011

مطالب المسيحيين هي مطالب للمصريين جميعا د. علياء رافع


أخذت إسترجع ما كتبت في الأعوام السابقة،  و إكتشفت أنني وقعت فريسة مع غيري من المصريين إلى الإعتقاد بأن هناك فتنة طائفية، وإفترضت أيضا أنها متغلغلة، وأخذت أحاول أن أبحث في البناء الفكري للمتطرفين. كنت على قناعة أن التطرف هو وليد الجهل بتاريخنا، وأن له أبعاد إقتصادية واجتماعية. وكان هذا التحليل صادقا على وجه العموم من حيث أننا في حاجة إلى مزيد من الوعي بالتاريخ المصري، خاصة إدراج دور الأقباط قبل مجيء الإسلام في المحافظة على الشخصية المصرية والإستقلال الوطني في مواجهة الرومان، وفي حاجة إلى إبراز  أسباب التراجع الحضاري في فترات مختلفة من تاريخنا وتحليلها، وفي حاجة كذلك إلى تأكيد الأخلاق المصرية التي لا تتقيد بأيديولوجيات دينية. ولا بد أيضا من أن تكون هناك دراسات عن البناء الفكري المغلق الذي يؤدي للتطرف، حتي يمكن أن تكون هناك برامج تعليمية تربوية ترفع من قدرتنا على مجابهة ومقاومة هذا النوع من التفكير. وما كنت أطالب به مازلت أطالب به، ولكن مع فارق أنني بت أدرك أن الإحتقان الطائفي هو صناعة سياسية.
كان الخطاب السياسي العام يذهب في إتجاهين متعارضين، من ناحية فإنه ينفي أن هناك فتنة طائفية، ومن ناحية أخرى فإنه يشيع إستخدامات لألفاظ تشيع الأختلاف وتؤكده، مثل الحديث عن "عنصري الأمة"، و"الأخوة الأقباط"، بدلا من الحديث عن المصريين المسيحيين، أو الحديث عن الحقوق الإنسانية للمصريين. من ناحية ثالثة، كان النظام يشعل من الإحتقان الطائفي ويصبغ المشاكل التي تحدث بين مواطنيين صبغة طائفية إذا ما كانت المشكلة تتعلق بمشادة أو إختلاف بين مسيحي ومسلم. بل والأدهي والأمر أن أمن الدولة يقوم بعمليات إرهابية ضد المسيحيين المصريين، ثم ينسبها إلى الإخوان المسلمين، أو من يطلق عليهم إرهابيين.
كانت هذه الإستراتييجة لها خطوطها العريضة التي إستخدمها النظام السابق على محاور متعدد، فهي نفس الإستراتيجية التي  إتبعها عندما أحرق مقر الحزب الوطني، وأطلق السجناء. أشارت أحاديث الرئيس السابق إلى أن سيضرب بشدة على مسببي الشغب. ترك الناس تتنظر ست ساعات أو يزيد حتي يحدث الشغب، وتصور أنه بذلك سيضرب ضربته القاضية بالقبض على كل المتظاهرين الشرفاء المسالمين تحت إدعاء أنهم مثيرو الشغب.  أقول قولي هذا لأبين نسق تنظيمي سياسي تلاعب بالفتنة الطائفية من ناحية ليضرب معارضيه، وتلاعب بالألفاظ الغامضة من ناحية أخرى لتبرير سياسة القمع.
 وبعد ثورة 25 يناير، وعندما رأيت بنفسي هذه المحبة الجارفة بين المصريين دون أن يكون هناك أي تفرقة بين مسيحي ومسلم، أدركت أن هذا الشعب صحيح البنيان، وأن الفتنة صناعة سياسية، ناتجة من تلك التفرقة في بعض القوانين، والتباطؤ في أخذ الأجراءات إذا ما قامت مشادة بين مسيحي ومسلم، وعادة ما يكون هناك تفرقة واضحة بين تطبيق القانون إذا ما كان الجاني مسلم، وهو ما أثار الكنيسة أكثر من مرة، وطالب البابا شنودة أن تخرج المواطنة من مجرد عبارات يرددها السياسيون إلى أن تكون ممارسة على أرض الواقع.
أكتشف من خلال هذه الثورة أن الثقافة المصرية التي إمتدت عبر عصور طويلة والتي سادها الإيمان بالله، إيمانا ليس إفتعاليا أو أيديولوجيا، ولكن فطري أخلاقي بها من العناصر التي تقاوم الفكر المتطرف.  إيمان المصري هو ذلك الإيمان الذي تجلي في تجمع ملايين المصريين الذين جمع بينهم التآلف والتراحم، والذي كانوا يدعون "يارب"، في كل مكان على أرض مصر، وهو يطالبون بالحرية والكرامة الإنسانية، ويدركون أن عون الله لن يخذلهم، ومن إيمانهم إستمدوا قوتهم. عبرت هتافتاتهم عن الوعي بالإيمان الذي يتجاوز الأيديولوجيات.  كانوا يهتفون معا  "الحرية هي الدين"، "شدي حيلك يا بلد الحرية بتتولد" ، "هم معهم ضرب النار وإحنا معانا الجبار". يكفي أن نرى ذلك التأبين الذي أقامته الكنيسة الإنجيلية للشهداء، حيث وقف المسيحيون المسلمون معا ينشدون نشيدا واحدا، داعين الله أن يحفظ مصر ويباركها.
