Tuesday, July 27, 2010

في ذكري ثورة يوليو: النظام العربي الجديد د. علياء رافع


يوشك العقد الخامس من ثورة يوليو أن ينقضي، أي أنه قد مضى أكثر من نصف قرن على ثورة غيرت مسار التاريخ في هذه المنطقة من العالم، بل وامتدت آثارها خارج نطاق بلاد العرب إلى شعوب العالم قاطبة التي كانت تتطلع إلى الحرية والاستقلال، ووجدت في شخصية جمال عبد الناصر وقدرته على المواجهة وإصراره على إستقلالية بلاده مثلا، سار على نهجه كثير من قيادات العالم الثالث الذي كان يرزح تحت نير الاستعمار. وبعد مرور هذه الأعوام تبخر الحلم إلى الحد الذي جعل الحديث عن التعاون العربي ضربا من الكلام الطائش، وإلى الحد الذي جعل شبابنا لا يري أي رباط يربطه بغيره من شباب العرب.
وإذا تأملنا ما حدث في خلال النصف القرن الماضي، لوجدنا أن إنطفاء شعلة الحلم العربي قد واكبت هزيمة الخامس من يونيو 1967، ولكنها شهدت مرضا عضالا بعد مبادرة السلام عام 1977، واحتضرت مع الهجوم العراقي على الكويت عام 1990، ولذا أصبح الحديث عن حلم عربي أو مشروع عربي ضربا من الكلام الذي لا يرتكن على الواقع. ولكن السؤال هنا هل يعني هذا أنه لا يمكن أن يكون هناك أمل في نظام عربي جديد، بأجندة مختلفة وأيديولوجية جديدة؟
تتطلب الإجابة على هذا السؤال رؤية الواقع العربي الآن الذي أصبح مشتت الانتماءات، متعدد النزعات، مختلف الأهداف. ولا ينبغي أن نقفز على هذا الواقع معللين الحال بالمؤامرة الغربية التي استهدفت هذا التشتت، ذلك أن هذا الانهيار هو نتيجة طبيعية لعوامل متشابكة، أهمها هو أن الأنظمة العربية لا تجد القاعدة الشعبية التي تستمد منها شرعيتها، فالأغلب الأعم في هذه الأنظمة أنها تفرض وجودها بشكل قسري، وتتحلي بواجهة ديمقراطية صناعية غير حقيقية، حتي تتجنب االنقد من عالم الشمال الغربي المتقدم، وحتي يمكن أن تفسح لنفسها مجالا داخل النظام العالمي الجديد.  في ظل هذه الأنظمة الشمولية التي تستبعد القاعدة الشعبية من المشاركة في التخطيط للمستقبل والمشاركة في الأمل، يصبح من الأهمية بمكان أن ينشغل المواطنون بحياتهم اليومية، ويسيرون في دائرة البحث عن لقمة العيش وتحسين مستوى المعيشة بكل السبل الممكنة، ولا يعيروا إهتماما بعد ذلك لأهداف كبرى وطنية أو إقليمية. ويتيح هذا الإنشغال لأنظمة الحكم أن تستمر في السلطة لأكبر وقت ممكن، إن لم يكن إلى الأبد.
ومع مضي الوقت إنطفأت تلك الجذوة التي كانت تحرك شباب جيل الثورة الذي أصبح الآن في سن الكهولة، والذي أخذ يتآكل مع الزمن، وأصبح شبابنا اليوم غير قادر على أن يرى أهدافا عظمي تحركه، أو آمالا كبيرة تجعل لحياته معنى وغاية.  وليس هذا حكما ناقدا لهذا الشباب، ذلك أن الكثيرين من شبابنا يسيرون في إتجاه المقاومة، ويبدعون في تكريس جهدهم لإعادة الانتماء إلى الوطن، عن طريق الفنون من ناحية، أو الأنخراط في أعمال تطوعية من ناحية أخرى، ولكنها جهود فردية، تلمع أحيانا، وتنطفيء شعلتها في أحيان كثيرة أخرى.
