Wednesday, June 29, 2011

دعاء من اجل مصر

اللهم إنقذ مصر كما أنقذت رسولك إبراهيم من النار وجعلت النار بردا وسلاما عليه، وأنقذت صفيك يوسف من غياهب الجب، ورفعته عزيزا معززا كريما مكرما، وأنقذت كليمك موسى من فرعون وجنوده، وأنقذت حبيبك محمد من مكر الماكرين وجعلته رحمة للعالمين. اللهم إنقذ مصر وإعز أهلها، وبارك في شعبها، وأسبغ عليها نعمتك بنشر الإيمان في قلوب أبنائها، وإجعل لهم من أمرهم رشدا. يا رب أنت القوي القدير والقادر على أن تبدل ليلنا نهارا، وظلامنا نورا، وجهلنا علما، وتعجلنا صبرا جميلا. اللهم إكشف الغمة عنا وعن بلدنا وعن أرضنا. يا أرحم الراحمين إرحمنا. ولا حول ولاقوة إلا بالله وصلى الله علي سيدنا محمد وعلى صحبه وآله.

Saturday, June 25, 2011

فزاعة بين الدستور والإنتخابات د. علياء رافع


ترتفع أصوات من هنا وهنا تطالب بأن تشكل لجنة تأسيسية مباشرة للدستور، مؤكدة أن وجود دستور قبل الإنتخابات أمر ضروري، بينما يرد آخرون أن هذه المطالبة تشكل تحديا للإرادة الشعبية التي وافقت على تعديلات الدستور، والتي بمقتضاها تقرر أن تكون الإنتخابات في خلال ستة أشهر من ظهور نتيجة الإستفتاء ، ومن خلالها تشكل لجنة تأسيسية للدستور. لم تذكر هذه المادة كيف ستشكل هذه اللحنة التأسيسية التي ستتكون من مائة شخص، وتركت تلك الآلية لمجلس الشعب القادم أن يحددها. وهناك رأي ثالث يرى أنه حتى لا يبدو الأمر وكأنه إستهتار بنتيجة الإستفتاء الذي وافق عليه 77 في المائة من جمهور الناخيبين، فإنه ينبغي أن توضع مباديء عامة، لا يحق لأي نص في الدستور المقبل أن يتناقض معها، وتكون هذه المباديء محل إتفاق من القوى الوطنية جميعا.
وفي هذا المقال أريد أن أتناول الأمر بطريقة مختلفة، ذلك أن فكرة التعديلات الدستورية نفسها مهزلة بكل المقاييس. كان من المقبول قبل الثورة أن تجري هذه التعديلات في ظل النظام السابق، ولو كان حدث هذا لأصبحت تلك التعديلات قفزة إصلاحية هائلة، ولكن بعد الثورة، فإنه من الناحية اللوجسيتكية البحتة from a logistic point of view  فإن "كلمة تعديلات" في حد ذاتها، فيها تعدي وتحدي لشرعية الثورة التي أسقطت الدستور كاملا ، بدليل قدوم المجلس الأعلى العسكري لتولي إختصاصات رئيس الجمهورية. ولكن وجد الشعب نفسه مدفوعا إلى إبداء رأيه في أمر لم يكن يصلح أصلا أن يكون محل خلاف.  لم يكن هناك بد من أن تكون الخطوة الأولى هي كتابة دستور جديد تماما من الصفر. 
يمكن القول تلخيصا للفكرة أن المجلس العسكري على الرغم من موقفه الرائع في مساندة ثورة 25 يناير، ولكنه يدير الأمور من منطلق الإصلاح، وليس وجوب التغيير الجذري للنظام السابق، دون إسقاط الدولة. وعندما أقول "التغيير الحذري"، لا أغني بهذا أن نقع في فوضى سياسية وإجتماعية، ولكن الإعتراف بشرعية الثورة كان يستلزم رؤية واضحة، وخطوات عمل تتناسب مع هذه الرؤية، خطوات منظمة تراعي إستمرارية الدولة وشرعية الثورة.  ولم يكن هناك داع لهذا الإنهاك في تلبية مطالب الجماهير، وعدم الإستجابة لها  إلا بعد مظاهرات عديدة، أو التهدئة عن طريق إجراءات جزئية لا تتناسب مع ضرورة الحركة السريعة. كان خليقا بالمجلس الأعلى أن يسبق الجماهير في تثبيت أركان هذه الثورة، لأن شرعية وجوده نفسها مستمدة منها. وليس  لدي أي تفسير في هذه اللحظات عن سبب هذا التباطؤ سوى أن المجلس العسكري  لم يستطع أن يستوعب تماما دلالات هذه الثورة، ولذا جاءت سياساته "إصلاحية" مع الإبقاء على أساسيات النظام – ليس فقط من ناحية الأشخاص في مختلف المجالات الحيوية – ولكن حتى أسلوب العمل والتعامل مع الجماهير ومطالبها لم تتغير، وهو ما أشاع إجباطا عاما، على الرغم من حرص هذه الجماهير على عدم التصادم مع المجلس الأعلى.
