Tuesday, October 19, 2010

ما زال النيل متدفقا بالعطاء : في ذكرى رحيل محمد السيد سعيد د. علياء رافع


إهتزت كل مشاعري وأنا أري عملاقا في قامة الأستاذ سيد ياسين يقدم إسهامات د. محمد السيد سعيد في ذكرى رحيله بكل التقدير والموضوعية، وبلغ به التأثر حدا جعله يتوقف عن الكلام. وتحولت كلمات الأستاذ وعبراته التي جاهد في التحكم فيها  إلى سميفونية رائعة تضرب أنغامها خارج حدود القاعة التي اجتمعنا فيها، وتتواصل مع تاريخ مصر الحضاري، وقامتها الشامخة، وثرائها الإنساني. إنها سيمفونية بدأت من عمق التاريخ، وتتواصل مع سريان النهر في أرض مصر مؤكدا أن مصر لن تموت، وأن النهر البشري المصري سيستمر متدفقا بالعطاء دون توقف.
لم تكن مصر هبة النيل، بل كانت هبة أبنائها الذي إستئنسوا النهر، وأقاموا على ضفاف هذا النهر حضارة هي بداية لعطاء متواصل للإنسانية. حضارة مصر ليست حكرا على أبنائها، ولكنها ملك للعالم أجمع، اجتمعت فيها الأخلاق والعلم والإيمان، الفن والعمارة والإبداع بكل أنواعه. كان الأجداد يرسون قواعد للنمو والتقدم، ولم يتصوروا أننها سنغني ونشدو بما قاموا به، دون أن نضيف إليه، ونطوره، ونخرج للعالم بعطاء متواصل وحضارة متجددة. ولكن عندما يظهر الرواد والمفكرون في كل المجالات على مر  العصور، فإنهم يأخذون المسيرة إلى الأمام، ويستمرون في التغلب على الأحراش الفكرية التي تمنع تدفق النهر الإنساني إلى مساره ليروي أرض القلوب والعقول، ويعود بمصر إلى مكانتها الحضارية التي تستحقها. وفي ذكرى محمد السيد سعيد، المفكر المصري الجريء رغم ما كان يرتسم علي قسماته من هدوء، والثائر رغم كلماته الموزونة المتأنية، اجتمع لفيف من المفكرين، متجهين لا إلا التطنيب والإثناء على هذا المبدع، ولكن من أجل إحياء فكره بمناقشة ما قدم والانتفاع به والإضافة إليه 
في هذا المكان في جريدة نهضة مصر منذ عام، وبعد أن فجعني خبر رحيل د. محمد السيد سعيد،  قلت لنفسي ولقرائي أن الشهداء لا يموتون، ذلك أن هذا الرجل  كان شاهدا على عصره، ومتخذا من القلم الحر سلاحه المغوار يدافع به عن حق التعبير، حتى لو كان من يدافع عنهم مختلفون معه في الرأي والرؤية، يدافع عن حق الحياة، منبها الحقوقيين والتنفيذيين أن من يترك الفقر ينهش في جسم الأمة، ولا يهتم بهموم البائسين المطحونين، فإنه يخترق حقا أساسيا من حقوق الإنسان. ذلك أن حقوق الإنسان عنده لم تكن مجرد شعار يرفعه، ولكنها كانت برنامجا متكاملا يدعو إليه. لم يكن هذا الرجل ينظر إلى مكسب سريع، أو إبراز لشخصه ولذاته، ولكنه دفع ثمنا باهظا لجرأته وإعلانه عما يؤمن به، فدخل السجن ولاقي من التعذيب ما لاقي. 
وقدم الأستاذ الموسوعي الذي لا يحتاج مني إلى تعريف أوإشادة، فهو أستاذ الأساتذة، وصاحب الرؤية الواسعة والنظرة الثاقبة لما يدور هنا وهناك، محليا، وإقليميا ودوليا، ويضرب مثلا مستمرا في تواضع العلماء والانفتاح على المعرفة بلا حدود، إنه الأستاذ سيد ياسين. إن تلك العلاقة الإنسانية بين جيلين، والتي نمت وترعرت من خلال حب مصر، والبحث الرصين المنهجي عن الإستفادة والإفادة  من العلوم الإنسانية بشمولها وإتساعها ورحابتها، تعدت العلاقة الشخصية بين فردين، وأصبحت مثالا للتجمع الإنساني الذي يتوثق من خلال وحدة الهدف وصدق النية، وعلمية المنهج.
ويكفيني في هذه العجالة أن أنقل خطاب د. محمد السيد سعيد  إلى المصريين في الكتاب الذي قام بتحريره تحت عنوان حكمة المصريين ، إصدار مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان. فهو يقول: " لقد آن الأوان لوقف عذابات هذا البلد وإنهاء بؤسه وضعفه، آن الأوان لأن نمنح هذا البلد مناعة حقيقية ضد غوائل الزمن وافتراء الطغاة من الداخل والخارج. آن الأوان لأن نقطع دابر اليأس ونعيد الأمل ببريقه وروعته إلى مصر والمصريين. آن الأوان لأن نستعيد لمصر سعادتها ومجدها وسؤددها وأن نصنع مستقبلا يليق بالبلد الذي ولدت فيه الحضاة وإبتدأ فيه التاريخ"  إنها صرخة أطلقها إلى جيل الشباب الذي عليه مسئولية الأخذ بزمام الأمور، والسير قدما بخطى واثقة، مزحزحا كل ما يشدنا إلى تقديس الماضي، والرجوع إلى الوراء.