ونجد أيضا أنه في ظل الاتجاهات المتطرفة، وجد الشباب إنتمائهم خارج حدود بلادهم من خلال الأيديولوجيات التي تدعو إلى إستخدام العنف، والثورة على المجتمع بالكامل، أو تدعو إلى الإنسحاب إلى حياة العزلة وعدم المشاركة السياسية أو الاجتماعية، إنتظارا لتغيير النظام.
 وأعتقد أنه لا بد من تصور لنظام عربي جديد، يختلف في معطياته عن المعطيات القومية التي غذت الحلم العربي قديما، ويعتمد في الأساس على رؤية الانتفاع بهذا الامتداد الجغرافي والثراء البشري والمادي والبيئي للمنطقة في ظل عالم يسود فيه فكر تحالف الدول في كيانات كبرى. وعلى سبيل المثال فإن أوروبا اليوم تمثل كتلة إقتصادية قوية، ولا يعني هذا على الإطلاق أن هناك إندماج ثقافي أو إيديولوجي أو سياسي بين دول أوروبا. قد يكون التعاون الاقتصادي مقدمة لاندماج سياسي، ولكن لا يقود بالضرورة إلى هذه  النتيجة، وليس مطلوبا أن يثارحتى على المستوى الفكري  في هذه المرحلة.
ومن الأهمية بمكان أن يكون هناك مساحة في النظم التعليمية والإعلامية لقراءة هذه الحقبة من تاريخنا، تلك الفترة التي شهدت تصاعدا في الحلم القومي، والتى كانت فكرة الوحدة العربية أقرب إلى الحقيقة منها إلى الحلم، وكأنها قاب قوسين أو أدنى، وهذا ليدرك أبناؤنا لماذا اختفي هذا الحلم، وتكسر على أعتاب الهزيمة العسكرية، وليدركوا أنه عندما يلعب القادة بمستقبل الشعوب فإنهم يهزمون أحلامهم قبل أن يهزمهم عدوهم.  إن دراسة التاريخ ليس من أجل لعنة الماضي وما حدث فيه، ولكنها من أجل معالجة الواقع الراهن والإنطلاق منه إلى عالم مستقبل فسيح واسع.
إذا إتضحت هذه الرؤية يكون من الممكن أن يتغير دور جامعة الدول العربية، فبدلا من تحولها اليوم إلى كيان سياسي منهار، لا يقوم بدوره في تجميع سياسات العرب تجاه المشاكل العربية والعالمية بصورة فاعلة، يمكن أن يستهدف على المستوى القريب تسهيل التعاون الاقتصادي والاجتماعي والتعليمي، الذي يساعد على تنمية شعوب  هذه المنطقة بصورة مطردة ومدروسة. ولا شك أن هذا التعاون سيؤدي إلى مزيد من الاتصال والتواصل بين الشعوب عن طريق المنظمات المستقبلية المشتركة، وهو ما يؤدي إلى إعادة الشعور بالإقتراب الثقافي والوجداني بينها.  وإعادة بناء ثقافة تدعمها الأخلاق التي دعت إليها جميع الأديان، دون أن يكون هناك تعصب بأي شكل، ويغذيها الاطلاع على تاريخ هذه المنطقة من العالم، وأدوارها المختلفة في بناء الحضارة الإنسانية، وتتطلع هذه الثقافة إلى التفاعل مع الحضارات والثقافات في كل مكان، ليس من منطلق إستعلائي، أو من منطلق الشعور بالدونية، ولكن بإدراك ما قدمناه للعالم من معرفة، وإستعدادنا أن نتعلم منه ما ينفعنا، ونضيف إليه. أي لا يكفي أن نكون مستهلكين للمعرفة، ولكن لا بد أن نكون منتجين لها كذلك.
ولا يسعني في هذا الصدد إلا أن أشيد بدور المجهود الذي يلعبه قسم السكان والهجرة في جامعة الدول العربية، الذي  شاركت في نشاطه فيما يخص مشروع تمكين الشباب على مستوى العالم العربي، ولقد استطاع هذا القسم يجمع قيادات شبابية قادمة من المجتمع المدني من خلال مجهودات خاصة، وقد أقام بالفعل شبكة إتصالية بين هذه القيادات  على مستوى العالم العربي كله.
