Tuesday, December 28, 2010

الفقر والإنتماء
د.علياء رافع
 الفقر ليس مبررا لخيانة الوطن، ولكن الخيانة هي مؤشر لذلك الإنفصال بين المواطن ووطنه، والذي يمكن أن يحدث في أي طبقة ولأسباب مختلفة. أقول هذا بمناسبة القبض على ذلك الشاب المتهم بالتجسس، والذي يقول أنه كان ينوي أن يترك الموساد بعد أن يحصل منهم على قدر من المال يعيش به حياة طيبة. ومع منطق بسيط يمكن أن نسأل هذا الشاب: وماذا يفيدك المال بعد أن تكون قد ألحقت ضررا بوطنك؟ ماذا يفيدك المال وأنت تساعد على تخريب تلك البيئة التي تعيش فيها أسرتك؟ أي منطق هذا؟ حقا إن إستغلال حاجة الفقراء في الدفع بهم إلى الجريمة واقع نعيشه على مختلف المستويات، ولكن هناك كثير من الفقراء الذي يمكن أن يرفضوا أموال قارون إذا كان ذلك يتطلب منهم أن يخونوا مبادئهم.
لا يحتاج الأمر إلى مساومة أو تبرير،  خاصة وقد أصبح الفساد أسلوبا منتشرا ومقبولا،  إلى الدرجة التي يتجرأ بها هذا الشاب ليقول أنه أراد أن ثمن خيانته لوطنه هو أنه سيوفر مالا لأسرته، وإلى الدرجة التي قد يتعاطف بها بعض الناس معه. وهكذا تسير المبررات التي تخلخل من بناء الوطن، وتقف في طريقه إلى التقدم. إن من يقبل الرشوة يعتبرها إعانة له على الحياة، ومن يهمل عمله يتعلل بأن راتبه ضئيل "على قد فلوسهم"، ومن يلوث النيل، والماء فهو غائب عن الوعي برشفة الماء وأهميتها، ومن يجرف الأرض الزراعية فهو لا يدرك أنه يرتكب جريمة قتل للبيئة. وهكذا دواليك.  وكشفت الانتخابات الأخيرة أن البلطجة أسلوب متكرر في كل إنتخابات. ما الذي حدث لمصر؟  ذلك البلد العظيم الذي يحمل تاريخه أرقي القيم الإنسانية. إنه سؤال في حاجة إلى دراسات، فهناك الأسباب الاقتصادية والسياسية والتعليمية، وتأثير الثقافات الواردة عن طريق الهجرة، والفضاء المفتوح في ظل الثورة المعلوماتية، وغيرها من الأسباب، ولكن كلها في النهاية سلوكيات تكشف عن نفسها فيما يمكن أن نطلق عليه ظاهرة "عدم الإنتماء".
يجب أن ندرك أن الإنتماء ليس علاقة مفروغا منها لمجرد أننا نعيش على أرض مشتركة، ولكن الإنتماء يتحقق عندما يكون الإنسان قادرا على أن يحقق حلمه على أرض بلده، وعندما يكون حلمه الفردي والحلم القومي متلازمان. ولذا فإن قوة أو ضعف الإنتماء لا تتكون فقط من خلال العواطف والشعارات، ولكنها علاقة بناء جسور من التفاعل الإيجابي داخل الوطن ليكون مكانا آمنا يعيش فيه كل مواطن. الإنتماء رغبة حقيقية في أن نبني بلدنا ونتقدم بها،  نكون في إستعداد لكل التضحيات لأننا نؤمن أن ما نقوم به اليوم سيجنيه أبناؤنا غدا. هكذا عاش الشعب المصري لحظات بطولية في تاريخه الطويل، أوضحها وأقربها ما قدمه شعب مصر في حرب 1973، حيث تضافر العلم مع التخطيط والإيمان. لم يكن العبور سهلا، لقد سالت دماء الشهداء زكية على أرض سيناء، كانت نفوسهم راضية مطمئنة، لأنهم أدركوا أن تحرير الأرض هو حرية للإنسان المصري، هو الخلاص الحقيقي، هو البداية لنهضة مصر.
ماذا تقول أرواح الشهداء اليوم عما حصدناه في خلال تلك الأعوام؟ هل حققنا لمصرنا في خلال سبع وثلاثين عاما – عمر شباب بلغ مرحلة النضح الآن – ما كان يرنو إليه الشهداء. إن أقسى ما يصيب الروح في مقتل غياب العدل، والشعور بالظلم.  وهذا ما يقاسيه أبناءنا عندما لا تتوافر للشباب فرص متساوية في التعليم والعمل. هناك درجات من التعليم، بدءا من التعليم الدولي إلى التعليم الحكومي المجاني.  لا بأس من التنوع وليس هذه دعوة إلى إغلاق المدارس الدولية أو المدارس الخاصة، ولكن يجب أن يشعر المواطن العادي الذي لا يملك أن يدخل أبناءه في التعليم باهظ التكلفة أن الدولة توفر له تعليما جيدا لأبنائه، يؤهله أيضا لدخول أفضل الجامعات. وأن من ينال شهادة جامعية يكون قادرا على التنافس الشريف في سوق العمل، أي لا تكون الواسطة هي الباب الذي يفتح للمواطن المجالات المغلقة على غيره.
إن الواقع  يشهد أنه في أعتي الدول التي تعيش على الإقتصاد الحر، هناك فرص متاحة للمجتهدين من الناس دون تفرقة. ها هو ديك تشيني يفخر أن أباه كان طاهيا، ولكنه تعلم وتقلد المناصب ليصبح نائبا لرئيس الجمهورية. ها هو أوباما يبدأ حياته في شظف من العيش، ولكنه يجتهد ويدخل أكبر الجامعات الأمريكية، ويغتنم الفرص ليكون رئيسا.  هل يمكن أن يحدث هذا في بلدنا؟ أين أحلام البسطاء؟  إنها لا تتعدى الحصول على وظيفة، ويقف السقف عند هذا الحد، وقد يمتد بحثا عن فرصة في بلد آخر، حتي لو كان هذا يؤدي إلى إنتهاء الحياة، في حركة غير محسوبة أو مدروسة، ولكنها محاولات للخروج من أرض الوطن إلى حيث ما يعتقدون أن الجنة المفقودة في أرض الغرباء. هكذا يرمي أبناؤنا أنفسهم في محاولات إنتحارية ليدخلوا بلادا لا تقبل هجرتهم. إلى هذا الحد بلغ بهم اليأس والأكتئاب.
إذا أصبح الوطن مجرد مكان نعيش فيه، لأننا قد ولدنا وتقدم بنا الزمن على أرضه، لا نملك أن نحلم فيه بمستقبل أبنائنا، وإذا شعر أفراد هذا الوطن أنهم ليس لهم إرادة تصنع الغد، وأنهم سائرون تبعا لمن يخططون لهم الحياة والمكانة، يصبح الوطن كيانا غائبا عن وعي من يعيشون على أرضه. لا عجب أن تصبح المصلحة الفردية هي الدافع والأساس الذي يحرك الفرد، بصرف النظر عن محيطه العام.  لا عجب بعد ذلك أن يستدر هذا الجاسوس العطف بقوله أنه كان يريد أن يؤمن نفسه وأسرته بمبلغ من المال "فقط". ومن مظاهر عدم الإنتماء أيضا الهجرة إلى الماضي في تلك الإتجاهات السلفية التي تتجاهل الواقع والتي قد يتمخض عنها أنواع متنوعة من التطرف، الذي قد يعبر عن نفسه في الإغراق في الفكر الغيبي، وهجر التخطيط والتفكير الواقعي العلمي، أو الإنخراط في جماعات عنف، تريد أن تدمر، ولا تتطلع إلى البناء.
إن أخلاقيات المنفعة والمصلحة والرشوة والفساد بشكل عام وإنتشارها هي تعبير عن تخلخل تلك الروابط الاجتماعية التي تجعل المجتمع آمنا، ولكن السؤال هو كيف نستعيد "الإنتماء". أحسب أن هذا الشعب في حاجة إلى رؤية للمستقبل يشارك في تكوينها والتمسك بها، تنبع منه، وليس من خلال قوى خارج إرادته. إنه ليس في حاجة إلى شعار "من أجلك أنت"، ولكنه في حاجة إلى دعوة "معا نبني وطننا".  إذا إستمرت الدولة أو الحزب في الإمساك بكل الخيوط بيدها، حتي ولو كان هذا من أجل صالح الوطن، فإن التجاوب مع كل الجهود المبذولة لن يثمر إلا القليل، لأن المصريين أصبحوا لا ينظرون إلى الإنجازات المعلن عنها، بل والملموسة أيضا، ولكنهم يريدون أن يشعروا أن مستقبلهم آمن، وأنهم يعرفون ماهو دورهم في تنمية بلدهم. إنهم مستعدون أن يستحملو اقسوة "الآن" من أجل غد أكثر إشراقا، ولكن كيف يمكن أن يحدث هذا، والفقراء يزدادون فقرا، والأغنياء يزيدون ثراء، والأدهى من ذلك وأمر أنهم عندما ينظرون إلى الماضي القريب يدركون أن آباءهم قد بذلوا الكثير من أجل الوطن، وأنهم لم يجنوا بعد أي ثمار لتضحية الأباء، فكيف يثقون في الحاضر من أجل المستقبل؟  

