Tuesday, December 28, 2010

الفقر والإنتماء
د.علياء رافع
 الفقر ليس مبررا لخيانة الوطن، ولكن الخيانة هي مؤشر لذلك الإنفصال بين المواطن ووطنه، والذي يمكن أن يحدث في أي طبقة ولأسباب مختلفة. أقول هذا بمناسبة القبض على ذلك الشاب المتهم بالتجسس، والذي يقول أنه كان ينوي أن يترك الموساد بعد أن يحصل منهم على قدر من المال يعيش به حياة طيبة. ومع منطق بسيط يمكن أن نسأل هذا الشاب: وماذا يفيدك المال بعد أن تكون قد ألحقت ضررا بوطنك؟ ماذا يفيدك المال وأنت تساعد على تخريب تلك البيئة التي تعيش فيها أسرتك؟ أي منطق هذا؟ حقا إن إستغلال حاجة الفقراء في الدفع بهم إلى الجريمة واقع نعيشه على مختلف المستويات، ولكن هناك كثير من الفقراء الذي يمكن أن يرفضوا أموال قارون إذا كان ذلك يتطلب منهم أن يخونوا مبادئهم.
لا يحتاج الأمر إلى مساومة أو تبرير،  خاصة وقد أصبح الفساد أسلوبا منتشرا ومقبولا،  إلى الدرجة التي يتجرأ بها هذا الشاب ليقول أنه أراد أن ثمن خيانته لوطنه هو أنه سيوفر مالا لأسرته، وإلى الدرجة التي قد يتعاطف بها بعض الناس معه. وهكذا تسير المبررات التي تخلخل من بناء الوطن، وتقف في طريقه إلى التقدم. إن من يقبل الرشوة يعتبرها إعانة له على الحياة، ومن يهمل عمله يتعلل بأن راتبه ضئيل "على قد فلوسهم"، ومن يلوث النيل، والماء فهو غائب عن الوعي برشفة الماء وأهميتها، ومن يجرف الأرض الزراعية فهو لا يدرك أنه يرتكب جريمة قتل للبيئة. وهكذا دواليك.  وكشفت الانتخابات الأخيرة أن البلطجة أسلوب متكرر في كل إنتخابات. ما الذي حدث لمصر؟  ذلك البلد العظيم الذي يحمل تاريخه أرقي القيم الإنسانية. إنه سؤال في حاجة إلى دراسات، فهناك الأسباب الاقتصادية والسياسية والتعليمية، وتأثير الثقافات الواردة عن طريق الهجرة، والفضاء المفتوح في ظل الثورة المعلوماتية، وغيرها من الأسباب، ولكن كلها في النهاية سلوكيات تكشف عن نفسها فيما يمكن أن نطلق عليه ظاهرة "عدم الإنتماء".
يجب أن ندرك أن الإنتماء ليس علاقة مفروغا منها لمجرد أننا نعيش على أرض مشتركة، ولكن الإنتماء يتحقق عندما يكون الإنسان قادرا على أن يحقق حلمه على أرض بلده، وعندما يكون حلمه الفردي والحلم القومي متلازمان. ولذا فإن قوة أو ضعف الإنتماء لا تتكون فقط من خلال العواطف والشعارات، ولكنها علاقة بناء جسور من التفاعل الإيجابي داخل الوطن ليكون مكانا آمنا يعيش فيه كل مواطن. الإنتماء رغبة حقيقية في أن نبني بلدنا ونتقدم بها،  نكون في إستعداد لكل التضحيات لأننا نؤمن أن ما نقوم به اليوم سيجنيه أبناؤنا غدا. هكذا عاش الشعب المصري لحظات بطولية في تاريخه الطويل، أوضحها وأقربها ما قدمه شعب مصر في حرب 1973، حيث تضافر العلم مع التخطيط والإيمان. لم يكن العبور سهلا، لقد سالت دماء الشهداء زكية على أرض سيناء، كانت نفوسهم راضية مطمئنة، لأنهم أدركوا أن تحرير الأرض هو حرية للإنسان المصري، هو الخلاص الحقيقي، هو البداية لنهضة مصر.
ماذا تقول أرواح الشهداء اليوم عما حصدناه في خلال تلك الأعوام؟ هل حققنا لمصرنا في خلال سبع وثلاثين عاما – عمر شباب بلغ مرحلة النضح الآن – ما كان يرنو إليه الشهداء. إن أقسى ما يصيب الروح في مقتل غياب العدل، والشعور بالظلم.  وهذا ما يقاسيه أبناءنا عندما لا تتوافر للشباب فرص متساوية في التعليم والعمل. هناك درجات من التعليم، بدءا من التعليم الدولي إلى التعليم الحكومي المجاني.  لا بأس من التنوع وليس هذه دعوة إلى إغلاق المدارس الدولية أو المدارس الخاصة، ولكن يجب أن يشعر المواطن العادي الذي لا يملك أن يدخل أبناءه في التعليم باهظ التكلفة أن الدولة توفر له تعليما جيدا لأبنائه، يؤهله أيضا لدخول أفضل الجامعات. وأن من ينال شهادة جامعية يكون قادرا على التنافس الشريف في سوق العمل، أي لا تكون الواسطة هي الباب الذي يفتح للمواطن المجالات المغلقة على غيره.