أتصور أن النظام العربي الجديد لا ينبغي أن يتغنى بالشعارات، أو يقوى من خلال تعظيم خطورة الأعداء، ولكن ينبغي أن يقوده التطلع إلى مستقبل أفضل لشعوبنا العربية، حتي نكون فاعلين ومساهمين في بناء حضارة إنسانية يمكن أن تغير العالم، فنحن نملك الزخم التاريخي الذ يؤهلنا أن نلعب هذا الدور. ليست هذه مبالغة، بل هي حقيقة لكل  من يقرأ تاريخ هذه المنطقة، ويستوعب الوعاء القيمي والأخلاقي الذي تحمله، والثراء الحضاري والعلمي الذي حققته.  

Tuesday, July 20, 2010

تخطي الثنائيات بين الرؤى العلمانية والدينية د. علياء رافع



يعطي التطلع إلى المستقبل الأمل في الحياة، ويضفي على كل ما يقوم به الإنسان معنى، ولذا فإنه على الرغم من النظرة السوداء التي تلوح في الأفق كلما ذكرت العولمة، فإن مقالة الأستاذ الكبير السيد ياسين عن الوعي الكوني، قد قدمت بصيصا من الضوء، لابد أن نغذيه بالدراسة والفكر والعمل.  وقد أبدع الفيلسوف الألماني هيجل المنهج الديالكتيكي الذي يرى فيه أن كل فكرة تخلق نقيدا لها، ولكن يمكن الجمع بين المتناقضات في حركة ديالكتيكية  صاعدة.  وتبنى كارل ماركس هذا المنهج  في تحليله لحركة التاريخ، وأشار إلى أنه قد أعاد هذا المنهج في وضعه الصحيح  ليقف على قدميه بدلا من قوفه على رأسه، مشيرا بذلك إلى أن العلاقات الإقتصادية ونمط الانتاج هي المعول الأول في تحديد المسار التاريخي، لأنها تحدد علاقات القوة، وما الفكر إلا تعبير عن علاقات القوة في المجتمع ولا يوجد بمعزل عنها. أي أن حركة التاريخ يحكمها الإقتصاد وليس الأفكار.  ويمكن القول أن هذا الميل نحو الإقتصاد بإعتباره العامل الأول في حركة التاريخ فيه نوع من الإستقطاب، يتساوي مع إلغاء الواقع الاجتماعي بكل تجلياته في مقابل الواقع الفكري المنعزل عن البيئة التي نشأ فيها.  ولذا فإنني أظن أن العلاقة بين الواقع الإجتماعي (حيث يلعب الاقتصاد دورا رئيسيا) والواقع الفكري (حيث تحتل رؤى العالم موقعا محوريا) علاقة تفاعلية، يصعب التأكيد فيها أن أحد الجانبين له الأسبقية على الجانب الآخر.
إنطلاقا من هذه الرؤية سأقترب من منطقة شائكة، كلما ولج فيها مفكر أو مبدع، انقلبت عليه الدنيا ولم تقعد، فهو إما علماني، يتهم بأنه منكر لقدسية الوحي، كما حدث مع د. نصر حامد أبو زيد (رحمه الله)، أو إذا ذهب إلى الكفة الدينية، فهو سلفي سيعود بالزمن إلى الوراء. ولعل القاريء إتضح له ما الذي أعنيه بالمنطقة الشائكة إنها المنطقة التي تجعل العلمانية والتدين كأنهما أمران متناقضان، أو بعبارة أصح هما خطان متوازيان لا يمكن إن يلتقيان إلا في المطلق. ويمكن القول إن هذه الرؤية هي رؤية إختزالية، لأنها لا تري المفاهيم الكبري في تطورها عبر الزمان والمكان وتغيرها وتلاحمها مع التطور المعرفي والاختلافات البنائية والثقافية.