Tuesday, December 21, 2010

التنوير بين الشرق والغرب : هل يمكن أن يتحالف البرادعي مع الإخوان ؟ د. علياء رافع


في تحدي فكري سألت وأسأل بعضا من المفكرين والمثقفين سؤالا أحسب أنه من الممكن أن يكون موضوعا  لمناقشات واسعة النطاق: لماذا يعتبر الكثيرون أن حركة الإخوان المسلمين حركة تدعو إلى تسييس الدين، بينما الإسلام دين مرتبط  بالحياة في كل أبعاده بما فيها من نظام سياسي؟
تجيء أهمية هذا السؤال لأن من يهاجمون الإخوان المسلمين قد يكونوا محقين إذا ما كان الهجوم موجها إلى جماعة سياسية محددة لها تكتيكها السياسي وإستخدامها للإسلام غطاء لتصل إلى قيادة المجتمع، وهورؤية  تؤكدها  وسائل الإعلام في محاولة واضحة لمحاربة الثقل السياسي الذي تنعم به هذه الجماعة في المجتمع المصري. ولقد إنطلقت مداخلاتي مع هذه الحركة في مقالات عديدة سابقة إنطلاقا من مسلمة أيديولوجية خطيرة، ولم أتعرض للمحتوى الفكري الذي يطرحونه.   إن هذه المسلمة التي وجدت أنها ستقود بالضرورة إلى نسق فكري مغلق،  هي أنهم يتصورون أنهم القوم الذي يمثلون الرسالة الإسلامية تمثيلا مطابقا لما جاء به الرسول (صلعم)، وأن الإختلاف معهم يعني الخروج عن صحيح الإسلام. وأحسب أن أي خطاب ينطلق من هذه المسلمة يخلق صراعا بدلا من حوار، وحربا بدلا من سلام. لأنه إذا تعددت القراءات للنصوص المقدسة، وإدعي كل منها أنه يعبر عن "صحيح الرسالة الإسلامية"، لا بد أنه سيتهم غيره بالهرطقة والإنحراف. إذا تركنا هذا جانبا ورجعنا إلى السؤال الأصلي أليس الإسلام دين حياة؟ وأليس هذا ما يدعو إليه الإخوان المسلمون؟
أردت أن يكون هذا السؤال محكا للتفكير التحليلي الموضوعي، وليس الحكم الجزافي المتحيز. لابد أن نتفهم أن حركة الإخوان المسلمين هي أحد هذه الحركات التي ظهرت  في مواجهة ورد فعل لموجة الحداثة التي تبناها مفكرو مصر في بدايات القرن العشرين. والحداثة كما هو معروف هي تلك التغيرات الثقافية والفكرية التي صاحبت  بزوغ المنهج العلمي والتغير البنائي المصاحب للمجتمعات الغربية بعد الثورة الصناعية، لقد ركزت هذه الموجة الحداثية على إعمال  العقل وفقا لأسلوب علمي بإعتباره الوسيلة التنويرية القادرة على القضاء على الخرافات، وإعتبرت أن النهضة العلمية التي صاحبها نهضة في العلوم الاجتماعية، وتطور هذه العلوم لتؤسس مجموعة متكاملة لدراسة مختلف الإنشظة البشرية من سياسة وإقتصاد، هي سابقة تاريخية. وإعتبروا المنظرون الأوائل  أن الحضارة الغربية بما وصلت إليه من تقدم تقع في قمة هذا التطور، وأن تأثير الفكر الديني سيضعف مع التطور العلمي. وأثبت التاريخ أن البعد الديني ليس مجرد بعد معرفي، بل إن الحاجة إلى إدراك معنى للحياة يفوق الغايات المباشرة ضرورة إنسانية، وبهذا أثبتت تلك النظريات حدودها المعرفية بحركة التاريخ.
كان الغرب في هذه المرحلة أسيرا لفكرة التفوق الحضاري، وهي فكرة إمتزج فيها الواقع بالعنصرية. إذ أن تطبيق المنهج العلمي هو إنجاز هام في تاريخ الإنسانية، ولكنه ليس إسهاما غربيا خالصا، فهو تطوير لما سبقه من إنجازات للحضارات الأخرى، خاصة الحضارة الإسلامية التي أثرت  في مفكري عصر النهضة الأوربية، ثم إكتملت المسيرة في القرن التاسع عشر مرورا بعصر التنوير. وفي الفترة التي كان الغرب يحرز تقدمه الحضاري والعلمي، كان العالم الإسلامي قد بدأ يتقهقر فكريا أثناء الحكم العثماني، وإنعزل فكريا وحضاريا عن حركة التقدم التي كانت تأخذ خطواتها في أوروبا، لم يكن تقهقهره ناتجا من تمسكه بالدين، ولكن نتاج تخليه عن إعمال العقل الذي دعا إليه الإسلام، وهو ما تنبه إليه الشيخ محمد عبده عندما قال ما معناه "أجد في الغرب مسلمين بدون أن يكون دينهم الإسلام، وأجد في بلادي مسلمين لا يطبقون ما دعا إليه الإسلام "
ومع قيام الدولة الحديثة  في مصر وإستعادة التواصل مع الغرب عن طريق البعثات، فإن نهضة جديدة بدأت تظهر في الأفق المصري، وما كاد يبزغ القرن العشرون حتي ظهرت كوكبة من المثفقين والمفكرين التنويريين الذي قاوموا منابع الخرافات والتقاليد البالية التي إصطبغت بصبغة دينية، برز قاسم أمين في دعوته لتحرر المرأة من الجهل وتأكيد قدرتها على التعلم والعمل في مختلف المجالات، وإستخدم طه حسين منهجا علميا في التحقيق التاريخي، كما كتب على عبد الرازق كتابا ما زال يعتبر ثورة فكرية فيما كان يظن أنه بديهيات دينية، إذ ناقش كيف أن الخلاقة ليس أصلا من أصول الدين، ولكنها نظام سياسي تاريخي. وهكذا فإن مصر في بدايات القرن العشرين كانت تموج بحركات فكرية نقدية للخروج من الجمود الفكري إلى التفاعل الحي مع معطيات ذلك العصر، وتقضي على هذا التلازم بين القيادة السياسية والإمامة الدينية، لتؤكد أن الدين الإسلامي لا يتعارض مع الحكم المدني، فليس هناك دولة دينية في الإسلام، وهو ما أصبح متفقا عليه بين كثير من المفكرين الإسلاميين.
 ولا شك أن إعلان تركيا أنها ستسير في ركب الحضارة الغربية، وستتخلي عن الشريعة الإسلامية مصدرا من مصادر التشريع، وتتجه إلى قانون وضعي قد أعطي إنطباعا عاما أن مشروع الحداثة والتقدم لن يسيرا على وفاق مع الأساسيات التي تنظم البناء التشريعي في العالم الإسلامي. ومن هنا ظهر هذا الاتجاه العلماني – نسبة إلى العالم وليس إلى العلم – والذي يرى أن النظم السياسية يجب أن تسير وفقا لقواعد وضعية. ولقد إنطلقت تلك الرؤية العلمانية من تحليل الواقع التاريخي الذي ثبت فيه أن الحكام في كثير من الأحيان يستخدمون الفقهاء ليسكتوا الأصوات المعارضة، ويطلبون من المحكومين الخضوع التام تحت مقولات دينية يستخدمونها في غير سياقها، مثل وجوب طاعة أولي الأمر، وعدم الخروج عن الإجماع، وغيرها. رأي العلمانيون أن يختصروا الطريق ويتجهوا إلى القوانين الوضعية، بدلا من الصراعات الدينية التي تجعل المسلمين يكفرون بعضهم بعضا. ولكن هذا الإختزال في الرؤية، يغلق أمام المجتمعات المسلمة منبعا هاما، خليق بأن يرشد الإنسان إلى ما ينفعه في هذه الحياة وفي الحياة الآخرة. وأصبحت القضية كيف يمكن التوفيق بين إحترام مصادر الشريعة، وفي نفس الوقت قبول الإختلاف، والأخذ بما هو أنفع للناس من خلال دراسة التجربة الإنسانية؟
لقد كانت مصر في طليعة الدول التي أوجدت حلا لهذه المعادلة الصعبة،  إذ الدساتير المتعاقبة منذ عام 1923 وحتى  دستور 1971 المعدل في   1980 و 2005 نلاحظ أن المرونة في تطبيق مباديء الشريعة الإسلامية خاصية مصرية متميزة. سنجد إذن أنه على مر العصور أن  الدستور المصري لم  يتجاهل الشريعة بإعتبارها تراث حضاري هام في تاريخ الشعوب كما فعلت تركيا،  ولا يقف مكتوف اليدين في متغيرات قد لا يجد مرجعية لها في الشريعة، أو قد لا تتواءم مع المصريين ممن يدينون بعقائد أخرى.
كان بزوغ  حركة الإخوان المسلمين في عشرينيات القرن الماضي تأكيدا على أهمية المشروع الحضاري الإسلامي، وهو ما يتواءم مع الثقافة المصرية التي ترى في الإسلام  ليس مجرد  مجموعة من العبادات، ولكنه حضارة مشتركة بين المصريين، وهذا ما قاله نصا مكرم عبيد، ولهذا كان من القلائل الذين ودعوا حسن البنا في مرقده الأخير. ولهذا أيضا جذبت دعوة الجماعة  مفكرين على جانب كبير من الأهمية مثل الشيخ طنطاوي جوهري الذي كان شيخا مستنيرا، رشح لجائزة نوبل، ويجيء تعاون د. محمد البرادعي ذلك أنه قد يتفق معهم في الهدف، ولكنه إتفاق مرحلى لأنه  سيختلف معهم في رؤيتهم أنهم الجماعة الوحيدة المسئولة عن تطبيق الشريعة. وهو بحكم نزعته الليبرالية، منفتح على إختلاف الرأي والرؤية، فإذا كان يدعمهم إنطلاقا من منظوره الحقوقي الليبرالي، إلا أنهم لن يدعمونه في رؤيته أنه من حق الجميع بما فيهم الإشتراكيون والشيوعيون أن يعبروا عن أنفسهم.
إذا كنا في معرض حديث عن مستقبل أمة، فإن الأهداف العملية الواضحة هي التي تؤسس القاعدة الرئيسة التي تحدد إتجاهات التنافس السياسي، وليست الشعارا الأيديولوجية التي  تستخدم عبارات عامة غامضة، علينا أن نتساءل هل نريد أن نواجه الواقع بكل متغيراته ونحاول أن نبني مجتمعا أفضل من خلال دراسة هذا الواقع، أم أننا نريد أن نتجاهل كل المتغيرات ونفرض على الواقع صورة نعتقد أنها "الحل المثالي". قد يكون الدين – بل ويجب أن يكون – ملهما لنا في وضع الأولويات التي نبدأ بها عملية الإصلاح،  ولكن يجب ألا  تستخدم جماعة من الناس "الدين" لبناء شعبيتها وسط العامة،  إننا نتطلع إلى مجتمع يتسابق فيه الجميع للخيرات، أي للفهم والاجتهاد والقراءة في تعاليم الأديان، ويسترشدون بالرغبة في إقامة العدل، لا تحكمهم الحرفية، ولا يسجنون أنفسهم في الأطر الشكلية، ولا يتاجرون بالشعارات. التنوير هو هدف لكل الأديان لأنها قامت جميعها على إحترام العقل، وليس هناك أي تناقض بين الاستفادة من الخبرة الإنسانية في كل العالم، وبين إستلهام مباديء الشريعة، على شرط أن يكون الإجتهاد عملية متواصلة. والحوار مفتوح.  

Tuesday, December 14, 2010

إسرائيل لا تريد السلام وتريد الهيمنة على العالم د. علياء رافع


لقد بات واضحا أن إسرائيل هي التي تتحكم في قرارات الولايات المتحدة وتوجهها في الطريق الذي تريده، وهذا الاستنتاج ليس جديدا على الإطلاق، والكل يعلم أن إسرائيل لا تتنازل عن خططها القريبة أو البعيدة ولا يثنيها عن عزمها أية قوة، حتى لوكانت قوة القطب الأوحد، الذي أخذ يتراجع عن موقعه بشكل سريع.الجديد في الأمر هو أن صورة الرئيس أوباما قد أصبحت صورة مهتزة وضعيفة وهزيلة، بعد أن كان قد بدأ ولايته بشكل قوى، وظن الكثيرون أنه قد انتقل بسياسة الولايات المتحدة إلى عهد جديد لم يسبقه فيه أحد من قبل. ويبدو أن الأمر عندما يتعلق بإسرائيل فإن كل شيء ينهار رأسا على عقب.
إن إستسلام اكبر دولة في العالم إلى القرار الإسرائيلي برفض تجميد المستوطنات، إن كان يدل على شيء، فهو يدل على أنه تخلي عن أسس نشر سلام قائم على العدل. ذلك أن عدم تجميد المستوطنات هو إستمرار في الزحف على أراضي فلسطينية وتهويدها، وتقليص المساحة التي أرتضاها الفلسطينيون لتكون حدودا لدولتهم، على ما في هذا أصلا من ظلم. فمنذ أكثر من ستين عاما، حدثت أكبر عملية قرصنة في التاريخ الإنساني، ولم يهتز الرأي العام العالمي ويوقف هذه العملية، ولم يتحرك قيد أنملة، مشاهدا طرد الفلطسينيون من أرضهم التي سكنوها آلاف السنين.  وأنشأ القراصنة دولة لهم تحت إسم إسرائيل، وإعترفت كثير من الدول بقيام هذه الدولة. وأصبحت لهذه العصابة الباغية شرعيتها كعضو معترف به في الأمم المتحدة، ولم تعد هناك دولة للفلسطينيين أصحاب الحق الأصلي في هذه الأرض. كلنا يعرف هذا التاريخ، ولكن لابد من إستعادة قراءة هذه القصة لندرك مدى الظلم الواقع على شعب يريد حق الحياة، ولكن تتحايل تلك القوى الباغية في حرمانه من هذا الحق.
بعد إثنين وستين عاما هي عمر دولة إسرائيل، لم يعد مقبولا القول بطرد هؤلاء الذين إستوطنوا هذه الأرض وطردوا أهلها، فهناك أجيال قد ولدت وأصبحت في مرحلة متقدمة من العمر، ولم تعرف لها وطنا إلا في هذه الأرض، فما بالنا بالأجيال الشابة، التي لم تعش هذا الصراع على الأرض بالصورة التي شهدها أباؤهم وأجدادهم، ظنوا أن هذه هي أرضهم منذ بداية التاريخ، وأن عودة أبائهم واجدادهم لهذه الأرض هو إسترداد لحق كان قد ضاع منهم. لقد صدقت الأجيال الجديدة هذه القصة، وأصبح لديها يقين أنهم أصحاب هذه الأرض. وأقول دائما أن الخطورة لا تكمن فقط من حيث ما يحدث اليوم من تمسك إسرائيل بكل مشاريعها مهما كان الثمن، ولكن الخطر هو في مستقبل مجهول في ظل دولة ستظل تتمدد مثل الكيان السرطاني لتأكل جسد هذه الأمة. ليس هناك حدود لهذه الدولة، وإذا كان لها حدود بالفعل فهي الحدود التي وضعتها لنفسها على أنها حدود تاريخية "أي من الفرات إلى النيل" ، ولكن التزايد الديموجرافي لليهود، سيحتم على هذه الدولة أن تمتد على حساب الدول العربية المجاورة.
إن هذا الوضوح في الرؤية لما حدث في التاريخ، لا يتناقض مع معالجة الأمر على المستوى الواقعي معالجة تتوخي العدل، وتستهدف الدفاع عن حقوق الإنسان. إدراك الخط الاستراتيجي طويل المدى للدولة الصهيونية لا يتناقض مع مراعاة حقوق الشعب اليهودي الذي ولد وترعرع على هذه الأرض ولم يعرف له وطنا بديلا عنها. وللوهلة الأولى قد يبدو أن هناك صراعا محتوما بين الرؤيتين. إذ أن الرؤية الأولي ترجع إلى التاريخ لتقرأ وتستلهم المستقبل، وتصل إلى نتيجة مفادها إن هذه الدولة قد قامت على الظلم، ولابد من إعادة الحقوق الكاملة لأصحابها، أي لا بد للفلسطينيين إن عاجلا أو آجلا أن يسترودا كل شبر من أرض فلسطين تم إغتصابه، وأما الرؤية الثانية فإن تتعامل مع واقع موجود ألا وهو حياة ثلاثة ملايين يهودي، قابلة للزيادة على أرض فلسطين، عاشوا وتربوا في هذه الأرض، ولن يغادروها، وليس من الإنسانية أن يطردوا منها إلى مكان مجهول، اللهم إلا إذا تم إيجاد مكان بديل غير آهل بالسكان، يذهبون إليه، وهذا لن يحدث لأنه حل خيالي غير مقبول. فما هو البديل إذن؟  إن ما إرتضاه الفلسطينيون الآن من الإكتفاء بالأرض التي كانت لهم قبل عام 1967، لقيام دولتهم هو الحل الواقعي الذي يمكن تحقيقه. وهو حل يمكن من خلاله تحقيق هذا التوازن بين الجانب الإنساني والواقعي، والجانب العملي والحقوقي، مع الإستمرارية في التعاون ونشر السلام بين الدولتين الفلسطينية والإسرائيلية.
ولأن إسرائيل غير جادة في قيام سلام، فهي تخلق هذه التناقضات والإستفزازات المتوالية، وتفرض الأمر الواقع المرة تلو المرة، وكأننا نشاهد اليوم أمام أعيننا ضياع فلسطين مرة أخرى. وترجع رغبة إسرائيل في إستمرار أو خلق أزمة بينها وبين الفلسطينيين من ناحية، وبينها وبين العرب من ناحية أخرى إلى أن هذا الموقف يفيدها على المستوى الداخلي والخارجي. أما على المستوى الداخلي، فذلك ليجعل الشعب اليهودي المتنافر في ثقافاته ينسى خلافاته،  ذلك أن  الشعور بالتهديد الخارجي، ذلك التهديد القائم على تصوير أن المجتمع الخارجي مجتمع متوحش يتربص باليهود كل شر، يساعد على تضامنهم وإتحادهم. ومن ناحية أخرى فإن حالة عدم السلام مع الجيران العرب، يتيح لإسرائيل التمدد كلما أقتضت الحاجة الديموجرافية أو المائية لذلك تحت زعم تأمين وجودها.
ويخلق هذا الموقف للفلسطينين من ناحية وللعرب الداعمين للقضية الفلسطينية من ناحية أخرى وعلى رأسهم مصر أزمة في الوصول إلى تسوية عادلة عن طريق التفاوض. ولهذا فإن الحل الوحيد هو كسب الولايات المتحدة الأمريكية لجانب المفاوض العربي، وخلق رأي عام عالمي لا يسمح بأن تفرض إسرائيل شروطها الإستفزازية والتي تعلم مسبقا أن الفلسطينيين سيرفضونها.  وأقول الولايات المتحدة، لأن إسرائيل تعتمد إعتمادا مباشرا على الدعم الإقتصادي والعسكري للولايات المتحدة، وهي بدونه ستواجه مشاكل هي في غنى عنها. ولذا فإن الولايات المتحدة تملك هذه الورقة الضاغطة من هذا المنطلق.  وهناك أكثر من سبب لتراجع الولايات المتحدة عن موقف متناغم من المطالب العادلة للفلسطينيين، أولها هو إعتماد الحزب الحاكم وخاصة رئيس الجمهورية على دعم اللوبي الإسرائيلي كي يستمر في الحكم، أو حينما يتنافس مع حزب آخر ورئيس آخر قوي، وثانيا لأن الولايات المتحدة قد أصبحت تؤمن إلى حد يقترب من اليقين أن إسرائيل هي الحليف الإستراتيجي الأول لها في المنطقة، لما تتمتع به إسرائيل من حكم ديمقراطي، وقيم تقترب من الحضارة الأمريكية.  وهكذا نجد أوباما الذي وضع العرب عليه آمالهم، يسقط في أن يحتفظ بإصراره على تجميد المستوطنات، خاصة وأن عجلة الوقت قد أصبحت تسرع، وسيصبح يناير القادم معبرا عن السنة الثانية التي قضاها في الحكم، وهو يريد التأييد اليهودي في ترشيح نفسه للمرة الثانية
وفي مواجهة هذا الواقع، نحن  في حاجة إلى خلق لوبي عربي قوي أيضا في الولايات المتحدة، خاصة وأن العرب يتواجدون بكثافة هناك، وفي حاجة إيضا إلى أن يكتسب حكامنا شرعية حقيقية من تأييد شعوبهم لهم، وذلك حتي يحترم العالم كلمتهم، وحتى لا يخشوا الوقوف بجانب الحق، لأن وراءهم شعوب تحميهم. وللأسف فإن الواقع يشهد أن العرب في الولايات المتحدة ينقصهم التضامن والتآلف، وأننا مازلنا نحبو في الطريق الديمقراطي، وقد لا نصل إلى نهاية الطريق، طالما أن الدستور والقانون يتيحان لرئيس الجمهورية أن يظل حاكما إلى الأبد، وطالما أن النظم الملكية لا تسمح بأن نقد يوجه من الشعب إلى الملك أو الأسرة الحاكمة، وطالما أن الشعوب العربية مازالت تعاني من الجهل بتاريخها وحقوقها وتعزف عن الممارسة والمشاركة السياسية. والله المستعان.  

