Tuesday, January 11, 2011

المسكوت عنه في حادث الإسكندرية الإرهابي د. علياء رافع


لن يهدأ لمصر وللمصريين بال قبل نزع جذور هذا الفكر الإرهابي الذي يؤدي إلى هذا العنف ضد الأبرياء من أبناء الوطن. ولا أضيف جديدا عندما أقول أن مصر كلها قد باتت حزينة في يوم كنا نستقبل فيه عاما جديدا، ويتمنى بعضنا لبعض أن يكون عاما سعيدا. لقد أجهضت الفرحة، والاحتفال والتطلع بالمفاجأة بهذا الحدث، وهو عمل أقل ما يقال فيه أن من قام به قد تجرد من إنسانيته. و لا يمكن أن يكون هناك أي مبرر لقتل أبرياء في دور عبادة، أي بيت من بيوت الله. هذه الضربة هي موجهة بالفعل إلى الأقباط كهدف أول، ولكنها موجهة لمصر كلها وهذا هو الهدف الأكبر، ذلك أن التداعيات الممكنة من مزيد من التفريق بين عنصري الأمة تتعاظم، وهو ما يتمناه أعداء مصر، والمتربصون بها.  ولكن السؤال الهام يتعلق بمدى قدرة هذا الفكر المتطرف على السيطرة والإنتشار بين المصريين، وألمح بذوره في فكرة الإستبعاد التي أصبحت تنتشر، وهي أبعد ما تكون عن ثقافتنا العريقة.  وأقصد بالإستبعاد هذا الوعي بالمصري المختلف في الديانة، أو الشريحة الإجتماعية، أو نوعية التعليم،  بإعتباره "آخر".  هذا الإستبعاد نذير بتفكك المجتمع وضرب في القدرة على التواصل بين أعضائه. وعندما يصبح الإستبعاد ثقافة يدخل فيها العنصر الديني يصبح الأمر أكثر خطورة.
عندما ذهبت إلى الجامعة بعد يوم من هذا اليوم الحزين، أخذنا جميعا نعزي بعضنا بعضا، ونتحدث عن كيف كنا وكيف أصبحنا. كل منا لديه قصة يقصها، تؤكد أننا لم نعرف هذه التفرقة في الوعي أو في المعاملة.لم يكن جيلنا وجيل أبائنا يفكر في هوية الجار أو زميل العمل الدينية، وتصديقا لهذا القول، أخبرتني زميلتي الأستاذة الجامعية، أنها فوجئت أن عمارتهم التي يملكها والدها يسكنها عدد كبير من أسر المسيحيين، بل وأسرة يهودية. لا شك أن الأب لم يكن يميز بين ديانة وديانة، ولم ينظر إلى القادم إليه للإستئجار سوى أنه مصري. ويقول لي زميل أستاذ أن أكثر الأصدقاء قربا لوالده كان مسيحيا، وكانوا ينادونه "عمي... "، وتحكي ثالثة عن المشاركة بين المصريين مسيحيين وأقباط في المناسبات المختلفة، وفي الأفراح والأتراح، مازالت هذه الثقافة شائعة، فخالتي لم تكن تفارقها جارتها المسيحية التي كانت شبه مقيمة لديها، وتقص أحدهما للأخرى كل ما يشغلها، ومع ذلك فإن الوعي بأن هذا قبطي وهذا مسلم يتزايد، ويفسد هذه العلاقات الحميمية الطبيعية.   
