Tuesday, December 28, 2010

الفقر والإنتماء
د.علياء رافع
 الفقر ليس مبررا لخيانة الوطن، ولكن الخيانة هي مؤشر لذلك الإنفصال بين المواطن ووطنه، والذي يمكن أن يحدث في أي طبقة ولأسباب مختلفة. أقول هذا بمناسبة القبض على ذلك الشاب المتهم بالتجسس، والذي يقول أنه كان ينوي أن يترك الموساد بعد أن يحصل منهم على قدر من المال يعيش به حياة طيبة. ومع منطق بسيط يمكن أن نسأل هذا الشاب: وماذا يفيدك المال بعد أن تكون قد ألحقت ضررا بوطنك؟ ماذا يفيدك المال وأنت تساعد على تخريب تلك البيئة التي تعيش فيها أسرتك؟ أي منطق هذا؟ حقا إن إستغلال حاجة الفقراء في الدفع بهم إلى الجريمة واقع نعيشه على مختلف المستويات، ولكن هناك كثير من الفقراء الذي يمكن أن يرفضوا أموال قارون إذا كان ذلك يتطلب منهم أن يخونوا مبادئهم.
لا يحتاج الأمر إلى مساومة أو تبرير،  خاصة وقد أصبح الفساد أسلوبا منتشرا ومقبولا،  إلى الدرجة التي يتجرأ بها هذا الشاب ليقول أنه أراد أن ثمن خيانته لوطنه هو أنه سيوفر مالا لأسرته، وإلى الدرجة التي قد يتعاطف بها بعض الناس معه. وهكذا تسير المبررات التي تخلخل من بناء الوطن، وتقف في طريقه إلى التقدم. إن من يقبل الرشوة يعتبرها إعانة له على الحياة، ومن يهمل عمله يتعلل بأن راتبه ضئيل "على قد فلوسهم"، ومن يلوث النيل، والماء فهو غائب عن الوعي برشفة الماء وأهميتها، ومن يجرف الأرض الزراعية فهو لا يدرك أنه يرتكب جريمة قتل للبيئة. وهكذا دواليك.  وكشفت الانتخابات الأخيرة أن البلطجة أسلوب متكرر في كل إنتخابات. ما الذي حدث لمصر؟  ذلك البلد العظيم الذي يحمل تاريخه أرقي القيم الإنسانية. إنه سؤال في حاجة إلى دراسات، فهناك الأسباب الاقتصادية والسياسية والتعليمية، وتأثير الثقافات الواردة عن طريق الهجرة، والفضاء المفتوح في ظل الثورة المعلوماتية، وغيرها من الأسباب، ولكن كلها في النهاية سلوكيات تكشف عن نفسها فيما يمكن أن نطلق عليه ظاهرة "عدم الإنتماء".
يجب أن ندرك أن الإنتماء ليس علاقة مفروغا منها لمجرد أننا نعيش على أرض مشتركة، ولكن الإنتماء يتحقق عندما يكون الإنسان قادرا على أن يحقق حلمه على أرض بلده، وعندما يكون حلمه الفردي والحلم القومي متلازمان. ولذا فإن قوة أو ضعف الإنتماء لا تتكون فقط من خلال العواطف والشعارات، ولكنها علاقة بناء جسور من التفاعل الإيجابي داخل الوطن ليكون مكانا آمنا يعيش فيه كل مواطن. الإنتماء رغبة حقيقية في أن نبني بلدنا ونتقدم بها،  نكون في إستعداد لكل التضحيات لأننا نؤمن أن ما نقوم به اليوم سيجنيه أبناؤنا غدا. هكذا عاش الشعب المصري لحظات بطولية في تاريخه الطويل، أوضحها وأقربها ما قدمه شعب مصر في حرب 1973، حيث تضافر العلم مع التخطيط والإيمان. لم يكن العبور سهلا، لقد سالت دماء الشهداء زكية على أرض سيناء، كانت نفوسهم راضية مطمئنة، لأنهم أدركوا أن تحرير الأرض هو حرية للإنسان المصري، هو الخلاص الحقيقي، هو البداية لنهضة مصر.
ماذا تقول أرواح الشهداء اليوم عما حصدناه في خلال تلك الأعوام؟ هل حققنا لمصرنا في خلال سبع وثلاثين عاما – عمر شباب بلغ مرحلة النضح الآن – ما كان يرنو إليه الشهداء. إن أقسى ما يصيب الروح في مقتل غياب العدل، والشعور بالظلم.  وهذا ما يقاسيه أبناءنا عندما لا تتوافر للشباب فرص متساوية في التعليم والعمل. هناك درجات من التعليم، بدءا من التعليم الدولي إلى التعليم الحكومي المجاني.  لا بأس من التنوع وليس هذه دعوة إلى إغلاق المدارس الدولية أو المدارس الخاصة، ولكن يجب أن يشعر المواطن العادي الذي لا يملك أن يدخل أبناءه في التعليم باهظ التكلفة أن الدولة توفر له تعليما جيدا لأبنائه، يؤهله أيضا لدخول أفضل الجامعات. وأن من ينال شهادة جامعية يكون قادرا على التنافس الشريف في سوق العمل، أي لا تكون الواسطة هي الباب الذي يفتح للمواطن المجالات المغلقة على غيره.