Tuesday, December 7, 2010

ما بعد الديمقراطية د. علياء رافع


أتابع بشغف واحترام ما يكتبه المفكر وعالم الاجتماع الكبير أ. السيد ياسين، وقد لفت نظري تعبيره "ما بعد الديمقراطية"، في مقالتين متواليتنين، أحدهما يوضح بإقتدار للقاريء العادي الشواهد التي تنبيء عن قصور الأحزاب في صورتها التقليدية على الإستمرار في أدوارها التنافسية في ظل إنهيار الأيديولوجيات والنظريات الكبرى. وهذا ماجعل بعض المنظرين الاجتماعيين يتوقعون إزدياد أدوار جمعيات المجتمع المدني في تحريك القوى السياسية أو التأثير على تشكيل البناءات الاجتماعية. أما المقال الثاني فإن يستزيد في التعليق على تعبير "مابعد الديمقراطية" ، موضحا في معرض رده على نقد أحد القراء  ما معناه  أن الهوية الثقافية أمر يتصل بإنتماء شعب أو أمة إلى تراثها الثقافي وشخصيتها التاريخية، وأما  النظم السياسية فهي أمر يخضع للدراسات العلمية للواقع الاجتماعي، وبالتالي فإن ملاحظة التغيرات التي حدثت بعد العولمة،  وتهاوي العموميات والزعم بأن هناك فكر يشتمل على الحقيقية المطلقة، جعل قيام أحزاب سياسية تعتمد على أيديولوجيات ثابته، وتقدم برامج سياسية متناغمة مع أيديولوجياتها أمرا لن يستمبر، مما يستلزم نظاما آخر هو ما أطلق عليه "ما بعد الديمقراطية".
لقد نظر المفكر أ. السيد ياسين إلى "مابعد الديمقراطية"  متوجها إلى ما يمكن أن يحدث في المستقبل، ويمكن أن أقول "المستقبل البعيد"، ذلك أنه على الرغم من إنهيار النظريات الكبرى على السمتوى الأكاديمي، وعلى الرغم من إنتقال البشر والأقكار والمنتجات عبر وسائل الإتصال المختلفة بلا حدود، مما جعل المجتمع الواحد يشهد تعددا لا حصر له في الاتجاهات الفكرية، وسلوك الحياة اليومي،  إلا أنه في حركة مضادة، فهناك تمسك بالأفكار الجامدة، وبحث عن أرض صلبة من خلال الأنسقة الفكرية المغلقة في أنحاء العالم كله، ولقد أشرت إلى هذا في ورقة علمية نشرت في أحد الدوريات الدولية تحت عنوان العولمة والحواجز الثقافية Globalization and Cultural Boundaries، ولذا فليس من المنتظر أن يتوقف التنافس الحزبي القائم على العموميات والمطلقات في الوقت الراهن، ولكن قد يحدث إحلال تدريجي للنظام الحزبي من خلال حركة مجتمع مدني تتوجه إلى إحتياجات المجتمع الفكرية والسياسية والإقتصادية والثقافية بشكل تلقائي، وقد يخلق هذا مناخا لتواجد أحزاب لا ينطلق نشاطها بالضرورة من خلال إطار أيديولوجي، ولكن من خلال برامج خدمية تنافسية تتغير طبيعتها تبعا لقدرتها على إستلهام  رؤية الجماهير ورغبتها. ولكن على أي حال، فإن المفكرين قد بدأوا في إستخدام هذا التعبير، في إشارة خاصة إلى إنهيار المجتمع الأمريكي، خاصة بعد الأزمة المالية التي عانى منها أثناء حكم بوش الإبن.
 ولقد أصبح تعبير "مابعد" تعبيرا يستخدم بكثرة في الأدبيات الاجتماعية، مثل "ما بعد الحداثة"، "ما بعد البنائية"  "ما بعد الوظيفية" ، وهكذا. ويبدو تعبير ما بعد الديمقراطية غريبا على السمع بعض الشيء، ولكن قد بدأ ينتشر بين المنظرين للعلوم السياسية، خاصة بعد مجيء المحافظين الجدد إلى الحكم، في محاولة "لفرض" الديمقراطية، وهو سلوك واضح التناقض مع جوهر الديمقراطية التي تقوم على الإختيار الحر. بالإضافة إلى أن مجيئ بوش للمرة الثانية كان  نكبة بكل المقاييس أدخلت الولايات المتحدة في أزمة مالية، وجعلت مهمة الرئيس الديمقراطي أوباما مهمة غاية في الصعوبة. لم يكن إذن هذا الاختيار في صالح مستقبل الولايات المتحدة. ولذا نجد كولين جروتش :  Colin Grouch أستاذ جامعي متخرح من جامعة لندن يوضح التناقض بين النظام الرأسمالي الحر وبين الديمقراطية، حيث يهدد هذا النظام سلامة وأمان الكثيرين ممن يصبح تهميشهم نتيجة طبيعية لصراع رأس المال الوحشي، بينما الديمقراطية تتطلب توفير الأمان والضمانات الكافية كي يستطيع كل المواطنين أن تكون لهم حقوق متساوية في التعبير عن  رأيهم وطموحاتهم. أما  بيتر باوفو   Peter Baofu, فهو أستاذ من أصل صيني ولد في فيتنام، ولكن إستقر به المقام في الولايات المتحدة،  وفي كتابه Beyond Democracy فإن يتحدث عما وراء الديمقراطية، متنبئا إن الديمقراطية نظام تاريخي تصوره البعض أنه قمة ما وصلت إليه الإنسانية، ولكن هذا النظام أيضا له حدوده وعيوبه، ويتنبأ بأن هناك عصرا قادما لما بعد الديمقراطية.   
وهذه الرؤية  وهي في جانب منها متأثر بما يحدث في الولايات المتحدة وفي الآونة الأخيرة على وجه الخصوص هذا البلد الذي يفخر بأنه قد قام على إحترام الحريات، وأسس أعرق الديمقراطيات، سنجد أنه تحت مظلة الديمقراطية، يقف المحافظون لأوباما بالمرصاد، ليس من أجل صالح بلدهم، ولكن لأطماعهم الشخصية في القدوم مرة أخرى إلى الحكم. ولسذاجة الشعب الأمريكي، ونظرته المحدودة للأمور السياسية، فإن خطة المحافظين في التشكيك في سياسات أوباما الداخلية والخارجية قد أثمرت نتائجها، وانخفضت شعبية الرئيس الأمريكي الأسود، على الرغم من أنه قد جاء بأجندا جديدة ومختلفة وفيها تحدي يصل حد التحول الجذري عن الخطوط العريضة للسياسات الأمريكية السابقة.
هناك إذن التصور المثالي للديمقراطية، وهو الذي يفترض أن صوت الشعب وإرادته هي التي تقود الحركة السياسية في البلد، وذلك من خلال المجالس النيابية التي يعبر أعضاؤها عن القطاعات الأوسع التي يمثلونها. وهذه الرؤية وتنفيذها قد ساعد كثيرا من البلدان أن تسير في طريق التقدم والخروج من عثراتها، لأن شرعية النظام الحاكم تعتمد في المقام الأول على تأييد الجماهير، فإذا خزلها فإن فوى المعارضة تصبح هي البديل الذي يأخذ فرصته في علاج ما أفسده، أو ما لم يستطع معالجته النظام السابق. ومن هنا فإن النظام الديمقراطي يخلق من خلال التنافس بين الأحزاب المختلفة المتطلعة إلى الحكم مناخا يشعر فيه كل مواطن أن لديه القدرة على تشجيع الحزب الذي يجده أصلح أو إحباط الحزب الذي يخذل آماله وأحلامه ولا يقدم لبلده ما تستحقه.  لابد إذن حتي يكون هناك ديمقراطية أن تكون هناك أحزاب سياسية تحمل أيديلوجيات مختلفة، وتضع برامج متنوعة، ولديها القدرات الإعلامية والأمنية التي تسمح لها بأن تجذب إليها أكبر قدر من المواطنين.
وأما على المستوى الواقعي، سنجد أن هناك بلادا تزعم أنها تتبنى النظام الديمقراطي، وذلك لأنها تعترف بالنظام النيابي، وتتواجد المؤسسات التي تدعم هذا النظام، ولكن لا تتحقق الديمقراطية بصورة حقيقية،  وما ذكرناه  قد يكون أحد هذه الأسباب، ولكن هناك أيضا أسباب كثيرة، فقد يلعب الفساد السياسي أو الإقتصادي دوره في تحويل الديمقراطية إلى لعبة، تتم فيها مختلف الحيل والخدع، ويتحكم فيها المال والسلطة وأدوات الإتصال، ويحل الصراع بين الأحزاب محل التنافس الشريف، وتصبح المصلحة الخاصة هي المحرك وراء الشعارات المرفوعة.  أو قد يعود فشل الديمقراطية إلى ما يقوم به الحزب الحاكم من تهميش غير مباشر للقوى السياسية الموجودة في الساحة، وبالتالي تصبح قوى المعارضة طرف في هدم الديمقراطية، مع الحفاظ على الشكل العام لها، وهو ما يجعل مصير الأمة في خطر حقيقي، لأن أي محاولة لتحول الأحزاب السياسية إلى أحزاب قوية، قد يقابلها قمع أو تفتيت. ولا شك أن سيادة الأمية السياسية والثقافية بين شعب من الشعوب عامل في تحويل النظام الديمقراطي من نظام فاعل وقوي إلى نظام يأتي بأسوأ العناصر الموجودة  في المجتتع فيرفعها إلى القمية ويجعلها على رأس هذا النظام، وتكون الديمقراطية في هذا الحال نكبة.
وأما الدول التي تحاول أن ترفع هذه المسافة بين التنظير والتطبيق، فهي دول قد إستطاعت أن ترفع من مستوى التعليم السياسي، ورسخت من إنتماء أبنائها، فجعلت الوطن وإزدهاره هو القيمة الكبرى التي تشعل الأخزاب والمواطنين على حد سواء، وأصبح فيها تداول السلطة هو الواقع الذي تفرضه طبيعة النظام السياسي نفسه، وإرتفعت فيها الأخلاقيات إلى مستوى محاسبة النفس. إن التجربة التاريخية تبين لنا أن النظام الديمقراطي قد نجح في تمكين الشعب، وتقوية إنتمائه في بلدان كثير،  لأنه يشعر أنه في مكنته أن يغير من يحكمونه، وإذا كانت الديمقراطية لم تجيء بالأصلح في كل الأحوال، فإن الشعوب قادرة على إيجاد البديل دائما بطريقتها الخاصة إذا ما إتيحت لها الفرصة. ولكن الخطر الحقيقي الذي يهدد أي أمة أن يكون هناك شكل ديمقراطي دون مضمون حقيقي، هنا تفقد القاعدة العريضة من الجماهير إنتماءها وتعزف عن المساهمة في التغيير السياسي السلمي، وقد تلجأ إلى العنف أو الفوضي القاتلة. ولذا فإن ما بعد الديمقراطية لا يعني إطلاقا الإستهانة بالنظام الديمقراطي من حيث أنه تمكين للشعب كي  يمارس دوره في بناء شرعية نظامية، ولكن المقصود بما بعد الديمقراطية إذن هو إبداع نظام جديد يرفع الخداع الذي ينتهجهه البعض بإسم الديمقراطية، ويمكن الشعب أن يأخذ دوره في المبادرة وتحريك الأحداث.  والسؤال هو في أي مرحلة من مراحل الديمقراطية تمر بها مصر؟  أترك للقاريء أن يجيب على هذا السؤال. 