والذي إستمع إلى اللواء فاروق شاهين وهو يدافع عن منطق التعديلات، سيدرك أنه كان يتحدث بمنطق الإصلاح وليس بمنطق الثورة,  وفي نفس الوقت سواء كان الأمر مقصودا أو غير مقصود، فإن الإبقاء على وزارة أحمد شفيق، وما كان يحدث في أثناء هذه الفترة من إستفزازات في أداء هذه الوزارة كان أحد الأمور الجوهرية التي شغلت الرأي العام، بدون مبرر أيضا. لأن إقالة هذه الوزارة كان أمرا منطقيا وطبيعيا، مهما كانت كفاءة رئيس الوزراء أو الوزراء (مع التحفظ).  ولا أدري لماذا لم يختار المجلس الأعلى أو د. عصام شرف بعض شباب الثوار الكفء. ذلك أننا عندما نقول شباب، لا يعني ذلك أن كلهم لم ينضح مهنيا وقكريا، فكثيرون من هؤلاء تتراوح أعمارهم بين الثلاثينيات ومنتصف الأربعينات,  ولهم خبرة وباع في مجالات تخصصهم. وكان من الأولى أن يأخذوا بعض المقاعاد الوزارية ليعطوا لأداء الوزارة حيوية الثورة وتطلعاتها. ولكن على أي حال يبدو أن هذا الأمر جانبيا في ظل خطورة  ما نمر به الآن، ذلك أن الأمر ليس مجرد إختلاف أراء، ولكنه تحديد لمسار هام في مستقبل هذا الوطن.  
 وعلى الرغم من أن الرأي البراجماتي التوافقي الوحيد هو ضرورة إصدار مباديء عامة والسير تبعا لما جاءت به الأغلبية في الإستفتاء، ولكنه ليس كاف للمحافظة على نقاء الثورة وحيويتها. فهو خطوة إحترازية حتي لحماية الدستور القادم من إتجاهات فكرية راديكالية لا تعبر عن جموع آمال وطموحات وثقافة الشعب المصري. ويبدو أن هذا هو المحرج الواقعي الوحيد لهذا الإحتدام في الرأي بين دستور أولا أم  إنتخابات أولا. ولكن أعتقد أن منطق الثورة يستلزم من القضاة والقانونيين الذي كانوا جزء امن هذه الثورة، أن  يهبوا هبة واحدة، مؤكدين أن الإستفتاء في حد ذاته لم يكن يتناسب مع شرعية الثورة، أي أنه غير شرعي، وبالتالي فإن كل ما يترتب على باطل فهو باطل. ومن هنا تبدأ تكوين لجنة للدستور، ويلغي الإعلان الدستوري الذي قام به المجلس الأعلى والذي أعاد فيه بعد تعديلات طفيفة العديد من مواد الدستور الذي سقط، والتي صدم بعضها الجمهور، مثل الحفاظ على خمسين في المائة من العمال والفلاحين في مجلس الشعب. وهذا الإعلان أيضا لا يعتد به. لو أن المجلس الأعلى قد قام به وكان إجراء الإستفتاء عليه، لكانت شرعيته أقوى، ولأصبحت التراجع عن هذا الإعلان وعن الخطوات التي ينبغي أن تؤخد إلى أن يسلم المحلس الأعلى سلطات رئيس الجمهورية إلى رئيس منتخب، مستحيل.
ولكن لتدارك الموقف الآن وكي يمكن أن تكتسب الخطوات القادمة شرعية دستورية، ينبغي أن يكتب دستور جديد تماما ويتم الإتستفتاء عليه، وليكن أحد الدساتير التي شهد لها حكماء الدستور، وعامة القوى الوطنية بالتوازن والجودة مرجعية، يمكن البناء عليها.  وأعتقد أن الإهتمام يجب أن ينصب على شكل الدولة التي يتفق الكثيرون أن تكون رئاسية برلمانية للتناسب مع الثقافة والتاريخ المصري، وأن تنتهي اللجنة من دستور مؤقت يتم بناء عليه إنتخابات رئاسية. وتكون الإنتخابات البرلمانية هي الخطوة الأخيرة بعد قدوم رئيس مصري. ذلك أن وجود رئيس يأخذ إختصاصاته من الدستور الجديد سيخلق إستقرارا يمكن من خلاله أن تكون الإنتخابات البرلمانية معبرة عن الجماهير.  ويجب ألا ينتمي المرشح لرئاسة الجمهورية لأي حزب في هذه المرحلة على الأقل، حتى لا يؤثر على شكل البرلمان القادم.
قد تختلف أو تتفق معي الأراء في هذا الترتيب الذي أجده منطقيا وموضوعيا، ولكن ما أود أن يحدث إجماعا قانونيا عليه، هو أن الإستفتاء على التعديلات الدستورية باطل لأنه يتعارض مع شرعية الثورة، وبالتالي فهو يتعارض مع تولي المجلس الأعلى العسكري لإختصاصات رئيس الجمهورية.  وسيكون معنى ذلك تشكيل لجنة من أجل كتابة دستور جديد فورا وبدون تباطؤ.  هل يمكن أن تنطلق الصيحة والصرخة والطلب هذه المرة من القضاة والقانونيين ليلحق بهم الشعب كله في ضغط مباشر على خط السير نحو تحقيق مطالب الثورة؟ لقد تجاوب المجلس الأعلى العسكري مع كثير من المطالب، وهو مايحمد له، ونرجو أن يسير مع نبض الحماهير وآمالها، لأن الحفاظ على تلك الروح التي قامت بالثورة هو الذي سيدفع مصر إلى النهضة، وتخطي كل الآثار السلبية التي أتي بها النظام متعمدا كي يوقف من هذا المد الجماهيرى. أما إذا فقد الشعب نبضه، سنستمر لسنوات طويلة في عصور ظلام. وهذا ما لا يمكن أن يحدث إن شاء الله. 
