Tuesday, October 5, 2010

خواطر أولية عن الفتن الطائفية وقضية الإنتماء د. علياء رافع


إنشغل الرأي العام المصري بما قاله الأنبا بيشوي عن القرآن، وبيان مجمع البحوث الإسلامية في هذا الصدد، وتعليق البابا شنودة على ماحدث.  ولقد تم إحتواء الأزمة في الظاهر على الأقل، ولكن لا بد من إثارة الأمر بصورة أكثر عمقا، فهناك إحتقان خفي بين المسلمين والمسيحيين، ويزيد إنتشار التيار المتشدد على المستوى القاعدي الطين بلة. ولعله يجب أن ندرك أن هذه الفتن المتوالية هي إنعكاس لوضع عام يجب مناقشته والخوض فيه بكل صراحة. وحتي يمكن أن يزيل هذا الإحتقان فيجب أن نرى الأمر على مستوى  آخر غير المستوى الذي ظهرت فيه. وهذا ليس قولي ولكنه قول ألبرت أينشتين، الذي أوجد بالفعل منهجية فاعلة في فك الصراعات والخلافات بكل أنواعها.
وتطبيقا لهذه المنهجية، فإنني أثير بعض الخواطر الأولية في هذا الشأن، وأتصور أن أحد العوامل الأساسية  التي ساعدت وتساعد على إضعاف روح  الوحدة بين المصريين مسيحيين ومسلمين، يرجع إلى ضعف الإنتماء إلى الجذور الحضارية المشتركة التي تجمع كل المصريين، والتي كانت تسود بشكل طبيعي على مر التاريخ المصري، حتي في أحلك اللحظات ظلاما، كما كان الحال في عصر المماليك.  ويعود هذا الضعف أولا إلا الجهل بتاريخنا المصري وعدم معالجة هذا التاريخ من خلال رؤية الإستمرارية وليس التقطع, فنحن عادة أو أطفالنا خاصة ينظرون إلى المصريين القدماء على أنهم "آثار" من عهد سحيق، مثلهم في ذلك مثل أقوام لا تمت لنا ولا نمت لهم بصلة، ولا نركز على أن هذه الحضارة العظيمة قامت على إتقان العمل الذي هو قيمة مستمرة لا ينبغي أن تنقطع، وقامت على مراقبة النفس التي هي خطوة عظمي في التطور الإنساني، واكتشاف جديد كما قال هنري برستيد في تاريخ البشرية. ذلك أن الإلتزام بقيم الجماعة قبل نشأة هذه الحضارة العظيمة، كان ناتج من ضرورات إقتصادية معيشية كما يقول علماء الإنسان.  وقد تطور الوعي والإدراك إلى إكتشاف الضمير مع الإيمان بالبعث والجزاء في حياة قادمة. وقد توصل الإنسان المصري إلى كل هذا قبل الأديان  التي جاءت لتؤكد الإيمان بالآخرة، وتحس على العمل في الدنيا لعمارتها وتطويرها، وجعلت من العمل عبادة.  يجب إذن أن تبني مناهجنا الدراسية وبرامجنا الإعلامية على ترسيخ هذا الوعي بتلك الجذور الأخلاقية الإيمانية المشتركة، ليس فقط بين مسيحي مصر ومسلميها، بل بين كل مسلمي ومسيحي العالم. إضافة إلى أننا كمصريين لنا عادات وتقاليد مشتركة تجمعنا، ولانكاد نميز بين هذا وذاك إلا في أماكن العبادة المختلفة.
وأحسب أن التركيز على الأسس الأخلاقية الإيمانية الجوهرية المشتركة ستبعد بنا عن الخوض في المسائل العقائدية المختلفة، والتي هي مسئولية كل إنسان أمام نفسه، ولا ينبغي أن نضعها موضع مناقشة أو محاولة إقناع، لأنها تؤخذ على أنها قضايا مسلم بها، ومصدق عليها من جانب كل جماعة دينية، تبعا لما نشأ عليه أفرادها، وما تلقوه من تعاليم, آمنت عليها وبها الجماعة. وهذا هو الخطأ الكبير الذي وقع فيه رجل الدين المسيحي لأنه حاول أن يبرهن على صدق عقيدته بإستخدام آيات من القرآن، أجمع المسلمون على تفسيرها بصورة قاطعة تخالف عقيدة المسيحيين، وقد يقبل المسلمون تأويلات من علماء مسلمين، حتي لو جنحت إلى قراءة غير معهودة من قبل، وقد يرفضوها أيضا، ولكن الأمر لن يتعدى أن يكون هناك "خلاف في الرؤية"، أما إذا جاء التفسير ليخدم عقيدة أو رؤية قوم مختلفين في العقيدة، تصبح هناك حساسية مفرطة، خاصة وأن كل فريق يتربص بالفريق الآخر في ظل جو مشحون بالتفكك، لأن التركيز على ماهو مشترك مفقود. فإذا حاول البعض التشكيك في صدق بعض هذه الآيات، يصبح الأمر شديد الخطورة، وهو ما دعا مجمع البحوث الإسلامية إلى إصدار بيان صارم يضع فيه الخطوط الحمراء التي لا يجب تخطيها.