Tuesday, November 23, 2010

الحج والحياة د. علياء رافع


من المعروف أن الطواف حول الكعبة وكل شعائر الحج التي نقوم بها كمسلمين كانت معروفة قبل الإسلام، ولكن الإسلام قد أعطاها بعدا جديدا في ظل منظومة كلية تدعو إلى ألا يخضع البشر إلا للحق "الله هو الحق"، وألا يتعاملوا إلا مع الله الواحد الأحد، دون أن يرسموا له صورة أو شكل "جل جلاله"، بل يتعاملوا معه من خلال حضور روحي لا يعرفه ولا يفهمه ولا يخبره إلا من آمن بالله حقا لا قولا.  إذن الحج ليس مجرد شعائر نقيمها، ولكن يجب أن يكتسب دلالته من خلال هذا البعد الروحي، وإلا أصبحنا مثلنا مثل أهل الجاهلية الذين لا يدركون دلالة أو معنى لما يفعلون.
والبعد الروحي للحج لا يتوقف عند القيام بالفرض، ولكنه يجب أن يمتد إلى ما بعد ذلك،  فنحن نحمل أكفاننا ونتلفح بها، متجهين إلى بيت الله الحرام، مدركين عقلا أنه تعالي الله، فهو في كل مكان "أينما تولوا فثم وجه الله" وهو سبحانه  لا يحويه مكان، فهو فوق كل  الحدود والقيود، ولكن يصبح بيت الله رمزا يشدنا قلبيا إلى التجمع في وقت واحد – نحن المسلمين – في تلبية للنداء، وإستجابة للدعاء الذي بلغنا إياه رسول الله (صلعم)، وكأننا إنسان واحد وجسد واحد، نحن بني الإنسان بعضنا من بعض، لا فضل لعربي على أعجمي ولا  على أعجمي على عربي إلا بالتقوى. في هذا المكان نخلع كل رداء إجتماعي، ويقف الأغنياء بجانب الفقراء، والوزير جانب البسطاء، لا يعرف أحد أحدا، ولا يتعرف أحد على أحد معتمدا على أي مرجعية دنيوية، فالجميع عباد الله. إن هذا الموقف المهيب في يوم عرفات، وفي كل التجمعات التي تجمع المسلمين في شعائر الحج، كفيل بأن يوقظ في الوعي أهمية أن يحدد الإنسان لنفسه رسالة تنفع الناس على هذه الأرض، فلا يتركها إلا وقد إستطاع أن يقوم بعمل صالح، أو ترك وراءه علما نافعا، أو جاهد في أسرته فأثمر فيها، فأصبحت ذريته صالحة تدعو له، فيستمر عمله وكسبه حتى بعد خروجه من هذه الأرض.
الجج إذن تجربة روحية فردية فريدة،.وفي ظل منظومة الإيمان التي تربط كل عبادة إسلامية بالحياة، يأخذ الحج معاني مختلفة، لن تصبح الكعبة مجرد بناء، ولكنها رمز يشير إلى وحدة الهدف الذي يجب أن تجمع المسلمين، هدفهم أن يكون الحق والعدل وكل القيم النبيلة التي تمثلها رسالة الإسلام هي منشودهم. وأصبحت الدلالة الرمزية التعبيرية التي تشير إلى الكعبة بإعتبارها البيت الموضوع تلفت النظر إلى أن ما ينفع الناس يمكث في الأرض وأما الزبد فيذهب جفاء. أي أن توجهنا في هذا المنسك، وأيضا في الصلاة هو إلى قبلة على هذه الأرض، أهدافا نريد بها خير الإنسان، هي التي توصلنا وتربطنا بما وراء هذه الحياة، وما وراء هذا الوجود المادي من قوى قدسية عليا.
ويصبح رمي الجمرات هو جهاد نقوم به كلما غفلنا عن أن يكون الله من وراء القصد، ويأخذ السعي بين الصفا والمروة رؤية جديدة، حيث تصبح حياة الإنسان هي بحث عما يرويه روحيا، وهو بحث مستمر لن ينتهي، إذ أن الإرتشاف مرة من ذلك النبع الروحي، يدفع الإنسان إلى العودة إليه المرة تلو المرة. وذلك النبع الروحي ليس مجرد تذوق جمالي، ولكنه بحث عن ينابيع الخير داخل القلب الإنساني الذي يجعل الإنسان متجها في فعله وقوله إلى عمل يخدم به الآخرون، متخلصا من هواجس النفس وما تحمله من غل وكراهية وحقد، ونوازع الشر التي تظهر في الغضب والعنف والعداء. ببساطة شديدة يجب أن يأخذ الحج مكانا مستمرا في حياتنا، وتلهمنا رموزه الشعائرية رؤية من خلالها يكون توجهنا دائما إلى الله، من أجل أن نقوم في هذه الحياة بما ينفعنا وينفع الناس، وسنجد أن الصلاة حج مصغر، وتذكرة بكل المعاني التي يذخر بها معنى الحج.
إن العبادات الإسلامية لها خصوصيتها من حيث أنها تنظم للإنسان الوقت وترتبط بحركة الأرض حول الشمس، أو دورانها حول نفسها، فهي بشكل غير مباشر تربط الإنسان بحركة الكون، وتجعله على مستوى عميق في تناغم مع الطبيعة. وهذا التناغم كفيل بأن يخلق سلاما داخليا يجعل رؤية الإنسان للحياة أكثر وضوحا، فيركز ويتوجه إلى هدفه دون تشتت وخداع. وهذه العبادات من ناحية أخرى فيها تذكرة مستمرة كي يعدل الإنسان مساره كلما طرأ عليه طاريء يبعده عن الهدف. 
ومن الملاحظ أن تحول العبادات إلى عادات وإلى فلكلور شعبي، يفقدها هذا البعد الأخلاقي الروحي، وهو التحدي الذي يجب أن نواجهه دائما مع أنفسنا حتى لا نقع في هذه الخدعة، فنظن أننا قد أدينا الفروض لأننا إتبعنا الشعائر، وإذا بالشعائر لا يكون لها تأثير حقيقي علينا، بمجرد أن نؤديها نعود مرة أخرى إلى الدنيا فنجعلها تبتلعنا. ويتصور الكثيرون أن أداء الحج يعني أن كل ذنوب الإنسان قد غفرت وأنه عاد كما ولدته أمه، ولا يدرك أن هناك فرقا كبيرا بين إتمام الشعائر، وبين قلب يهرع إلى موقف الجمع، فيعيش لحظات جلل وهو يحاسب نفسه، وقد إستعرض حياته بكل ما فيها من هنات وذلات وأخطاء، فتاب وأصلح، وأصبحت نيته أن يعيش حياة جديدة في ميلاد جديد. إن هذا الإنسان هو من يمكن أن نطلق عليه أنه قد قام في الحج.  وقد عرفت رجلا كان يذهب إلى الحج كثيرا، ولكنه لا يتورع عن أكل حق الناس بالباطل، ويقول ببساطة شديدة، سأشد الرحال إلى بيت الله وأحج فهو سيغفر لي، ثم يحج، ويعود بعد ذلك إلى سابق عهده. وهناك من يريدون أن يحصلوا على اللقب "الحاج"، حتي يثق فيهم الناس، ولكنهم يخدعونهم ويغشونهم، وهناك غيرهم وغيرهم ممن يأخذون الأمر بشكل سطحي. وقد أصبحت هذه سمة من سمات التدين الذي لا يأخذ من العبادة إلى شكلها. أقول سمة عامة، لأن الناس لو أقاموا العبادات محققين أغراضها في أنفسهم، لتغير العالم الإسلامي تماما، ولنهضت البلاد الإسلامية نهضة لا يجاريها فيها أحد. لأن فلسفة العبادات في الإسلام تجعل الله سبحانه وتعالى حاضرا في كل لحظة في وعي الإنسان، فيكون الإنسان على نفسه رقيبا حسيبا، متقنا لما يقوم به من عمل، متطلعا دائما إلى ما يضيفه إلى الحياة، ليكون لكرته الأرضية أثر دائم مستمر في حياة الناس. ولكن عندما تصبح العبادات هي عادات أو حركات نقوم بها، ظنا منا أننا نرضي الله، والله غني عن العالمين، فإن هذا يأخذنا بعيدا عن الهدف الذي من أجله شرعت لنا تلك العبادة. يترك الطبيب عيادته المزدحمة بالمرضى ساعة أو يزيد ليؤدي صلاة الجماعة، ويزداد الاهتمام بالشكل فيكثرالنقاش حول إرتداء النقاء هل هو فريضة أم فضيلة، وهل الأفضل أن نرتدي الجلباب القصير، أم البدلة، ويختزل الدين في أطر خالية من المضمون. هذا هو حالنا. أما إذا ربطنا كل العبادات بالحياة، وكيفية تأثيرها على رؤيتنا وأدائنا لأعمالنا، وانطلاقنا العقلي والفكري وتفتحنا لنستمع ونتعلم دائما، ولقدرتنا على إقامة علاقة بيننا وبين الله من خلال قدرة على إحياء الضمير فينا، سيتغير حالنا وسيتغير المجتمع كله، فأساس كل الحضارات العظيمة أخلاقيات تحث على الإتقان والخدمة والبذل، ويكون عمل الخير هو الجزاء وهو الجنة الحاضرة.  

Tuesday, November 9, 2010

نهاية التاريخ أم بداية تاريخ: آن للتعصب والعنف أن ينتهي د. علياء رافع



لاشك أن المصريين جميعا قد صدموا من تصريحات تنظيم القاعدة الصادرة من العراق بتهديد أقباط مصر،  ولا يستطيع عاقل أن يفهم ما هي الدوافع التي تجعل جماعة من البشر تتصور أنها الإله الأعظم الذي يجب أن يخضع الكون كله لأوامره، وأن كل من يخالف رؤيته، يحكم عليه بالهلاك والفناء. يخيل إلي وأنا أسمع تلك التهديدات كأننا في فيلم خيالي مليء بالرعب، وعندما أفيق لأدرك أنه الواقع، يزداد إندهاشي أن هؤلاء الجمع يتشدقون بإسم الإسلام، وهو دين التوحيد الذي جعل الحكم بين البشر لله وحده، ونهى عن العنف أوإستخدام القوة لفرض العقيدة "من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر"، "لست عليهم بمسيطر"، وهؤلاء قد نصبوا أنفسهم آلهة مع الله، يريدون أن ينشروا الرعب بين الناس. وحتى إذا كان أقباط مصر إعترضوا على تحول بعض منهم إلى الإسلام، وحاولوا بصورة أو أخرى أن يثنوا هؤلاء عن رغبتهم، فهذا من حقهم، كما هو حق للمسلمين أن يثنوا من يريد أن يتنصر بالإقناع والمناقشة، ويظل إختيار العقيدة حق من حقوق الإنسان، لا بد من إحترامه.
 وإذا كان هذا التهديد خارجيا، فقد يستهتر به البعض، أو يظن أن تكثيف الأمن على الكنائس كفيل بأن يوقف الخطر، ولا شك أن هذه الإجراءات ضرورة وهامة، ولكنها ليست كافية، ذلك أن خطورة هذا التنظيم  تكمن في أنه خفي ،يصعب رصده وتتبعه، فليس له هيكل إداري معروف، أو مكان جغرافي محدد، وأعوانه ينتشرون في العالم أجمع، فهو  يعتمد على أفراد هنا وهناك. ، ووضع هذا التنظيم  نفسه في مكان العداوة مع جميع البشر وجميع البلاد من كل الألوان والاتجاهات، ولهذا فهو تنظيم ليس له عنوان، ولكن له أعوان.
لا بد من صحوة فكرية قوية تهزم هذا الفكر من جذوره، لأن القبض على حفنة من الأفراد هنا أو هناك، بل وشن الحرب على بلد بأكمله مثل أفغانستان، والهجوم على العراق وغزوه، لم يقض على هذا التنظيم، بل جعل مبرراته للعدوان أكثر قبولا عند البعض. ذلك أن الذين أرادوا أن يقضوا على هذا التنظيم، وأعني بهم الولايات المتحدة وحلفاءها،  إستخدموا العنف والرعب والإرهاب وقتل الأبرياء، ولذا فلم يختلفوا كثيرا عن تنظيم القاعدة، بل رسخوا أسلوب العنف في إدارة إسترايتجياتهم. ولذا أتصور أن القضاء على الجذر الفكري الذي يغذي هذا التنظيم لا بد أن يوضع موضع الإهتمام، وكذلك فإن المبررات الداعمة لتواجده يجب أن تدرس دراسة مكثفة، وألا تكون مقاومة الإرهاب بالإرهاب كما حدث على المستوى الدولي. 
على مستوى الأمن المصري، يقلقنى الإتجاه المتشدد، الذي يخلق مناخا مناسبا لنمو مثل هذا الفكر، ويجعل الشباب صيدا سهلا له، ومن ثم فلا بد من أن يشعر الشباب بقدراته الخلاقة، وأن تعود إليه روح الأمل والقدرة على الأحلام الكبيرة. ولا شك أننا مقبلون على مرحلة جديدة من خلال إنتخابات مجلس الشعب، التي نأمل أن تكون حقيقية وصادقة، وأن تعبر بالفعل عن رأي الجماهير العريضة. فالثقة المفقودة بين الناس وبين الحكومة من ناحية، وبينهم وبين صدق العملية الانتخابية برمتها من ناحية أخرى، تبعدهم عن الانخراط الإيجابي في مجتمعهم، وتدفعهم دفعا إلى هذه التنظيمات الإرهابية الخطرة. ومن ناحية أخرى فإن تجديد الخطاب الديني يتطلب أن تفتح أرض الحوار لأكبر قدر من الناس، خاصة من المفكرين، والمهتمين بأثر الشأن الديني على المجتمع من مختلف التخصصات، وليس من دارسي العلوم الدينية فقط.
تواجد هذا التنظيم على المستوى الدولي، وتهديده للأمن يستلزم أن تأخذ الأمم المتحدة دورا جديدا في إقامة العدل الدولي، ونزع فتيل الصراعات المتفجرة في أماكن متفرقة وخاصة في العالم الإسلامي، وأبرزها وأهمها على الإطلاق ما يحدث بين إسرائيل والفلسطينيين.
إن المسئولية الدولية تجاه تنظيم القاعدة أكبر كثيرا من المسئولية المحلية القومية، وإذا كان حل الصراعات حلا عادلا ضرورة سياسية، فإن إعادة تكوين ثقافة إنسانية عالمية تقع على عاتق اليونسكو بالتعاون مع مختلف الأنظمة التعليمية في العالم أجمع، تلك الثقافة تؤكد وحدة المصير الإنساني، وتعمل على ربط البشر بعضهم ببعض مجتمعين على أهداف بناءة، متسلحين بمنهج علمي في التفكير، ومؤمنين بضرورة الحفاظ على خصوصية الحضارات، وإحترام مختلف المعتقدات، ثقافة تنبذ العنف وتقوم على  الحوار لحل الأزمات والمشكلات. إن هذه الثقافة الإنسانية العالمية تكون القاعدة الأساسية التي توجه سياسات الدول، وتوقف الساسة عن غيهم في التلاعب بمصائر شعوبهم من أجل أهداف قصيرة المدى، قليلة الجدوى، وتدفعهم إلى التلاحم مع رغبات الشعوب التي تتوجه إلى العيش في أمن وسلام.
وحتي تكتمل رسالة اليونسكو وغيرها من منظمات الأمم المتحدة، لابد أن ينبثق من داخل البلدان المختلفة تيارات فكرية، تعيد الرؤية في المعتقدات التي تدعو إلى العنف، وتقدم رؤية جديدة تتناسب مع سمو الرسالات السماوية والحكمة الإنسانية التي دعت جميعها إلى المحبة والرحمة بين البشر.  ومسئوليتنا – نحن المسلمين – عظيمة في هذا الاتجاه. لأنه للأسف الشديد فإن هذا التنظيم وغيره يتشدق بإسم الإسلام، والإسلام منه براء. 
أتطلع أن يكون تحقيق هذا الهدف بداية لتاريخ، نرمي فيه وراء ظهورنا تلك الخلافات التي تأخذ شكلا دينيا، نتيجة للفكر المتجمد، وتنطلق فيه الطاقات الروحية الإنسانية التي دعت إلها جميع الأديان، ويتعاون العالم أجمع من أجل القضاء على كل المعوقات التي تقف حجرا عثرة في سبيل الحياة الطيبة للإنسان في كل مكان، فتتقدم الخدمات الصحية لتعين غير القادرين، وتحفظ لكل إنسان كرامته وكبرياءه، وتتعدد المشاريع التنموية التي تتوجه إلى المحتاجين في العالم أجمع، وترتفع بنوعية الحياة التي يعيشونها. إنها حقة لوصمة في حق الإنسانية أن نرى بشرا يموتون جوعا في الصومال وأثيوبيا والصحراء الأفريقية والهند وغيرها في عالم حقق العلم فيه ما حقق، وأتيح للإنسان أن يعيش في رفاهية لم يكن يحلم بها من قبل في ظل تكنولوجيا تتطور كل يوم.  
وأنا هنا أتحدث عن بداية تاريخ وليس نهاية تاريخ كما إعتقد فوكوياما. فعندما كتب فوكوياما بعد إنهيار نظام الحرب الباردة بين القوتين عن نهاية التاريخ، فإنه تصور أن سيادة النظام الرأسمالي سيادة مطلقة هو الحاكم لحركة التاريخ في ذلك الوقت ومستقبلا، ولكن لم تصمد هذه الفرضية طويلا، فهناك نظم أخذت تنمو على الساحة السياسية بعيدا عن الرؤية الأمريكية والقيم التي تتبناها. ظهر المارد الصيني وأخذ ينمو حثيثا حتي أصبحت التجارة العالمية تتكلم صينيا، حتي في الولايات المتحدةنفسها، ظهرت البضاعة الصينية غامرة للأسواق. وتبنت كوريا الشمالية فلسفة  الجوشي Juche  وهي تعني أن الإنسان سيد نفسه وسيد مصيره، وقد أصبح هناك بعدا سياسيا لهذه الأيديولوجية يرسم الطريق أمام كوريا الشمالية في علاقاتها مع الدول الأخرى، ويجعلها قادرة على قبول التحديات الإقتصادية، وإتخاذ المواقف السياسية التي تلاءمها دون خوف. وها نحن نرى بزوع حركة إرهابية دولية خفية، لها طبيعة خاصة، ولكنها موجودة في كل مكان، دون أن يكون لها مكان بعينه، تغزو العقول بأفكار سامة، تهدد أمن وسلام العالم أجمع.
 وأعتقد أن الشعور بالخطر من بزوغ مثل هذه التنظيمات التي تعتمد على أيديولوجيات تساند العنف، قد يكون دافعا للمجتمع العالمي أن يقف متعاونا على تبني رؤية جديدة، وهي تلك الرؤية التي أطرحها هنا، وتغلبني الثقة أنها ليس رؤية فردية، ولكنها حلم يجمع الكثيرين، ومنهم من دعا إليها سابقا مثل تولستوي وغاندي، ومنهم من يدعو إلىها حاليا، ولكن الأمل أن يكون هناك تجمع عالمي يتبني هذه الرؤية التي تتجه إلى الأساس المعرفي الذي يزرع في العقول ترابط الإنسان ويهفو إلى تحقيق السلام للجميع، ويقضي تلقائيا على ذلك التعصب الأعمى الذي قد يقود إلى دمار العالم أجمع بإشعال الفتن والحروب في كل مكان.فهل آن الأوان لنبدأ تاريخا جديدا؟  