ذلك أن العلمانية الغربية هي حركة فكرية سياسية تحررية، إستطاعت أن تتخلص من تبعية السلطة الحاكمة للكهنوت الكنسي، وغيرت من هذا الاختلاط بين الحاكم بصفته على قمة هرم اجتماعي سياسي، وبين الحاكم بوصفه ممثلا أو ظلا لله على الأرض. وتم التخلص من هذه القوة السلطوية الشمولية البطراركية عن طريق الثورة، التي احتلت فرنسا فيها مركز الريادة. ولقد تأثر العالم الإسلامي بهذه الحركة، عندما أعلن أتاتورك إنهاء الخلاقة الإسلامية، والاعتماد على القوانين الوضعية، بدلا من الفقه الإسلامي في تنظيم المجتمع. ولقد إستطاع أتاتورك بتلك الخطوة الجريئة أن يدفع تركيا خطوات إلى الأمام في الاتجاه الحداثي، مما ساعد على تقدمها في مجالات عديدة. ولقد كانت هذه الخطوة في وقت له خصائصة حيث بلغ التجمد الفقهي أقصاه مع نهايات الدولة العثمانية، ولكن كانت لهذه الخطوة نتائجها السلبية، لأنها خلقت أجيالا غير مرتبطة بجذورها الإسلامية، ومترددة ما بين القيم الثقافية الغربية، وما بين القيم الإسلامية.
ولقد بينت في مقالات سابقة إننا في حاجة إلى إستعادة رؤية إسلامية إنسانية تتسم بالرحابة والاحتواء، وليس بالتجمد والإقصاء، ويرى البعض أن التقيد بالنص سيوقف العقل عن الاجتهاد، يفضلون أن يطرحوا  تجارب القدماء جانبا، ويتجهوا  إلى ما هو خير للبشر مستفيدين من التجارب الإنسانية قاطبة، ويرون أن  من يريدون أن يربطون بين تنظيم المجتمع وبين التشريع الإلهي فإنهم يتجهون إلى وضع رجال الدين وفقائهم على قمة الهرم الاجتماعي، متحكمين ومسيطرين على الأمور كلية، ويري البعض الآخر أن الإسلام من حيث هو دين شمل كل جوانب الحياة، فإن الجانب التشريعي فيه جانب مقدس لا يمكن أن يتغير أو يتبدل بأي صورة ولأي هدف لأنه يحتوى على حكمة لا نعلمها ولكن يعلمها الله وحده، ولكنها في النهاية من أجل مصلحة الإنسان.
ولكل من الاتجاهين منطق له وجاهته،  ولكن القضية ليس جدلا فكريا، إذ أن الأجدر بالإهتمام هو كيف يتحرك أي منهما على أرض الواقع،  فالشمولية والتحكم والسيطرة ليست حكرا على الفكر الديني السلفي، والحرية والانطلاق والإبداع ليست حكرا على الفكر العلماني أيضا. ولذا فإن الجدل بين الطرفين جدل عقيم ما لم نتجه إلى رؤية تبدأ من الواقع ولا تقفز عليه.  ومن المثير للإهتمام حقا أن العلاقة بين الوحي الإلهي وتنظيم المجتمع، كانت إستجابة لمتطلبات واقعية، ولهذا جاء التشريع منجما ولم يجء مرة واحدة.
يمكن أن نضع يدنا على سبب التناقض بين الرؤية الدينية والرؤية العلمانية في أن أحدهما يرى أن التشريع يجب فرضه على  الواقع، أيا ما كان هذا الواقع، والآخر يرى أن التشريع ينبثق من قراءة الواقع ويخدمه. فأما من يقولون بأن التشريع مفروض على الواقع فهؤلاء يضعون المقاصد التي ترضيهم، حتي عندما يتحدثون عن المصالح المرسلة، ودرء المفاسد. وأما الفريق الآخر، فإنه لا يستفاد الاستفادة الكافية بما وراء الخطوط العريضة التي يقدمها النص الديني والقابلة للقراءة وإعادة القراء، والتفسير والتأويل بلا حدود.