وذهب المسلمون يآزرون المسيحيين في مطالبهم العادلة في تظاهراتهم أمام ماسبيرو، وهتفوا معا "مسلمين ومسيحيون إيد واحدة"  أدرك المصريون (مسيحيون ومسلمون)  أن المجرمين الذي هدموا الكنيسة في أطفيح لا بد أن يقبض عليهم ، ويعاقبوا على جريمتهم الشنعاء. إنه ليس مطلب متعلق بفئة من المصريين ، ولكنه متعلق بقداسة دور العبادة وتجريم التعرض لها. إذا تم هدم مسجد لكانت الصرخة واحدة، ولكانت المطالبة بالجاني ومعاقبته ضرورة.  ولكن التباطؤ في القبض ومن ثم محاكمة الجناة، يجعل المصريون (مسيحيون ومسلمون) يتساءلون هل إذا كان الذي تهدم هو جامع وليس كنيسة، سيكون رد الفعل بنفس الطريقة أم سيختلف؟ تعمد التفرقة بين هذا وذاك هو مايخلق الإحتقان والغضب، وهو ماينعكس بالضرورة على طريقة التفكير، ويخلق بيئة للتطرف. وحيث أننا في فترة فارقة، فأعتقد أن مطالبنا جميعا هي أن يكون هناك تجاوب سريع في الإمساك بالجناة ومعاقبتهم.  
وإذا وضعت نفسي – وأنا مسلمة – في وضع المصريين المسيحيين، فإنني لن أكون أقل تحمسا منهم في الدفاع عن حقوقهم، التي أهدرت نتيجة لحكم قهري قمعي، تجاهل تلك المطالب. عندما يطالب المسيحيون بأن يكون هناك قانون موحد لدور العبادة، وعندما يطالبون بمعاقبة المتهمين في إي جريمة خاصة بالمسيحييين، فإن هذا طلب لا يتعلق بكونه قضية قبطية، ولكنه قضية مواطنة، يجب أن يتعامل فيها كل من المسيحي والمسلم بنفس المعايير، وأي مخالفة في هذا فهو خرق لحقوق الإنسان، ولحقوق المواطنة. وعندما يعترض المسيحيون على المادة الثانية، فإنهم لا يعترضون على تناغم مباديء الشريعة مع حقوق الإنسان، ولكنهم يعترضون على ما يمكن أن يحدث إذا جاء حكم يحرف مباديء الإسلام عن مسارها، ويصبح هذا التحريف دستوريا. ومن حقهم أن توجد ضمانات مع هذا النص توضح إما المباديء الأساسية للشريعة والتي تنص على إحترام حرية العقيدة والفكر وغيرها من الحريات، أو تجعل من مباديء الشريعة أحد المصادر،  مع إضافة العهد العالمي لحقوق الإنسان، وبهذا يصبح من حق المصريين جميعا – وليس الأقباط وحدهم – أن يتصدوا لأي نوع من التحريف أو السير بمباديء الشريعة في غير مسارها الصحيح.
لا بد أن نعترف أننا في ظروف مختلفة، وفي ثورة ضد نظام قمعي فاسد، ولكن يبدو فعلا أن مصر تواجه موجة عاتية من ثورة مضادة، تريد أن تشغلنا بهذه الأحداث المؤسفة التي حدثت في أطفيح وغيرها، في وقت يجب أن يكون تركيزنا فيه على قضية الدستور، وكيف يمكن أن نجعله نقظة إنطلاق في المرحلة المقبلة. ولا يجب أن نرضخ لهذه الخطة التي تريد أن تعود بنا إلى الوراء، وذلك الخطاب الذي يصور أن هناك قضية قبطية منفصلة عن قضية حقوق الإنسان المصري. ليس هناك ما يسمي ملف قبطي، بقدر ما هناك ملف أمني أو تآمري يبغي تفكيك المجتمع المصري.  ولذا لابد أن يكون المسلمون والمسيحيون فعلا يدا واحدة لأنهم مصريون أولا في الدفاع عن إنتهاك حقوق أي فئة من فئات الشعب.