لاينبغي لنبض الجماهير أن يهدأ حتى نحقق الأهداف التي رنا إليها الشعب عند قيامه بهذه الثورة الرائعة. لا أستعجل الزمن وندرك جميعا أن تلك الأهداف ستأخذ وقتا، ولكن حتي تطمئن قلوبنا فلا بد أن نسير في الطريق الصحيح بشرعية الثورة، وليس من منطلق "إصلاح نظام قد سقط" . 

Tuesday, June 21, 2011

خطاب أوباما عن الشرق الأوسط ودروس الثورة المصرية د. علياء رافع


إنتظر العالم حديث أوباما مترقبين مواقفه تجاه ما يحدث في البلاد العربية من ثورات، وبالأخص العلاقة بين إسرائيل والعرب في هذه المرحلة الحاسمة من التاريخ الإنساني.  لم يجء الحديث مفاجئا لأي دارس لسياسات الولايات المتحدة في عهد أوباما. الكل يعلم أن كل رؤساء الولايات المتحدة لا بد أن يؤكدون إلتزامهم بأمن إسرائيل وسلامتها والمحافظة على وجودها، وهكذا بدا الخطاب واضحا ومؤكدا لهذا الإلتزام.  ولكن منذ تولي أوباما رئاسة الولايات المتحدة الأمريكية حاول أن يرسي رؤية جديدة تعتمد على التكامل بين الحضارات وليس صراع الحضارات،  وحاول كذلك أن يبدو خطابه متوازنا بين مصالح إسرائيل وحقوق الشعب الفلسطيني.  وفي خطابه يوم 18 مايو 2011، تحدث مؤيدا لحق الشعب الفلسطيني في إقامة دولة ذات سيادة في حدود ما قبل نكسة 1967، مع بعض التعددلات الطفيفة، مما أثار حفيظة الإسرائيليين الذي أعلنوا الرفض الكامل لهذه المطالبة، معللين رفضهم بأن في هذا مايهدد أمن إسرائيل، وأن حديث أوباما يصعد الأمر ولا يشجع على السلام، بينما لخص رؤيته بالنسبة للجانب الفلسطيني في أنهم  يجب أن يعترفوا بوجود دولة إسرائيل، ليمكن لإسرائيل أن تقيم تفاوضا معهم.
وحتى يوفر على نفسه النقد من كلا الجبهتين فلم يدخل أوباما في الجوانب المعقدة للمشكلة الفلسطينية، ويقف على رأسها مدينة القدس، ورفض العرب التام للتنازل عنها، وكذلك عودة اللاجئين ورفض إسرائيل التام لمجرد إدراجها على جدول المفاوضات. ستظل إذن المشكلة الفلسطينية والصراع مع إسرائيل قائما إلى سنوات قادمة، ولكن السؤال هو هي سيتغير النموذج المتكرر الذي رأيناها على مدى أكثر من ستين عاما، والذي إستطاعت إسرائيل فيه أن تلعب دورها السياسي بإستراتيجية واضحة، ومن خلالها تضغط على العرب، ثم تأخذ ما تريد، ودون أن يتعلم العرب الكر والفر، أو التخطيط على مستوى طويل المدى كما تفعل إسرائيل، أو كما فعل اليهود بدءا من الدعوة إلى إنشاء وطن قومي في فلسطين، وهو حلم بدا ضربا من الطوباوية الخيالية، ولكن بطول النفس، والتخطيط المستمر، إستطاع اليهود أن يحققوا هذا الحلم. هل يحلم الفلسطينيون والعرب حلما يقدرون على تحقيقه. أحسب أن الثورة المصرية يمكن أن تلهم الفلسطينيين والشعوب العربية أن تحلم بالعودة، ولكن بإسلوب آخر، وبرؤية جديدة، عرضتها في كتاب شاركت في تأليفه، وقدم له أ.د. إسماعيل سراج الدين، وعدد منقادة الفكر في العالم، وكان المجلس الأعلى للترجمة قد أخذ حق ترجمته إلى العربية، وقامت بالترجمة الأستاذة سهام عبد السلام، ولكن لم يظهر إلى النور حتى الآن. 
