Tuesday, December 21, 2010

التنوير بين الشرق والغرب : هل يمكن أن يتحالف البرادعي مع الإخوان ؟ د. علياء رافع


في تحدي فكري سألت وأسأل بعضا من المفكرين والمثقفين سؤالا أحسب أنه من الممكن أن يكون موضوعا  لمناقشات واسعة النطاق: لماذا يعتبر الكثيرون أن حركة الإخوان المسلمين حركة تدعو إلى تسييس الدين، بينما الإسلام دين مرتبط  بالحياة في كل أبعاده بما فيها من نظام سياسي؟
تجيء أهمية هذا السؤال لأن من يهاجمون الإخوان المسلمين قد يكونوا محقين إذا ما كان الهجوم موجها إلى جماعة سياسية محددة لها تكتيكها السياسي وإستخدامها للإسلام غطاء لتصل إلى قيادة المجتمع، وهورؤية  تؤكدها  وسائل الإعلام في محاولة واضحة لمحاربة الثقل السياسي الذي تنعم به هذه الجماعة في المجتمع المصري. ولقد إنطلقت مداخلاتي مع هذه الحركة في مقالات عديدة سابقة إنطلاقا من مسلمة أيديولوجية خطيرة، ولم أتعرض للمحتوى الفكري الذي يطرحونه.   إن هذه المسلمة التي وجدت أنها ستقود بالضرورة إلى نسق فكري مغلق،  هي أنهم يتصورون أنهم القوم الذي يمثلون الرسالة الإسلامية تمثيلا مطابقا لما جاء به الرسول (صلعم)، وأن الإختلاف معهم يعني الخروج عن صحيح الإسلام. وأحسب أن أي خطاب ينطلق من هذه المسلمة يخلق صراعا بدلا من حوار، وحربا بدلا من سلام. لأنه إذا تعددت القراءات للنصوص المقدسة، وإدعي كل منها أنه يعبر عن "صحيح الرسالة الإسلامية"، لا بد أنه سيتهم غيره بالهرطقة والإنحراف. إذا تركنا هذا جانبا ورجعنا إلى السؤال الأصلي أليس الإسلام دين حياة؟ وأليس هذا ما يدعو إليه الإخوان المسلمون؟
أردت أن يكون هذا السؤال محكا للتفكير التحليلي الموضوعي، وليس الحكم الجزافي المتحيز. لابد أن نتفهم أن حركة الإخوان المسلمين هي أحد هذه الحركات التي ظهرت  في مواجهة ورد فعل لموجة الحداثة التي تبناها مفكرو مصر في بدايات القرن العشرين. والحداثة كما هو معروف هي تلك التغيرات الثقافية والفكرية التي صاحبت  بزوغ المنهج العلمي والتغير البنائي المصاحب للمجتمعات الغربية بعد الثورة الصناعية، لقد ركزت هذه الموجة الحداثية على إعمال  العقل وفقا لأسلوب علمي بإعتباره الوسيلة التنويرية القادرة على القضاء على الخرافات، وإعتبرت أن النهضة العلمية التي صاحبها نهضة في العلوم الاجتماعية، وتطور هذه العلوم لتؤسس مجموعة متكاملة لدراسة مختلف الإنشظة البشرية من سياسة وإقتصاد، هي سابقة تاريخية. وإعتبروا المنظرون الأوائل  أن الحضارة الغربية بما وصلت إليه من تقدم تقع في قمة هذا التطور، وأن تأثير الفكر الديني سيضعف مع التطور العلمي. وأثبت التاريخ أن البعد الديني ليس مجرد بعد معرفي، بل إن الحاجة إلى إدراك معنى للحياة يفوق الغايات المباشرة ضرورة إنسانية، وبهذا أثبتت تلك النظريات حدودها المعرفية بحركة التاريخ.