إن الواقع  يشهد أنه في أعتي الدول التي تعيش على الإقتصاد الحر، هناك فرص متاحة للمجتهدين من الناس دون تفرقة. ها هو ديك تشيني يفخر أن أباه كان طاهيا، ولكنه تعلم وتقلد المناصب ليصبح نائبا لرئيس الجمهورية. ها هو أوباما يبدأ حياته في شظف من العيش، ولكنه يجتهد ويدخل أكبر الجامعات الأمريكية، ويغتنم الفرص ليكون رئيسا.  هل يمكن أن يحدث هذا في بلدنا؟ أين أحلام البسطاء؟  إنها لا تتعدى الحصول على وظيفة، ويقف السقف عند هذا الحد، وقد يمتد بحثا عن فرصة في بلد آخر، حتي لو كان هذا يؤدي إلى إنتهاء الحياة، في حركة غير محسوبة أو مدروسة، ولكنها محاولات للخروج من أرض الوطن إلى حيث ما يعتقدون أن الجنة المفقودة في أرض الغرباء. هكذا يرمي أبناؤنا أنفسهم في محاولات إنتحارية ليدخلوا بلادا لا تقبل هجرتهم. إلى هذا الحد بلغ بهم اليأس والأكتئاب.
إذا أصبح الوطن مجرد مكان نعيش فيه، لأننا قد ولدنا وتقدم بنا الزمن على أرضه، لا نملك أن نحلم فيه بمستقبل أبنائنا، وإذا شعر أفراد هذا الوطن أنهم ليس لهم إرادة تصنع الغد، وأنهم سائرون تبعا لمن يخططون لهم الحياة والمكانة، يصبح الوطن كيانا غائبا عن وعي من يعيشون على أرضه. لا عجب أن تصبح المصلحة الفردية هي الدافع والأساس الذي يحرك الفرد، بصرف النظر عن محيطه العام.  لا عجب بعد ذلك أن يستدر هذا الجاسوس العطف بقوله أنه كان يريد أن يؤمن نفسه وأسرته بمبلغ من المال "فقط". ومن مظاهر عدم الإنتماء أيضا الهجرة إلى الماضي في تلك الإتجاهات السلفية التي تتجاهل الواقع والتي قد يتمخض عنها أنواع متنوعة من التطرف، الذي قد يعبر عن نفسه في الإغراق في الفكر الغيبي، وهجر التخطيط والتفكير الواقعي العلمي، أو الإنخراط في جماعات عنف، تريد أن تدمر، ولا تتطلع إلى البناء.
إن أخلاقيات المنفعة والمصلحة والرشوة والفساد بشكل عام وإنتشارها هي تعبير عن تخلخل تلك الروابط الاجتماعية التي تجعل المجتمع آمنا، ولكن السؤال هو كيف نستعيد "الإنتماء". أحسب أن هذا الشعب في حاجة إلى رؤية للمستقبل يشارك في تكوينها والتمسك بها، تنبع منه، وليس من خلال قوى خارج إرادته. إنه ليس في حاجة إلى شعار "من أجلك أنت"، ولكنه في حاجة إلى دعوة "معا نبني وطننا".  إذا إستمرت الدولة أو الحزب في الإمساك بكل الخيوط بيدها، حتي ولو كان هذا من أجل صالح الوطن، فإن التجاوب مع كل الجهود المبذولة لن يثمر إلا القليل، لأن المصريين أصبحوا لا ينظرون إلى الإنجازات المعلن عنها، بل والملموسة أيضا، ولكنهم يريدون أن يشعروا أن مستقبلهم آمن، وأنهم يعرفون ماهو دورهم في تنمية بلدهم. إنهم مستعدون أن يستحملو اقسوة "الآن" من أجل غد أكثر إشراقا، ولكن كيف يمكن أن يحدث هذا، والفقراء يزدادون فقرا، والأغنياء يزيدون ثراء، والأدهى من ذلك وأمر أنهم عندما ينظرون إلى الماضي القريب يدركون أن آباءهم قد بذلوا الكثير من أجل الوطن، وأنهم لم يجنوا بعد أي ثمار لتضحية الأباء، فكيف يثقون في الحاضر من أجل المستقبل؟  

Tuesday, December 21, 2010

التنوير بين الشرق والغرب : هل يمكن أن يتحالف البرادعي مع الإخوان ؟ د. علياء رافع


في تحدي فكري سألت وأسأل بعضا من المفكرين والمثقفين سؤالا أحسب أنه من الممكن أن يكون موضوعا  لمناقشات واسعة النطاق: لماذا يعتبر الكثيرون أن حركة الإخوان المسلمين حركة تدعو إلى تسييس الدين، بينما الإسلام دين مرتبط  بالحياة في كل أبعاده بما فيها من نظام سياسي؟
