Tuesday, January 4, 2011

النقاب .. والحرية الشخصية د. علياء رافع


لا أستطيع أن أتصور أن إرتداء النقاب، وإخفاء الهوية حق من حقوق الإنسان، وصيانة لحرية العقيدة، وذلك ببساطة شديدة لأنه لا يمكن أن يكون هناك حق إنساني أو ديني في أي مجال يبيح التعدي على حقوق الآخرين، ويهدد أمنهم . وفي هذا المجال أنا لا أناقش الزاوية الدينية أو الفقهية، ولكنني فقط أثير حق المجتمع في التعرف على هوية من يتعامل معهم. إذا كانت  هناك أستاذة جامعية تحاضرفي قاعة للمحاضرات فإن من حق الطلبة أن يتفاعلوا معها ويروا تعبيرات وجهها، وهذا جزء لا يتجزأ من العملية التعليمية، وإلا لكان من الأفضل أن يمكثوا في بيوتهم ويقرأوا كتبهم دون التواجد في قاعة المحاضرات. ومن ناحية أخرى، فإنه من حق الأستاذ أن يقرأ في وجوه الطالبات تعبيراتهن ويتفاعل مع هؤلاء المندهشات، أو أخريات متثاءبات، أو غيرهن من المتحمسات .. إلخ ،  ذلك أن الطلبة هم  الذين يلهمون الأستاذ ويساعدونه على إجادة دوره فكيف له أن يؤدي مهمته مع طالبات متنقبات. وهكذا دواليك في كل الأعمال الأخرى. مثلا إذا كانت المتنقبة ممرضة، فكيف يمكن للمريض أن يشعر بالإطمئنان وهو لا يعرف هوية من ترعاه. إن من حق المريض أن يتعرف على من تعطيه الدواء ويرى ملامحها. كيف لمريض أن يأخذ دواء من إنسان لا يعرف هويته، وكيف له أصلا أن يتيقن من أنها الممرضة  المعينة وليست إنسانا آخر يدعي ذلك لسبب أو لآخر؟
إن هذين المثلين غاية في الوضوح بالنسبة لحق الطالب والمريض، وكذلك من حق كل إنسان في الطريق أن يتعرف على هوية من يسير بجانبه، أو يركب معه القطار أو الأتوبيس أو أي نوع من أنواع المواصلات. إن إنتشار النقاب بهذه الصورة المتزايدة، والدفاع عن حق إختيار المرأة لما تحب أن ترتديه يخرق حقوقا أخري، ويهدد الأمن.  ولقد كتبت سابقا أقول أنه في مدينة يبلغ سكانها الملايين من البشر، يمكن أن يكون النقاب وسيلة لتفشي الرذيلة، والسرقات، والعنف بمختلف أنواعه.  والمناقشة هنا ليست هجوما على المتنقبات،  فلا شك أن الكثيرات منهن من يردن أن يتقربن إلى الله، ولكن ليس معنى هذا أنه من أجل هذه النسبة من السيدات، يسمح لكثيرات أخريات أن يستخدمن النقاب من أجل كثير من الجرائم.  وليست هذه هي الوسيلة الوحيدة للتقرب إلى الله، ولا أريد أن أدخل في جدل عقيم عن أهمية النقاب دينيا، ذلك أن من يفترض أن النقاب ضرورة دينية، فإنني أعتبر أن هذه هي حريته الفكرية، حتي ولو لم أتفق معها. وهناك الكثير من الأحاديث والرؤي الفقهية التي لا تري في النقاب فضيلة أو فريضة بقدر ما كانت عادة. وفي كل الأحوال فإنني  على يقين أن الدين – كل الأديان – قد جاءت لخير الإنسان، وأن أي أسلوب في الحياة أو طريقة في التفكير تبخس من حق الإنسان – رجلا كان أو إمرأة، فلا بد أنها نتاج قراءة خاطئة أو رؤية غير واضحة، وأن أي ممارسة بها تهديد للأمن لا يقرها الدين.
أقول قولي هذا وأريد أن أذكر في هذا الصدد تجربة لإحدى طالباتي التي أثارت موضوع النقاب في صدد الحديث عن الثقافة وكيف تؤثر على البناء العقلي الذي نرى به العالم.  لقد مرت هذه الطالبة بتجربة جديرة بالإهتمام، وكشفت لي أمورا لم أكن على دراية بها.  أولا  علمت أن هناك دعاة في مختلف أنحاء مصر، يتخذن من الجوامع مراكز لبث فكريقوم على إرهاب المسلم، تحت زعم عقاب الله، ويؤكد على ضرورة النقاب بإعتباره فريضة بدونها فإن النار تكون بئس المصير. كما تبين لي كذلك أن هناك خلايا من البنات يقمن بدعوة زميلاتهن إلى إرتداء النقاب. النقاب إذن هو رمز لهذا التشدد الذي يصحبه دعوة إلى ترقب عذاب الآخرة في كل خطوة، والخوف من كل عمل عسى أن يكون فيه خطأ، وهو ما سيؤدي بشبابنا إلى فقدان الثقة بالنفس، والتردد، والإنسحاب من الحياة، والقلق الدائم، وغيرها من المشاعر التي ستفقده تحمسه للحياة، وتطلعه إليها. مرة أخرى أنا لا أهاجم حرية أي سيدة في إختيار ما تشاء من وسائل تقربا إلى الله، ولكنني أكشف عن بناء فكري – سواء أستخدم من أجل الدعوة إلى التنقب أو لأي دعوة أخرى – فإنه يقوم على الترهيب وإلغاء العقل.