Tuesday, November 2, 2010

حتى يتحقق سلام في أرض الأنبياء د. علياء رافع


فلسطين ليست مجرد أرض عربية، ولكنها أرض يحمل ترابها عبق التاريخ، ويشرف بأقدام الأنبياء الذين عاشوا عليها، ولذا فإن إنهاء الصراع على هذه الأرض يشكل أملا لكل المؤمنين بالأديان السماوية ليس في العالم العربي وحده، ولكن في العالم أجمع. بل إن هناك من اليهود الذين يعيشون داخل إسرائيل وخارجها من يحلم بأن ينتهي هذا الصراع، وأن ينتشر السلام بين الجميع، سلام قائم على إحترام حقوق الفلسطينين واليهود من الإسرائيليين. هذا ما أكده خطاب إلكتروني تلقتيته من صديقتي الأمريكية د. شارون ميهارس، مرسل إليها من سيدة يهودية من الناشطات في حركة "الصوت اليهودي من أجل السلام". ولقد قمت بترجمة هذا الخطاب، وأدرجته في هذا المقال، وفيه تلخص  هذه السيدة رؤية هذه الحركة، ولقد لفت نظري أن هذه الرؤية تكاد تكون متطابقة مع الأصوات العربية المعتدلة في رسم حل سلمي تفاوضي من أجل إنهاء الصراع،
وتجيء أهمية هذه الرسالة في أنها تدعم الرؤية التي تبنيتها والتي تقوم على أهمية إختراق المشكلة على مستوى غير ذلك المستوى الذي تواجدت فيه، إي بالتفكير في حل لا يتمركز حول "القضاء على الدولة الصهيونية"، ولكن يتجه نحو كيفية القضاء على الفكر الصهيوني داخل وخارج دولة إسرائيل. وبالطبع لن يكون الحوار الفكري أو الفلسفي هو الأداة الوحيدة لتحقيق هذا الهدف، ولكن أتصور أن نزع التبريرات الواهية التي ترتكز عليها إسرائيل في ممارسة سياساتها العنصرية يصبح هو الهدف، وبالتالي يمكن وضع المواطن الإسرائيلي المخدوع بعقدة الإضطهاد اليهودية في شك من الأسس الفكرية التي تبرر لإٍسرائيل أعتداءها المتكرر على شعب مغلوب على أمره، وكذلك يشجع الأقلام والمنظمات اليهودية خارج إسرائيل أن تعيد النظر في تلك المسلمات المطلقة التي تضع إسرائيل في كفة والعالم أجمع في كفة أخرى،، متصورة أنه بدون بناء دولة قوية لن يتحقق لليهود الأمن والسلام، ومن ناحية ثالثة فإن كسر مبررات العدوان يمكن أن يستقطب إتجاه رأي عام عالمي شعبي يؤيد حق الفلسطينين في دولة آمنة وأرض يعيشون عليها في سلام، وتعاد صياغة السياسات الدولية المتعلقة بهذه القضية.  
ومن الجدير بالذكر أن أضيف هنا أن هذه الرؤية  قد وجهتني إلى الموافقة على الإشتراك في كتاب يجمعني مع صديقتي د. شارون ميهاريس ويهودية من إسرائيل وأخرى من الولايات المتحدة. وأرجو أن تظهر ترجمة هذا الكتاب قريبا.  حاولنا – نحن المؤلفين -   أن نبعث رسالة إلى العالم  مفاداها أن السلام العادل يقوم على الإعتراف المتساوي لحقوق الإنسان، وندعو أن يتنبه العالم إلى مغبة الصراع والحروب التي ستؤدي في النهاية إلى تدمير هذا الكوكب، وتدمير أنفسنا. لقد حاولنا أن نبعث هذه الرسالة من خلال دراسة في التفكير الديني شرقا وغربا، والإسهامات الإنثروبولوجية والنفسية في دراسة الإنسان، لنصل لنتيجة مؤداها أن الإستعلاء والشعور بالأفضلية، يؤدي إلى العنصرية ومن ثم عدم الإعتراف المتساوي للحقوق بين الشعوب، وبدا واضحا أن هذه هي المشكلة الحقيقية التي تقف وراء إضطهاد اليهود للفلسطينيين، وإستهتارهم بحقوقهم الإنسانية التي أقرها القانون الدولي، وكل مواثيق وإعلانات حقوق الإنسان. ويتفق معي في هذه الرؤية يهود داخل وخارج إسرائيل. وهذا الخطاب المترجم في هذا المقال مثال يجب أن نتفاعل معه ونشجعه:  تبدأ الناشطة اليهودية رسالتها كالتالي:
"كان لسفر أسرتي إلى الولايات المتحدة الأمريكية قبل بدء  الحرب العالمية الثاينة أثره في بقائنا أحياء، في الوقت الذي شهدنا فيه قتل أهلنا الأقربين في المحرقة "الهولوكست".  وسبب هذا حزنا عميفا لأجدادي الذين حولوا حزنهم إلى محاولة لتأسيس دولة، كان أملهم أن تحقق الأمن لليهود،  وبفضل هذه القصة أأردت أن أوجد عالما يرفض أن يظل صامتا في مواجهة أي نوع من الإضطهاد. ووهبت نفسى مثل الكثيرين للقيام بكل ما يمكن القيام به حتي أدفع الخطوات قدما نحو قيام سلام عادل للإسرائيليين والفلسطينيين، وأن أعترف أن كل الشعوب على درجة واحدة من الإنسانية المتساوية.  وإذا بي  ألاقي وغيري ممن ينتمون إلى "صوت اليهود من أجل السلام" أن منظمة مقاومة التشهير Anti –Defamation League وضعتنا في قائمة المنظمات العشرفي الولايات المتحدة المعادين لإسرائيل، وحكمت علينا أننا لسنا يهوديين بالمعنى الكامل للكلمة. ولهذه المنظمة أقول، أنكم لا تتحدثون نيابة عني، أو عن أسرتي، أو عن مجتمعي. ولكل من يدعم عمل  "الصوت اليهودي من أجل السلام" أقول إنه أمر جوهري أن نعتقد في القيم العالمية للحياة الإنسانية، وليس في هذا أي مجال للمناقشة. وعملنا من أجل حقوق الإنسان يقوم على أساس رؤية تحقيقها لكل الناس. "
وتستمر الكاتبة لتدرج الأمور الجوهرية بالنسبة لصوت اليهود من أجل السلام: 

