Tuesday, December 7, 2010

ما بعد الديمقراطية د. علياء رافع


أتابع بشغف واحترام ما يكتبه المفكر وعالم الاجتماع الكبير أ. السيد ياسين، وقد لفت نظري تعبيره "ما بعد الديمقراطية"، في مقالتين متواليتنين، أحدهما يوضح بإقتدار للقاريء العادي الشواهد التي تنبيء عن قصور الأحزاب في صورتها التقليدية على الإستمرار في أدوارها التنافسية في ظل إنهيار الأيديولوجيات والنظريات الكبرى. وهذا ماجعل بعض المنظرين الاجتماعيين يتوقعون إزدياد أدوار جمعيات المجتمع المدني في تحريك القوى السياسية أو التأثير على تشكيل البناءات الاجتماعية. أما المقال الثاني فإن يستزيد في التعليق على تعبير "مابعد الديمقراطية" ، موضحا في معرض رده على نقد أحد القراء  ما معناه  أن الهوية الثقافية أمر يتصل بإنتماء شعب أو أمة إلى تراثها الثقافي وشخصيتها التاريخية، وأما  النظم السياسية فهي أمر يخضع للدراسات العلمية للواقع الاجتماعي، وبالتالي فإن ملاحظة التغيرات التي حدثت بعد العولمة،  وتهاوي العموميات والزعم بأن هناك فكر يشتمل على الحقيقية المطلقة، جعل قيام أحزاب سياسية تعتمد على أيديولوجيات ثابته، وتقدم برامج سياسية متناغمة مع أيديولوجياتها أمرا لن يستمبر، مما يستلزم نظاما آخر هو ما أطلق عليه "ما بعد الديمقراطية".
لقد نظر المفكر أ. السيد ياسين إلى "مابعد الديمقراطية"  متوجها إلى ما يمكن أن يحدث في المستقبل، ويمكن أن أقول "المستقبل البعيد"، ذلك أنه على الرغم من إنهيار النظريات الكبرى على السمتوى الأكاديمي، وعلى الرغم من إنتقال البشر والأقكار والمنتجات عبر وسائل الإتصال المختلفة بلا حدود، مما جعل المجتمع الواحد يشهد تعددا لا حصر له في الاتجاهات الفكرية، وسلوك الحياة اليومي،  إلا أنه في حركة مضادة، فهناك تمسك بالأفكار الجامدة، وبحث عن أرض صلبة من خلال الأنسقة الفكرية المغلقة في أنحاء العالم كله، ولقد أشرت إلى هذا في ورقة علمية نشرت في أحد الدوريات الدولية تحت عنوان العولمة والحواجز الثقافية Globalization and Cultural Boundaries، ولذا فليس من المنتظر أن يتوقف التنافس الحزبي القائم على العموميات والمطلقات في الوقت الراهن، ولكن قد يحدث إحلال تدريجي للنظام الحزبي من خلال حركة مجتمع مدني تتوجه إلى إحتياجات المجتمع الفكرية والسياسية والإقتصادية والثقافية بشكل تلقائي، وقد يخلق هذا مناخا لتواجد أحزاب لا ينطلق نشاطها بالضرورة من خلال إطار أيديولوجي، ولكن من خلال برامج خدمية تنافسية تتغير طبيعتها تبعا لقدرتها على إستلهام  رؤية الجماهير ورغبتها. ولكن على أي حال، فإن المفكرين قد بدأوا في إستخدام هذا التعبير، في إشارة خاصة إلى إنهيار المجتمع الأمريكي، خاصة بعد الأزمة المالية التي عانى منها أثناء حكم بوش الإبن.