لقد حلمت حلما لا تلعب فيه أمريكا دورا في حل المشكلة، بقدر ما تلعب فيه الشعوب هذا الدور. ذلك أن الخروج من الصندوق المغلق الذي وضع العرب أنفسهم فيه منذ بداية نشأة إسرائيل ضرورة، لنرى بعيون جديدة ومن خلال واقع جديد، يفرضه تقدم الزمن. الحلم الذي أراه ممكنا هو أن يتحالف اليهود المقيمين في دولة إسرائيل، والفلسطينيون داخل وخارج إسرائيل ليخلقوا الأمن والسلام للأجيال القادمة، التي ليس لها ذنب فيما حدث في الماضي. وأنا على قناعة أن التعاطف الإنساني الذي يمكن أن يحدث بين الشعبين، من الممكن أن يجعل كل شعب يدافع عن حق الشعب الآخر في الحياة، أي أن يدافع الفلسطينيون عن حق أطفال إسرائيل الذين لم يعرفوا لهم وطنا غير هذه الأرض في أن يستمروا عليها، ويدافع اليهود المقيمون في فلسطين تحت دولة إسرائيل في حق الفلسطينيون أن يعيشوا في سلام وأمن. ويتجمع كل الفريقين ليقاوم إتجاهات القيادات التي تعمل على إبادة الطرف الآخر. ولا يعني ذلك في المرحلة الأولى أن تتحول إسرائيل إلى دولة مدنية، فهي دولة قامت لتستوعب يهود العالم، دفاعا عن أمن اليهود الذي لاقوا إضطهادا من جميع شعوب العالم على مدى تاريخهم الطويل. وإذا شعروا بالأمان مع جيرانهم، ستضعف دافعية الوجود المنفصل عن المحيط الحضاري العربي حولهم، وسيندمجون تدريجيا فيه، ولا يشعرون بالحاجة لأن تكون لهم دولتهم. 
ولكن قبل هذا ومن أجل هذا لا بد لهذه المنطقة أن تبعث في نهضة حضارية جديدة، ظهرت إرهاصاتها في ثورة 25 يناير. وأعتقد أن المباديء والأخلاقيات التي ظهرت في الثلاث أسابيع التي سبقت تخلي الرئيس عن منصبه،  هي الشعلة التي يجب أن نسير على هداها، حيث تجسدت فيها روح مصر وحضارتها التي يجب أن تستمر، والتي يريد البعض أن تموت أن تختفي من على مسرح الأحداث بإشعال هذه الفتن الطائفية المتوالية، وإزكاء نار الفكر المتشدد، القائم على الفصل بين المسلمين وبين أصحاب الديانات المختلفة.  كيف يمكن أن نطالب اليهود في إسرائيل أن يتخلوا عن عنصريتهم، ونحن نخلق عنصرية مماثلة مع أقباط مصر، عنصرية يزكيها التفرقة بين مسيحي مصر ومسلميها في الحقوق والواجبات، التي يدعي من يسمون أنفسهم سلفيون أنهم محقون فيها.
وبالعودة إلى خطاب أوباما، فإن قوله أن يؤيد الشعوب التي تثور من أجل حريتها وحقوقها، فإن هذا قول محتاج إلى إختبار على أرض الواقع، ذلك أن قمع ثورة البحرين، وتجنب الحديث عن النظام السعودي الديكتاتوري، والتردد في تأييد الثورة المصرية في بداياتها يجعل المراقب للأحداث يشك كثيرا في خلوص هذه النية. ولا يجب أن تنخدع الشعوب بهذا الكلام المعسول، أي ينبغي أن نغير من رؤيتنا أن أمريكا هي المنقذ والحليف، وأن ندرك جيدا أن قوة بلدنا هي التي تجذب هذه الدول وغيرها كي تقترب منا في علاقة تعاون وصداقة. وهذا درس آخر من الدروس التي تعلمناها من ثورة 25 يناير. تلك الثورة التي فاجأت العالم، وعلى رأسها الولايات المتحدة. ولم يستطع جهاز المخابرات الأمريكية أن يتكهن بحدوثها.  قد يكون المحللون السياسيون في كل مكان مدركين أن الأوضاع في مصر قبل الثورة كانت ساخنة، وقد يكون الكثيرون منهم قد تكهنوا أن نظام مبارك قد قارب على الإنتهاء، ولكن لم يكن أحد يدري كيف سيحدث هذا. 
وفي كل الأحوال فإن القول أننا يجب أن نكون حذرين من الخطابات السياسية التي صيغت بحنكة  وبلاغة، وألا نعتقد أن الخلاص سيجيء من هذه الدولة أو تلك، لا يعني على الإطلاق أن نعلن عبارات التخوين السياسي والشجب والعداء مع دول تعرض علينا المساعدة.  لقد غيرت ثورة 25 يناير رؤيتنا لأنفسنا، ورؤيتنا للعالم، إذ أصبح واضحا لدينا أن الخيوط في أيدينا وليس في أيدي قوة أخرى، وأن التعامل مع العلم يجب أن ينطلق من ثقة في النفس، أي ألا نعلق كل الآمال على إرادة الغير بنا، وتصبح نظرية المؤامرة غمامة تقف بيننا وبين رؤيتنا ونقدنا لأنفسنا، ولا نعزل عن أنفسنا أيضا عن العالم بنفس الفكر القديم الذي كان يربط بين العزلة وبين الإستقلال الإقتصادي والسياسي. لقد تغير العالم وأصبح متشابكا ومعقدا بدرجة لم يشهدها التاريخ من قبل، ولذا فإن التوازن بين الثقة في النفس والإعتماد عليها، وبين التعاون مع الغير والإستفادة مما يقدمة تحدي علينا أن نواجهه، ولتكن رسالتنا التي تحكم كل توجهاتنا ليس إتخاذ موقف عدائي مع هذه القوى أو تلك، بل إزالة الحواجز والأسباب التي تؤدي إلى الصدام والصراع، ونشر حضارة مصر بما تحمل من رغبة في نشر قيم السلام والمحبة بين البشر أجمعين. هذه هي روح ثورة يناير.