Tuesday, October 26, 2010

الحوار مازال مستمرا مع رئيس جامعة عين شمس د. علياء رافع


لا أخفي على قارئي أنني ترددت كثيرا أن يكون موضوع مقالي عن رئيس جامعة أعمل بها، لأنه قد يكون هناك قيما غير متوازنة، قد تشكك في صدق ما يقال، أو من يقول، ولكنني تغلبت على هذا التردد، لأننا في حاجة إلى إلقاء الأضواء على كل ما هو إيجابي في هذا المجتمع، والحاجة إلى أن نتكاتف جميعا أيا ما كانت إنتماؤتنا الحزبية أو الفكرية، يجعمعنا هدف واحد، وهو أن نشارك في صنع مستقبل مشرق لمصر.واليوم ومع إدراكي بإنتماء رئيس الجامعة للحزب الوطني، وتحفظاتي على كثير من سياسات هذا الحزب وإشتراكي في الرؤية التي يتبناها د. البرادعي، إلا أن تسجيل ما أراه إيجابيا في أسلوب القيادة الذي يتبناه د. ماجد الديب رئيس الجامعة ضرورة، لا حكما على هذه الشخصية، ذلك أن هذا الحكم المبكر ظلم لأي قيادة في بداياتها، لأن الإنجازات لا تظهر إلا بعد مرور وقت كاف.  ولكن لا شك أن وجوده في هذا الموقع في ذلك الوقت مكسب للعملية التعليمية في جامعة عين شمس، وهو ما تكشف لي مبدئيا من هذا الحوار الذي عقد في كلية البنات، وهي كلية جمعت أسماء كبيرة في عالم الفكر والعلم، منها د. يونان لبيب رزق، ود. عبد الوهاب المسيري، وغيرهم الكثيرون.     
أبدأ بتسجيل إندهاشي المبدئي عندما علمت أن رئيس الجامعة سيقيم حوارا مع طالبات الكلية، وأن أعضاء هيئة التدريس مطالبون أن يتواجدوا في هذا الحوار. كنت مندهشة لأنها سابقة لم أشهدها من قبل، بل ولم أر رئيس الجامعة السابق مرة واحدة في أي لقاء مع أساتذة الكلية. ومع ذلك كنت على وشك أن أحجم عن الحضور،لأنني أثمن وقتي، وحسبت أن هذا اللقاء هو نشاط صوري كما تعودنا في كثير من الأحيان، ولكن عندما طلبت مني العميدة شخصيا ضرورة تواجدي في هذا اللقاء، ولإحترامي لشخصها، قبل تحسبي لمركزها، فإنني حرصت على أن أكون متواجدة قبل الميعاد بوقت كاف، وعندما مر الوقت ولم يظهر رئيس الجامعة إلا بعد ساعة من الميعاد المعلن عنه، شعرت بالتوتر، وحسبت أن يوما من أيام العمل قد ضاع بالفعل. وأخيرا جاء رئيس الجامعة ومعه وكيل الجامعة لشئون الطلاب د. العوام، وعدد من مساعديه. بدأت الاحتفالية، ولم تهدأ نفسي إلا بعد أن بدأ الحوار، وأخذت الطالبات يسألن  على  إستحياء، والأساتذه يرفعون أيديهم في جرأة مطالبون بالكلمة، وتنحاز العميدة للطالبات، ولكنها لا تحرم الأساتذة كذلك، وورئيس الجامعة يدير الحوار ويتجاوب مع الطالبات ويظهر إحترامه لهن، ويشير إلى ضرورة التعامل معهن بود وتفهم، ضاربا بنفسه مثلا لهذا، ومقاوما كل الإتجاهات والانتقادات السلبية نحو الشباب وإتجاهاته التي أبداها عدد محدود من أعضاء هيئة التدريس، وإذا بالساعتين تمران بسرعة فائقة، وتبدل شعوري بالضيق الذي غمرني في أول اللقاء، إلى شعور بالتفاؤل، ومن هنا جاء تصميمي أن أسجل إيجابيات هذا اللقاء.
أولا: الإهتمام بالطلاب  وتشجيعهم على مخاطبة القيادة العليا للجامعة مباشرة بدا لي أنه تغيير أساسي في رؤية العلاقة بين القيادة، والفئة التي نريد أن نقدم لهم الخدمة، حيث أنها هدمت تلك الحواجز الهرمية، التي تصيب الإنسان باليأس والإحباط،  هذا إلى بالإضافة إلى أن أسلوب الخطاب كان به التشجيع الذي يغذي سياسة التمكين، التي هي ضرورة للشعور بالإنتماء للمؤسسة التعليمية التي ينخرط فيها الطلاب، ومن ثم إلى المجتمع. وهذا هو الأسلوب الذي يجب أن تتسم به أي قيادة في أي موقع، هذا بالإضافة إلى ضرورة تغيير نوعية العلاقة بين الأستاذ الجامعي والطلبة من علاقة تتأكد فيه المسافات، وتصدر فيها الأوامر الصارمة، إلى علاقة من الإقتراب الإنساني، والإستماع الصادق، وتحفيز الطالب على التعبير عن ذاته، والثقة فيها.  
ثانيا: لقد ضرب خطاب رئيس الجامعة على وتر حساس للغاية، ألا وهو فتح الباب أمام الطالبات وأعضاء هيئة التدريس للدلو بدلوهم في مناقشة حرة عبرت عن إمكانية المشاركة في تحسين أوضاع جامعة عين شمس. أقول أن هذا وتر حساس لأننا في بلدنا الأم الكبيرة مصر، قد سحبت من تحت أقدامنا هذه القدرة، وأصبح المواطن المصري لا يرى له أي دور في رسم القرار، والمشاركة في إتخاذه. فهناك عوائق حقيقية تهدد أمن المواطن المصري، مثل إمتداد قانون الطواريء على مدى ما يقرب من ثلاثين عاما، ومهما أكدت الجهات المعنية أنه لا يستخدم إلا في حالات تهدد الأمن القومي، إلا أن المواطن العادي يحجم عن المشاركة السياسية بكل أطيافها، تجنبا للمخاطر التي يمكن أن يتعرض لها. هذا بالإضافة إلى الوهن في الحياة الحزبية، وعدم الثقة في نزاهة الإنتخابات.  في ظل هذا الجو الخانق، جاءت قرارات رئيس الجامعة الفورية بإدراج عدد من طالبات الكلية في برامج فعلية لإنشاء قناة فضائية للجامعة، وغيرها من الأنشطة المستقبلية، ظهرت  بارقة أمل في أن الحوار ليس صوريا، وليس دعائيا، ولكنه حوار فاعل. ولكن ما أتمناه أن يمتد هذا الأثر خارج أسوار الجامعة، وأن يكون الطلبة قادرين على إختيار تياراتهم السياسية والحزبية، دون خوف من تهديد أمني.
ثالثا: تحدى رئيس الجامعة  روح البكاء والشكوى التي نلقاها في كل مكان، ووضع المسئولية على أجيال الشباب في خلق حاضر أفضل، ومستقبل أكثر إشراقا، وذلك برؤية تنويرية ترى أن الهدف من التعليم هو إعداد طالب متميز في عالم يذخر بالتنافسية، مؤكدا على الشخصية المتكاملة القادرة على التفاعل مع معطيات القرن الواحد والعشرين. ولعل من أبرز الخطوات من أجل تأهيل الطالب لهذا التميز هو برنامج التطويرالمستمر والتأهيل للإعتماد، الذي يتم في ظل منظومة متكاملة لتحسين التعليم في مصر، ولكن ليسمح لي رئيس الجامعة الموقر أن أذكر له أمرا بديهيا، قد أشفقت على نفسي من إثارته في كل  لقاء خاص بجودة التعليم في مصر، ألا وهو أن الخطوة الأولي في أي تحسين المؤسسة التعليمية تبدأ بالإرتفاع بكفاءة أعضاء هيئة التدريس علميا، وذلك عن طريق تخصيص ميزانية مناسبة للإشتراك في المؤتمرات الدولية وتسهيل إجراءات هذا الإشتراك، وتوفير البيئة الداعمة داخليا للأستاذ ليكون وقته مستثمرا داخل الكلية.
رابعا: أشار رئيس الجامعة إلى أهمية القدوة، ومرة أخرى فقد ضرب على وتر حساس، ذلك أن القيم الأخلاقية الأصيلة في تدهور مستمر، وإذلال الأستاذ للطالب معنويا ظاهرة موجودة في الجامعات المصرية، وهي تحطم ثقة الطالب في نفسه، بل وتحوله إلى شخصية مهزوزة، أو قد تكون آلية دفاعه عن نفسه هو أن يصبح شخصية مكررة من الأستاذ الذي كان يشكو منه. لا أريد مثلك يا سيدي أن أركز على السلبيات، ولكن الإهتمام بإنشاء جيل واثق من نفسه كما أشرت، يتطلب أن تتوافر له البيئة الداعمة لذلك، بدءا من المرحلة المبكرة في روض الأطفال، وخلال كل مراحل التعليم ما قبل الجامعي، وصولا إلى التعليم الجامعي. وبقدر ما يدمي قلبي أن أراني عاجزة عن فعل شيء في هذا الشأن، بقدر ما أتمنى أن تكون هناك وسيلة لتغيير هذا الواقع، ولنفكر جميعا كيف؟
خامسا: التركيز على أن العلم قيمة عليا، وأن النقد الذاتي هو السبيل إلى التحسن المستمر، نقطتان متصلتان وهامتان لا بد من تزكيتهمما، وهما دعامتنا من الأخلاقيات التي نشأت على أساسيها الحضارة المصرية، التي يستلزم الإنتماء إليها اليوم، ألا نقف متشدقين بها، ولكن أن نبني عليها.  
أعتقد إن من يشرق الأمل في وجدانه في ظل ما تمر به بلدنا من أزمات وما يواجهنا من تحديات هو من يستطيع أن يرى أفقا قد لا يراه غيره، وأحسب أنني من هؤلاء الذين يحتمون بالأمل حتي يمكن أن نؤدي مهمتنا في هذه الحياة على أكمل وجه،  وهو أمل لا يخضع فقط للتحليلات الإقتصادية والسياسية والاجتماعية على أهميتها، خاصة وأن أستاذ الجامعة لا بد أن يكون مؤمنا  بالمنهج العلمي وأهمية التشخيص قبل العلاج، وإنما نوع الأمل الذي يملأ نفسي والذي رأيته يملأ وجدان رئيس جامعة عين شمس أ.د. ماجد الديب هو أمل من نوع آخر،  فهو يعتمد على الثقة في الشباب، ولذا فإنه أعطي من وقته الثمين أكثر من ساعتين في حوار مع طالبات كلية البنات، حرص فيها أن يستمع وأن يتفهم ويشجع هذا النشء الذي إمتلأ قلبه بالخوف والتشكك ويقف بقوة مع من يشككون في قدرات شبابنا وما يقال عن إستهتاره أو تطرفه.
ويبدو أن هذا النوع من الأمل موجود في قلوب الكثيرين، ولكن أن يكون موجودا في رئيس جامعة، فهذا يعني الكثير،  لأنه من هذا الأمل يمكن أن ينشر الشعور الإيجابي في المحيط الجامعي الذي يترأسه، ومن خلال هذا الأمل أيضا يمكن أن تصبح أعقد المشكلات منظومة قابلة للتفكيك ومن ثم الحل. وهذه الروح هي ما تحتاجه القيادات في كل مجال، لأنها الروح التي تمكن من حولها أن يعمل بكل طاقاته، ويعطي من كل ما يملك للكل. 
.  وثقتي في الشباب، وهذه الثقة ليست حلما، ولكنها حقيقة أعيشها مع طالباتي، ومع من يشاروكنني الأنشطة الثقافية المختلفة التي تجمعنا. وعلى الرغم من أن هناك كثيرا من المعوقات التي لا يستطيع أن ينكرها إلا أعمى أو جاهل، تقف حجرة عثرة في إنطلاقة هذا الشعب، إلا أن ما يذخر به القلب من أمل هو الوجاء من الإحباط واليأس.