 إذا نظرنا إلى الماضي نلاحظ أنه لم يكن هناك ذلك الفاصل الذي يجعل كل أصحاب دين يجتمعون معا، وينعزلوا عن غيرهم، أو على الأقل يكون هناك إدراك أن هذا مسيحي وذلك مسلم. كانت الأزياء متشابهة، حتي عندما كان هناك حجاب للوجه، وتقاليد عزل المرأة عن العمل والتعليم، كان المجتمع المصري كله يخضع لهذه التقاليد، وكانت الحركة النسائية تجمع بين مسلمين وأقباط.  ولا أخفي سرا، إنني عندما أدخل اليوم قاعة المحاضرات، وأجد فتيات لا يرتدين غطاء على رأسهن، فإنني أتوقع للفور أنهن مسيحيات. هذا التمييز الذي أصبح واضحا حتى على مستوى الشكل لا أعتقد أنه ظاهرة صحية،ؤ فلقد إنتشر هذا الزي وخرج من مجال التدين إلى مجال التقاليد، ومن مجال الإختيار إلى مجال الشائع، وأصبح أقرب إلى أن يكون زيا قوميا للغالبية العظمي من المسلمات المصريات.  قد لا يكون هناك إعتراض أن يكون هناك إختلاف في الاختيارات، ولكن لا ينبغي أن يكون هذا مقترنا بالتمييز، أو الإشارة التي ترتبط بأسلوب مختلف في المعاملة.  
وعندما نتحدث عن "التسامح الديني" يقترن هذا الحديث بنبرة إستعلاء، أو تمييز، وهو نوع من أنواع الإستبعاد أيضا (بالنسبة للطرفين) لأنها تجعل الدين محور العلاقة الإنسانية التي هي في الأساس يجب أن تكون مستقلة عن تلك العلاقة الخاصة بين الإنسان وربه التي يشكلها الدين. وإذا صدقنا القول  لأدركنا أن كل الأديان  تدعو إلى الرحمة والمحبة والصدق والإخلاص والأمانة وكل الأخلاقيات الكريمة، تلك هي الأرض المشتركة التي نتلاقي عليها،  ويؤكدها ويرسخها حضارة بدأت قبل الأديان المنزلة تكتشف الضمير، وتؤكد البعث والحياة الآخرة، وتكون أحد ركائزها الأساسية، وأما التفاصيل العقائدية فهي ميراث ثقافي، قد نعيد التفكير فيه، أو نقبله كما هو، فهذا أمر خاص بكل جماعة وكل فرد على حدة، وليس هناك مجال لأحد أن يتسامح أو يتشدد، لأنه دخول في مجال خاص له حرمته واحترامه. هذا هو المعنى العميق لكلمة مواطنة، لأنها تجعل الجميع متساوين حقا وليس فقط إنطلاقا من عبارة نص عليها الدستور، أو قانون أكد على وحدة الحقوق والواجبات.   
كانت كلمات البابا شنودة في حديثه التليفزيوني تحمل ألما دفينا، فعندما سئل عن المواطنة، فإنه تحدث عن البعد المعاش في المواطنة، وليس مجرد التعريف النظري لها، وربما كان بشكل خفي يشير إلى هذا التمييز الذي يسود الثقافة بشكل عام، والذي أخذ ينمو من خلال الخطاب الديني غير الرسمي في الزوايا، بل والأسلوب الذي يدرس به الدين في المدارس. كانت تلك المرارة في صوته وملامحة مرآة يمكن أن نقرأ فيها مشاركته للمشاعر التي يحس بها الأقباط . لا شك أن هناك مشاكل يواجهها الأقباط  على المستوى القانوني، وعلى مستوى الإغتراب الثقافي الذي حدث منذ أن بدأ المصريون يهاجرون إلى بلاد لا تقرأ الإسلام كما قرأته مصر التي رأت فيه عندما إستقبلته دين المحبة والرحمة والمودة، وترجمه المصريون سلوكا وفعلا، كانوا يعيشون الإسلام دون التشدق بالعبارات والتشدد في الحرفيات. والعودة إلى الإيمان بإعتباره قيمة معاشة توحد بين الجميع، خليق بأن يعيد إلى مصر وجهها المشرق.