لم يكن التمييز في تطبيق القانون قضية قبطية فقط، ولكنها قضية ظهرت بوضوح أيضا في أولئك الذي لا يملكون القوة أو السلطة. فهناك سؤال قد لا يجد إجابة محددة، ولكن لا بد أن نطرحه، ألا وهو كم من المصريين تم تعذيبهم وقتلهم بواسطة أمن الدوله من الطبقات الفقيرة، والتي ليس لها سند من مال أو سلطة؟  قد لا نستطيع أن نصل إلى الرقم المحدد، ولكننا ندرك اليوم أنهم آلاف من المصريين البسطاء الذين لم يجدوا من يدافع عنهم، ولا يملكون الظهر الذي يكشف محاولات القمع.   
من حق المسيحيين بإعتبارهم مواطنون مصريون أن يدافعوا عن المساواة والعدل، ويجب أن ينظر إلى هذا المطلب بإعتبار مطلب عام يتعلق بالمواطنة، وليس مطلبا خاصا يتعلق بالمسيحيين. 

Tuesday, March 8, 2011

حتى تكتمل مطالب الثورة د. علياء رافع


كلما حققت الثورة أحد مطالبها، تفاجئنا الأحداث بأعمال إجرامية، ويصبح وجود "ثورة مضادة" ليس وهما أو شائعات، ولكنها واقع نراه ونبصره. ما كاد أحمد شفيق يستقيل أو يقال، ويجيء عصام شرف ليتولى رئاسة الوزارة، وعند إدراك أن هناك وزيرا سيلبي تطلعات الثورة، بدأت حرب حرق الملفات التي تدين أمن الدولة، وإذا بنا نفاجأ بالرعب نفسه. لست في حاجة، ولا أستطيع أن أعيد ما رأيناه على الشاشة من وسائل التعذيب، وإخفاء المعتقلين في أدوار تحت الأرض، والقبور الملحقة بالسجون، وغير هذا من الفظائع التي يشيب لها الولدان.  لم نكن ندري أننا نعيش دولة الرعب والقهر والظلم. ولذا فإن علينا أن نقف واقفة واضحة وصريحة مع النفس، ولنكون جميعا معا في المرحلة القادمة لا نجعل أي فتنة أخرى تفرقنا.
وأوجه خطابي إلى هؤلاء الذين يخشون من التظاهر الواعي ، متعللين بأنه يؤدي إلى  إنهيار الدولة، أقول لهم:  من المسئول حتى الآن عن  غياب الشرطة عن الشارع؟ هل هم الثوار المسالمون الذين جمعهم حب مصر، وأشعلت الحرية نفوسهم، فهبوا هبة واحدة يبحثون عن الحرية؟  ألا تدركون حتي الآن أن النظام السابق وذيوله هم الذين يتسببون في الثورة عمدا في بعض الأحيان، وتقاعسا عن تلبية المطالب المشروعة والضرورة للثورة من ناحية أخرى.
إلى رجال الأعمال الذين يصرخون مطالبين الثوار أن يعودوا إلى أماكنهم في العمل تحت زعم إستقرار الأعمال .. ألا تدركون أن إستمرار الفساد سيوقع هذا البلاد في أكبر مأزق إقتصادي؟  ألا تعلمون أن نظاما ديمقراطيا إذا ترسخ في البلاد سيجذب أضعاف ما خسرناه في الشهور السابقة؟ لماذا الهلع ولماذا لا تقفون مع المطالب المنطقية والمشروعة والضرورية لإقامة مجتمع حر ؟  لم تكن الثورة هي السبب في تلك الوقفات الفئوية، ولكن تراكم المظالم من ناحية، وعدم وجود جهاز يعبر عن هؤلاء هو الذي أثار الشعب. ومع إعتراضي على تلك الوقفات في هذا الوقت، إلا أن ما زاد الأمر سوءا هو إكتشاف كمية الأموال المنهوبة التي سرقتها عصابة الحكم السابق. وفي بعض الأحيان سنجد أن التشجيع على هذه الوقفات تتم بتحريض من ذيول النظام القديم.