Tuesday, October 19, 2010

ما زال النيل متدفقا بالعطاء : في ذكرى رحيل محمد السيد سعيد د. علياء رافع


إهتزت كل مشاعري وأنا أري عملاقا في قامة الأستاذ سيد ياسين يقدم إسهامات د. محمد السيد سعيد في ذكرى رحيله بكل التقدير والموضوعية، وبلغ به التأثر حدا جعله يتوقف عن الكلام. وتحولت كلمات الأستاذ وعبراته التي جاهد في التحكم فيها  إلى سميفونية رائعة تضرب أنغامها خارج حدود القاعة التي اجتمعنا فيها، وتتواصل مع تاريخ مصر الحضاري، وقامتها الشامخة، وثرائها الإنساني. إنها سيمفونية بدأت من عمق التاريخ، وتتواصل مع سريان النهر في أرض مصر مؤكدا أن مصر لن تموت، وأن النهر البشري المصري سيستمر متدفقا بالعطاء دون توقف.
لم تكن مصر هبة النيل، بل كانت هبة أبنائها الذي إستئنسوا النهر، وأقاموا على ضفاف هذا النهر حضارة هي بداية لعطاء متواصل للإنسانية. حضارة مصر ليست حكرا على أبنائها، ولكنها ملك للعالم أجمع، اجتمعت فيها الأخلاق والعلم والإيمان، الفن والعمارة والإبداع بكل أنواعه. كان الأجداد يرسون قواعد للنمو والتقدم، ولم يتصوروا أننها سنغني ونشدو بما قاموا به، دون أن نضيف إليه، ونطوره، ونخرج للعالم بعطاء متواصل وحضارة متجددة. ولكن عندما يظهر الرواد والمفكرون في كل المجالات على مر  العصور، فإنهم يأخذون المسيرة إلى الأمام، ويستمرون في التغلب على الأحراش الفكرية التي تمنع تدفق النهر الإنساني إلى مساره ليروي أرض القلوب والعقول، ويعود بمصر إلى مكانتها الحضارية التي تستحقها. وفي ذكرى محمد السيد سعيد، المفكر المصري الجريء رغم ما كان يرتسم علي قسماته من هدوء، والثائر رغم كلماته الموزونة المتأنية، اجتمع لفيف من المفكرين، متجهين لا إلا التطنيب والإثناء على هذا المبدع، ولكن من أجل إحياء فكره بمناقشة ما قدم والانتفاع به والإضافة إليه 
في هذا المكان في جريدة نهضة مصر منذ عام، وبعد أن فجعني خبر رحيل د. محمد السيد سعيد،  قلت لنفسي ولقرائي أن الشهداء لا يموتون، ذلك أن هذا الرجل  كان شاهدا على عصره، ومتخذا من القلم الحر سلاحه المغوار يدافع به عن حق التعبير، حتى لو كان من يدافع عنهم مختلفون معه في الرأي والرؤية، يدافع عن حق الحياة، منبها الحقوقيين والتنفيذيين أن من يترك الفقر ينهش في جسم الأمة، ولا يهتم بهموم البائسين المطحونين، فإنه يخترق حقا أساسيا من حقوق الإنسان. ذلك أن حقوق الإنسان عنده لم تكن مجرد شعار يرفعه، ولكنها كانت برنامجا متكاملا يدعو إليه. لم يكن هذا الرجل ينظر إلى مكسب سريع، أو إبراز لشخصه ولذاته، ولكنه دفع ثمنا باهظا لجرأته وإعلانه عما يؤمن به، فدخل السجن ولاقي من التعذيب ما لاقي. 
وقدم الأستاذ الموسوعي الذي لا يحتاج مني إلى تعريف أوإشادة، فهو أستاذ الأساتذة، وصاحب الرؤية الواسعة والنظرة الثاقبة لما يدور هنا وهناك، محليا، وإقليميا ودوليا، ويضرب مثلا مستمرا في تواضع العلماء والانفتاح على المعرفة بلا حدود، إنه الأستاذ سيد ياسين. إن تلك العلاقة الإنسانية بين جيلين، والتي نمت وترعرت من خلال حب مصر، والبحث الرصين المنهجي عن الإستفادة والإفادة  من العلوم الإنسانية بشمولها وإتساعها ورحابتها، تعدت العلاقة الشخصية بين فردين، وأصبحت مثالا للتجمع الإنساني الذي يتوثق من خلال وحدة الهدف وصدق النية، وعلمية المنهج.
ويكفيني في هذه العجالة أن أنقل خطاب د. محمد السيد سعيد  إلى المصريين في الكتاب الذي قام بتحريره تحت عنوان حكمة المصريين ، إصدار مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان. فهو يقول: " لقد آن الأوان لوقف عذابات هذا البلد وإنهاء بؤسه وضعفه، آن الأوان لأن نمنح هذا البلد مناعة حقيقية ضد غوائل الزمن وافتراء الطغاة من الداخل والخارج. آن الأوان لأن نقطع دابر اليأس ونعيد الأمل ببريقه وروعته إلى مصر والمصريين. آن الأوان لأن نستعيد لمصر سعادتها ومجدها وسؤددها وأن نصنع مستقبلا يليق بالبلد الذي ولدت فيه الحضاة وإبتدأ فيه التاريخ"  إنها صرخة أطلقها إلى جيل الشباب الذي عليه مسئولية الأخذ بزمام الأمور، والسير قدما بخطى واثقة، مزحزحا كل ما يشدنا إلى تقديس الماضي، والرجوع إلى الوراء.
وتأكيدا لهذا الإتجاه فإنني أقول لطلابي دائما أن إعتزازنا بالأهرامات يستلزم منا أن نتلقى الرسالة التي أراد أجدادنا أن يرسلوها إلينا عندما أقاموا هذا الصرح الذي تحدى الزمن، ومازال لغزا نبحث عن سر بنائه. وينظر إلي الطلاب وهم في حيرة من أمرهم، وهل يتكلم الجماد؟ أقول لهم ليس الفخر أن نتشدق بالكلمات عن أجدادنا، ولكن الأهم أن نتعلم منهم. لقد إستطاعوا أن يصنعوا هذه المعجزة بالتضامن والمحبة، فلم يكن الهرم مجرد قبر لحاكم، ولكنه تعبير عن وحدة أبناء النيل في هدف واحد. ولهذا فإننا إذا توحدنا على هدف نهضة مصر، حتي لو إختلفنا في الرؤى، فإننا يمكن أن نصنع المعجزات.
 والهرم الذي نريد أن نبنيه اليوم ليس هرما من حجارة نضعها جنبا إلى جنب، ولكنه تجمع للمصريين ليواجهوا التحديات الداخلية والخارجية، ولا ينتظروا تغير القيادات حتي يتغير المجتمع، بل إن التغير يجب أن يبدأ دائما من القاعدة، لا تثويرا لها كما يدعو البعض في إتجاه العنف، أوالعصيان المدني، ولكن من خلال إيقاظ الوعي الذي يجعل كل فرد منا مسئول عن الكل، وأجد أن المفكر الألماني إيمانويل كانط كان محقا عندما قال "تصرف كما لو أنك تشرع للعالم أجمع"، وهي نفس الفلسفة التي قامت عليها حضارة مصر "الإصلاح الأخلاقي بإحياء الضمير"، ذلك أن الفساد ينتشر ويتفشى لأنه أصبح القانون الحاكم، وليس الإستثناء الانحرافي، بدءا من الإهمال في القيام بالمسئوليات المهنية، وانتهاء إلى بيع أرض مصر بأبخس الأسعار، والتهاون في ثرواتها، وعدم التفكير في مستقبلها. إن المسئولية الملقاة على عاتق كل المصريين في هذه اللحظات الحاسمة، هو أن يكونوا على قدر من الشجاعة في مواجهة كل أنواع الفساد حولهم، بدءا بمراقبة أنفسهم، والتعالي عن رؤية مصالحهم الشخصية في اختياراتهم لمن يمثلهم. ذلك أن أي قيادة سياسية هي إفراز للفكر العام في المجتمع. مجرد الرفض للواقع، هو أحد آليات تغييره.
إن الهرم الذي نريد أن نبنيه اليوم لن يتم بناؤه إلا إذا تخلصنا من رواسب التفكير في القدرة على "إمتلاك الحقيقة" وفرضها على الآخرين، فهذا حقا هو الحجر العثرة التي تقف أمامنا متمثلة في أيديولوجيات متعددة، كلها يستبعد الآخر ويتخذه عدوا، ويحب أن نزيح هذا الحجر بالفكر النقدي، وإتاحة الفرصة لكل الأصوات والرؤي إلى التفاعل، ولنترك تلك الثنائيات التي تفرق ولا تجمع، والتي تضع دائما الحقيقة في لونين "ابيض وأسود"، متجاهلة كل ألوان الطيف ومشتقاتها. حقا مازال المنهج الديالكتيكي لهيجل  له فاعليته في التقدم الإنساني على أرض الواقع عندما يتاح للإنسان الحر أن يعبر عن رأيه، وأن يخرج من تقوقعه داخل مصالحه الخاصة، وتجمده الفكري، ويقبل أن يكون ناقدا لما يظن أنه الحقيقة، ليصل إلى رؤية أكثر نضجا ونماء، بإستكمال الرؤية من خلال النقد والفكر الآخر. إنها روح الإبداع التي يبشر بها محمد السيد سعيد، منتظرا أن تزدهر في الأجيال الشابة، المتطلعة إلى إختراق الصعب، واكتشاف الطريق.
لقد كان محمد السيد سعيد تجسيدا لهذه الروح التي لم تتوقف عن محاولة البحث عن السبل المتعددة في كل الأفكار، حتي إحتار في تصنيفه المحللين، لأنهم تعودوا أن يقسموا الاتجاهات بخطوط واضحة فاصلة، ولم تكن شخصيته لتقبل التقولب أو التقوقع. هذه الروح لم تمت برحيل أحد أبناء النيل من المصريين، ولكنها ستظل متجددة ومستمرة، وأقولها بملء الصوت "مصر ما زالت بخير"، ومستقبل مصر في أيدينا، في أيدي هذا الشعب، وليست في أيدي الحكام. فعلى الرغم من تلك النغمات البائسة اليائسة، والسطور السوداء المتشائمة، فإن ضوء الأمل وإشراق المستقبل يتسلل ببطء وهدوء إلى أرواحنا المعذبة، عندما نرى شخصية مصرية أصيلة ومبدعة تتجدد وتحيا وتبعث في أبناء مصر. وليس هذا تجاهلا للواقع بكل ما يذخر به من مشاكل وعقبات، ولكنه مواجهة لهذا الواقع بالعمل وليس بالكلمات. . يرحل فارس ولكن رحيله يفجر بركان العطاء في القلوب والعقول. تتحول الكلمات إلى طاقة ملهمة، وإلى عمل رصين يتجه نحو هدف واضح الملامح، كلنا يريد نهضة مصر. 

Tuesday, October 5, 2010

خواطر أولية عن الفتن الطائفية وقضية الإنتماء د. علياء رافع


إنشغل الرأي العام المصري بما قاله الأنبا بيشوي عن القرآن، وبيان مجمع البحوث الإسلامية في هذا الصدد، وتعليق البابا شنودة على ماحدث.  ولقد تم إحتواء الأزمة في الظاهر على الأقل، ولكن لا بد من إثارة الأمر بصورة أكثر عمقا، فهناك إحتقان خفي بين المسلمين والمسيحيين، ويزيد إنتشار التيار المتشدد على المستوى القاعدي الطين بلة. ولعله يجب أن ندرك أن هذه الفتن المتوالية هي إنعكاس لوضع عام يجب مناقشته والخوض فيه بكل صراحة. وحتي يمكن أن يزيل هذا الإحتقان فيجب أن نرى الأمر على مستوى  آخر غير المستوى الذي ظهرت فيه. وهذا ليس قولي ولكنه قول ألبرت أينشتين، الذي أوجد بالفعل منهجية فاعلة في فك الصراعات والخلافات بكل أنواعها.
وتطبيقا لهذه المنهجية، فإنني أثير بعض الخواطر الأولية في هذا الشأن، وأتصور أن أحد العوامل الأساسية  التي ساعدت وتساعد على إضعاف روح  الوحدة بين المصريين مسيحيين ومسلمين، يرجع إلى ضعف الإنتماء إلى الجذور الحضارية المشتركة التي تجمع كل المصريين، والتي كانت تسود بشكل طبيعي على مر التاريخ المصري، حتي في أحلك اللحظات ظلاما، كما كان الحال في عصر المماليك.  ويعود هذا الضعف أولا إلا الجهل بتاريخنا المصري وعدم معالجة هذا التاريخ من خلال رؤية الإستمرارية وليس التقطع, فنحن عادة أو أطفالنا خاصة ينظرون إلى المصريين القدماء على أنهم "آثار" من عهد سحيق، مثلهم في ذلك مثل أقوام لا تمت لنا ولا نمت لهم بصلة، ولا نركز على أن هذه الحضارة العظيمة قامت على إتقان العمل الذي هو قيمة مستمرة لا ينبغي أن تنقطع، وقامت على مراقبة النفس التي هي خطوة عظمي في التطور الإنساني، واكتشاف جديد كما قال هنري برستيد في تاريخ البشرية. ذلك أن الإلتزام بقيم الجماعة قبل نشأة هذه الحضارة العظيمة، كان ناتج من ضرورات إقتصادية معيشية كما يقول علماء الإنسان.  وقد تطور الوعي والإدراك إلى إكتشاف الضمير مع الإيمان بالبعث والجزاء في حياة قادمة. وقد توصل الإنسان المصري إلى كل هذا قبل الأديان  التي جاءت لتؤكد الإيمان بالآخرة، وتحس على العمل في الدنيا لعمارتها وتطويرها، وجعلت من العمل عبادة.  يجب إذن أن تبني مناهجنا الدراسية وبرامجنا الإعلامية على ترسيخ هذا الوعي بتلك الجذور الأخلاقية الإيمانية المشتركة، ليس فقط بين مسيحي مصر ومسلميها، بل بين كل مسلمي ومسيحي العالم. إضافة إلى أننا كمصريين لنا عادات وتقاليد مشتركة تجمعنا، ولانكاد نميز بين هذا وذاك إلا في أماكن العبادة المختلفة.
وأحسب أن التركيز على الأسس الأخلاقية الإيمانية الجوهرية المشتركة ستبعد بنا عن الخوض في المسائل العقائدية المختلفة، والتي هي مسئولية كل إنسان أمام نفسه، ولا ينبغي أن نضعها موضع مناقشة أو محاولة إقناع، لأنها تؤخذ على أنها قضايا مسلم بها، ومصدق عليها من جانب كل جماعة دينية، تبعا لما نشأ عليه أفرادها، وما تلقوه من تعاليم, آمنت عليها وبها الجماعة. وهذا هو الخطأ الكبير الذي وقع فيه رجل الدين المسيحي لأنه حاول أن يبرهن على صدق عقيدته بإستخدام آيات من القرآن، أجمع المسلمون على تفسيرها بصورة قاطعة تخالف عقيدة المسيحيين، وقد يقبل المسلمون تأويلات من علماء مسلمين، حتي لو جنحت إلى قراءة غير معهودة من قبل، وقد يرفضوها أيضا، ولكن الأمر لن يتعدى أن يكون هناك "خلاف في الرؤية"، أما إذا جاء التفسير ليخدم عقيدة أو رؤية قوم مختلفين في العقيدة، تصبح هناك حساسية مفرطة، خاصة وأن كل فريق يتربص بالفريق الآخر في ظل جو مشحون بالتفكك، لأن التركيز على ماهو مشترك مفقود. فإذا حاول البعض التشكيك في صدق بعض هذه الآيات، يصبح الأمر شديد الخطورة، وهو ما دعا مجمع البحوث الإسلامية إلى إصدار بيان صارم يضع فيه الخطوط الحمراء التي لا يجب تخطيها.
وأحسب أن هذا التفكك الطائفي – إذا جاز القول – هو أيضا أحد مظاهر التفكك العام الذي أخذ ينخر في جسم المجتمع، والذي جعل المصلحة الفردية تأخذ الأولوية بالنسبة للمصريين، خاصة وأن هناك تخاذل ويأس من أي إمكانية لتكافؤ في الفرص بين المواطنين – ليس المسيحيين والمسلمين – ولكن من له علاقة بأصحاب النفوذ، ومن ليس له علاقة بأحد. فإذا أضفنا إلى هذا أن المجتمع أخذ يسير في طريق التمييز بين أفراده  على مستويات عدة، لأدركنا كيف أن هذا من الممكن أن يؤدي إلى بناء حواجز نفسية عميقة بين أفراد المجتمع وكلنا يعلم أن خريجي الجامعات القومية أقل فرصة في الحصول على العمل من خريجي الجامعات الأجنبية. ولذا فإنه حتى مبرر الحفاظ على مجانية التعليم أصبح هراء، لأن الأًصل هو توفير فرص متكافئة للغني والفقير في الإعداد العلمي والمهني، وهو ما كان يؤدي إلى حراك إجتماعي صاعد، ولكن الشهادة الجامعية لم تعد صالحة لتوفير فرصة عمل، بل وأصبحت البطالة أكثر شيوعا في المتعلمين، لأنهم – على الرغم من مواردهم المحدودة فإنهم  يأنفون من القيام بأعمال لا تتطلب تأهيلا علميا. التعليم  مثال واحد من العديد من الأمثلة التي أدت إلى التفتت  والتفكك الإجتماعي، وغياب الوعي بالوطن الجامع الذي ننتمي إليه والذي يجب أن يعيش في وعينا. وأصبح المشترك بين أبناء هذا الوطن، هو الخوف وانعدام الثققة والاعتماد على القوة كل على حسب تعريفه وإمكانياته، حتي لوكانت قوة البلطجة.  وفي هذا الجو المشحون، يصبح "المختلف دينيا" أو حتي المختلف مذهبيا في داخل العقيدة الواحدة مصدرا للتهديد والخوف. وهو ماجعل إختفاء "كاميليا" قضية أثارت المسيحيين، والمسلمين أيضا، بينما كان السبب لا يتعدى أمورا عائلية خاصة في علاقة كاميليا بأسرتها، وهكذا نجد أننا أمام مواقف طبيعية وعادية، ولكنها سرعان ما تثير زوبعة عاتية، لأن هناك نارا خامدة، مهيئة للإشتعال مع أي قدوم ريح ولو بسيطة.
ومع غياب هذا الإنتماء إلى مصر تاريخا وحضارة وحاضرا ومستقبلا وسكنا ومأوى وقيما وأملا، تظهر بدائل أخري تربك الوعي الوطني، فتجد موجات التطرف المسلم والمسيحي بيئة صالحة للنمو، حيث يدعي بعضهم أن الأمل لمصر هو إحياء الخلاقة الإسلامية، والعودة إليها بأسرع ما يمكن، ويتبنون أفكارا سلفية، تهددنا بالرجوع إلى الوراء والخروج من حركة التاريخ والبناء، ويدعي بعضهم أن الأقباط هم أهل مصر الحقيقيين وأن المسلمين واردون ومحتلون. وقد أتاح الإنترنت لهؤلاء وهؤلاء مجالا للنزال، والمواقع كثيرة ومتنوعة. ولن يتواجد لهذه الأصوات صدى إذا ما حاولنا أن نعيد لمصر وجهها المشرق، ليس بالخطاب الديني وحده – على أهميته – وتأكيد ما هو مشترك في العقيدة بين المسيحيين والمسلمين من إيمان بالله وبالحياة الآخرة والأخلاق الطيبة، ولكن بخلق بيئة إجتماعية أقتصادية سياسية صالحة، وإيقاظ الوعي بمعنى مصر بالعلم والدراسة والثقافة، فلا يصبح الإيمان فكرة، ولكن أساسا للسلوك، ولا تصبح الأخلاق وعظا، ولكنها ممارسة في الحياة.
التصدي للفتنة الطائفية ليس بالحديث وحده، وليس بإنتهاز الفرص للدفاع عن "حقوق الأقباط"، أو "إثبات وجود مشكلة فكرية عند المسملمين"، وهذا هو محاولة لتأكيد المشكلة وليس حلها. إن من يظن أن الدفاع عن حقوق الأقباط هو مفتاح لحقوق الإنسان، يزيد الفتنة إشتعالا، وأما من ينظر إلى أهل مصر من منظور مشترك مدافعا عن حقوقهم الاجتماعية والسياسية والإنسانية فإن هذا هو المدخل الحقيقي للإقتراب والتقارب. والمصارحة والمواجهة مع الواقع.  وكذلك فإن الإعتراف بوجود مشكلة تطرف الفكري عند المسلمين، والتغلب عليها بالوعظ والإرشاد وحده لن يحل هذه المشكلة، ولكن إدراك الجذور التي أدت إلى دخول هذا الفكر ليجد بيئة صالحة لنموه، هي أولوية عملية،   وهذا هو المنهج الذي يجب أن يأخذ به من يريد أمن وأمان هذا الوطن،أي  ألا نحل المشكلة عند الوقوف عندها، ولكن نذهب إلى مستوى آخر من الرؤية لنصل إلى غايتنا. 