إن الواقع  يشهد أنه في أعتي الدول التي تعيش على الإقتصاد الحر، هناك فرص متاحة للمجتهدين من الناس دون تفرقة. ها هو ديك تشيني يفخر أن أباه كان طاهيا، ولكنه تعلم وتقلد المناصب ليصبح نائبا لرئيس الجمهورية. ها هو أوباما يبدأ حياته في شظف من العيش، ولكنه يجتهد ويدخل أكبر الجامعات الأمريكية، ويغتنم الفرص ليكون رئيسا.  هل يمكن أن يحدث هذا في بلدنا؟ أين أحلام البسطاء؟  إنها لا تتعدى الحصول على وظيفة، ويقف السقف عند هذا الحد، وقد يمتد بحثا عن فرصة في بلد آخر، حتي لو كان هذا يؤدي إلى إنتهاء الحياة، في حركة غير محسوبة أو مدروسة، ولكنها محاولات للخروج من أرض الوطن إلى حيث ما يعتقدون أن الجنة المفقودة في أرض الغرباء. هكذا يرمي أبناؤنا أنفسهم في محاولات إنتحارية ليدخلوا بلادا لا تقبل هجرتهم. إلى هذا الحد بلغ بهم اليأس والأكتئاب.
إذا أصبح الوطن مجرد مكان نعيش فيه، لأننا قد ولدنا وتقدم بنا الزمن على أرضه، لا نملك أن نحلم فيه بمستقبل أبنائنا، وإذا شعر أفراد هذا الوطن أنهم ليس لهم إرادة تصنع الغد، وأنهم سائرون تبعا لمن يخططون لهم الحياة والمكانة، يصبح الوطن كيانا غائبا عن وعي من يعيشون على أرضه. لا عجب أن تصبح المصلحة الفردية هي الدافع والأساس الذي يحرك الفرد، بصرف النظر عن محيطه العام.  لا عجب بعد ذلك أن يستدر هذا الجاسوس العطف بقوله أنه كان يريد أن يؤمن نفسه وأسرته بمبلغ من المال "فقط". ومن مظاهر عدم الإنتماء أيضا الهجرة إلى الماضي في تلك الإتجاهات السلفية التي تتجاهل الواقع والتي قد يتمخض عنها أنواع متنوعة من التطرف، الذي قد يعبر عن نفسه في الإغراق في الفكر الغيبي، وهجر التخطيط والتفكير الواقعي العلمي، أو الإنخراط في جماعات عنف، تريد أن تدمر، ولا تتطلع إلى البناء.
إن أخلاقيات المنفعة والمصلحة والرشوة والفساد بشكل عام وإنتشارها هي تعبير عن تخلخل تلك الروابط الاجتماعية التي تجعل المجتمع آمنا، ولكن السؤال هو كيف نستعيد "الإنتماء". أحسب أن هذا الشعب في حاجة إلى رؤية للمستقبل يشارك في تكوينها والتمسك بها، تنبع منه، وليس من خلال قوى خارج إرادته. إنه ليس في حاجة إلى شعار "من أجلك أنت"، ولكنه في حاجة إلى دعوة "معا نبني وطننا".  إذا إستمرت الدولة أو الحزب في الإمساك بكل الخيوط بيدها، حتي ولو كان هذا من أجل صالح الوطن، فإن التجاوب مع كل الجهود المبذولة لن يثمر إلا القليل، لأن المصريين أصبحوا لا ينظرون إلى الإنجازات المعلن عنها، بل والملموسة أيضا، ولكنهم يريدون أن يشعروا أن مستقبلهم آمن، وأنهم يعرفون ماهو دورهم في تنمية بلدهم. إنهم مستعدون أن يستحملو اقسوة "الآن" من أجل غد أكثر إشراقا، ولكن كيف يمكن أن يحدث هذا، والفقراء يزدادون فقرا، والأغنياء يزيدون ثراء، والأدهى من ذلك وأمر أنهم عندما ينظرون إلى الماضي القريب يدركون أن آباءهم قد بذلوا الكثير من أجل الوطن، وأنهم لم يجنوا بعد أي ثمار لتضحية الأباء، فكيف يثقون في الحاضر من أجل المستقبل؟  

No comments:

Post a Comment