تجيء أهمية هذا السؤال لأن من يهاجمون الإخوان المسلمين قد يكونوا محقين إذا ما كان الهجوم موجها إلى جماعة سياسية محددة لها تكتيكها السياسي وإستخدامها للإسلام غطاء لتصل إلى قيادة المجتمع، وهورؤية  تؤكدها  وسائل الإعلام في محاولة واضحة لمحاربة الثقل السياسي الذي تنعم به هذه الجماعة في المجتمع المصري. ولقد إنطلقت مداخلاتي مع هذه الحركة في مقالات عديدة سابقة إنطلاقا من مسلمة أيديولوجية خطيرة، ولم أتعرض للمحتوى الفكري الذي يطرحونه.   إن هذه المسلمة التي وجدت أنها ستقود بالضرورة إلى نسق فكري مغلق،  هي أنهم يتصورون أنهم القوم الذي يمثلون الرسالة الإسلامية تمثيلا مطابقا لما جاء به الرسول (صلعم)، وأن الإختلاف معهم يعني الخروج عن صحيح الإسلام. وأحسب أن أي خطاب ينطلق من هذه المسلمة يخلق صراعا بدلا من حوار، وحربا بدلا من سلام. لأنه إذا تعددت القراءات للنصوص المقدسة، وإدعي كل منها أنه يعبر عن "صحيح الرسالة الإسلامية"، لا بد أنه سيتهم غيره بالهرطقة والإنحراف. إذا تركنا هذا جانبا ورجعنا إلى السؤال الأصلي أليس الإسلام دين حياة؟ وأليس هذا ما يدعو إليه الإخوان المسلمون؟
أردت أن يكون هذا السؤال محكا للتفكير التحليلي الموضوعي، وليس الحكم الجزافي المتحيز. لابد أن نتفهم أن حركة الإخوان المسلمين هي أحد هذه الحركات التي ظهرت  في مواجهة ورد فعل لموجة الحداثة التي تبناها مفكرو مصر في بدايات القرن العشرين. والحداثة كما هو معروف هي تلك التغيرات الثقافية والفكرية التي صاحبت  بزوغ المنهج العلمي والتغير البنائي المصاحب للمجتمعات الغربية بعد الثورة الصناعية، لقد ركزت هذه الموجة الحداثية على إعمال  العقل وفقا لأسلوب علمي بإعتباره الوسيلة التنويرية القادرة على القضاء على الخرافات، وإعتبرت أن النهضة العلمية التي صاحبها نهضة في العلوم الاجتماعية، وتطور هذه العلوم لتؤسس مجموعة متكاملة لدراسة مختلف الإنشظة البشرية من سياسة وإقتصاد، هي سابقة تاريخية. وإعتبروا المنظرون الأوائل  أن الحضارة الغربية بما وصلت إليه من تقدم تقع في قمة هذا التطور، وأن تأثير الفكر الديني سيضعف مع التطور العلمي. وأثبت التاريخ أن البعد الديني ليس مجرد بعد معرفي، بل إن الحاجة إلى إدراك معنى للحياة يفوق الغايات المباشرة ضرورة إنسانية، وبهذا أثبتت تلك النظريات حدودها المعرفية بحركة التاريخ.
كان الغرب في هذه المرحلة أسيرا لفكرة التفوق الحضاري، وهي فكرة إمتزج فيها الواقع بالعنصرية. إذ أن تطبيق المنهج العلمي هو إنجاز هام في تاريخ الإنسانية، ولكنه ليس إسهاما غربيا خالصا، فهو تطوير لما سبقه من إنجازات للحضارات الأخرى، خاصة الحضارة الإسلامية التي أثرت  في مفكري عصر النهضة الأوربية، ثم إكتملت المسيرة في القرن التاسع عشر مرورا بعصر التنوير. وفي الفترة التي كان الغرب يحرز تقدمه الحضاري والعلمي، كان العالم الإسلامي قد بدأ يتقهقر فكريا أثناء الحكم العثماني، وإنعزل فكريا وحضاريا عن حركة التقدم التي كانت تأخذ خطواتها في أوروبا، لم يكن تقهقهره ناتجا من تمسكه بالدين، ولكن نتاج تخليه عن إعمال العقل الذي دعا إليه الإسلام، وهو ما تنبه إليه الشيخ محمد عبده عندما قال ما معناه "أجد في الغرب مسلمين بدون أن يكون دينهم الإسلام، وأجد في بلادي مسلمين لا يطبقون ما دعا إليه الإسلام "
ومع قيام الدولة الحديثة  في مصر وإستعادة التواصل مع الغرب عن طريق البعثات، فإن نهضة جديدة بدأت تظهر في الأفق المصري، وما كاد يبزغ القرن العشرون حتي ظهرت كوكبة من المثفقين والمفكرين التنويريين الذي قاوموا منابع الخرافات والتقاليد البالية التي إصطبغت بصبغة دينية، برز قاسم أمين في دعوته لتحرر المرأة من الجهل وتأكيد قدرتها على التعلم والعمل في مختلف المجالات، وإستخدم طه حسين منهجا علميا في التحقيق التاريخي، كما كتب على عبد الرازق كتابا ما زال يعتبر ثورة فكرية فيما كان يظن أنه بديهيات دينية، إذ ناقش كيف أن الخلاقة ليس أصلا من أصول الدين، ولكنها نظام سياسي تاريخي. وهكذا فإن مصر في بدايات القرن العشرين كانت تموج بحركات فكرية نقدية للخروج من الجمود الفكري إلى التفاعل الحي مع معطيات ذلك العصر، وتقضي على هذا التلازم بين القيادة السياسية والإمامة الدينية، لتؤكد أن الدين الإسلامي لا يتعارض مع الحكم المدني، فليس هناك دولة دينية في الإسلام، وهو ما أصبح متفقا عليه بين كثير من المفكرين الإسلاميين.
