Tuesday, June 29, 2010

هوامش على رؤية سيد ياسين المستقبلية د.علياء رافع


ارتبطت العولمة عند الكثيرين  بمحاولة هيمنة قوة أمريكا على مقدرات العالم، وإن كان الواقع لا يؤكد ذلك بشكل حاسم،  ولكن أيا ما كان الأمر فإن هناك رفضا واضحا من الشعوب يتحدى إذابة الشخصيات القومية والثقافات المتميزة، وقد نشأ عن هذا الرفض تطرف في إتجاه مضاد لإتجاه الذوبان الذي تفرضه العولمة، ولكنه يتعدي في بعض الأحيان حدود آليات الحفاظ على الهويات القومية إلى التطرف في التحيز الثقافي والتفوقع على الذات وعزل الآخر واتخاذه عدوا بالضرورة، وهذا الاتجاه  يظهر في نزعات طائفية ومذهبية وانتماءات قومية قد تذهب في تطرفها إلى حد تبدو فيه الروح القبلية أكثر بروزا.  ناقش مقال السيد ياسين في الأهرام (24 يونيو) هذا الموضوع  تجت عنوان عصر التناقضات الكبرى.
ويهمني أن أؤكد إضافة إلى ما قاله السيد ياسين إن  ما يحدث في العالم من تفتت، ليس مجرد رد فعل  للعولمة،  ولكنه ظاهرة تتنافي مع منطق الأشياء، إذ يبدو أن المجتمع الدولي يسير في خطتين متناقضين، ليس من السهولة الربط بينهما. نجد أن التفتت الثقافي والتشرذم الفكري لا يسير بشكل منظم أو سهل التفسير، إذ نجد أن البلد الواحد الذي ينتمي إلى تراث تاريخي متراكم، يحدث به تفكك غير مفهوم، ويتواجد على نفس الأرض عدد من السلوكيات والأفكار والانتماءات المختلفة بل والمتضادة في كثير من الأحيان، ويكفينا أن ننظر إلى أرض الكنانة، لنجد أن الشخصية المصرية التي استطاعت بشهادة المنظرين والمفكرين والدارسين أن تبتلع وتهضم العديد من لثقافات الوافدة وتمصرها، فتثريها وتضيفها إلى تراثها، قد كسرت هذه القاعدة، وأصبح المجتمع المصري يذخر بثقافات غريبة عليه، ويصبح تابعا لها، مغتربا عن نفسه،  ويكفي أن ننظر حولنا لنرى تصاعد عدد المتنقبات في الشارع المصري، وفي نفس الوقت وعلى خط نقيض تغير العادات والتقاليد في إتجاه الغرب، إذ أصبح من الأمور الطبيعية مصادقة الفتى للفتاة والانقياد نحو تقليد الثقافات الغربية في تخطي الحدود المعقوله لهذه العلاقة. هنا يصعب كثيرا تحليل هذا النتاقض الصارخ. إذا كان النقاب رمزا يعلن عن مقاومة التغريب بشكل متطرف، فكيف يمكن أن نفسر الاتجاه المضاد، الذي يخلق مجتمعا متغربا، داخل المجتمع.  وهذه الأمثلة هي قليل من كثير، مما يدعو الدارسين للولوج بعمق في التغيرات التي تحدث في المجتمع المصري، والتي تهدد تماسكه. ومن المثير للإنتباه إن ما يحدث في مجتمعنا يحدث في المجتمعات الأخرى أيضا، فلا عجب أن نجد أن الأنثروبولوجيين الأمريكيين أيضا يدرسون التغيرات التي حدثت على الشخصية الآمريكية بعد أحداث 11 سبتمبر، وإنقسام المجتمع في توجهاته الفكرية وفي عدم القدرة على تحديد سمات للشخصية الأمريكية  (مثل ذلك البحث الذي قامت به تشريل ماتينجلي وآخرون  عن العلاقة بين ألأصول الإثنية والنوع الاجتماعي والشخصية الثقافية بعد حادث  الهجوم على المركز التجاري الأمريكي،  وذلك في المجلة الامريكية الأنثروبولوجية، الجزء 104، عدد 3.) 
وفي الوقت الذي تفتت فيه العالم، بل والبلد الواحد ثقافيا، تظهر المنظمات الاقتصادية الكبرى، والتكتلات الاقتصادية المختلفة، مع نمو متصاعد للشركات الكبرى العابرة للقوميات التي تتحرك بنظام خاص وينتشر نشاطها عنكبوتيا داخل العالم أجمع. وعلى صعيد ثالث نجد التكوينات الافتراضية أي التي تتحرك عن طريق الفضاء الإلكتروني تزداد عددا وقوة. وعلى سبيل المثال فإن تنظيم مثل تنظيم القاعدة، ليس له مركزية إدارية، ذلك أن تحريك خلايا هذا التنظيم لا يتم مركزيا،  ولكن يتميز بالمرونة التي تساعد عليها إستخدام الاتصالات الحديثة، والتي لا تستوجب أن يكون المخططون والمنفذون في نفس المكان، وبالتالي يصعب تحديد موقع ا التنظيم يمكن السيطرة عليه. وإذا أضفنا إلى هذا الزخم الافتراضي، عوالم المدونين الذين يكسبون أصدقاء ويكونون مجتمعات إفتراضية على مستوى العالم، يمكن أن تذهلنا هذه التغيرات غير المتوقع نتائجها أو اتجاهاتها. . 