ثانيا إكتشف إن القنوات الفضائية تؤثر تأثيرا قويا على شبابنا، فلقد وضحت لي طالباتي أن كثيرا من القنوات لا هم لها إلا الحديث عن الفتنة بين الجنسين، وضرورة إرتداء النقاب، وهو ماشجع الكثيرات على إرتداء هذا الزي، ولا عجب أن أعداد المنقبات في تزايد مستمر، وأخشى أن تصبح هذه النسبة هي النسبة الغالبة. تعرضت الطالبة المذكورة لهذه الدعوة ، ولكن هذه الطالبة لم تستسلم لما يقال لها. قالت لي أنها قد تأثرت في بداية الأمر مثل غيرها من الشابات، وإرتدت النقاب، ولكن أصابها حال من الإكتئاب، بالإضافة إلى أنها شعرت أن هذا الزي لا يتناسب مع الحركة، أو الراحة الجسمانية والنفسية، مما جعلها تعيد التفكير فيما تستمع إليه. كانت تتحدث بحماس منقطع النظير وهي تقول أنها قد أصبحت الآن قادرة على أن تدحض كل إدعاءاتهم، وتستكمل حديثها :  "ذلك أنني عندما قرأت في الكتب المختلفة وجدت أن الإسلام قد أعطي الإنسان الأمل في هذه الحياة. الله سبحانه وتعالي أخفي علينا وقت الموت، حتي نظل نحلم ونتطلع إلى المستقبل، وإلا لتوقفنا عن الحلم والأمل. فلماذا يملأوا قلوبنا باليأس والإحباط، ويجعلونا لا نفكر في الحياة، بل نفكر دائما في الموت  ويعتبرون أننا نعيش في سجن، لأن الدنيا بالنسبة لهم ما هي إلا سجن كبير.  بل إنهم يسجوننا بالفعل في فكرهم". وتقول بكل ثقة: "أنا متأكدة الآن من طريقي وأعرف جيدا ماذا أريد أن أفعل، لأنني صممت أن أستخدم عقلي وأن أفكر في الدين أنه لخير البشر وسعادتهم".  السؤال هو كم فتاة يمكن أن تتحلي بهذه الشجاعة وأن تختار لنفسها وتفكر بعقلها. إن هؤلاء الدعاة الذين يتحدثون بإسم الله يضعون من أنفسهم آلهة، ولا يتركون حتي مجالا للإختلاف في الرأي معهم، وهو ما يهدد مستقبل هذا البلد إذا ما إستمر هذا الفكر ينتشر بهذه الصورة.
وفي عام 1996، أصدرت المحكمة الدستورية العليا، حكما يؤيد منع الطالبات من إرتداء النقاب، وذلك في دعوى قضائية أقامها أحد أولياء أمور بعض الطالبات ضد وزير التعليم الذي أمر بعد السماح للطالبات المتنقبات بدخول المدارس، وجاء في هذا الحكم: " إن إلزام المرأة إخفاء وجهها وكفيها وقدمهيا عند البعض، لا يكون تأويلا مقبولا، ولا معلوما من الدين بالضرورة، ذلك ن معنى العورة المتفق عليها لا يتصل بهذه الأجزاء من بدنها، بل إن كشفها لوجهها أعون على إتصالها بأخلاط من الناس يعرفونها ويفرضون نوعا من الرقابة على سلوكها، وهو كذلك أكفل لحيائها وغضها من بصرها وأصون لنفسيتها، وأدعى لرفع الحرج عنها".  وهكذا فإن المحكمة الدستورية قد عبرت ببساطة شديدة ودون دخول في جدل عقيم أن كشف الوجه صالح عام لا بد من تزكيته، وأن حجب الوجه تأويل غير مقبول للنصوص.
ولكن مايدهشني حقا أن كثيرين يخشون أن يقفوا أمام إنتشار النقاب، بل ويذهب الأمر إلى حد أن المحكمة الإدارية العليا تدين المؤسسات التي تمنع دخول موظفيها أو المستفيدين منها بهذا الرداء، ففي الحكم الصادر ضد مجلس إدارة الجامعة الأمريكية بمنع دخول المنقبات الجامعة، تصدر المحكمة الإدارية العليا حكمها في 9 يونيو 2007 جيء في ديباجة الحكم ما يلي: " النقاب غير محظور شرعا وإنما هو زي مباح للمرأة ارتداؤه وفقا لما تراه تجسيدا لحريتها الشخصية والعقيدية ولا يجوز لأية سلطة أن تمس هذه الحرية وتلك العقيدة". 
وأكدت المحكمة الإدارية العليا هذه الرؤية مرة أخرى،  إذ حكمت لصالح الطالبات المتنقبات بعد أن منع عمداء بعض الكليات الطالبات المنقبات من دخول إمتحان الترم الأول يناير 2010، وجاء في حيثيات الحكم النهائي الذي أعلن في 20 ينايروهو حكم غير قابل للطعن: "عدم شرعية قرار رؤساء جامعات القاهرة وعين شمس ووزير التعليم العالي بشأن حظر دخول الطالبات المنتقبات المحاضرات أو الإمتحانات بالنقاب". وأما الأمر المؤسف حقا هو أن يوقف رئيس جامعة القاهرة عن عمله لتصديه لظاهرة النقاب في جامعته.   إلى أين نحن ذاهبون؟ هل نحن متجهون إلى الأمام، أم إلى الخلف؟ وأين حكم المحكمة الدستورية العليا الذي لم يحترم؟ ولماذا يتناقض حكم المحكمة الإدارية العليا مع حكم المحكمة الدستورية ومع متطلبات الأمن في المجتمع ؟ هل نحن حقا في القرن الواحد والعشرين؟

No comments:

Post a Comment