 ولا شك أن إعلان تركيا أنها ستسير في ركب الحضارة الغربية، وستتخلي عن الشريعة الإسلامية مصدرا من مصادر التشريع، وتتجه إلى قانون وضعي قد أعطي إنطباعا عاما أن مشروع الحداثة والتقدم لن يسيرا على وفاق مع الأساسيات التي تنظم البناء التشريعي في العالم الإسلامي. ومن هنا ظهر هذا الاتجاه العلماني – نسبة إلى العالم وليس إلى العلم – والذي يرى أن النظم السياسية يجب أن تسير وفقا لقواعد وضعية. ولقد إنطلقت تلك الرؤية العلمانية من تحليل الواقع التاريخي الذي ثبت فيه أن الحكام في كثير من الأحيان يستخدمون الفقهاء ليسكتوا الأصوات المعارضة، ويطلبون من المحكومين الخضوع التام تحت مقولات دينية يستخدمونها في غير سياقها، مثل وجوب طاعة أولي الأمر، وعدم الخروج عن الإجماع، وغيرها. رأي العلمانيون أن يختصروا الطريق ويتجهوا إلى القوانين الوضعية، بدلا من الصراعات الدينية التي تجعل المسلمين يكفرون بعضهم بعضا. ولكن هذا الإختزال في الرؤية، يغلق أمام المجتمعات المسلمة منبعا هاما، خليق بأن يرشد الإنسان إلى ما ينفعه في هذه الحياة وفي الحياة الآخرة. وأصبحت القضية كيف يمكن التوفيق بين إحترام مصادر الشريعة، وفي نفس الوقت قبول الإختلاف، والأخذ بما هو أنفع للناس من خلال دراسة التجربة الإنسانية؟
لقد كانت مصر في طليعة الدول التي أوجدت حلا لهذه المعادلة الصعبة،  إذ الدساتير المتعاقبة منذ عام 1923 وحتى  دستور 1971 المعدل في   1980 و 2005 نلاحظ أن المرونة في تطبيق مباديء الشريعة الإسلامية خاصية مصرية متميزة. سنجد إذن أنه على مر العصور أن  الدستور المصري لم  يتجاهل الشريعة بإعتبارها تراث حضاري هام في تاريخ الشعوب كما فعلت تركيا،  ولا يقف مكتوف اليدين في متغيرات قد لا يجد مرجعية لها في الشريعة، أو قد لا تتواءم مع المصريين ممن يدينون بعقائد أخرى.
كان بزوغ  حركة الإخوان المسلمين في عشرينيات القرن الماضي تأكيدا على أهمية المشروع الحضاري الإسلامي، وهو ما يتواءم مع الثقافة المصرية التي ترى في الإسلام  ليس مجرد  مجموعة من العبادات، ولكنه حضارة مشتركة بين المصريين، وهذا ما قاله نصا مكرم عبيد، ولهذا كان من القلائل الذين ودعوا حسن البنا في مرقده الأخير. ولهذا أيضا جذبت دعوة الجماعة  مفكرين على جانب كبير من الأهمية مثل الشيخ طنطاوي جوهري الذي كان شيخا مستنيرا، رشح لجائزة نوبل، ويجيء تعاون د. محمد البرادعي ذلك أنه قد يتفق معهم في الهدف، ولكنه إتفاق مرحلى لأنه  سيختلف معهم في رؤيتهم أنهم الجماعة الوحيدة المسئولة عن تطبيق الشريعة. وهو بحكم نزعته الليبرالية، منفتح على إختلاف الرأي والرؤية، فإذا كان يدعمهم إنطلاقا من منظوره الحقوقي الليبرالي، إلا أنهم لن يدعمونه في رؤيته أنه من حق الجميع بما فيهم الإشتراكيون والشيوعيون أن يعبروا عن أنفسهم.
إذا كنا في معرض حديث عن مستقبل أمة، فإن الأهداف العملية الواضحة هي التي تؤسس القاعدة الرئيسة التي تحدد إتجاهات التنافس السياسي، وليست الشعارا الأيديولوجية التي  تستخدم عبارات عامة غامضة، علينا أن نتساءل هل نريد أن نواجه الواقع بكل متغيراته ونحاول أن نبني مجتمعا أفضل من خلال دراسة هذا الواقع، أم أننا نريد أن نتجاهل كل المتغيرات ونفرض على الواقع صورة نعتقد أنها "الحل المثالي". قد يكون الدين – بل ويجب أن يكون – ملهما لنا في وضع الأولويات التي نبدأ بها عملية الإصلاح،  ولكن يجب ألا  تستخدم جماعة من الناس "الدين" لبناء شعبيتها وسط العامة،  إننا نتطلع إلى مجتمع يتسابق فيه الجميع للخيرات، أي للفهم والاجتهاد والقراءة في تعاليم الأديان، ويسترشدون بالرغبة في إقامة العدل، لا تحكمهم الحرفية، ولا يسجنون أنفسهم في الأطر الشكلية، ولا يتاجرون بالشعارات. التنوير هو هدف لكل الأديان لأنها قامت جميعها على إحترام العقل، وليس هناك أي تناقض بين الاستفادة من الخبرة الإنسانية في كل العالم، وبين إستلهام مباديء الشريعة، على شرط أن يكون الإجتهاد عملية متواصلة. والحوار مفتوح.  