الثقافة وبناء الرؤية السياسية د. علياء رافع


الثقافة كلمة واسعة فضفاضة قد يصعب تعريفها تعريفا جامعا مانعا، ولكنها في الغالب الأعم تستخدم من أجل الإشارة إلى النخبة التي  تعبر عو دائرة واسعة من المعرفة في مجالات شتى، مما يؤهلها على الرؤية الشاملة، وبالتالي فهناك من يفرقون بين المتعلمين وبين المثقفين، وبين العلماء في تخصص بعينه وبين المثقفين كذلك. وهذا التعريف الشائع يعطي للمثقف ميزة معنوية في مجتمعه، بإعتبار أن له قدرة على الإلمام بكثير من المعارف، مما يهيئه للتحليل والوصول إلى نتائج لها قيمة مضافة. ولكن قد يكون هذا التعريف أيضا غير دقيق، لأن الفروق المرجعية التي تدخلت في تكوين هذه الرؤية قد تقف حائلا عن قدرة من نطلق عليهم مثقفين. بعبارة أخرى سنجد أن بعضا من المثفقين الشيوعيين الذي تربوا فكريا في الستينيات، وقرأوا بغزارة في النظريات الإجتماعية، قد يصبحوا مقيدين في رؤيتهم، وغير قادرين على رؤية الآثار السلبية لتقديم خدمات مجانية تتحمل الدولة عبئها الأكبر دون تقييم مستمر لفائدة هذه الخدمة على المجتمع ككل. ظهر هذا مثلا عندما أعلن البرادعي أن التعليم الإلزامي يجب أن يكون مجانيا، أما ما بعد هذه المرحلة فيجب أن ينظر إليه من منظور آخر. هنا ثار عليه بعض المفكرين – المثقفين – ممن يحملون فكرا إشتراكيا. وينطبق هذا أيضا على كل فصيل ثقافي ينتمي إلى مذهب أو أيديولوجيا ما.  ومن هنا كان تعريف "المثقف" ، "والثقافة" لا يشير إلى إمتياز خاص لهذه النخبة، لأنهم مسجونون أيضا في إطار مغلق إلى حد كبير.  
وينقلنا هذا إلى التأمل في تعريف الثقافة من زاوية رؤية العلوم الإجتماعية،  لقد طور هذا المفهوم  أيضا فأصبحت هناك نظريات في "الثقافة" ، ولم يعد التعريف التقليدي الذي وضعه الأنثروبولوجي تايلور كافيا أو قادرا على تعريف الثقافة بإعتبارها كل مركب من العادات والتقاليد والفنون والعلوم وكل ما يتصل بالنشاط الإنساني. ورأي الكثيرون أن هذا التعريف سيقف بأي باحث عند المنهج الوصفي الذي يحاول الإلمام بالسلوكيات الإنسانية دون إعتبارات لدلالاتها الخاصة والمتنوعة. وذهب كثيرون إلى إتجاه معاكس تماما، إذ رؤا أن الثقافة مرتبطة إرتباطا لا يمكن فصمه بالبناء العقلي للإنسان الذي يشكل قدراته على الإدراك والتفكير، وأن اللغة هي الوسيلة التي يمكن من خلالها أن نتعرف على هذا البناء وكيفية تنظيمة، وطور آخرون ومنهم كليفورد جيرتس (الأنثروبولوجي الأمريكي) هذا الإتجاه إذا رأى  أن اللغة تتعدى الألفاظ المنطوقة إلى كل ما يقوم به الإنسان من سلوكيات، تؤخد على أنها رموز ترتبط بغيرها من الرموز، ومن خلال هذا الترابط نستطيع أن ندرك المعنى المستتر وراءها، أي البناء العقلي الذي ينظم هذه المفردات في علاقات منطقية مترابطة يمكن أن نطلق عليها "رؤية"، وأصبح تعريف الثقافة لديه أنها الكل المركب من الرموز التي تحتوي دلالات تشكل الوعاء الذي يرى الإنسان من خلاله العالم.