وعلى سبيل المثال فإنه من العار ونحن نعيش في القرن الواحد والعشرين أن نجد أن قانون الأحوال الشخصية الذي يقال أنه مستنبط من الشريعة الإسلامية ،ينص على أن من حق الزوج على الزوجة الطاعة، ومن حقها عليه الإنفاق، ويترتب على هذا أن خروجها من المنزل غاضبة أو لأي سب آخر نشوذ، وله الحق في أن يعيدها إلى الحياة الزوجية بقوة القانون فيما يسمي ببيت الطاعة. وتعطي شهرا واحدا، وبعد ذلك للزوج أن يطلقها بدون أي حقوق لها عليه لأنها ناشذ.  وما أريد أن أوضحه في هذا المثال، أن هذه الرؤية للعلاقة الزوجية، يخرج بها من إطار المودة والرحمة، إلى إطار آخر تنتهك فيه كرامة المرأة، وتفقد العلاقة الإنسانية معناها ومدلولها. هذا بالإضافة إلى أنها لا تساوي بين الرجل والمرأة، فيمكن للرجل أن يهجر بيت الزوجية لفترة غير معلومة، دون أن يكون في هذا لوم أو تقصير، بل وإن العقاب البدني من الزوج لزوجته – مالم ينتج عنه عاهة أو إصابة بالغة – يعتبر نوع من التأديب والزجر المسموح به قاونا (بناء على الشريعة). وهذا التطبيق غير الإنساني لفهم بعض الفقهاء عن "مقاصد" الآيات القرآنية، يجعل الكثيرين لا يملكون الشجاعة الكافية للولوج في هذه الساحة، خوفا من إتهامهم بالزندقة والخروج على الدين. ذلك أن من يهاجم مثل هذا القانون كأنه يهاجم التنزيل ذاته.  ولذا فإنه إختصارا للطريق، يحاول العلمانيون ألا يدخلوا في دائرة مغلقة، من الصعب الولوج إليها، وينادوا بقوانين وضعية تتلاءم مع العصر ومتغيراته.
إذا انطلقنا من واقعنا دارسين ما يجتاجه المجتمع حتي  يتقدم وينهض، يمكننا أن نستفاد من تجارب الشعوب من ناحية، وأن نعيد رؤيتنا للنصوص من ناحية أخرى مستنبطين منها ما يلاءمنا. ولذا فإن الاتجاه الذي أدعو إليه من شأنه أن يفتح بصيصا من الأمل في ألا نتخلى عن الهدي الإلهي، وفي نفس الوقت أن يكون الواقع هو المرشد الحقيقي لإعادة قراءة النص. إن المرأة التي تحدث عنها الإسلام، والتي تحظي الآن بكافة الحقوق المدنية، والتي تشغل أعلى المناصب في الدولة ليس تابعا لزوجها ولكنها رفيق وشريك له في الحياة.  لا يعقل من وزيرة يطلبها رئيس الوزراء لاجتماع طاريء أن ترفض دعوة رئيس الوزراء لأن زوجها في الخارج، وهي لم تأخذ إذنه. ولا يعقل أن الزوجة التي تذهب إلى بيت أمها المريضة مع إعتراض زوجها تعتبر ناشذ.   إن هذه النظرة الضيقة لمقاصد الشريعة أو مباديء الشريعة، هي التي جعلت بلدا مثل أفغانستان يعيش في عصور الظلام، تحت نظام حكم طالبان، وهي التي تصبغ العالم الإسلامي بتلك الصبغة التي يراها البعض نقيد مباديء التقدم والحداثة وما بعد الحداثة.   
والتخلي عن الفهم وإعادة الفهم في النص الديني يحرمنا من جانب آخر من رؤية قد تنير لنا الطريق، وتضعنا مع أنفسنا ومع من حولنا في سلام وأمن. وعلى سبيل المثال ما دمنا نتحدث عن المرأة،  فتلك  الرؤية للقداسة التي أعطاها الله للعلاقة بين الرجل والمرأة والتي لا بد أن تكتمل من خلال الإشهار بإعلان الزواج، تحمي أبناءنا من الانزلاق مع شهواتهم دون تحمل العواقب. وهذا الالتزام بالعفة والنقاء يعود على الفرد والمجتمع بالاستقرار النفسي والأمان. إن هذا الإلتزم الأخلاقي لا يتم تحت أي قانون، ولكنه الرؤية الكلية التي يوفرها الدين لاحترام الإنسان في كافة علاقته، والخروج به من رؤيته في جانبه الغرائزي البحت إلى رؤية كلية تحترمه جسدا وروجا.  ولهذا لا يمكن أن يكون الزواج عبودية للمرأة في ظل سيادة ذكورية، وإستخلاص هذه النتيجة وجدها كفيل بإعادة صياغة القانون سابق الذكر.  