 ولقد أصبح تعبير "مابعد" تعبيرا يستخدم بكثرة في الأدبيات الاجتماعية، مثل "ما بعد الحداثة"، "ما بعد البنائية"  "ما بعد الوظيفية" ، وهكذا. ويبدو تعبير ما بعد الديمقراطية غريبا على السمع بعض الشيء، ولكن قد بدأ ينتشر بين المنظرين للعلوم السياسية، خاصة بعد مجيء المحافظين الجدد إلى الحكم، في محاولة "لفرض" الديمقراطية، وهو سلوك واضح التناقض مع جوهر الديمقراطية التي تقوم على الإختيار الحر. بالإضافة إلى أن مجيئ بوش للمرة الثانية كان  نكبة بكل المقاييس أدخلت الولايات المتحدة في أزمة مالية، وجعلت مهمة الرئيس الديمقراطي أوباما مهمة غاية في الصعوبة. لم يكن إذن هذا الاختيار في صالح مستقبل الولايات المتحدة. ولذا نجد كولين جروتش :  Colin Grouch أستاذ جامعي متخرح من جامعة لندن يوضح التناقض بين النظام الرأسمالي الحر وبين الديمقراطية، حيث يهدد هذا النظام سلامة وأمان الكثيرين ممن يصبح تهميشهم نتيجة طبيعية لصراع رأس المال الوحشي، بينما الديمقراطية تتطلب توفير الأمان والضمانات الكافية كي يستطيع كل المواطنين أن تكون لهم حقوق متساوية في التعبير عن  رأيهم وطموحاتهم. أما  بيتر باوفو   Peter Baofu, فهو أستاذ من أصل صيني ولد في فيتنام، ولكن إستقر به المقام في الولايات المتحدة،  وفي كتابه Beyond Democracy فإن يتحدث عما وراء الديمقراطية، متنبئا إن الديمقراطية نظام تاريخي تصوره البعض أنه قمة ما وصلت إليه الإنسانية، ولكن هذا النظام أيضا له حدوده وعيوبه، ويتنبأ بأن هناك عصرا قادما لما بعد الديمقراطية.   
وهذه الرؤية  وهي في جانب منها متأثر بما يحدث في الولايات المتحدة وفي الآونة الأخيرة على وجه الخصوص هذا البلد الذي يفخر بأنه قد قام على إحترام الحريات، وأسس أعرق الديمقراطيات، سنجد أنه تحت مظلة الديمقراطية، يقف المحافظون لأوباما بالمرصاد، ليس من أجل صالح بلدهم، ولكن لأطماعهم الشخصية في القدوم مرة أخرى إلى الحكم. ولسذاجة الشعب الأمريكي، ونظرته المحدودة للأمور السياسية، فإن خطة المحافظين في التشكيك في سياسات أوباما الداخلية والخارجية قد أثمرت نتائجها، وانخفضت شعبية الرئيس الأمريكي الأسود، على الرغم من أنه قد جاء بأجندا جديدة ومختلفة وفيها تحدي يصل حد التحول الجذري عن الخطوط العريضة للسياسات الأمريكية السابقة.
هناك إذن التصور المثالي للديمقراطية، وهو الذي يفترض أن صوت الشعب وإرادته هي التي تقود الحركة السياسية في البلد، وذلك من خلال المجالس النيابية التي يعبر أعضاؤها عن القطاعات الأوسع التي يمثلونها. وهذه الرؤية وتنفيذها قد ساعد كثيرا من البلدان أن تسير في طريق التقدم والخروج من عثراتها، لأن شرعية النظام الحاكم تعتمد في المقام الأول على تأييد الجماهير، فإذا خزلها فإن فوى المعارضة تصبح هي البديل الذي يأخذ فرصته في علاج ما أفسده، أو ما لم يستطع معالجته النظام السابق. ومن هنا فإن النظام الديمقراطي يخلق من خلال التنافس بين الأحزاب المختلفة المتطلعة إلى الحكم مناخا يشعر فيه كل مواطن أن لديه القدرة على تشجيع الحزب الذي يجده أصلح أو إحباط الحزب الذي يخذل آماله وأحلامه ولا يقدم لبلده ما تستحقه.  لابد إذن حتي يكون هناك ديمقراطية أن تكون هناك أحزاب سياسية تحمل أيديلوجيات مختلفة، وتضع برامج متنوعة، ولديها القدرات الإعلامية والأمنية التي تسمح لها بأن تجذب إليها أكبر قدر من المواطنين.