أعتذر للقاريء عن هذه المقدمة التي تبدو متخصصة إلى حد ما ولكنني إستطعت أن أبسطها بما يجعله يتواصل معي فيها، لأنها مقدمة ضرورية عندما نناقش أمورا على درجة كبيرة من الأهمية في هذا الوقت الحرج من تاريخ مصرنا الحبيبة، إذ أن هناك بلبلة فكرية خطيرة فيما يتعلق بالدولة المدنية والدولة الدينية، وأيضا بين الدولة المدنية كما يعرفها التيار الديني والدولة المدنية كما يعرفها الليبراليون أو غير المرتبطين عموما بالإطار الديني بإعتباره إطار مقيد إذا ما أوخذ حرفيا . وتجيء أهمية هذه المقدمة من أن القدرة على التواصل بين المختلفين في هذه القضية قد تكون مستحيلة، لأن كل منه له مذهب متكامل يستمد صدقه من تماسكه الداخلي، وكله محبوس في هذا الإطار المذهبي، ولأن كل منهم يحمل منطقا قويا في الدفاع عن رؤيته، ويؤمن بأنها الرؤية الأفضل التي تسير بالمجتمع إلى بر الأمان. ويظهر التخوف من التيار الديني قويا بين من يؤمنون بالحداثة وضرورة التطور مع متطلبات العصر، لأنهم يدركون أن هذا التفكير لن يحقق الحرية المطلوبة اللازمة في تطوير المجتمع وتقدمه. ومن ناحية أخرى فإن الذي يؤمنون بما يقولون عنه أنه مرجعية دينية، فإنهم يصرون على أن هذه المرجعية هي العاصم من إنزلاقات أخلاقية معروفة ومشهودة في المجتمعات التي لم تعتمد على الهدي السماوي، مما جعل بعض السلوكيات المرفوضة أخلاقيا وثقافيا ودينيا، مسموح بها في هذه المجتمعات التي لا تعرف أي ضوابط لمفهوم الحرية.
ولذا ونتيجة لهذا الإستقطاب بين الجانبين لزم أن نعالج الأمر ليس بإعتبار أيهما أصح من الآخر، ولكن بإعتبار أنه من الضروري أن يفهم كل منهما المسلمات الأولية التي ينطلق منها كل فكر على حدة. وسنجد أن تلك المسلمات قد تجذرت في بناء ثقافي متراكم، يجب أن نتفهمه من خلال البناء العقلي أو الرؤية العامة التي تنظم طريقة التفكير، وعن طريق "تفكيك" هذه الرؤية ليمكن فهمها، وبالتالي قد يكون تغييرها أو تطويرها متطلبا، لبناء فكري جديد  قائم على مسلمات مختلفة تماما.
إذا نظرنا إلى التيارات الدينية التي تختلف في شدة تعصبها، نجد أنها قد بنت كل نتائجها على مقدمات متشابهة، وهي أن الله قد ضمن كتابه الكريم وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام الأساسيات الصالحة لبناء مجتمع متكامل في كل زمان ومكان. ونجد على الصعيد الآخر أن المنطق المختلف أو المضاد لهؤلاء هو أن الواقع هو الأساس الذي يجب أن تنطلق منه النظم السياسية والتشريعية،  والذين يريدون منهم أن يجدوا أرضا مشتركة بينهم وبين التيارات الدينية، فإنهم يقولون أن هناك ضرورة في إعادة تأويل النص لكي يتواءم مع الواقع. وقد يحمل قولهم هذا لفريق التيار الديني إتجاها مشكوكا فيه، من حيث أنهم يصبحوا متهمين بأنهم يحاولون تشويه التعاليم الدينية، وإختراقها من داخلها، وبث منهجهم "العلماني" في التعاليم الدينية الثابتة.
أتعرض لهذه المقدمات الفكرية بهدف الكشف عن السلسلة التنظيمية المنطقية التي يتجه فيها كل من الإتجاهين، أحدهما يبدأ من النص والآخر يبدأ من الواقع، فكيف يمكن أن يتلاقيا؟ ستكون المسافة بينهما دائما هي مسافة ما بين السماء والأرض فهما يسيران في خطين متوازيين، ولكن الأمل الوحيد هو إستطاعة كل منهما أن يعيد الرؤية في المسلمات التي بدأ بها طريقته في التفكير، وإعادة النظر إليها وتأملها. من هذا المنطلق تصورت أنني من السلفيين الذي يؤمنون بأسبقية النص على الواقع،  وأدرت حوارا مع عدد من الأصدقاء، وأدهشهم قدرتي على الدفاع عن رؤية السلفيين المتماسكة داخليا، والتي لايمكن إختراقها أو تغييرها من داخلها، وبالتالي تكمن خطورتها في أنها قادرة على جذب وإجتذاب الكثيرين من المحايدين المتدينين تدينا أخلاقيا من المسلمين الذي يؤمنون في أرض مشتركة مع كل مسلمي العالم أن القرآن هو الكتاب المنزل الذي ينبغي علينا إتباعه. ولهذا فإنني إستخدمت أسلوبا مختلفا تماما ألا وهو أسلوب الدلالة أو المعنى، وليس الإختلاف في "الخطاب نفسه".  قلت لأصدقائي حقا أن إتباعنا للقرآن هو خطوة ضرورية، ولكن لنرى الآية الأولى التي تنزلت على الرسول ولتكون هي البداية لنا كما كانت بداية للرسالة،  سنجد أنها "إقرأ"، ولهذا فإن أيا ما كان يحمل هذا الأمر من دلالات تفوق القراءة اللفظية، فإن البداية من الإنسان، أي من محاولة أن يتعلم كيف يفسر (كيف يقرأ)، ولأن البداية هي من الإنسان (كما يقول النص) فإن  القراءة (التفسير) لتنزيل آيات الكتاب الحكيم لن تكون حرفية بأي من الأحوال، وإنما ستكون دلالية دائما. وستكتسب دلالاتها من خلال التطور العقلي والمعرفي المستمر.