Tuesday, December 14, 2010

إسرائيل لا تريد السلام وتريد الهيمنة على العالم د. علياء رافع


لقد بات واضحا أن إسرائيل هي التي تتحكم في قرارات الولايات المتحدة وتوجهها في الطريق الذي تريده، وهذا الاستنتاج ليس جديدا على الإطلاق، والكل يعلم أن إسرائيل لا تتنازل عن خططها القريبة أو البعيدة ولا يثنيها عن عزمها أية قوة، حتى لوكانت قوة القطب الأوحد، الذي أخذ يتراجع عن موقعه بشكل سريع.الجديد في الأمر هو أن صورة الرئيس أوباما قد أصبحت صورة مهتزة وضعيفة وهزيلة، بعد أن كان قد بدأ ولايته بشكل قوى، وظن الكثيرون أنه قد انتقل بسياسة الولايات المتحدة إلى عهد جديد لم يسبقه فيه أحد من قبل. ويبدو أن الأمر عندما يتعلق بإسرائيل فإن كل شيء ينهار رأسا على عقب.
إن إستسلام اكبر دولة في العالم إلى القرار الإسرائيلي برفض تجميد المستوطنات، إن كان يدل على شيء، فهو يدل على أنه تخلي عن أسس نشر سلام قائم على العدل. ذلك أن عدم تجميد المستوطنات هو إستمرار في الزحف على أراضي فلسطينية وتهويدها، وتقليص المساحة التي أرتضاها الفلسطينيون لتكون حدودا لدولتهم، على ما في هذا أصلا من ظلم. فمنذ أكثر من ستين عاما، حدثت أكبر عملية قرصنة في التاريخ الإنساني، ولم يهتز الرأي العام العالمي ويوقف هذه العملية، ولم يتحرك قيد أنملة، مشاهدا طرد الفلطسينيون من أرضهم التي سكنوها آلاف السنين.  وأنشأ القراصنة دولة لهم تحت إسم إسرائيل، وإعترفت كثير من الدول بقيام هذه الدولة. وأصبحت لهذه العصابة الباغية شرعيتها كعضو معترف به في الأمم المتحدة، ولم تعد هناك دولة للفلسطينيين أصحاب الحق الأصلي في هذه الأرض. كلنا يعرف هذا التاريخ، ولكن لابد من إستعادة قراءة هذه القصة لندرك مدى الظلم الواقع على شعب يريد حق الحياة، ولكن تتحايل تلك القوى الباغية في حرمانه من هذا الحق.
بعد إثنين وستين عاما هي عمر دولة إسرائيل، لم يعد مقبولا القول بطرد هؤلاء الذين إستوطنوا هذه الأرض وطردوا أهلها، فهناك أجيال قد ولدت وأصبحت في مرحلة متقدمة من العمر، ولم تعرف لها وطنا إلا في هذه الأرض، فما بالنا بالأجيال الشابة، التي لم تعش هذا الصراع على الأرض بالصورة التي شهدها أباؤهم وأجدادهم، ظنوا أن هذه هي أرضهم منذ بداية التاريخ، وأن عودة أبائهم واجدادهم لهذه الأرض هو إسترداد لحق كان قد ضاع منهم. لقد صدقت الأجيال الجديدة هذه القصة، وأصبح لديها يقين أنهم أصحاب هذه الأرض. وأقول دائما أن الخطورة لا تكمن فقط من حيث ما يحدث اليوم من تمسك إسرائيل بكل مشاريعها مهما كان الثمن، ولكن الخطر هو في مستقبل مجهول في ظل دولة ستظل تتمدد مثل الكيان السرطاني لتأكل جسد هذه الأمة. ليس هناك حدود لهذه الدولة، وإذا كان لها حدود بالفعل فهي الحدود التي وضعتها لنفسها على أنها حدود تاريخية "أي من الفرات إلى النيل" ، ولكن التزايد الديموجرافي لليهود، سيحتم على هذه الدولة أن تمتد على حساب الدول العربية المجاورة.
إن هذا الوضوح في الرؤية لما حدث في التاريخ، لا يتناقض مع معالجة الأمر على المستوى الواقعي معالجة تتوخي العدل، وتستهدف الدفاع عن حقوق الإنسان. إدراك الخط الاستراتيجي طويل المدى للدولة الصهيونية لا يتناقض مع مراعاة حقوق الشعب اليهودي الذي ولد وترعرع على هذه الأرض ولم يعرف له وطنا بديلا عنها. وللوهلة الأولى قد يبدو أن هناك صراعا محتوما بين الرؤيتين. إذ أن الرؤية الأولي ترجع إلى التاريخ لتقرأ وتستلهم المستقبل، وتصل إلى نتيجة مفادها إن هذه الدولة قد قامت على الظلم، ولابد من إعادة الحقوق الكاملة لأصحابها، أي لا بد للفلسطينيين إن عاجلا أو آجلا أن يسترودا كل شبر من أرض فلسطين تم إغتصابه، وأما الرؤية الثانية فإن تتعامل مع واقع موجود ألا وهو حياة ثلاثة ملايين يهودي، قابلة للزيادة على أرض فلسطين، عاشوا وتربوا في هذه الأرض، ولن يغادروها، وليس من الإنسانية أن يطردوا منها إلى مكان مجهول، اللهم إلا إذا تم إيجاد مكان بديل غير آهل بالسكان، يذهبون إليه، وهذا لن يحدث لأنه حل خيالي غير مقبول. فما هو البديل إذن؟  إن ما إرتضاه الفلسطينيون الآن من الإكتفاء بالأرض التي كانت لهم قبل عام 1967، لقيام دولتهم هو الحل الواقعي الذي يمكن تحقيقه. وهو حل يمكن من خلاله تحقيق هذا التوازن بين الجانب الإنساني والواقعي، والجانب العملي والحقوقي، مع الإستمرارية في التعاون ونشر السلام بين الدولتين الفلسطينية والإسرائيلية.