الى الأمهات اللائي يقتلهن القلق على أبنائهن أو الزوجات اللائي يفضلن الحياة الآمنة ..  أقول إن أبناءنا وأزواجنا في خطر عظيم إذا لم تحقق هذه الثورة أهدافها، لقد تكشفت آلات القمع الوحشية بما لم يمكن أن نتصور، وهي تهددنا وتهدد أبناءنا وأزواجنا. هل الأفضل لإبني أو زوجي أن يموت شهيدا مدافعا عن حرية بلده ووطنه وكل المصريين، أم أ، ن  يسجن ويعذب ويقتل غدرا وعدوانا؟  هل من الأفضل لنا جميعا أن نعيش عبيدا في وطننا لا نستطيع أن نرفع رؤسنا، أم أن نشعر بقدرتنا على صناعة مستقبل أفضل لنا ولأولادنا ولأحفادنا؟  يا نساء مصر لا تخشين الموت، فهو قادم، ولكل أجل كتاب، ولكن لنكون مثل كل الأمهات في الجلد والثبات والإيمان: "وقل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا".  إن كل أم عليها أن تدافع عن دم الشهداء الأبرار في ألا تجعلها رخيصة، فنحن جميعا أمهات، وهؤلاء هم أبناؤنا وعلينا أن نحقق ما كانوا يصبوا إليه. في الجمعة السابقة وقفت أم شهيد تزغرد بعد إسقاط وزارة شفيق، وتقول أنه طالما أن البلد تسير في الطريق صحيح، فإن دم إبنها فداء للوطن.  إن هذا السيدة تشد من أزرنا جميعا لنكون يدا واحدة لنستكمل الطريق  
إلى الإعلام المصري الذي مازال يتخبط بين القول بأهمية الثورة المجيدة، وبين التشكيك في الثوار الذي يصرون على تحقيق مطالبهم. لقد هالني أن تفتح التليفونات والتعليقات في أحد البرامج الحوارية المشهورة لنتستمع إلى أصوات تلعن الواقفين في ميدان التحرير لأنهم السبب في الفوضى، ولأنهم ديكتاتوريون .. إلخ.  ويبتسم المذيع بشكل إستفزازي، معلنا أنه يتيح مساحة للرأي والرأي الآخر. ينتابني غضب وذهول أن هذا المذيع لا يدرك خطورة اللحظة وقيمتها، ولا يدرك معنى الثورة ونبلها.  أقول لكل من يعمل في الإعلام أن يراجع نفسه، لأن القطار سيسير إلى منتهاه، وسيوضع هؤلاء الذين يرقصون على السلالم في مذبلة التاريخ.
مازال رجال النظام السابق غير قادرين على إستيعاب ما حدث.. مازالوا يخلطون بين ثورة عظيمة تريد تغييرا حقيقيا، وبين فئات مظلومة، تراكمت آلآمها ووجدت في الثورة متنفسا للتعبير عن ما تكبدته من ظلم على مدار السنين. إن من قاموا بالثورة، من ذهبوا إلى الميادين في كل إنحاء مصر، خرجوا من أجل الحرية، وليس من أجل لقمة الخبز وحدها، لقد قال لي الكثيرون في الميدان، أنهم قادرون على الصيام ليتبرعوا بما يكسبون لخير بلدهم. إنهم يعلمون جيدا أنه ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان. إن الأخلاق النبيلة التي ظهرت في مصر أثناء الثورة هي الأخلاق المصرية الأصيلة التي كدنا نفقد الأمل في أنها مازالت موجودة. كنت نرى ملامج من تلك الأخلاقيات على المستوى الفردي، ولكن لم نكن نعلم أن في مصر ملايين وملايين يريدون أن يتنفسوا الحرية والكرامة الإنسانية، وأن ينتظرون الفرصة ليبنوا بلادهم.
لم نستوعب بعد ما حدث في يوم 12 فبراير، حيث نزل الناس جميعا لينظفوا ميدان التحرير وما حوله من شوارع، ويغسلوا أسود كبري قصر النيل بكل همة ونشاط.  لقد تشوق المصريون لبلدهم، وكنا نرى أن الإنتماء قد ضعف ومات. شعروا ببساطة أن البلد بلدهم، ولننظر إلى كم التكتلات الشعبية من أجل تنظيم المرور، وحماية البلد من مجرمي السجون الذي أطلقوا في يوم 28 يناير كي يرهبونا، وتكوين جماعات لعلاج المصابين، وتبرع الأطباء بالعمليات الجراحية، وتدعيم المتضررين من العمالة التي كانت تعتمد على أجر يوم واحد، وغيره، وغيره. 
ياليتنا نعطي هذا الشعب فرصة حقيقية في ظل مجتمع حر، ولا نضع تلك الخطوط الفاصلة بين مصري وآخر. قد نختلف أيديولوجيا أو دينيا، ولكن الإنتماء إلى مصر يصبح هو الهدف والغاية في ظل دستور يحقق المساواة الكاملة والمواطنة الكاملة للجيمع، ويؤكد حق ممارسة الحياة السياسية، ويترك المجتمع المدني حرا يشارك في تنيمة المجتمع في كل الميادين.
حتي تكتمل مطالب الثورة لا نريد تشويها مغرضا للشعب الذي لن يتنازل عن الوصول إلى مصر لتكون بلدا تنعم بالحرية والكرامة الإنسانية. 

Wednesday, March 2, 2011

غصة الفرحة والأمل في الحرية د. علياء رافع


سيظل 12 فبراير و19 مارس من هذا العام  (2011) تاريخين يمثلان بالنسبة لي مرجعية في تنفس نسيم الحرية. في صباح 12 فبراير سألت من حولي هل ترون الشمس مثلها بالأمس، كانوا مثلي يشعرون أن كل شيء كأنه يتنفس لأول مرة، وبدا الكون مبتهجا متفاعلا معنا نحن المصريين. إنه ميلاد جديد، وعببق  جميل في الجو، يصحبه أمل وإستبشار، وتطلع إلى مستقبل أكثر نورا وأكثر إشراقا.