إن هذا الإنفصال بين حركة رأس المال والبشر على النطاق العالمي، وبين  الفكر والأيديولوجيات، قد أوجد نوعا من الفوضى التي أصبحت ملمحا مميزا لما أصبح يطلق عليه ما بعد الحداثة. وقد تكون الطائفية التي تحدث عنها سيد ياسين هي بعض تجليات هذه الفوضى،  وهي حالة  لا تتوافق مع التوقعات التي صاحبت العولمة. ذلك أنه على المستوى النظري، فإن الاحتكاك الحضاري الناتج عن ثورة الاتصالات من ناحية، وتنقل المال والبشر  من ناحية أخرى  كان من المتوقع أن يحدث تقاربا فكريا وثقافيا بين أرجاء العالم.  وقد عبر سيد ياسين عن هذا بقوله في أحد كتبه التي نشرها في تسعينات القرن الماضي واقتبس منها في مقاله  "ستكون هناك محاولات للتوفيق بين الفردية والجماعية، وبين العلمانية والدين، ,‏ وبين عمومية مقولة الديمقراطية وخصوصية التطبيق في ضوء التاريخ الاجتماعي لكل قطر،  وبين الاستقلال الوطني والاعتماد المتبادل‏، وأهم من ذلك كله بين الأنا والآخر علي الصعيد الحضاري‏."  ولم يكن هذا حلما طوباويا، بقدر ما هو أمل ممكن التحقيق إذا توفرت بعض الشروط الأساسية التي لخصها المفكر الكبير في التالي: " التسامح الثقافي المبني علي مبدأ النسبية الثقافية في مواجهة العنصرية والمركزية الأوروبية‏,‏ والنسبية الفكرية بعد أن تنتصر علي الإطلاقية الإيديولوجية،‏ وإطلاق الطاقات الخلاقة للإنسان في سياقات ديمقراطية،‏ بعد الانتصار علي نظريات التشريط السيكولوجي والتي تقوم علي أساس محاولة صب الإنسان في قوالب جامدة باستخدام العلم والتكنولوجيا‏.‏ وإحياء المجتمع المدني في مواجهة الدولة التي غزت المجال العام‏،‏ ولم تترك إلا مساحة ضئيلة للمجال الخاص‏,‏ وأخيرا التوازن بين القيم المادية والقيم الروحية والإنسانية‏‏".
والواقع أن الأمل والطريق إلى تحقيقه واضح وجلي في فكر السيد ياسين، ولكن التعقيدات التي تحدث على الأرض أكثر ضخامة، ولا أحسب أن الأستاذ الكبير غافلا عن صعوبه تحقيق هذه السمات أو الشروط، ولكنني أريد أن أكمل ما قد بدأ ذلك أن  أن هذه الشروط أو السمات الأساسية لاتحدث في فراغ، ولكنها تتطلب سياقا أوسع لتنشيطها أو تحريكها من حيز الممكن إلى الخروج إلى أرض الواقع . وأحسب أنها يمكن أن تتحقق عندما تتحول المسلمات التي نشأ عليها علم الإنسان إلى ثقافة عامة. ذلك أنه إذا نظرنا إلى هذه السمات أو الشروط التي وضعها السيد ياسين، لوجدناها بعضها يشير إلى ما يمثل أساسيات علم الإنسان، الذي يدعو إلى إحترام تعددية الثقافات ومحاولة فهمها والتعامل معها، وهوما  ينتج عنه بالضرورة التخلى عن المطلقات أو بعبارة أصح عدم الإدعاء بالإحاطة بالحقيقة الكلية. ولا شك أن النظام التعليمي على المستوى العالمي يلعب دورا كبيرا في تأكيد هذه الثقافة، وبالتالي يمكن لكل إنسان أن يعيد تقييمه لثقافته وتطويرها من خلال التفاعل مع قيم وثقافات أخرى، دون أن يكون هناك أفضلية لثقافة أو حضارة على ثقافة أو حضارة أخرى.  
وأما السمات الأخرى التي وضعها السيد ياسين ليتحقق هذا التوافق المنشود، فإنها تتعلق من ناحية بالبيئة السياسية والثقافية التي يجب أن توفر الحرية الضرورية التي تفجر طاقات الإبداع دون خوف.  ومن ناحية أخرى فهي تتطلب تجديدا في رؤية الإنسان لنفسه، إذ أن التوازن بين القيم المادية والروحية الإنسانية، لا يتحقق إلا عندما ينزع الإنسان فتيل هذا الصراع الذي يضعه بين إرادة الله، وفطرة الإنسان، وبين السعي في الحياة، والعبادات بأنواعها، وهو صراع وهمي إذا ما أوغلنا بعمق في الرسالات الدينية وتراث الحكمة في مختلف الحضارات. والقضاء على هذه الصراعات تتطلب أيضا تضافرا عالميا. 
وإذا كان اليونسكو قد نشأ في أعقاب الحرب العالمية الثانية لتحقيق التقارب الثقافي والتعليمي بين البشر، فإن رسالته لن تكتمل ما لم يأخذ تلك المتغيرات التي أشرت إليها  في الحسبان، ويعيد صياغة أهدافه مرة أخرى، من أجل تعاون عالمي في مجال التعليم والعلوم والثقافة. وأتوجه للأستاذ سيد ياسين، خاصة وإلى مثقفي مصر ابتداءا، ليضعوا مشروعا ثقافيا تعليميا عالميا بالتعاون مع المفكرين الذين يعنون بالتقارب الحضاري من أجل السلام عى مستوى العالم أجمع ليبدءوا حركة عالمية ثقافية جديدة من اجل إعادة التوازن إلى تلك الفوضى غير المحكومة والتي قد تقود إلى هلاك محتوم للعالم أجمع.  نحن في حاجة إلى تخرج مثل هذه المقالات الجادة من حيز الورق والكتابة إلى مشروعات قابلة للتنفيذ، وأول الغيث قطرة. 

No comments:

Post a Comment