ولأن إسرائيل غير جادة في قيام سلام، فهي تخلق هذه التناقضات والإستفزازات المتوالية، وتفرض الأمر الواقع المرة تلو المرة، وكأننا نشاهد اليوم أمام أعيننا ضياع فلسطين مرة أخرى. وترجع رغبة إسرائيل في إستمرار أو خلق أزمة بينها وبين الفلسطينيين من ناحية، وبينها وبين العرب من ناحية أخرى إلى أن هذا الموقف يفيدها على المستوى الداخلي والخارجي. أما على المستوى الداخلي، فذلك ليجعل الشعب اليهودي المتنافر في ثقافاته ينسى خلافاته،  ذلك أن  الشعور بالتهديد الخارجي، ذلك التهديد القائم على تصوير أن المجتمع الخارجي مجتمع متوحش يتربص باليهود كل شر، يساعد على تضامنهم وإتحادهم. ومن ناحية أخرى فإن حالة عدم السلام مع الجيران العرب، يتيح لإسرائيل التمدد كلما أقتضت الحاجة الديموجرافية أو المائية لذلك تحت زعم تأمين وجودها.
ويخلق هذا الموقف للفلسطينين من ناحية وللعرب الداعمين للقضية الفلسطينية من ناحية أخرى وعلى رأسهم مصر أزمة في الوصول إلى تسوية عادلة عن طريق التفاوض. ولهذا فإن الحل الوحيد هو كسب الولايات المتحدة الأمريكية لجانب المفاوض العربي، وخلق رأي عام عالمي لا يسمح بأن تفرض إسرائيل شروطها الإستفزازية والتي تعلم مسبقا أن الفلسطينيين سيرفضونها.  وأقول الولايات المتحدة، لأن إسرائيل تعتمد إعتمادا مباشرا على الدعم الإقتصادي والعسكري للولايات المتحدة، وهي بدونه ستواجه مشاكل هي في غنى عنها. ولذا فإن الولايات المتحدة تملك هذه الورقة الضاغطة من هذا المنطلق.  وهناك أكثر من سبب لتراجع الولايات المتحدة عن موقف متناغم من المطالب العادلة للفلسطينيين، أولها هو إعتماد الحزب الحاكم وخاصة رئيس الجمهورية على دعم اللوبي الإسرائيلي كي يستمر في الحكم، أو حينما يتنافس مع حزب آخر ورئيس آخر قوي، وثانيا لأن الولايات المتحدة قد أصبحت تؤمن إلى حد يقترب من اليقين أن إسرائيل هي الحليف الإستراتيجي الأول لها في المنطقة، لما تتمتع به إسرائيل من حكم ديمقراطي، وقيم تقترب من الحضارة الأمريكية.  وهكذا نجد أوباما الذي وضع العرب عليه آمالهم، يسقط في أن يحتفظ بإصراره على تجميد المستوطنات، خاصة وأن عجلة الوقت قد أصبحت تسرع، وسيصبح يناير القادم معبرا عن السنة الثانية التي قضاها في الحكم، وهو يريد التأييد اليهودي في ترشيح نفسه للمرة الثانية
وفي مواجهة هذا الواقع، نحن  في حاجة إلى خلق لوبي عربي قوي أيضا في الولايات المتحدة، خاصة وأن العرب يتواجدون بكثافة هناك، وفي حاجة إيضا إلى أن يكتسب حكامنا شرعية حقيقية من تأييد شعوبهم لهم، وذلك حتي يحترم العالم كلمتهم، وحتى لا يخشوا الوقوف بجانب الحق، لأن وراءهم شعوب تحميهم. وللأسف فإن الواقع يشهد أن العرب في الولايات المتحدة ينقصهم التضامن والتآلف، وأننا مازلنا نحبو في الطريق الديمقراطي، وقد لا نصل إلى نهاية الطريق، طالما أن الدستور والقانون يتيحان لرئيس الجمهورية أن يظل حاكما إلى الأبد، وطالما أن النظم الملكية لا تسمح بأن نقد يوجه من الشعب إلى الملك أو الأسرة الحاكمة، وطالما أن الشعوب العربية مازالت تعاني من الجهل بتاريخها وحقوقها وتعزف عن الممارسة والمشاركة السياسية. والله المستعان.  

Tuesday, December 7, 2010

ما بعد الديمقراطية د. علياء رافع


أتابع بشغف واحترام ما يكتبه المفكر وعالم الاجتماع الكبير أ. السيد ياسين، وقد لفت نظري تعبيره "ما بعد الديمقراطية"، في مقالتين متواليتنين، أحدهما يوضح بإقتدار للقاريء العادي الشواهد التي تنبيء عن قصور الأحزاب في صورتها التقليدية على الإستمرار في أدوارها التنافسية في ظل إنهيار الأيديولوجيات والنظريات الكبرى. وهذا ماجعل بعض المنظرين الاجتماعيين يتوقعون إزدياد أدوار جمعيات المجتمع المدني في تحريك القوى السياسية أو التأثير على تشكيل البناءات الاجتماعية. أما المقال الثاني فإن يستزيد في التعليق على تعبير "مابعد الديمقراطية" ، موضحا في معرض رده على نقد أحد القراء  ما معناه  أن الهوية الثقافية أمر يتصل بإنتماء شعب أو أمة إلى تراثها الثقافي وشخصيتها التاريخية، وأما  النظم السياسية فهي أمر يخضع للدراسات العلمية للواقع الاجتماعي، وبالتالي فإن ملاحظة التغيرات التي حدثت بعد العولمة،  وتهاوي العموميات والزعم بأن هناك فكر يشتمل على الحقيقية المطلقة، جعل قيام أحزاب سياسية تعتمد على أيديولوجيات ثابته، وتقدم برامج سياسية متناغمة مع أيديولوجياتها أمرا لن يستمبر، مما يستلزم نظاما آخر هو ما أطلق عليه "ما بعد الديمقراطية".