ما أريد أن أخلص إليه في هذه القضية الهامة والشائكة أن البدء من الواقع وما يذخر به من تعقيدات، من ناحية، والتدبر فيما هو أفضل للإنسان والمجتمع على المستوى الإنساني والنفسي والروحي من ناحية أخرى، يجعلنا قادرين على التحرر من جمود الفكر السلفي الذي يقدس الأقدمين، ويقترب بنا من الفكر الإنساني العالمي، مستفيدين من كل ما هو أفضل للإنسان، مدركين أنه يمكن عندما نكون مستعدين نفسنا ومعنويا وفكريا لرؤية جديدة لتعاليم ديننا، ستقدم لنا القراءة في النص المقدس رؤية تساعدنا على الخروج من الجمود إلى رحابة الحرية والانطلاق، وتنكسر تلك الحواجر بين الرؤية الدينية والعلمانية.    

Tuesday, July 13, 2010

الوجه المشرق للعولمة: وعي كوني جديد في إطار حركة عالمية لثقافة جديدة د. علياء رافع


لقد غمرني شعور بالإعتزاز والتقدير للأستاذ السيد ياسين عندما علق على دعوتي لبدء حركة عالمية لثقافة جديدة، وهذا ليس غريبا على أستاذ عظيم كان يهتم بكل فكرة لها قيمتها، دون التركيز على ضخامة الإسم. كان هذا عهدي به دائما عندما كنت طالبة في الجامعة الأمريكية، أدرس معه مقرر المجتمع العربي، وأطرح أفكاري فيشجعني ويستجيب إلى ما أقول بتقدير واحترام،  وأنا مازلت بعد طالبة علم في بدء التكوين والتطلع إلى المعرفة.
ولقد أثلج صدري ما ذكره عما تقوم به منظمة الأمم المتحدة للتعليم والعلوم والثقافة والمعروفة بإسم اليونسكو من جهود من أحل ثقافة السلام، وهي الغاية المنشودة بالفعل في العلاقات الدولية والإقليمية والإنسانية والتحاورية.  ولكن ما يجعلنا أكثر تفاؤلا واستبشارا هو بزوغ ما أطلق عليه المفكر الكبير "الوعي الكوني الجديد"، وذلك في سلسلة من المقالات السابقة، وهذا الوعي يتجاوز الثنائيات المتضادة، وينطلق إلى مجال جديد في الرؤية، من حيث بلورة الأهداف الإنسانية والتوجه العملي نحو تحقيقها. وهو يقول نصا: " لقد تبين من البحث أن هناك بزوغا لحضارة إنسانية جديدة وثقافة كونية آخذة في النمو علي إنه العالم‏,‏ وهذه النقلة الكيفية أشبه بالنقلة من المجتمع الزراعي الي المجتمع الصناعي‏."
 ومن خلال إعادة قراءتي لما كتبه من مقالات على مدى الثلاثة شهور السابقة، أود أن أشير هنا  إلى إن هذه العبارات لها شواهدها على أرض الواقع كما أشار إليها،  تتمثل أولا  في يقظة الضمير العالمي تجاه حصار غزة وقيام قافلة الحرية، ثم راشيل كوري، والتأكيد على إستمرارية هذه القوافل من أجل الإغاثة الإنسانية.   وثايا كما أن ذكر أيضا أن أفاقة العالم الغربي على أهمية التضافر من أجل مواجهة الكوارث الطبيعية تعبر عن هذا الوعي الجديد ، وثالثا تغير فكرة الأمن القومي إلى الأمن الإنساني التي أصبحت فكرة تؤيدها الأمم المتحدة.