لم يكن هذا النقاش إدعائيِ، ولكنه كان إعادة ترتيب للمنظومة العقلية التي ينطلق منها المنهج السلفي (المتشدد) لأننا كلنا سلفيون بالمعنى الإيجابي الذي يحترم تجربة الأسبقين دون تقديسها. بعبارة أخرى إذا إتفقنا على قدسية النص، فإن هذه القدسية تكسب دلالات مختلفة عندما ننظر إليها في قدرتها على إلهامنا وتقوية قدراتنا الفكرية والإبداعية في تحسين واقعنا، وينتج عن ذلك منظومة فكرية أخرى لا تتعارض مع إحترام الواقع والتجربة الإنسانية في كل مكان، ولكنها أيضا لا تسجن نفسها فيها. وأعتقد أن هذه الرؤية في حاجة إلى مزيد من المناقشة والشرح. 

Tuesday, June 14, 2011

بين سقوط دولة وسقوط نظام د. علياء رافع


بدا الأمر سهلا وبسيطا للغاية عندما تنحي الرئيس حسنى مبارك، لقد خيل إلينا جميعا أن فجر يوم جديد قد بدأ يظهر في الأفق، وكان نزول الثوار إلى الميادين المختلفة لتنظيفها يعبر عن فرحة حقيقية، وشعور عام أن البلد قد أصبحت بلدنا حقا وفعلا، وآعرف بعضا من الشباب الصغير المرفه، تحمس بشدة، وشمر عن ساعديه يريد أن يشارك في هذا العمل الجماعي، على الرغم من أنه لم يعتد أن يمسك بالمكنسة في بيته، ولكن عندما أصبح الأمر متعلقا بالوطن، كان لسان حاله يقول، هذا بيتي الأصيل والأوسع.  في تلك اللحظات التاريخية الرائعة، لم يكن هناك أي نوع من الشك في أن مواطني مصر قادرين على أن يبنوها من جديد بأفكارهم وإبداعهم وحماسهم.  
طالب الشعب بإسقاط النظام، ولم يطالب بإسقاط الدولة، ولم يكن سببا في إنسحاب الأمن من الشوارع، ولم يكن كذلك سببا في إستمرار عدم كفاءة الأمن في أداء دوره. لقد مرت أكثر من أربع شهور على الثورة، واليوم وحتي كتابة هذه المقالة نجد أن عناوين المصري اليوم تشير إلى خلو الشوارع من الأمن ليلا، بعد أن رفع المجلس العسكري حظر التجول نهائيا، وأن كثيرا من المواطنين يشكون من  إعتداءات تتم عليهم، خاصة في أطراف المدينة. والمحزن المبكي حقا، أننا نسمع صباح مساء أن المظاهرات هي السبب فيما تمر به البلاد من أزمة إقتصادية وأمنية.
وفي يوم آخر كنت أستمع إلى برنامج يسري فودة االمميز مع الرائع بهاء طاهر، وكان على خط التليفوني الآخر مسئول كبير من وزارة الداخلية، إتصل به البرنامج بعد إكتشاف أن ال19 جثة مجهولي الهوية الذين تم تشييعهم على أنهم شهداء، إذا بهم من المسجونين الهاربين تبعا لشهادة طبيبة قامت بتشريح هذه الجثث. وفي الوقت الذي يبحث فيها الأهالي عن ذويهم من المفقودين بعد مظاهرات الثورة المجيدة، والذي يبلغ عددهم ألف مفقود، فإن أبا لأحد هؤلاء ذهب إلى المشرحة مستفسرا عن إحتمال وجود إبنه، ولم يطلب منه تحليل لأي عينة للتعرف على DNA له لمقارنته بما قيل أنه قد تم أي أن كل الجثث قد تم تحليل الجينات الوراثية لها، حتي يمكن أن يتعرف عليها ذووها قبل دفنها أو حتى بعد دفنها، وقيل أن كل جثة به قطعة معدنية مكتوب عليها جميع المعلومات. ولكن معاملة موظفي المشرحة للأب تجعل كل هذا أمرا مشكوكا فيه.  وعندما عرض يسري فودة الأمر  على المسئول متسائلا كيف يحدث هذا اللبس والبلبلة، وكيف يشيع مسجونون على أنهم شهداء، كان رد المسئول مستفزا للغاية إذ قال: "أكنت تريد أن نرميهم ولا ندفنهم أليس هؤلاء مصريون"  والهدف من هذا الهجوم واضح، هو الهروب من الإجابة من ناحية، وتحميل كلام المذيع المحترم معاني لم يقلها، وبعد القيل والقال، والسؤال والإستفسار، قال بشكل مختصر أن هذا الأب يمكن أن يجيء إلى مكتبه، ويذهب إلى المشرحة لتؤخذ منه العينة، وإستشاط يسري فودة غضبا إذا قال له أنه كان من المتوقع منه أن يعلن أنه سيطالب بمسآلة الموظفين الذين أهملوا واجبهم، والإستفسار الجاد عما حدث في المشرحة من إستهتار بأهالي المفقودين الذي إختاروا أن يقفوا ضد الطغيان، ونزلوا حاملين رؤسهم على أكفهم في تلك الأيام المشهودة.