ويوم السبت 19 مارس، إستيقظت صباحا، وأنا أدعو الله أن يمنحني القدرة على الذهاب إلى صندوق الإقتراع، ذلك أنني كنت قد أصبت بوعكة صحية، قبلها بأيام، ولكنني تحاملت على نفسي وذهبت بمساعدة أبنائي، وشعرت بنفس الإحساس، الذي شعرت به يوم 12 فبراير. نعم كنت أقول لنفسي  اليوم ليس ككل يوم، إنه يوم  تنفست نسيم بالحرية ينعش القلب والروح، ويكفي ليكون دواء للجسد العليل ليشفي. ألهذا الحد كنا محرومين من الحرية.. من الحياة؟ لقد كنا إذن نختنق وتموت أرواحنا ونحن نتجرع سم الكبت والفساد، والخداع والكذب.  لن يستطيع أحد أن يعيدنا مرة أخرى إلى جو الإختناق بعد أن تذوقنا نسيم الحرية.
منذ أن تفتحت عيناي وعلى مرور سنين عمري لم أشهد هذا المشهد الذي كنا نراه في الدول الديمقراطية، ولكن لا نراه في بلدنا أبدا، ولم أبذل جهدا في أن تكون لدي بطاقة إنتخابية إلا بعد أن أعلن البرادعي رغبته في الترشخ للجمهورية، مع العلم أن قوانين البلد لم تكن لتسمح له أو لغيره أن يترشخ لهذا المنصب، وعلى الرغم من أن مطالبته بتغيير الدستور بدت حلما غير واقعيا على الإطلاق من وجهة نظر كثير من الناس، وأن ترشحه للجمهورية مستحيل، ولكن في أعماقي كنت أشعر أن هذه البطاقة ضرورية إذا ماحدثت معجزة ما. حقا كان لا بد أن تحدث المعجزة، ولم يتصور أحد أن تكون بهذا الإبهار، فلم يكن الأمر هو مجرد "ثورة"، ولكنها ثورة عبرت عن مصر بحضارتها وأخلاقها وقيمها ومبادئها.
وتصاحب الفرحة دائما غصة.  لم تكن الفترة ما بين 12 قبراير و19 مارس كما تصورت، كانت مليئة بالأشواك التي كان يجب أن تفتلع، ومازال الجو مليئا بالغبار والأتربة، والمعوقات غير الضرورية. بدا الأمر بسيطا يوم 12 فبراير، ها هو رأس النظام قد سقط، ولابد أن يسقط بعده النظام نفسه بحكومته ورجاله. وكان الجيش سريعا في تلبية مطلب هام من مطالب الثورة ألا وهو حل مجلسي الشعب والشورى،  ولكن للأسف أخذت وزارة شفيق وقتا بدا لي دهرا كي تقال أو تستقيل، فهي قد سقطت مع سقوط النظام لأنها كانت جزءا منه، ولم يكن منطقيا أو شرعيا أن تظل ما يقرب من الشهر بعد سقوط النظام. وزاد الغصة مرارا مراوغات شفيق المستمرة وعدم تحمله للمسئولية بل والجهر بأن الأمور ليست في يده.  كان واضحا وجليا عدم التوافق السياسي بين من وقف بجانب نظام قديم حاول أن يدافع عنه، وبين ثورة قد شقت طريقها رغما عن كل القوى المضادة. ليس من المتوقع لمن وقف جانب الرئيس السابق، وترك أبناء الثورة المسالمين يلقون حتفهم على أيدي البلطجية،  ليس من المتوقع لمثل هؤلاء أن يكونوا على قدر التغيير المترقب من ثورة قدمت دماء وشهداء. وعلى الرغم من رحيل شفيق إلا أن النظام مازال قائما متجسدا في المحافظين، وفي المحليات.
كان أيضا منطقيا وسهلا أن نبدأ في تشكيل لجنة تأسيسية لتشكيل دستور جديد بعد يوم 12 فبراير حيث سقط دستورنظام مبارك تحت شرعية الثورة، وهو ما يؤكده مجيء المجلس العسكري ليأخذ إختصاصات رئيس الجمهورية، خلافا لما نص عليه الدستور القديم، وكان البيان الثالث للمجلس العسكري بمثابة إعلان دستوري هام يشكل تعامل الجيش مع الشعب في ظل المرحلة الإنتقالية، لم يكن هناك أي ضرورة للقيام بتعديلات في دستور قديم، ولكن كانت هناك ضرورة لبعض القواعد التي تنظم إنتقال السلطة من الجيش إلى المدنيين، وكان من الممكن ألا تعتمد على أي نص من الدستور القديم، ومحاولة تعديله، بقدر ما كانت من الضرورى أن تضع مطالب الشعب في أولوياتها. ولكن أيا ما كان الأمر، هكذا سارت الأمور. تشكلت لجنة وقامت بالتعديلات التي رأتها ضرورية، والتي لم تكن كافية من وجهة نظر كثيرين.  وها نحن مع فرحة الإنتخابات الرائعة والإقبال غير المعهود، جاءنا خبر الإعتداء على البرادعي، ولا يصدق عقل أن المعتدين مجرد معارضين للبرادعي، فليكن البعض مؤيدا والآخر معارضا، ولكن لماذا الإعتداء؟ وتعود الغصة مرة أخرى مع العديد من علامات الإستفهام.