لقد نظر المفكر أ. السيد ياسين إلى "مابعد الديمقراطية"  متوجها إلى ما يمكن أن يحدث في المستقبل، ويمكن أن أقول "المستقبل البعيد"، ذلك أنه على الرغم من إنهيار النظريات الكبرى على السمتوى الأكاديمي، وعلى الرغم من إنتقال البشر والأقكار والمنتجات عبر وسائل الإتصال المختلفة بلا حدود، مما جعل المجتمع الواحد يشهد تعددا لا حصر له في الاتجاهات الفكرية، وسلوك الحياة اليومي،  إلا أنه في حركة مضادة، فهناك تمسك بالأفكار الجامدة، وبحث عن أرض صلبة من خلال الأنسقة الفكرية المغلقة في أنحاء العالم كله، ولقد أشرت إلى هذا في ورقة علمية نشرت في أحد الدوريات الدولية تحت عنوان العولمة والحواجز الثقافية Globalization and Cultural Boundaries، ولذا فليس من المنتظر أن يتوقف التنافس الحزبي القائم على العموميات والمطلقات في الوقت الراهن، ولكن قد يحدث إحلال تدريجي للنظام الحزبي من خلال حركة مجتمع مدني تتوجه إلى إحتياجات المجتمع الفكرية والسياسية والإقتصادية والثقافية بشكل تلقائي، وقد يخلق هذا مناخا لتواجد أحزاب لا ينطلق نشاطها بالضرورة من خلال إطار أيديولوجي، ولكن من خلال برامج خدمية تنافسية تتغير طبيعتها تبعا لقدرتها على إستلهام  رؤية الجماهير ورغبتها. ولكن على أي حال، فإن المفكرين قد بدأوا في إستخدام هذا التعبير، في إشارة خاصة إلى إنهيار المجتمع الأمريكي، خاصة بعد الأزمة المالية التي عانى منها أثناء حكم بوش الإبن.
 ولقد أصبح تعبير "مابعد" تعبيرا يستخدم بكثرة في الأدبيات الاجتماعية، مثل "ما بعد الحداثة"، "ما بعد البنائية"  "ما بعد الوظيفية" ، وهكذا. ويبدو تعبير ما بعد الديمقراطية غريبا على السمع بعض الشيء، ولكن قد بدأ ينتشر بين المنظرين للعلوم السياسية، خاصة بعد مجيء المحافظين الجدد إلى الحكم، في محاولة "لفرض" الديمقراطية، وهو سلوك واضح التناقض مع جوهر الديمقراطية التي تقوم على الإختيار الحر. بالإضافة إلى أن مجيئ بوش للمرة الثانية كان  نكبة بكل المقاييس أدخلت الولايات المتحدة في أزمة مالية، وجعلت مهمة الرئيس الديمقراطي أوباما مهمة غاية في الصعوبة. لم يكن إذن هذا الاختيار في صالح مستقبل الولايات المتحدة. ولذا نجد كولين جروتش :  Colin Grouch أستاذ جامعي متخرح من جامعة لندن يوضح التناقض بين النظام الرأسمالي الحر وبين الديمقراطية، حيث يهدد هذا النظام سلامة وأمان الكثيرين ممن يصبح تهميشهم نتيجة طبيعية لصراع رأس المال الوحشي، بينما الديمقراطية تتطلب توفير الأمان والضمانات الكافية كي يستطيع كل المواطنين أن تكون لهم حقوق متساوية في التعبير عن  رأيهم وطموحاتهم. أما  بيتر باوفو   Peter Baofu, فهو أستاذ من أصل صيني ولد في فيتنام، ولكن إستقر به المقام في الولايات المتحدة،  وفي كتابه Beyond Democracy فإن يتحدث عما وراء الديمقراطية، متنبئا إن الديمقراطية نظام تاريخي تصوره البعض أنه قمة ما وصلت إليه الإنسانية، ولكن هذا النظام أيضا له حدوده وعيوبه، ويتنبأ بأن هناك عصرا قادما لما بعد الديمقراطية.   
وهذه الرؤية  وهي في جانب منها متأثر بما يحدث في الولايات المتحدة وفي الآونة الأخيرة على وجه الخصوص هذا البلد الذي يفخر بأنه قد قام على إحترام الحريات، وأسس أعرق الديمقراطيات، سنجد أنه تحت مظلة الديمقراطية، يقف المحافظون لأوباما بالمرصاد، ليس من أجل صالح بلدهم، ولكن لأطماعهم الشخصية في القدوم مرة أخرى إلى الحكم. ولسذاجة الشعب الأمريكي، ونظرته المحدودة للأمور السياسية، فإن خطة المحافظين في التشكيك في سياسات أوباما الداخلية والخارجية قد أثمرت نتائجها، وانخفضت شعبية الرئيس الأمريكي الأسود، على الرغم من أنه قد جاء بأجندا جديدة ومختلفة وفيها تحدي يصل حد التحول الجذري عن الخطوط العريضة للسياسات الأمريكية السابقة.