Tuesday, September 28, 2010

همام والشخصية المصرية د. علياء رافع


عاش معنا همام في رمضان وإستمر في الوجود، بكل ملامحه وكلماته وأخلاقياته ودعاباته. إذ لم ينته المسلسل عند إنتهاء مشاهدته، وإنما هو مستمر في وجدان من شاهده بما عبرت عنه الشخصيات من مواقف، وأخلاقيات، وصراعات، وانتصارات وهزائم.  ولم يكن هذا النجاح إلا نتيجة لجدية وإتقان وتناغم بين كل من شارك فيه، وبلغ أداء يحيى الفخراني ذروة تفوق فيها على نفسه.  هذه البساطة التي تبلغ حد الإعجاز في التعبير عن تلك الشخصية، جعلت المشاهد ينسى أن هناك يحيى الفخراني، وشيخ العرب همام، وأظن أن هذا التفوق يعود ليس فقط لبراعة الفنان، ولكن لأن شيخ العرب بشخصيته التي تمزج بين الخلق الرفيع وبين القوة، بين الإخلاص والحنكة السياسية، بين الإيمان واحتواء أبناء الوطن من المسيحيين واالشعور معهم بالأخوة والمحبة دون تفرقه، كل هذه الصفات وغيرها تعيش في أعماقنا ، ولقد عبر الفنان يحيى الفخراني عن تلك الأصالة المصرية الكامنة في أعماق كل واحد منا، لأنه واحد من المصريين.
وبلغ الفنانون الذين إشتركوا في هذا العمل قمة تفوقهم. وأزعم أن كل من قام بدور في هذا المسلسل سيكون أمام تحد قاس في أعماله المستقبلية.  لم يشدني المسلسل فقط لموضوعه وتعريفه بجزء من تاريخ هذا الوطن، ولكن أمتعني كذلك اللمسات الإنسانية التي زخرت بها كل حلقة، وأعتقد أنني يمكن أن أشاهد هذا المسلسل مرة ومرات، من أجل متعة التذوق لفن راق وأداء عال، وإنسانيات رفيعة، سواء كان ذلك في علاقة همام مع ابيه أو أخيه، أو زوجتيه، وأبنائه، وقومه، أو في تلك العلاقات المتشابكة من حب عميق لعاشق يحترق قلبه، ولكن لا يخبو نور هذا الحب، بل يظل وهاجا مضيئا، فتخرج منه نغمات وكلمات، يعيش فيها ومعها المحبون والمتصوفون على السواء. ونهتز لهذا الصراع الإنساني الذي يعتمل في قلب الشيخ إسماعيل الذي عبر عنه عبد العزيز مخيون بإقتدرا، لقد ارتبط مع إبن عمه شيخ العرب برباط وصفه أنه مثل اللحم والعظم في الجسد الواحد، ولكن تلك النوازع والأهواء وسوء الظن يعتمل في قلبه، ويعكر صفو هذه الحميمية، إنها طبيعة البشر، إنه الضعف الإنساني الذي يهددنا جميعا، والذي يجب أن نعيد حساباتنا مع أنفسنا دائما، حتى لا ننزلق في أوهام تجعلنا نخسر أقوى العلاقات وأفضلها في حياتنا، بل وقد يتعدي هذا الخسران الأمر الخاص، ويذهب إلى الأمر العام. ويمتزج الكوميدي مع الدراما في وصف الحياة اليومية التي تعيشها الضرتان في علاقة متأرجحة ما بين الغيرة الطبيعية لعاشقتان لرجل واحد، والتعاطف الإنساني، بل والصداقة والحميمية بينهما
نلمح تلك اللمسات الإنسانية في الحياة اليومية لذلك المجتمع الصغير، الذي يكثر فيه العبيد، ولكنهم مكرمون، وليسوا مسخرون أو مستعبدون، ولهذا فإن إخلاصهم وحبهم وتفانيهم في الخدمة يجيء تلقائيا، لأنهم يعتبرون انفسهم جزءا ونسيجا من هذه الحياة ومن الأسر التي يعيشون فيها ومعها، ولا يعتبر هذا تزييف لوعي، لأن طبيعة المجتمع وأسلوب الحياة فيه جعلت السيد والعبد علاقة لا تقوم على القهر ولكن على الحب والإخلاص، فتصبح كلمة عبد غير ذات دلالة، ولكنها تعبير عن إحتواء أسرة لفقراء لا يملكون قوت يومهم.
 وأما بولس فهو الكاتب والمعلم في نفس الوقت، هو الشخصية التي تذخر بالجدية وإتقان العمل، ولا تتهاون بأي قدر لأي مستيب أو مستهتر. إنها الصفات التي خلقت الحضارة المصرية بشموخها وكبريائها وسموها.  والعلاقة بين بولس – الذي ينتمي كلية إلى أهل مصر القدماء- وبين العربي همام الذي نزح من المغرب وإستقر في مصر، فأصبح مصريا عربيا علاقة لا نشعر فيها بإغتراب بين هذا وذاك، أو إستبعاد من أي نوع، ولكن إمتزاج طبيعي تلقائي وحميمية أصيلة ليس فيها أي إدعاء أو أي إيحاءات بأفضلية من عربي على مصري أو مصري على عربي لإختلاف الأصل أو الدين.
هذه المسلسلات الهادفة لا تقطع الوقت ولا تقتله، وإنما هي قيمة مضافة لكل مشاهد، وليسمح لي القاريء أن آخذ من شخصية همام مثالا لإبراز سمات للشخصية المصرية، على الرغم من لقبه "شيخ العرب". هذا اللقب الذي جاء تمييزا  للهواريين بأصولهم وانتسابهم إلى الرسول، وبين المماليك الذين جاءوا إلى مصر كعبيد، لا يكاد يعرف لهم أصل، ولا بلد، فكلمة مماليك تطلق بشكل عام، مشيرة إلى هؤلاء الذين ليس لهم أصول أو جذور في مصر، ولا تمييز في هذا اللفظ بين مملوك أسود أو أبيض أو أصفر، فكلهم مماليك. وعلى الرغم من أن القبيلة التي جاء منها همام قد نزحت من المغرب، إلا أن إستقرارها في مصر، قد أكسبها صفات خاصة، إمتزجت فيها القيم الدينية الإسلامية الصوفية، بأخلاقيات المصريين وتوجهاتهم. 
ولذا فإن أهمية هذا المسلسل ترجع ليس فقط إلى أنه لفت الانتباه إلى شخصية تاريخية لها أصالتها ودورها الوطني، ولكن لأنه أعاد إلينا إحساسا عميقا بالإسلام الذي عبر عنه المصريون، لأنهم إستقبلوا هذه الرسالة بحب وتقدير وتحولوا إليها تدريجيا لأنها عبرت عن الإيمان الذي ملأ قلوبهم منذ فجر التاريخ، وهو أقرب ما يمكن إلى الرسالة السمحاء التي جاء بها الرسول (صلعم) لأنها ترتكز على الإيمان القلبي، وليس الشكلي، والتي ينتج عنها خلق رفيع لا يعرف الغدر والخيانة. فليس هذا ما يعبر عنه القيم التي تنقل إلينا إفتراء على الإسلام  عبر القنوات الفضائية، وعبرت عنه موجات العائدين من البلاد العربية، وليست هذه الرؤية هي تلك التي تستخدمها جماعات تسييس الإسلام. سبغ ذلك الإيمان التلقائي على شخصية همام السياسية طابعا خاصا، حيث امتزج الإيمان والإخلاص والقيم، بالحصافة والتخطيط للنصر دون تعارض. وهو ما يفسد النظرية السياسية التي رسمها ميكافيللي والتي تقوم على الغدر وتبرير الوسيلة غير الأخلاقية في سبيل الوصول إلى الهدف.
سنجد أيضا أنه إيمان لا ينجرف نحو الشعوذة والدجل، ويفرق بين إتجاه صوفي خالص يؤمن بالغيب ويشعر بالحضور الإلهي، وبين أفكار لا يقبلها العقل أو المنطق. وهزنا الشيخ سلام من الأعماق، ببراءة الطفولة، وعمق الإيمان، والمنطق العفوي الخالي من تأثيرات الأعراف والزيف الاجتماعي الذي ينحاز تلقائيا إلى قيم إنسانية رفيعة تنحاز للحب، حتي لو كانت الأعراف تقف أمامه، ويري الحق حقا والباطل باطلا دون إلتباس، فيكون وهو الأقل ذكاء وانتماء إلى الحياة الدنيا، ناصحا لأخيه الأكثر حنكة وتجربة وقدرة، وعندما تختفي شخصية الشيخ سلام بإنتقاله إلى عالم البقاء، يفقد همام تلك البوصلة الأخلاقية التي كانت تنير له طريقه، ويقع في أخطاء تقوده تدريجيا إلى الهزيمة.  
وعلى الرغم من الفاصل التاريخي الذي يقف بيننا وبين همام (شيخ العرب) إلا أنه شخصية قريبة نكاد نلمسها ونراها،  بل وندرك مدى إفتقادنا لها، وشوقنا إليها. أين نحن من هذا الشموخ والاعتزاز بالذات القائم على إعلاء قيم الصدق والأخلاص والوفاء، وقد أصبحنا نعيش في جزر منعزلة، لا تحركها إلا المصلحة الذاتية، دون نظر إلى المصلحة العليا للوطن؟ ما الذي حدث للشخصية المصرية، كيف فقدت أصالتها؟ إنها أسئلة في حاجة إلى دراسات وليست دراسة واحدة، ولكن همام يوقظ فينا الحنين الدفين إلى هذه الشخصية. لقد أصحبت  ثقافتنا غريبة علينا، لأننا سرنا في مسيرة لا نتنمي إليها ولا تنتمي إلينا، ليس تقليلا من شأننا أو شأنها، ولكن لأننا تدريجيا قد فقدنا الثقة بأنفسنا.
 ويقدم هماما مفهوم غاية في العمق للقيادة، لأنه يكتسب قوته من إحترام قومه له وتقديرهم وثقتهم فيه، مما يلزمه أن يكون أمينا معهم، أو ما نطلق عليه اليوم ملتزما بمبدأ الشفافية. لا يخفي عنهم خافية، ويتجاوب مع آمالهم وأحلامهم. فهو لا يعيش في برج عاجي معزول عن الناس، ولكنه يعيش وسطهم وبينهم، يستمع إليهم ويأخذ بنصحهم. وإذا كانت القرارات الإستراتيجية التي يأخذها تكون منفردة، ولكن مع ذلك فإنه يتحمل المسئولية الكاملة لنجاح أو فشل هذه القرارات. قيادته تتسم أنها ما يمكن أن نطلق عليه اليوم العلاقة الأفقية في القيادة، حيث لا يوجد هيراركي، وإنما تكون قوة القائد إنعكاسا لقوة الشعب، وهذا عكس العلاقات الرأسية التي تجعل قوة القيادة في السيطرة وإضعاف القاعدة الشعبية العريضة.  إنه أيضا الأسلوب الذي لم نفهمه عن العلاقة بين حكام مصر في عهد القدماء المصريين وبين شعبهم،  وتصورنا أن كل حكام مصر كانوا نسخة مكررة من فرعون الذي أعلن نفسه إلها على شعب مصر واضطهد بني إسرائيل، والدراسات في المصريات تنفي هذا النوع من التعميم، ذلك أن الحكومة المركزية كانت ضرورة من أجل تنظيم شئون المصريين الذي إعتمدوا على النهر لتسير بهم الحياة، ولم يكن هذا يعني أنهم مضطهدون أو مسخرون، وإنما  كان فرعون يمثل لهم رمزا لإقامة العدل، يحكم بإسم حورس.  ومع ذلك لم يخل الأمر من خيبة أمل هنا وهناك لأن أي حاكم هو إنسان قد لا يعبر عن تلك المثل التي يتطلع إليها المصريون. وما نحتاجه اليوم هي صفات أخلاقية لقائد مثل همام، يقوى من إمكانيات شعبه، ويرضخ لما يريدونه، حتي لو طلبوا منه أن يتخلى عن القيادة. حينئذ سيكون رضوخه تكريما له، وليس تقليلا من قدره، لأنه سيكون على ثقة أن هذا الشعب قادر على إختيار من يعبر عنه، وتكون هذه الثقة مبنية على حصاد من التفاعل الذي يكون قد أقامه مع الشعب، فساعده على النضح السياسي.
لم يكن همام شيخ العرب مسلسل قد إنتهي، ولكنه قضية قد بدأت.