علامات الإستفهام وعدم الوضوح تقف حجر عثرة في طريق الفرحة بالحرية، منها على سبيل المثال وليس الحصر: لماذا يستمر زكريا عزمي في ديوان رئاسة الجمهورية بعد قيام الثورة؟ ألم يكن من المنطفي أن يتم تسليم الوثائق والأوراق والمهام إلى المجلس الأعلى مباشرة؟ ما هو هذا القانون الذي يمنع المجلس العسكري من إيقاف حليف الرئيس السابق وإستلام المهام منه؟   أليس هناك شخصا آخر يمكن أن يقوم بهذا العمل للمجلس الأعلى؟ وكيف يمكن الثقة في رجل وقف مع نظام مبارك كل هذه السنوات؟   لماذا تأخر طلب تجميد أموال رئيس الجمهورية السابق في البنوك الأجنبية؟  لماذا يتكرر الإعتداء على أبرياء برغم إعتذار المجلس الأعلى عما حدث يوم 26 فبراير؟  لماذا لم يتم التحفظ على وثائق امن الدولة قبل تنفيذ تلك الخطة الجهنمية في حرق هذه الوثائق؟  لماذا تظهر الفتن الطائفية فجأة في أكثر من مكان؟  لماذا تأخرتوجيه إتهام مسئولية إنسحاب أمن الدولة يوم 28 يناير لوزير الداخلية، خاصة أن الأمر لم يكن متعلقا فقط بالأمن المركزي، بل تم سحب الأمن من أرجاء جمهورية مصر العربية كلها؟  تركتنا كل هذه الأسئلة في حيرة من الأمر، وفي خشية على تلك الثورة الوليدة التي تحتاج إلى رعاية كل محب لمصر.
واليوم وقد تم الإستفتاء الذي لم تظهر نتائجه بعد حتي كتابة هذه الكلمات، وأيا ما كانت النتيجة، فإننا في حاجة إلى وضوح في الخطوات المقبلة، لن يعود الزمن إلى الوراء، ولن يخاف أي مصري في أي سن من الجهر بالحقيقة، ولن يقف أي مصري في بذل الجهد من أجل مصر. سنقبل الإختلاف ولكن لن نقبل القهر والوصايا والغوغائية. سيأخذ الأمر وقتا، ولكن لن نضيع لحظة واحدة من العمر. ستكون هناك عقبات، ولكن لن يفقد الشعب المصري الأمل.   

Tuesday, March 1, 2011

المعجزة هي ما حدث وليس ماوراء الحدث د. علياء رافع


ظللت أحاضر لسنين طويلة في الجامعة عن التاريخ الحضاري لمصر،  متحدثة عن إمتداد الشخصية المصرية عبر العصور وتطورها عبر الزمان في العصور القديمة والوسيطة، ثم إختفاء معالمها في هذا القرن وما سبقه وتواريها تحت اليأس وخيبة الأمل التي بدأت من النكسة ولم تنته على الرغم من لحظات وضاءة هنا وهناك. لم أكن أتصور أن تلك الشخصية التي قرأتها عبر تاريخها الطويل، والتي تجلت في حضارات متوالية تعبر عن قلب واحد ونبض واحد ستبعث بهذه القوة في لحظة من الزمان لتؤكد وجودها وإمتدادها وحياتها.
كنت دائما أقول أن ما يحدث في مصر الآن هو إرهاصات لثورة قادمة، هكذا علمنى التاريخ، فلقد بدا أن الليل لا ينجلي ووصلنا إلى أحلك الظلمات، بحيث أنه لا يمكن أن يستمر الحال على ما هو عليه، في وسط تناقضات صارخة، فها هي أسرة تملك بزمامها كل شيء، وتستكثر أن يكون هناك منظمات مدنية تقوم بدور الضغط، فتنشيء ما يقال عنه االمجلس القومي لحقوق الإنسان، والمركز القومي للمرأة وغيرها. ضاعت آمال أجيال مثل جيلي في أن تأخذ مكانتها, وهناك ذلك التناقض بين من يملك ومن لا يملك، بين قلة تتاح لها وسائل تعليم ممتازة وغالبية أصبح تعليمها لا يدل على أي مهارة قابلة للإستخدام في عملية الإنتاج لم يكن معقولا أن يستمر الأمر  بهذا الشكل.