كان الغرب في هذه المرحلة أسيرا لفكرة التفوق الحضاري، وهي فكرة إمتزج فيها الواقع بالعنصرية. إذ أن تطبيق المنهج العلمي هو إنجاز هام في تاريخ الإنسانية، ولكنه ليس إسهاما غربيا خالصا، فهو تطوير لما سبقه من إنجازات للحضارات الأخرى، خاصة الحضارة الإسلامية التي أثرت  في مفكري عصر النهضة الأوربية، ثم إكتملت المسيرة في القرن التاسع عشر مرورا بعصر التنوير. وفي الفترة التي كان الغرب يحرز تقدمه الحضاري والعلمي، كان العالم الإسلامي قد بدأ يتقهقر فكريا أثناء الحكم العثماني، وإنعزل فكريا وحضاريا عن حركة التقدم التي كانت تأخذ خطواتها في أوروبا، لم يكن تقهقهره ناتجا من تمسكه بالدين، ولكن نتاج تخليه عن إعمال العقل الذي دعا إليه الإسلام، وهو ما تنبه إليه الشيخ محمد عبده عندما قال ما معناه "أجد في الغرب مسلمين بدون أن يكون دينهم الإسلام، وأجد في بلادي مسلمين لا يطبقون ما دعا إليه الإسلام "
ومع قيام الدولة الحديثة  في مصر وإستعادة التواصل مع الغرب عن طريق البعثات، فإن نهضة جديدة بدأت تظهر في الأفق المصري، وما كاد يبزغ القرن العشرون حتي ظهرت كوكبة من المثفقين والمفكرين التنويريين الذي قاوموا منابع الخرافات والتقاليد البالية التي إصطبغت بصبغة دينية، برز قاسم أمين في دعوته لتحرر المرأة من الجهل وتأكيد قدرتها على التعلم والعمل في مختلف المجالات، وإستخدم طه حسين منهجا علميا في التحقيق التاريخي، كما كتب على عبد الرازق كتابا ما زال يعتبر ثورة فكرية فيما كان يظن أنه بديهيات دينية، إذ ناقش كيف أن الخلاقة ليس أصلا من أصول الدين، ولكنها نظام سياسي تاريخي. وهكذا فإن مصر في بدايات القرن العشرين كانت تموج بحركات فكرية نقدية للخروج من الجمود الفكري إلى التفاعل الحي مع معطيات ذلك العصر، وتقضي على هذا التلازم بين القيادة السياسية والإمامة الدينية، لتؤكد أن الدين الإسلامي لا يتعارض مع الحكم المدني، فليس هناك دولة دينية في الإسلام، وهو ما أصبح متفقا عليه بين كثير من المفكرين الإسلاميين.
 ولا شك أن إعلان تركيا أنها ستسير في ركب الحضارة الغربية، وستتخلي عن الشريعة الإسلامية مصدرا من مصادر التشريع، وتتجه إلى قانون وضعي قد أعطي إنطباعا عاما أن مشروع الحداثة والتقدم لن يسيرا على وفاق مع الأساسيات التي تنظم البناء التشريعي في العالم الإسلامي. ومن هنا ظهر هذا الاتجاه العلماني – نسبة إلى العالم وليس إلى العلم – والذي يرى أن النظم السياسية يجب أن تسير وفقا لقواعد وضعية. ولقد إنطلقت تلك الرؤية العلمانية من تحليل الواقع التاريخي الذي ثبت فيه أن الحكام في كثير من الأحيان يستخدمون الفقهاء ليسكتوا الأصوات المعارضة، ويطلبون من المحكومين الخضوع التام تحت مقولات دينية يستخدمونها في غير سياقها، مثل وجوب طاعة أولي الأمر، وعدم الخروج عن الإجماع، وغيرها. رأي العلمانيون أن يختصروا الطريق ويتجهوا إلى القوانين الوضعية، بدلا من الصراعات الدينية التي تجعل المسلمين يكفرون بعضهم بعضا. ولكن هذا الإختزال في الرؤية، يغلق أمام المجتمعات المسلمة منبعا هاما، خليق بأن يرشد الإنسان إلى ما ينفعه في هذه الحياة وفي الحياة الآخرة. وأصبحت القضية كيف يمكن التوفيق بين إحترام مصادر الشريعة، وفي نفس الوقت قبول الإختلاف، والأخذ بما هو أنفع للناس من خلال دراسة التجربة الإنسانية؟
لقد كانت مصر في طليعة الدول التي أوجدت حلا لهذه المعادلة الصعبة،  إذ الدساتير المتعاقبة منذ عام 1923 وحتى  دستور 1971 المعدل في   1980 و 2005 نلاحظ أن المرونة في تطبيق مباديء الشريعة الإسلامية خاصية مصرية متميزة. سنجد إذن أنه على مر العصور أن  الدستور المصري لم  يتجاهل الشريعة بإعتبارها تراث حضاري هام في تاريخ الشعوب كما فعلت تركيا،  ولا يقف مكتوف اليدين في متغيرات قد لا يجد مرجعية لها في الشريعة، أو قد لا تتواءم مع المصريين ممن يدينون بعقائد أخرى.