وقد رسم الأستاذ السيد ياسين سمات لهذا الوعي الكوني –حيث يمكن الرجوع إلى مقالاته تفصيلا في هذا الشأن – والواقع أن كل مقال من الممكن أن يتولد عنه مشاريع بحثية، تتداخل فيها العلوم الاجتماعية والإنسانية وتتكامل من خلال المناهج البينية interdisciplinary وأو المناهج المتعددة multi-disciplinary، ومن هنا فإن من الأهمية بمكان أن تتبنى المراكز البحثية على المستوى المحلي والعالمي، بعضا من الأطروحات التي يقدمها لتكون مشاريع بحثية متكاملة. وأحب أن أشير في هذا الصدد إلى أن  دراسة جماعات العنف السياسي يجب أن تأخذ منحى جديد، حيث لا يكتفي بالتشخيص فقط – على أهميته – ولكن لا بد من دراسة آليات لتحويل  إتجاه العنف، إلى إتجاه التعامل مع الواقع  والخروج من مأزق العداء إلى منطق التضامن من أجل خير الجميع.  وإضافة إلى هذا  فقناعتي أن الوعي الكوني والحضارة الإنسانية الجديدة التي أخذت ملامحها تتشكل في بعض التوجهات العابرة للثقافات والقوميات، في حاجة إلى مزيد من التحليل، حتي يمكن أن يتحول الفكر الديني الإسلامي إلى هذا البعد الإنساني، ويتحرر من آثار القبلية التي شوهت صورته في مناطق كثيرة من العالم.  وهذا التوجه البحثي هو خطوة في منظومة شاملة من أجل الحركة الثقافية الشاملة التي تقوم على تغذيتها اليونسكو، وبعض مؤسسات المجتمع المدني في مختلف أنحاء العالم، وأيضا بعض المراكز البحثية محليا، والمؤسسات الثقافية ذا التوجه الدولي،  على سبيل المثال ما تقوم به مكتبة الإسكندرية من أنشطة متنوعة في ترسيخ حوار الحضارات. 
 و إستمرار للحركة الثقافية التي أدعو إليها، فإنني أبادر هنا بطرح قضيتين هامتين  بغية إثارة بعض من العصف الذهني بشأنهما، وإستهدافا للتخلص من الاستقطاب الفكري الذي يسبب صراعات غير ضروروية أو تناقضات مفتعلة.  وأطرح هاتين القضيتين لأهميتهما بالنسبة لنا في المجتمع المصري على وجه خاص، وللعالم الإسلامي بوجه عام.  تتمثل القضية الأولي في النسق المغلق الذي يشوب معالجة مفهوم الإسلام وتحديد الهوية الإسلامية، حيث أهدر المسلمون عنصر الرحابة والإتساع الذي إتسمت بها تعاليم الإسلام، ودخلوا بها في خندق التعصب والتقوقع، وصناعة مستمرة للعدو في الخارج، ليس فقط مع غير المسلمين، بل وبين بعضهم البعض. ولا أدل على ذلك مما نراه ونقرأه عن العدو الإيراني الشيعي في الصحف القومية، بدلا من تحليل توجهات السياسة الإيرانية التي قد تكون بالفعل ممثلة لخطر على النظم العربية، وهي توجهات سياسية ولا ينبغي أن تصبغ بصبغة دينية،  نشاهد هذا الانقسام أيضا من خلال ما يحدث في العراق من صراعات  طائفية ومحاولة للتصفية الجسدية من كل فريق للفريق الآخر. كما نلاحظه أيضا في تلك النعرات الطائفية التي تحاول إقصاء من لا يتدين بنفس الدين من عنصر المواطنة، وهو ما يمكن أن يتمخض عنه تفكك مجتمعي ينذر بكوارث محققة.  وأتصور أن هناك حاجة ملحة إلى تضافر علماء الدين مع علماء الاجتماع والأنثروبولوجيا والسياسة من أجل إبداع فكري في تقديم الإسلام، وقد طرحت هذه الفكرة في ورقة قدمتها إلى مؤتمر دولي في الولايات المتحدة، ونشرت بعضا من أجزائها في مجلة "الكتب وجهات نظر" (عدد أكتوبر 2005) ، وهناك حاجة إلى تشجيع من الأزهر لمثل هذه النوعية من الأبحاث، إضافة إلى تغيير جذري في منهجية التعليم في تلك المؤسسة العريقة، يساعد على التخلص من طريفة التفكير ذات الاتجاه الأحادي.