وكنت أتوقع إنفجارا أو إنفجارات، وأخشى على بلدي من الفوضى وضياع الرؤية. كان ماحدث في ثورة 1952 يزعجني أكثر مما يطمئنني. كنت أقول أنه إذا حدثت ثورة فإننا لن نعرف في أي إتجاه سنيسير، وهل سنستبدل نظاما قمعي بآخر مثله تحت مسميات أخرى؟  كانت الثورة بالنسبة لي – مع إدراكي أن كل الواقع يدفع إليها -  مغامرة غير مأمونة العواقب. ولذا فإن أملي تركز دائما في ألا نفقد الأمل، وأن نحاول أن نصلح كل على قدره، في كل مجال وفي كل موقع، أملا في أن يحدث التغيير عن طريق بناء قيم العمل والجهاد التي كنت أدرك تماما أنها أيضا مغيبة في الواقع نتيجة لكل الإحباطات التي يمر بها الشعب المصري، ولكن بصيص النور الذي كان يغلفه الإيمان، لم يدع اليأس يتسرب إلى قلبي قيد أنملة.
وبدأت حركت التمرد وإعلان أصوات الإعتراض ترتفع فتكونت حركة كفاية، التي كسرت أول حاجز للخوف من التجمعات التي يعاقب عليها القانون القمعي الذي وضعه النظام، ثم مجموعة السادس من إبريل، وغيرها،  وإستمرت الإحتجاجات في الجامعات والمصانع والمؤسسات المختلفة، وعلى الرغم من أن الكثير منها كان يتوجه نحو مطالب إقتصادية عادلة، ولكنها كانت في نفس الوقت تلفت الإنتباه إلى الظلم الاجتماعي المتفشي في المجتمع بشكل واضح وصريح، وإلى الفساد، الذي كنا نشمه في كل موقع، ولكن لم نكن ندرك أبعادة التي تكشفت بعد ذلك في صورة مذهلة لم أكن – وأزعم أن مثلي كثيرون – لم يكن يدركون حجمها.
مع دخول البرادعي الساحة، تعاظمت الآمال، لأنه إستطاع أن يبلور المطالب الرئيسية التي يجب أن تتغير إتجاها نحو الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، وتجمع حوله الكثيرون. ولكن دفع الحركة تباطأ، لأكثر من سبب، أولها أن النظام أخذ يعاقب أنصار البرادعي بقوة ويعتقلهم ويعذبهم، مما جعل الأصوات تخفت بعض الشيء، ولكن النظام لم يستطع أن يقتلها. وكان مقتل حادث خالد سعيد على يد مباحث أمن الدولة حادثا متكررا يحدث في الخفاء، ولكن إكتشاف ما حدث، شجع بعضا من الشباب على التصميم على تغيير النظام. هكذا كانت الإرادة والتصميم هي بداية لثورة، كان الشعب يحملها داخله، ولكن لم يكن يدري كيف يعبر عنها. وفي خط مواز كانت هناك أقلام شريفة، تكشف المستور، وتطلب التغيير بلا كلل ولا ملل، مع تعرضها للتهديد والقمع أيضا. وذخرت الأفلام والمسلسلات بالتعرض لما يحدث في المجتمع من فساد وإفساد.
وهكذا أخذت عوامل الثورة تتراكم شيئا فشيئا، وكانت ثورة تونس نذيرا وشرارة إنطلقت في قلب نظام فاسد أيضا، ولم يأخذ الأمر من تونس وقتا طويلا للإطاحة برئيسها، ولكنها مازالت تعاني من القلاقل حتي الآن. في ذلك الوقت، كانت هناك مناقشات دائرة في مصر حول إحتمال أن تقوم ثورة مثل تونس، ولكنني كتبت بوضوح متمنية ألا يحدث هذا، وأن تكون الثورة من خلال الرئيس مبارك، وكتبت إليه في مقال، طالبة منه أن يعلن بوضوح أنه لن يترشح للإنتخابات القادمة، ولن يترشح إبنه كذلك، وأن يتعظ بما حدث في تونس ويبدأ إصلاحات جذرية في المجتمع المصري، حتي لا تقوم ثورة لن ندري إتجاهها أو مداها.