لقد كتبت في الأسبوع الماضي أحذرمن إنتشار النقاب لأسباب أمنية، وأحسب اليوم ونحن في هذه الحال من التهديد القادم جزئيا من جهات خارجية، والمعتمد بشكل كبير على خلخلة في الفكر الديني في مصر، أننا في حاجة إلى درأ الفكر الذي يؤدي إلى التشدد، وإلى التمييز بين مسلم ومسيحي داخل بلدنا،  وفي حاجة إلى ما يشيع الأمن والأمان في نفوس كل مصري. واليوم لا يسعني إلا أن أشيد بزاوية الرؤية التي عرضها أ. السيد ياسين في مقاله الأسبوعي بالأهرام، حيث أنه قد أوضح كيف أن الفكر المتطرف المتأسلم الذي نجده في إتجاه تنظيم القاعدة على سبيل المثال، له جذوره في الفكر السلفي التقليدي المغلق، الذي يقدس الماضي  ويسجن نفسه فيه، ولا يريد أن يخرج منه. إنه ذلك الفكر الذي يمحي القدرة على التفكير النقدي، ويجعل الإنسان أسيرا وتحت سيطرة قوة أخرى وعقل آخر، يتجسد في تلك الفتوة الفضائية، أو في منطق هذا الشيخ في تلك الزاوية أو هذا الجامع، وهكذا نواجه ردة ثقافية، لا تتعلق بالدين بأي حال من الأحوال، حيث أن الدين قوة روحية تدفع الإنسان إلى الأمام، ولا تشده إلى الخلف أبدا، لأنها تحرره من تقديس أي قوى وتدعوه أن يكون هدفه المنشود دائما هو الحق، دون الإدعاء بالإحاطة المعرفية به.  أتهم الجهل والجهالة دائما بأنها السبب في تغذية أرض خصبة لهذا الفكر الأحادي للنمو، جهل بتاريخ بلادنا، وبديننا السمح.
وفي هذا المقام لا يسعني إلا أن أشير إلى  الدور المتميز لشيخ الأزهر د. أحمد الطيب الذين تحدث إنطلاقا من مستوى المسئولية، موضحا سماحة الدين الإسلامي في سيرة رسوله.  شيخ الأزهر  يمثل سلسلة من المسلمين الذين إتخذوا من رسول الله قدوة ومن سيرته نورا، حيث أنه صلي الله عليه وسلم، لم يألو جهدا في أن يوضح أن رسالته جامعة، أي متسعة لكل البشر بالرحمة والمودة، لم يكره أهل الكتاب أن يغيروا أسلوب عباداتهم، ولكنهم دعاهم إلى الكلمة السواء، وإعتبر اليهود مع المسلمين أمة واحدة في المدينة، وإستقبل المسيحيين من نجران، وأكرمهم، وفتح لهم باب المسجد ليصلوا فيه، هكذا كانت أسوة الرسول كما تحدث عنها سماحة شيخ الأزهر.. ولكن أين نحن اليوم من هذه السيرة العطرة وما تدعو إليه؟ ولماذا يتغلغل هذا الفكر في شبابنا؟
إن المسكوت عنه في حادث الإسكندرية، ليس مجرد غياب قانون موحد لإنشاء دور العبادة، وليس فقط التراخي في الإجراءات الأمنية الخاصة بأحداث إعتداءات متوالية بين مسلمين وأقباط، وإنما المسكوت عنه أن المصريين أصبحوا يشعرون أنهم فريقان أو عنصران، وهم في الواقع "مصريون" فقط ، ولا ينبغي أن يكون هناك أي شعور بمن هو القبطي ومن هو المسلم، إنما يجب أن تكون الأرض المشتركة بيننا قائمة على التاريخ الذي وحدنا، والإيمان بالله واليوم الآخر الذي شكل العنصر الرئيسي في حضارتنا قبل الأديان، وإستمر بعد الأديان، وعلى أساس هذا الإيمان قامت بيننا أخلاق مشتركة تدعو إلى الفضيلة والحق والخير والجمال. بهذه الأخلاق قامت الحضارة المصرية العظيمة، وبها يمكن أن تقوم مصر رائدة للحضارة مرة أخرى. 

No comments:

Post a Comment