هناك إذن التصور المثالي للديمقراطية، وهو الذي يفترض أن صوت الشعب وإرادته هي التي تقود الحركة السياسية في البلد، وذلك من خلال المجالس النيابية التي يعبر أعضاؤها عن القطاعات الأوسع التي يمثلونها. وهذه الرؤية وتنفيذها قد ساعد كثيرا من البلدان أن تسير في طريق التقدم والخروج من عثراتها، لأن شرعية النظام الحاكم تعتمد في المقام الأول على تأييد الجماهير، فإذا خزلها فإن فوى المعارضة تصبح هي البديل الذي يأخذ فرصته في علاج ما أفسده، أو ما لم يستطع معالجته النظام السابق. ومن هنا فإن النظام الديمقراطي يخلق من خلال التنافس بين الأحزاب المختلفة المتطلعة إلى الحكم مناخا يشعر فيه كل مواطن أن لديه القدرة على تشجيع الحزب الذي يجده أصلح أو إحباط الحزب الذي يخذل آماله وأحلامه ولا يقدم لبلده ما تستحقه.  لابد إذن حتي يكون هناك ديمقراطية أن تكون هناك أحزاب سياسية تحمل أيديلوجيات مختلفة، وتضع برامج متنوعة، ولديها القدرات الإعلامية والأمنية التي تسمح لها بأن تجذب إليها أكبر قدر من المواطنين.
وأما على المستوى الواقعي، سنجد أن هناك بلادا تزعم أنها تتبنى النظام الديمقراطي، وذلك لأنها تعترف بالنظام النيابي، وتتواجد المؤسسات التي تدعم هذا النظام، ولكن لا تتحقق الديمقراطية بصورة حقيقية،  وما ذكرناه  قد يكون أحد هذه الأسباب، ولكن هناك أيضا أسباب كثيرة، فقد يلعب الفساد السياسي أو الإقتصادي دوره في تحويل الديمقراطية إلى لعبة، تتم فيها مختلف الحيل والخدع، ويتحكم فيها المال والسلطة وأدوات الإتصال، ويحل الصراع بين الأحزاب محل التنافس الشريف، وتصبح المصلحة الخاصة هي المحرك وراء الشعارات المرفوعة.  أو قد يعود فشل الديمقراطية إلى ما يقوم به الحزب الحاكم من تهميش غير مباشر للقوى السياسية الموجودة في الساحة، وبالتالي تصبح قوى المعارضة طرف في هدم الديمقراطية، مع الحفاظ على الشكل العام لها، وهو ما يجعل مصير الأمة في خطر حقيقي، لأن أي محاولة لتحول الأحزاب السياسية إلى أحزاب قوية، قد يقابلها قمع أو تفتيت. ولا شك أن سيادة الأمية السياسية والثقافية بين شعب من الشعوب عامل في تحويل النظام الديمقراطي من نظام فاعل وقوي إلى نظام يأتي بأسوأ العناصر الموجودة  في المجتتع فيرفعها إلى القمية ويجعلها على رأس هذا النظام، وتكون الديمقراطية في هذا الحال نكبة.
وأما الدول التي تحاول أن ترفع هذه المسافة بين التنظير والتطبيق، فهي دول قد إستطاعت أن ترفع من مستوى التعليم السياسي، ورسخت من إنتماء أبنائها، فجعلت الوطن وإزدهاره هو القيمة الكبرى التي تشعل الأخزاب والمواطنين على حد سواء، وأصبح فيها تداول السلطة هو الواقع الذي تفرضه طبيعة النظام السياسي نفسه، وإرتفعت فيها الأخلاقيات إلى مستوى محاسبة النفس. إن التجربة التاريخية تبين لنا أن النظام الديمقراطي قد نجح في تمكين الشعب، وتقوية إنتمائه في بلدان كثير،  لأنه يشعر أنه في مكنته أن يغير من يحكمونه، وإذا كانت الديمقراطية لم تجيء بالأصلح في كل الأحوال، فإن الشعوب قادرة على إيجاد البديل دائما بطريقتها الخاصة إذا ما إتيحت لها الفرصة. ولكن الخطر الحقيقي الذي يهدد أي أمة أن يكون هناك شكل ديمقراطي دون مضمون حقيقي، هنا تفقد القاعدة العريضة من الجماهير إنتماءها وتعزف عن المساهمة في التغيير السياسي السلمي، وقد تلجأ إلى العنف أو الفوضي القاتلة. ولذا فإن ما بعد الديمقراطية لا يعني إطلاقا الإستهانة بالنظام الديمقراطي من حيث أنه تمكين للشعب كي  يمارس دوره في بناء شرعية نظامية، ولكن المقصود بما بعد الديمقراطية إذن هو إبداع نظام جديد يرفع الخداع الذي ينتهجهه البعض بإسم الديمقراطية، ويمكن الشعب أن يأخذ دوره في المبادرة وتحريك الأحداث.  والسؤال هو في أي مرحلة من مراحل الديمقراطية تمر بها مصر؟  أترك للقاريء أن يجيب على هذا السؤال.