Tuesday, July 13, 2010

الوجه المشرق للعولمة: وعي كوني جديد في إطار حركة عالمية لثقافة جديدة د. علياء رافع


لقد غمرني شعور بالإعتزاز والتقدير للأستاذ السيد ياسين عندما علق على دعوتي لبدء حركة عالمية لثقافة جديدة، وهذا ليس غريبا على أستاذ عظيم كان يهتم بكل فكرة لها قيمتها، دون التركيز على ضخامة الإسم. كان هذا عهدي به دائما عندما كنت طالبة في الجامعة الأمريكية، أدرس معه مقرر المجتمع العربي، وأطرح أفكاري فيشجعني ويستجيب إلى ما أقول بتقدير واحترام،  وأنا مازلت بعد طالبة علم في بدء التكوين والتطلع إلى المعرفة.
ولقد أثلج صدري ما ذكره عما تقوم به منظمة الأمم المتحدة للتعليم والعلوم والثقافة والمعروفة بإسم اليونسكو من جهود من أحل ثقافة السلام، وهي الغاية المنشودة بالفعل في العلاقات الدولية والإقليمية والإنسانية والتحاورية.  ولكن ما يجعلنا أكثر تفاؤلا واستبشارا هو بزوغ ما أطلق عليه المفكر الكبير "الوعي الكوني الجديد"، وذلك في سلسلة من المقالات السابقة، وهذا الوعي يتجاوز الثنائيات المتضادة، وينطلق إلى مجال جديد في الرؤية، من حيث بلورة الأهداف الإنسانية والتوجه العملي نحو تحقيقها. وهو يقول نصا: " لقد تبين من البحث أن هناك بزوغا لحضارة إنسانية جديدة وثقافة كونية آخذة في النمو علي إنه العالم‏,‏ وهذه النقلة الكيفية أشبه بالنقلة من المجتمع الزراعي الي المجتمع الصناعي‏."
 ومن خلال إعادة قراءتي لما كتبه من مقالات على مدى الثلاثة شهور السابقة، أود أن أشير هنا  إلى إن هذه العبارات لها شواهدها على أرض الواقع كما أشار إليها،  تتمثل أولا  في يقظة الضمير العالمي تجاه حصار غزة وقيام قافلة الحرية، ثم راشيل كوري، والتأكيد على إستمرارية هذه القوافل من أجل الإغاثة الإنسانية.   وثايا كما أن ذكر أيضا أن أفاقة العالم الغربي على أهمية التضافر من أجل مواجهة الكوارث الطبيعية تعبر عن هذا الوعي الجديد ، وثالثا تغير فكرة الأمن القومي إلى الأمن الإنساني التي أصبحت فكرة تؤيدها الأمم المتحدة.
وقد رسم الأستاذ السيد ياسين سمات لهذا الوعي الكوني –حيث يمكن الرجوع إلى مقالاته تفصيلا في هذا الشأن – والواقع أن كل مقال من الممكن أن يتولد عنه مشاريع بحثية، تتداخل فيها العلوم الاجتماعية والإنسانية وتتكامل من خلال المناهج البينية interdisciplinary وأو المناهج المتعددة multi-disciplinary، ومن هنا فإن من الأهمية بمكان أن تتبنى المراكز البحثية على المستوى المحلي والعالمي، بعضا من الأطروحات التي يقدمها لتكون مشاريع بحثية متكاملة. وأحب أن أشير في هذا الصدد إلى أن  دراسة جماعات العنف السياسي يجب أن تأخذ منحى جديد، حيث لا يكتفي بالتشخيص فقط – على أهميته – ولكن لا بد من دراسة آليات لتحويل  إتجاه العنف، إلى إتجاه التعامل مع الواقع  والخروج من مأزق العداء إلى منطق التضامن من أجل خير الجميع.  وإضافة إلى هذا  فقناعتي أن الوعي الكوني والحضارة الإنسانية الجديدة التي أخذت ملامحها تتشكل في بعض التوجهات العابرة للثقافات والقوميات، في حاجة إلى مزيد من التحليل، حتي يمكن أن يتحول الفكر الديني الإسلامي إلى هذا البعد الإنساني، ويتحرر من آثار القبلية التي شوهت صورته في مناطق كثيرة من العالم.  وهذا التوجه البحثي هو خطوة في منظومة شاملة من أجل الحركة الثقافية الشاملة التي تقوم على تغذيتها اليونسكو، وبعض مؤسسات المجتمع المدني في مختلف أنحاء العالم، وأيضا بعض المراكز البحثية محليا، والمؤسسات الثقافية ذا التوجه الدولي،  على سبيل المثال ما تقوم به مكتبة الإسكندرية من أنشطة متنوعة في ترسيخ حوار الحضارات. 
 و إستمرار للحركة الثقافية التي أدعو إليها، فإنني أبادر هنا بطرح قضيتين هامتين  بغية إثارة بعض من العصف الذهني بشأنهما، وإستهدافا للتخلص من الاستقطاب الفكري الذي يسبب صراعات غير ضروروية أو تناقضات مفتعلة.  وأطرح هاتين القضيتين لأهميتهما بالنسبة لنا في المجتمع المصري على وجه خاص، وللعالم الإسلامي بوجه عام.  