ولم تكن كلماتي لتعني شيئا، فهي ليست مصحوبة بأي قوى للضغط الشعبي، وهي مقال من مئات المقالات. ويشاء القدر أن تنشر هذه المقالة في اليوم الذي تفجرت فيه الثورة، والتي تنبأت فيها بشيء حقيقي، ألا وهو أن مصر قادرة على أن تستيقظ من ثباتها، وتتقدم بخطي سريعة لا يتوقعها أحد، فهي جسدت أسطورة العنقاء في تاريخها، وهي قادرة على إعادة هذه القصة من جديد. وكانت الثورة بنقائها وتحضرها وقوتها وعنفوانها وإصرارها. وتخلق في رحم هذه الثورة شخصية حضارية تذهل العالم بقيمها النبيلة، وبوضوح رؤيتها وبتضامن القائمين عليها من كل الإتجاهات. كانت الثورة – على غير ما توقعت – هي النور الذي أطل على مصر وعلى العالم، وهي البعث للشخصية المصرية التي قرأت ملامحها مع الأستاذ العظيم الفنان حامد سعيد. إنها معجزة، ليس بمعنى أن ما حدث لا يعتمد على الواقع، ولكن لأن الواقع نفسه بما حمله من مفاجأت غير متوقعة أصبح أسطورة ستعيش دائما. المعجزة هي في  القيم الحضارية التي ظهرت فجأة في الشعب المصري والتي إختزنها في أعماقه، ولم تكن هناك فرصة ليعبر عنها.  إن هذا التآلف الذي صهر الشعب في بوتقة واحدة, وشكلته في كتلة واحدة مرصوصة البنيان في وقت قصير، وبشكل تلقائي هو إكتشاف جديد لروح مصر التي ينبغي أن نحافظ عليها بكل ما إستطعنا من قوة، وقد إقترن الصمود بلإيمان: إيمان بالقضية وحق الدفاع عنها، وإيمان بالله في توكل وتسليم له بصرف النظر عن الدين أو المعتقد.
وجاءت المفاجأة الأخرى التي لا تقل عن الأولى عظمة وإكتشافا، ألا وهي أداء الجيش المصري  جاء بشكل رفيع المستوى، الذي أدركت وقد يكون غيري قد أدرك مثلي أنه إنحاز إلى الثورة منذ أول بيان أطلقه، أنه لن يقف في طريقها ولن يستخدم العنف مع شعب مصر العظيم ومطالبه العادلة. وكان هذا الخطاب مختلفا تماما عن خطاب الرئاسة الذي أصر منذ اللحظة الأولي أن يتحدث عن الثورة بإعتبار أنها فوضى، بل ويخلق فوضي  متعمدا ليبرر كل الوسائل القمعية التي كان يخطط لأتخاذها. وإنتظر الجيش حتي تبلغ الثورة مداها. وأرسل رسالة قوية إلى رئيس الجمهورية يوم العاشرمن فبراير، حيث إنعقد المجلس الأعلى للقوات المسلحة وأصدر بيانه الأول، وقال أنه في حالة أنعقاد دائم، أي منتظرا لموقف واضح يحدده الرئيس. وكلنا يعرف الخطاب المحبط في هذا اليوم.   كان واضحا أن الرئيس قد ضرب برسالة المجلس الأعلى للقوات المسلحة عرض الحائط في هذا الخطاب.  وحمل لنا يوم الجمعة الخبر العظيم بتخلي رئيس الجمهورية عن منصبة. 
وكانت هذه أيضا معجزة أخرى، لأن هذا القرار في سياق خطبة الخميس بدا وكأنه تغيير جذري عن موقف الرئيس يوم الخميس. ويظل السؤال ما الذي حدث في خلال أقل من 24 ساعة؟ لا شك أن الجيش قد لعب دورا هاما في إنقاذ البلد من إنقسامات داخل الجيش، أو صراع مع الشعب، ومثل قوة ضغط على الرئيس. ولا بد أن نحني رؤسنا إجلالا وإحتراما لجيش مصر العظيم.
وتظل هناك ألغاز لا نستطيع أن نستوعبها، وما يجري وراء الكواليس غير واضح للشعب تماما.  إن ثقتنا في الجيش عظيمة، ولكن الخطوات الحاسمة التي كنا ننتظر أن يتخذها الجيش تأخذ وقتا أكثر مما يتحمله الموقف. وهي خطوات من شأنها أن تدعم الإستقرار، على عكس ما يقال. لا أظن أن إقالة حكومة شفيق فورا بما فيها من عناصر غير موثوق فيها أمرا يخل بالنظام. أولا لأن هذه الوزارة قد فقدت شرعبتها بالفعل، وثانيا لأن إختيار عناصر صالحة لتشكيل وزاري جديد ليس معضلة على الإطلاق. وهناك جريمة واضحة في حق مصر كلها واضحة وليست في حاجة إلى أدلة، وهي تتمثل في إستخدام القوة الغاشمة وإختراق كل المواثيق الدولية يوم 28 يناير، والثانية هي قرار إنسحاب الأمن حتي من حماية حدود مصر، مما عرض الأمن الداخلي والخارجي للمخاطر, لماذا لم يحدث توجيه إتهام إلى وزير الداخلية السابق الذي يحمل مسئولية مباشرة عن هذين القرارين؟ إنه لغز لا نستطيع الإجابة عليه. ونأمل أم تكون هناك إجابة واضحة من المجلس الأعلى للقوات المسلحة، أو أن تكون الإجراءات قد بدأت بالفعل عند نشر هذا المقال.