وأما على المستوى الواقعي، سنجد أن هناك بلادا تزعم أنها تتبنى النظام الديمقراطي، وذلك لأنها تعترف بالنظام النيابي، وتتواجد المؤسسات التي تدعم هذا النظام، ولكن لا تتحقق الديمقراطية بصورة حقيقية،  وما ذكرناه  قد يكون أحد هذه الأسباب، ولكن هناك أيضا أسباب كثيرة، فقد يلعب الفساد السياسي أو الإقتصادي دوره في تحويل الديمقراطية إلى لعبة، تتم فيها مختلف الحيل والخدع، ويتحكم فيها المال والسلطة وأدوات الإتصال، ويحل الصراع بين الأحزاب محل التنافس الشريف، وتصبح المصلحة الخاصة هي المحرك وراء الشعارات المرفوعة.  أو قد يعود فشل الديمقراطية إلى ما يقوم به الحزب الحاكم من تهميش غير مباشر للقوى السياسية الموجودة في الساحة، وبالتالي تصبح قوى المعارضة طرف في هدم الديمقراطية، مع الحفاظ على الشكل العام لها، وهو ما يجعل مصير الأمة في خطر حقيقي، لأن أي محاولة لتحول الأحزاب السياسية إلى أحزاب قوية، قد يقابلها قمع أو تفتيت. ولا شك أن سيادة الأمية السياسية والثقافية بين شعب من الشعوب عامل في تحويل النظام الديمقراطي من نظام فاعل وقوي إلى نظام يأتي بأسوأ العناصر الموجودة  في المجتتع فيرفعها إلى القمية ويجعلها على رأس هذا النظام، وتكون الديمقراطية في هذا الحال نكبة.
وأما الدول التي تحاول أن ترفع هذه المسافة بين التنظير والتطبيق، فهي دول قد إستطاعت أن ترفع من مستوى التعليم السياسي، ورسخت من إنتماء أبنائها، فجعلت الوطن وإزدهاره هو القيمة الكبرى التي تشعل الأخزاب والمواطنين على حد سواء، وأصبح فيها تداول السلطة هو الواقع الذي تفرضه طبيعة النظام السياسي نفسه، وإرتفعت فيها الأخلاقيات إلى مستوى محاسبة النفس. إن التجربة التاريخية تبين لنا أن النظام الديمقراطي قد نجح في تمكين الشعب، وتقوية إنتمائه في بلدان كثير،  لأنه يشعر أنه في مكنته أن يغير من يحكمونه، وإذا كانت الديمقراطية لم تجيء بالأصلح في كل الأحوال، فإن الشعوب قادرة على إيجاد البديل دائما بطريقتها الخاصة إذا ما إتيحت لها الفرصة. ولكن الخطر الحقيقي الذي يهدد أي أمة أن يكون هناك شكل ديمقراطي دون مضمون حقيقي، هنا تفقد القاعدة العريضة من الجماهير إنتماءها وتعزف عن المساهمة في التغيير السياسي السلمي، وقد تلجأ إلى العنف أو الفوضي القاتلة. ولذا فإن ما بعد الديمقراطية لا يعني إطلاقا الإستهانة بالنظام الديمقراطي من حيث أنه تمكين للشعب كي  يمارس دوره في بناء شرعية نظامية، ولكن المقصود بما بعد الديمقراطية إذن هو إبداع نظام جديد يرفع الخداع الذي ينتهجهه البعض بإسم الديمقراطية، ويمكن الشعب أن يأخذ دوره في المبادرة وتحريك الأحداث.  والسؤال هو في أي مرحلة من مراحل الديمقراطية تمر بها مصر؟  أترك للقاريء أن يجيب على هذا السؤال. 

No comments:

Post a Comment