تتمثل القضية الأولي في النسق المغلق الذي يشوب معالجة مفهوم الإسلام وتحديد الهوية الإسلامية، حيث أهدر المسلمون عنصر الرحابة والإتساع الذي إتسمت بها تعاليم الإسلام، ودخلوا بها في خندق التعصب والتقوقع، وصناعة مستمرة للعدو في الخارج، ليس فقط مع غير المسلمين، بل وبين بعضهم البعض. ولا أدل على ذلك مما نراه ونقرأه عن العدو الإيراني الشيعي في الصحف القومية، بدلا من تحليل توجهات السياسة الإيرانية التي قد تكون بالفعل ممثلة لخطر على النظم العربية، وهي توجهات سياسية ولا ينبغي أن تصبغ بصبغة دينية،  نشاهد هذا الانقسام أيضا من خلال ما يحدث في العراق من صراعات  طائفية ومحاولة للتصفية الجسدية من كل فريق للفريق الآخر. كما نلاحظه أيضا في تلك النعرات الطائفية التي تحاول إقصاء من لا يتدين بنفس الدين من عنصر المواطنة، وهو ما يمكن أن يتمخض عنه تفكك مجتمعي ينذر بكوارث محققة.  وأتصور أن هناك حاجة ملحة إلى تضافر علماء الدين مع علماء الاجتماع والأنثروبولوجيا والسياسة من أجل إبداع فكري في تقديم الإسلام، وقد طرحت هذه الفكرة في ورقة قدمتها إلى مؤتمر دولي في الولايات المتحدة، ونشرت بعضا من أجزائها في مجلة "الكتب وجهات نظر" (عدد أكتوبر 2005) ، وهناك حاجة إلى تشجيع من الأزهر لمثل هذه النوعية من الأبحاث، إضافة إلى تغيير جذري في منهجية التعليم في تلك المؤسسة العريقة، يساعد على التخلص من طريفة التفكير ذات الاتجاه الأحادي.
القضية الثانية وهي منبثقة من القضية الأولى، وتتعلق بتلك الثنائية بين الإسلام والعلمانية أو الإسلام والعقلانية، وفي أحيان أخرى صاغها بعض المفكرين على أساس التناقض بين العقل والنقل، ويمكن صياغتها أيضا في العلاقة بين النص والواقع.  وأي محاولة لاختراق هذه الثنائية تثير زوبعة من الاستنكار، قد تذهب في بعض الأحيان إلى حد التكفير، كما حدث مع نصر حامد أبو زيد. ولا شك أن محاولة الاختراق أداة قد تذهب في إتجاهات متعددة، من الممكن أن تضر ببعض الثوابت العقائدية، ومع ذلك فلا مناص من ولوج هذا المجال الشائك، والسماح بتعدد الأراء والرؤي لنصل إلى تحرير العقل من الجمود، وهو ما دعا إليه الإسلام، ودعت إلى جميع الأديان. وتتعلق هذه القضية جزئيا بالمنظور التشريعي في الدول الإسلامية التي يدين معظمها أو كل مواطنيها بالإسلام. ذلك أنه تحت مقولة إتباع الشريعة، حدثت تجاوزات على مر التاريخ الإسلامي أصابت في مقتل بعض الحقوق الأساسية الإنسانية التي جاءت الرسالات لتؤكدها، ومنها حرية التعبير والعقيدة والمساواة بين الرجل والمرأة وغيرها.  ولا يمكن أن يكون هناك تشكيك في مقاصد الشريعة التي جاءت لتقيم العدل وتؤكد الحرية، ولكن إدعاء التطابق بين المقصد التشريعي وتطبيقه قد أوقف القدرة على أي محاولة للفكر الإبداعي أو النقدي لاستخراج تطبيقات أكثر تمشيا مع الواقع المتغير.  ولذا فإن الحركة الثقافية المنشودة على مستوى مصر والعالم الإسلامي بوجه خاص، هي حركة تحرر العقل من أغلال الأطر المغلقة، وأسر تقديس السابقين، وعدم القدرة على مواجهة فكرهم الذي لاينتمي إلى زماننا أو معارفنا الآنية. ويجب ملاحظة أن التعصب والجمود لا يشير إلى "الموضوع" الذي يتناوله العقل الإنساني، ولكن إلى منهجية هذا التناول. فكما يوجد جمود في الفكر الديني، فيوجد أيضا جمود في الفكر الذي يحسب نفسه على "العلمانية" أو الليبرالية أو الاشتراكية، أو أي مسمى مذهبي ، وذلك عندما يغلق هذا الفكر الباب تماما أمام أي رؤية مخالفة له، ولا يحاول أن يتفاعل معها، ليثري رؤيته أو يستخدمها ليتعرف على مواطن النقص والاختزال في اتجاهه. هذا هو المقصود بالحوار، الذي قد أصبح فارغا من مضمونه، عندما يلتقي الجمعان ليحاول كل منهما أن يقنع الآخر بوجهة نظره، بدلا من الاستماع إليه.   
إن الوعي الكوني الذي أخذ يتبلور في أكثر من ملمح لا ينتمي إلى حضارة بعينها، ولكنه ينتمي إلى مجمل الحضارات التي ينطلق منها، فهو تفاعل طبيعي تلقائي، ليس له مركزية في دولة أو ثقافة، لأنه وعي إنساني، يعلي من قيمة الإنسان التي أكدتها كل الحضارات على مر التاريخ، والتي انتقلت من مكان إلى آخر، وكلما ضعفت قيمة الإنسان في مكان، فإن هذا يؤدي إلى أفول الحضارة، لتبزغ القيمة في مكان آخر، فيبدأ ميلاد جديد.  ولكننا في هذه المنطقة نواجه تحديات عظمى، وفي حاجة إلى إعادة صياغة وبناء لفكرنا، ارتكازا على الأصول دون أن نسجن فيها، وانطلاقا إلى المستقبل مرتكزين  على دراسة متعمقة للحاضر. وعلى الرغم من كل التحديات والصعوبات التي يمكن أن تواجهنا، إلا أن الأمل لا ينبغي أن يخبو، طالما أن في مصر فكر مبدع متطلع دوما إلى النماء والبناء. 

No comments:

Post a Comment