وتأكيدا لهذا الإتجاه فإنني أقول لطلابي دائما أن إعتزازنا بالأهرامات يستلزم منا أن نتلقى الرسالة التي أراد أجدادنا أن يرسلوها إلينا عندما أقاموا هذا الصرح الذي تحدى الزمن، ومازال لغزا نبحث عن سر بنائه. وينظر إلي الطلاب وهم في حيرة من أمرهم، وهل يتكلم الجماد؟ أقول لهم ليس الفخر أن نتشدق بالكلمات عن أجدادنا، ولكن الأهم أن نتعلم منهم. لقد إستطاعوا أن يصنعوا هذه المعجزة بالتضامن والمحبة، فلم يكن الهرم مجرد قبر لحاكم، ولكنه تعبير عن وحدة أبناء النيل في هدف واحد. ولهذا فإننا إذا توحدنا على هدف نهضة مصر، حتي لو إختلفنا في الرؤى، فإننا يمكن أن نصنع المعجزات.
 والهرم الذي نريد أن نبنيه اليوم ليس هرما من حجارة نضعها جنبا إلى جنب، ولكنه تجمع للمصريين ليواجهوا التحديات الداخلية والخارجية، ولا ينتظروا تغير القيادات حتي يتغير المجتمع، بل إن التغير يجب أن يبدأ دائما من القاعدة، لا تثويرا لها كما يدعو البعض في إتجاه العنف، أوالعصيان المدني، ولكن من خلال إيقاظ الوعي الذي يجعل كل فرد منا مسئول عن الكل، وأجد أن المفكر الألماني إيمانويل كانط كان محقا عندما قال "تصرف كما لو أنك تشرع للعالم أجمع"، وهي نفس الفلسفة التي قامت عليها حضارة مصر "الإصلاح الأخلاقي بإحياء الضمير"، ذلك أن الفساد ينتشر ويتفشى لأنه أصبح القانون الحاكم، وليس الإستثناء الانحرافي، بدءا من الإهمال في القيام بالمسئوليات المهنية، وانتهاء إلى بيع أرض مصر بأبخس الأسعار، والتهاون في ثرواتها، وعدم التفكير في مستقبلها. إن المسئولية الملقاة على عاتق كل المصريين في هذه اللحظات الحاسمة، هو أن يكونوا على قدر من الشجاعة في مواجهة كل أنواع الفساد حولهم، بدءا بمراقبة أنفسهم، والتعالي عن رؤية مصالحهم الشخصية في اختياراتهم لمن يمثلهم. ذلك أن أي قيادة سياسية هي إفراز للفكر العام في المجتمع. مجرد الرفض للواقع، هو أحد آليات تغييره.
إن الهرم الذي نريد أن نبنيه اليوم لن يتم بناؤه إلا إذا تخلصنا من رواسب التفكير في القدرة على "إمتلاك الحقيقة" وفرضها على الآخرين، فهذا حقا هو الحجر العثرة التي تقف أمامنا متمثلة في أيديولوجيات متعددة، كلها يستبعد الآخر ويتخذه عدوا، ويحب أن نزيح هذا الحجر بالفكر النقدي، وإتاحة الفرصة لكل الأصوات والرؤي إلى التفاعل، ولنترك تلك الثنائيات التي تفرق ولا تجمع، والتي تضع دائما الحقيقة في لونين "ابيض وأسود"، متجاهلة كل ألوان الطيف ومشتقاتها. حقا مازال المنهج الديالكتيكي لهيجل  له فاعليته في التقدم الإنساني على أرض الواقع عندما يتاح للإنسان الحر أن يعبر عن رأيه، وأن يخرج من تقوقعه داخل مصالحه الخاصة، وتجمده الفكري، ويقبل أن يكون ناقدا لما يظن أنه الحقيقة، ليصل إلى رؤية أكثر نضجا ونماء، بإستكمال الرؤية من خلال النقد والفكر الآخر. إنها روح الإبداع التي يبشر بها محمد السيد سعيد، منتظرا أن تزدهر في الأجيال الشابة، المتطلعة إلى إختراق الصعب، واكتشاف الطريق.
لقد كان محمد السيد سعيد تجسيدا لهذه الروح التي لم تتوقف عن محاولة البحث عن السبل المتعددة في كل الأفكار، حتي إحتار في تصنيفه المحللين، لأنهم تعودوا أن يقسموا الاتجاهات بخطوط واضحة فاصلة، ولم تكن شخصيته لتقبل التقولب أو التقوقع. هذه الروح لم تمت برحيل أحد أبناء النيل من المصريين، ولكنها ستظل متجددة ومستمرة، وأقولها بملء الصوت "مصر ما زالت بخير"، ومستقبل مصر في أيدينا، في أيدي هذا الشعب، وليست في أيدي الحكام. فعلى الرغم من تلك النغمات البائسة اليائسة، والسطور السوداء المتشائمة، فإن ضوء الأمل وإشراق المستقبل يتسلل ببطء وهدوء إلى أرواحنا المعذبة، عندما نرى شخصية مصرية أصيلة ومبدعة تتجدد وتحيا وتبعث في أبناء مصر. وليس هذا تجاهلا للواقع بكل ما يذخر به من مشاكل وعقبات، ولكنه مواجهة لهذا الواقع بالعمل وليس بالكلمات. . يرحل فارس ولكن رحيله يفجر بركان العطاء في القلوب والعقول. تتحول الكلمات إلى طاقة ملهمة، وإلى عمل رصين يتجه نحو هدف واضح الملامح، كلنا يريد نهضة مصر. 

No comments:

Post a Comment