لقد تعرضت لهذه الحادثة بالتفصيل، لأنها تدل على أن النظام ما زال موجودا، يتلاعب مسئولون بالألفاظ، ويتخذون من الهجوم وسيلة للدفاع، ثم يبدأون بتقديم حلول فردية، دون النظر إلى أخطاء المؤسسة والموظفين الذي لا يقومون بواجباتهم. وذكرني هذا الموقف بما كان يحدث قبل الثورة، عندما يقع على مواطن ظلم من أحد الجهات، وإذا به يصرخ مطالبا مبارك بالتدخل، بإعتباره كبير العائلة، وحامي حمى البلد، ويستجيب الرئيس السابق، وسط شكر المواطن المستضعف وتعبيره عن الإمتنان. كان هذا المشهد يحدث بشكل متكرر مستفز، ويثير في رؤسنا جميعا سؤالا لا يجد إجابة، لماذا لا يكون هناك نظام يعامل المواطنين جميعا سواسية، ومن تخلف عن أداء واجبه،  يحق عليه أن يحاسب، ويعاقب تبعا للقانون.  ويبدو أننا لا نزال نعيش في نظام فاسد، ذلك أن مرض الفساد قد تخلل جسد الدولة، فأصبحت عملية إقتلاعه عملية عسيرة للغاية، تتطلب علاجا قد يطول أو يقصر – يعلم الله – ولكن أرى أن الجراحة في هذه الحالة أفضل من المسكنات، والكلمات الفضفاضة التي نسمعها من هنا أو هناك، سواء من المجلس العسكري، ومن رئيس الوزراء، ووزرائه. وهذا ليس قدحا في أي من هؤلاء، ولكن توصيف لما يحدث على أرض الواقع.
في وسط هذا التقهقر الواضح للثورة وتقدمها، تثار مسئلة الدستور، وهل يجيء أولا، أم بعد الإنتخابات النيابية. والواقع أن هذه المشكلة قد وزججنا بأنفسنا فيها دون ضرورة، وذلك لأنني عندما إستمعت للواء فاروق شاهين قبل الإستفتاء، كان يتحدث وكأن النظام لم يسقط،  فهو يشير إلى القانون وإحترامه، وإلى ضرورة القيام بالتعديلات. هل كان اللواء شاهين يشير في هذا الوقت المبكر أن النظام هو الدولة والدولة هي النظام؟ أعتقد أن هذه هي الرؤية التي تسيطر على القائمين على الحكم، حيث أن شبح مبارك ما زال متحكما في الخطى البطيئة التي لا تتناسب إطلاقا مع مطالب ثورة إستشهد فيها من إسشتهد، وسالت دماء، وإنهارت شركات، وأصحابها الوطنيون غير نادمين في ذلك الوقت، لأنهم كانوا أمام مستقبل وطن. وبالرغم من كل التضحيات التي قدمت والروح التي بهرت العالم، مازال البعض يخلط بين الدولة والنظام.  وإلا لماذا كان علينا جميعا أن نذهب إلى صناديق الإستفتاء، ثم بعد ذلك يقوم المجلس العسكري بإصدار إعلان دستوري. ألم يكن من المنطق ألا نتعرض لهذا الإستفتاء على الإطلاق، وأن يكون أمامنا إختياران لا ثالث لهما، إما كتابة دستور جديد بالكامل، وإما أن يصدر المجلس العسكري هذا الإعلان، ويفرضه علينا بحكم اللحظة التاريخية التي نمر بها. وإذا حدث هذا لأصبح الأمر أكثر وضوحا. هذا بالإضافة إلى أن دلالة الإجابة بنعم أو لا لم تكن واضحة على الإطلاق، ولقد إستمعت إلى د. حسام عيسى الذي كان يفسر أن إجابة "لا" للتعديلات الدستورية، تعني أن هؤلاء لا يوافقون على التعديلات، لأنهم يريدون الدستور القديم كما هو. وأنا وغيري كثيرون أجابوا "لا" للتعديلات الدستورية، ونحن نتطلع أن يكون هناك دستور جديد بالكامل، لأن شرعية دستور 1971 قد سقطت عندما تخلى الرئيس عن مسئولياته للمجلس العسكري، وليس لنائبه، أو لرئيس مجلس الشعب.  والتناقض الذي وقع فيه المجلس العسكري وأوقعنا فيه هو أنه إذا كان معترفا بوجود دستور 1971، إذ لأصبحت شرعيته في إدارة شئون البلاد غير دستورية، ولو أنه إعترف بسقوط هذا الدستور، لكانت كلمة تعديلات متناقضة مع هذه الرؤية.  ما الذي حدث بالضبط ولماذا؟  إنه ذلك الإختلاط بين سقوط نظام وسقوط دولة.
إذا كان النظام السابق قد نجح في أن يتغلغل ويتشعب في أركان الدولة، فلا يجب أن نجعله يتغلغل ويتشعب في عقولنا، ونظن أننا مازلنا عاجزين عن التغيير، وأن المجتمع ينهار، والإقتصاد في خطر، ورفع الصوت من أجل الحق تعدي على القانون. إن تغلغل النظام السابق في عقولنا أخطر كثيرا من تغلقله في أجهزة، لنا القدرة على تطويرها، والقضاء على الفساد فيها، أما فساد العقول فهو الأمر الأصعب والأشق. حفظ الله مصر من كل سوء.