وأحسب أن هذا التفكك الطائفي – إذا جاز القول – هو أيضا أحد مظاهر التفكك العام الذي أخذ ينخر في جسم المجتمع، والذي جعل المصلحة الفردية تأخذ الأولوية بالنسبة للمصريين، خاصة وأن هناك تخاذل ويأس من أي إمكانية لتكافؤ في الفرص بين المواطنين – ليس المسيحيين والمسلمين – ولكن من له علاقة بأصحاب النفوذ، ومن ليس له علاقة بأحد. فإذا أضفنا إلى هذا أن المجتمع أخذ يسير في طريق التمييز بين أفراده  على مستويات عدة، لأدركنا كيف أن هذا من الممكن أن يؤدي إلى بناء حواجز نفسية عميقة بين أفراد المجتمع وكلنا يعلم أن خريجي الجامعات القومية أقل فرصة في الحصول على العمل من خريجي الجامعات الأجنبية. ولذا فإنه حتى مبرر الحفاظ على مجانية التعليم أصبح هراء، لأن الأًصل هو توفير فرص متكافئة للغني والفقير في الإعداد العلمي والمهني، وهو ما كان يؤدي إلى حراك إجتماعي صاعد، ولكن الشهادة الجامعية لم تعد صالحة لتوفير فرصة عمل، بل وأصبحت البطالة أكثر شيوعا في المتعلمين، لأنهم – على الرغم من مواردهم المحدودة فإنهم  يأنفون من القيام بأعمال لا تتطلب تأهيلا علميا. التعليم  مثال واحد من العديد من الأمثلة التي أدت إلى التفتت  والتفكك الإجتماعي، وغياب الوعي بالوطن الجامع الذي ننتمي إليه والذي يجب أن يعيش في وعينا. وأصبح المشترك بين أبناء هذا الوطن، هو الخوف وانعدام الثققة والاعتماد على القوة كل على حسب تعريفه وإمكانياته، حتي لوكانت قوة البلطجة.  وفي هذا الجو المشحون، يصبح "المختلف دينيا" أو حتي المختلف مذهبيا في داخل العقيدة الواحدة مصدرا للتهديد والخوف. وهو ماجعل إختفاء "كاميليا" قضية أثارت المسيحيين، والمسلمين أيضا، بينما كان السبب لا يتعدى أمورا عائلية خاصة في علاقة كاميليا بأسرتها، وهكذا نجد أننا أمام مواقف طبيعية وعادية، ولكنها سرعان ما تثير زوبعة عاتية، لأن هناك نارا خامدة، مهيئة للإشتعال مع أي قدوم ريح ولو بسيطة.
ومع غياب هذا الإنتماء إلى مصر تاريخا وحضارة وحاضرا ومستقبلا وسكنا ومأوى وقيما وأملا، تظهر بدائل أخري تربك الوعي الوطني، فتجد موجات التطرف المسلم والمسيحي بيئة صالحة للنمو، حيث يدعي بعضهم أن الأمل لمصر هو إحياء الخلاقة الإسلامية، والعودة إليها بأسرع ما يمكن، ويتبنون أفكارا سلفية، تهددنا بالرجوع إلى الوراء والخروج من حركة التاريخ والبناء، ويدعي بعضهم أن الأقباط هم أهل مصر الحقيقيين وأن المسلمين واردون ومحتلون. وقد أتاح الإنترنت لهؤلاء وهؤلاء مجالا للنزال، والمواقع كثيرة ومتنوعة. ولن يتواجد لهذه الأصوات صدى إذا ما حاولنا أن نعيد لمصر وجهها المشرق، ليس بالخطاب الديني وحده – على أهميته – وتأكيد ما هو مشترك في العقيدة بين المسيحيين والمسلمين من إيمان بالله وبالحياة الآخرة والأخلاق الطيبة، ولكن بخلق بيئة إجتماعية أقتصادية سياسية صالحة، وإيقاظ الوعي بمعنى مصر بالعلم والدراسة والثقافة، فلا يصبح الإيمان فكرة، ولكن أساسا للسلوك، ولا تصبح الأخلاق وعظا، ولكنها ممارسة في الحياة.
التصدي للفتنة الطائفية ليس بالحديث وحده، وليس بإنتهاز الفرص للدفاع عن "حقوق الأقباط"، أو "إثبات وجود مشكلة فكرية عند المسملمين"، وهذا هو محاولة لتأكيد المشكلة وليس حلها. إن من يظن أن الدفاع عن حقوق الأقباط هو مفتاح لحقوق الإنسان، يزيد الفتنة إشتعالا، وأما من ينظر إلى أهل مصر من منظور مشترك مدافعا عن حقوقهم الاجتماعية والسياسية والإنسانية فإن هذا هو المدخل الحقيقي للإقتراب والتقارب. والمصارحة والمواجهة مع الواقع.  وكذلك فإن الإعتراف بوجود مشكلة تطرف الفكري عند المسلمين، والتغلب عليها بالوعظ والإرشاد وحده لن يحل هذه المشكلة، ولكن إدراك الجذور التي أدت إلى دخول هذا الفكر ليجد بيئة صالحة لنموه، هي أولوية عملية،   وهذا هو المنهج الذي يجب أن يأخذ به من يريد أمن وأمان هذا الوطن،أي  ألا نحل المشكلة عند الوقوف عندها، ولكن نذهب إلى مستوى آخر من الرؤية لنصل إلى غايتنا. 

No comments:

Post a Comment