كان بزوغ  حركة الإخوان المسلمين في عشرينيات القرن الماضي تأكيدا على أهمية المشروع الحضاري الإسلامي، وهو ما يتواءم مع الثقافة المصرية التي ترى في الإسلام  ليس مجرد  مجموعة من العبادات، ولكنه حضارة مشتركة بين المصريين، وهذا ما قاله نصا مكرم عبيد، ولهذا كان من القلائل الذين ودعوا حسن البنا في مرقده الأخير. ولهذا أيضا جذبت دعوة الجماعة  مفكرين على جانب كبير من الأهمية مثل الشيخ طنطاوي جوهري الذي كان شيخا مستنيرا، رشح لجائزة نوبل، ويجيء تعاون د. محمد البرادعي ذلك أنه قد يتفق معهم في الهدف، ولكنه إتفاق مرحلى لأنه  سيختلف معهم في رؤيتهم أنهم الجماعة الوحيدة المسئولة عن تطبيق الشريعة. وهو بحكم نزعته الليبرالية، منفتح على إختلاف الرأي والرؤية، فإذا كان يدعمهم إنطلاقا من منظوره الحقوقي الليبرالي، إلا أنهم لن يدعمونه في رؤيته أنه من حق الجميع بما فيهم الإشتراكيون والشيوعيون أن يعبروا عن أنفسهم.
إذا كنا في معرض حديث عن مستقبل أمة، فإن الأهداف العملية الواضحة هي التي تؤسس القاعدة الرئيسة التي تحدد إتجاهات التنافس السياسي، وليست الشعارا الأيديولوجية التي  تستخدم عبارات عامة غامضة، علينا أن نتساءل هل نريد أن نواجه الواقع بكل متغيراته ونحاول أن نبني مجتمعا أفضل من خلال دراسة هذا الواقع، أم أننا نريد أن نتجاهل كل المتغيرات ونفرض على الواقع صورة نعتقد أنها "الحل المثالي". قد يكون الدين – بل ويجب أن يكون – ملهما لنا في وضع الأولويات التي نبدأ بها عملية الإصلاح،  ولكن يجب ألا  تستخدم جماعة من الناس "الدين" لبناء شعبيتها وسط العامة،  إننا نتطلع إلى مجتمع يتسابق فيه الجميع للخيرات، أي للفهم والاجتهاد والقراءة في تعاليم الأديان، ويسترشدون بالرغبة في إقامة العدل، لا تحكمهم الحرفية، ولا يسجنون أنفسهم في الأطر الشكلية، ولا يتاجرون بالشعارات. التنوير هو هدف لكل الأديان لأنها قامت جميعها على إحترام العقل، وليس هناك أي تناقض بين الاستفادة من الخبرة الإنسانية في كل العالم، وبين إستلهام مباديء الشريعة، على شرط أن يكون الإجتهاد عملية متواصلة. والحوار مفتوح.  

No comments:

Post a Comment