القضية الثانية وهي منبثقة من القضية الأولى، وتتعلق بتلك الثنائية بين الإسلام والعلمانية أو الإسلام والعقلانية، وفي أحيان أخرى صاغها بعض المفكرين على أساس التناقض بين العقل والنقل، ويمكن صياغتها أيضا في العلاقة بين النص والواقع.  وأي محاولة لاختراق هذه الثنائية تثير زوبعة من الاستنكار، قد تذهب في بعض الأحيان إلى حد التكفير، كما حدث مع نصر حامد أبو زيد. ولا شك أن محاولة الاختراق أداة قد تذهب في إتجاهات متعددة، من الممكن أن تضر ببعض الثوابت العقائدية، ومع ذلك فلا مناص من ولوج هذا المجال الشائك، والسماح بتعدد الأراء والرؤي لنصل إلى تحرير العقل من الجمود، وهو ما دعا إليه الإسلام، ودعت إلى جميع الأديان. وتتعلق هذه القضية جزئيا بالمنظور التشريعي في الدول الإسلامية التي يدين معظمها أو كل مواطنيها بالإسلام. ذلك أنه تحت مقولة إتباع الشريعة، حدثت تجاوزات على مر التاريخ الإسلامي أصابت في مقتل بعض الحقوق الأساسية الإنسانية التي جاءت الرسالات لتؤكدها، ومنها حرية التعبير والعقيدة والمساواة بين الرجل والمرأة وغيرها.  ولا يمكن أن يكون هناك تشكيك في مقاصد الشريعة التي جاءت لتقيم العدل وتؤكد الحرية، ولكن إدعاء التطابق بين المقصد التشريعي وتطبيقه قد أوقف القدرة على أي محاولة للفكر الإبداعي أو النقدي لاستخراج تطبيقات أكثر تمشيا مع الواقع المتغير.  ولذا فإن الحركة الثقافية المنشودة على مستوى مصر والعالم الإسلامي بوجه خاص، هي حركة تحرر العقل من أغلال الأطر المغلقة، وأسر تقديس السابقين، وعدم القدرة على مواجهة فكرهم الذي لاينتمي إلى زماننا أو معارفنا الآنية. ويجب ملاحظة أن التعصب والجمود لا يشير إلى "الموضوع" الذي يتناوله العقل الإنساني، ولكن إلى منهجية هذا التناول. فكما يوجد جمود في الفكر الديني، فيوجد أيضا جمود في الفكر الذي يحسب نفسه على "العلمانية" أو الليبرالية أو الاشتراكية، أو أي مسمى مذهبي ، وذلك عندما يغلق هذا الفكر الباب تماما أمام أي رؤية مخالفة له، ولا يحاول أن يتفاعل معها، ليثري رؤيته أو يستخدمها ليتعرف على مواطن النقص والاختزال في اتجاهه. هذا هو المقصود بالحوار، الذي قد أصبح فارغا من مضمونه، عندما يلتقي الجمعان ليحاول كل منهما أن يقنع الآخر بوجهة نظره، بدلا من الاستماع إليه.   
إن الوعي الكوني الذي أخذ يتبلور في أكثر من ملمح لا ينتمي إلى حضارة بعينها، ولكنه ينتمي إلى مجمل الحضارات التي ينطلق منها، فهو تفاعل طبيعي تلقائي، ليس له مركزية في دولة أو ثقافة، لأنه وعي إنساني، يعلي من قيمة الإنسان التي أكدتها كل الحضارات على مر التاريخ، والتي انتقلت من مكان إلى آخر، وكلما ضعفت قيمة الإنسان في مكان، فإن هذا يؤدي إلى أفول الحضارة، لتبزغ القيمة في مكان آخر، فيبدأ ميلاد جديد.  ولكننا في هذه المنطقة نواجه تحديات عظمى، وفي حاجة إلى إعادة صياغة وبناء لفكرنا، ارتكازا على الأصول دون أن نسجن فيها، وانطلاقا إلى المستقبل مرتكزين  على دراسة متعمقة للحاضر. وعلى الرغم من كل التحديات والصعوبات التي يمكن أن تواجهنا، إلا أن الأمل لا ينبغي أن يخبو، طالما أن في مصر فكر مبدع متطلع دوما إلى النماء والبناء.