Tuesday, July 20, 2010

تخطي الثنائيات بين الرؤى العلمانية والدينية د. علياء رافع



يعطي التطلع إلى المستقبل الأمل في الحياة، ويضفي على كل ما يقوم به الإنسان معنى، ولذا فإنه على الرغم من النظرة السوداء التي تلوح في الأفق كلما ذكرت العولمة، فإن مقالة الأستاذ الكبير السيد ياسين عن الوعي الكوني، قد قدمت بصيصا من الضوء، لابد أن نغذيه بالدراسة والفكر والعمل.  وقد أبدع الفيلسوف الألماني هيجل المنهج الديالكتيكي الذي يرى فيه أن كل فكرة تخلق نقيدا لها، ولكن يمكن الجمع بين المتناقضات في حركة ديالكتيكية  صاعدة.  وتبنى كارل ماركس هذا المنهج  في تحليله لحركة التاريخ، وأشار إلى أنه قد أعاد هذا المنهج في وضعه الصحيح  ليقف على قدميه بدلا من قوفه على رأسه، مشيرا بذلك إلى أن العلاقات الإقتصادية ونمط الانتاج هي المعول الأول في تحديد المسار التاريخي، لأنها تحدد علاقات القوة، وما الفكر إلا تعبير عن علاقات القوة في المجتمع ولا يوجد بمعزل عنها. أي أن حركة التاريخ يحكمها الإقتصاد وليس الأفكار.  ويمكن القول أن هذا الميل نحو الإقتصاد بإعتباره العامل الأول في حركة التاريخ فيه نوع من الإستقطاب، يتساوي مع إلغاء الواقع الاجتماعي بكل تجلياته في مقابل الواقع الفكري المنعزل عن البيئة التي نشأ فيها.  ولذا فإنني أظن أن العلاقة بين الواقع الإجتماعي (حيث يلعب الاقتصاد دورا رئيسيا) والواقع الفكري (حيث تحتل رؤى العالم موقعا محوريا) علاقة تفاعلية، يصعب التأكيد فيها أن أحد الجانبين له الأسبقية على الجانب الآخر.
إنطلاقا من هذه الرؤية سأقترب من منطقة شائكة، كلما ولج فيها مفكر أو مبدع، انقلبت عليه الدنيا ولم تقعد، فهو إما علماني، يتهم بأنه منكر لقدسية الوحي، كما حدث مع د. نصر حامد أبو زيد (رحمه الله)، أو إذا ذهب إلى الكفة الدينية، فهو سلفي سيعود بالزمن إلى الوراء. ولعل القاريء إتضح له ما الذي أعنيه بالمنطقة الشائكة إنها المنطقة التي تجعل العلمانية والتدين كأنهما أمران متناقضان، أو بعبارة أصح هما خطان متوازيان لا يمكن إن يلتقيان إلا في المطلق. ويمكن القول إن هذه الرؤية هي رؤية إختزالية، لأنها لا تري المفاهيم الكبري في تطورها عبر الزمان والمكان وتغيرها وتلاحمها مع التطور المعرفي والاختلافات البنائية والثقافية.
ذلك أن العلمانية الغربية هي حركة فكرية سياسية تحررية، إستطاعت أن تتخلص من تبعية السلطة الحاكمة للكهنوت الكنسي، وغيرت من هذا الاختلاط بين الحاكم بصفته على قمة هرم اجتماعي سياسي، وبين الحاكم بوصفه ممثلا أو ظلا لله على الأرض. وتم التخلص من هذه القوة السلطوية الشمولية البطراركية عن طريق الثورة، التي احتلت فرنسا فيها مركز الريادة. ولقد تأثر العالم الإسلامي بهذه الحركة، عندما أعلن أتاتورك إنهاء الخلاقة الإسلامية، والاعتماد على القوانين الوضعية، بدلا من الفقه الإسلامي في تنظيم المجتمع. ولقد إستطاع أتاتورك بتلك الخطوة الجريئة أن يدفع تركيا خطوات إلى الأمام في الاتجاه الحداثي، مما ساعد على تقدمها في مجالات عديدة. ولقد كانت هذه الخطوة في وقت له خصائصة حيث بلغ التجمد الفقهي أقصاه مع نهايات الدولة العثمانية، ولكن كانت لهذه الخطوة نتائجها السلبية، لأنها خلقت أجيالا غير مرتبطة بجذورها الإسلامية، ومترددة ما بين القيم الثقافية الغربية، وما بين القيم الإسلامية.
ولقد بينت في مقالات سابقة إننا في حاجة إلى إستعادة رؤية إسلامية إنسانية تتسم بالرحابة والاحتواء، وليس بالتجمد والإقصاء، ويرى البعض أن التقيد بالنص سيوقف العقل عن الاجتهاد، يفضلون أن يطرحوا  تجارب القدماء جانبا، ويتجهوا  إلى ما هو خير للبشر مستفيدين من التجارب الإنسانية قاطبة، ويرون أن  من يريدون أن يربطون بين تنظيم المجتمع وبين التشريع الإلهي فإنهم يتجهون إلى وضع رجال الدين وفقائهم على قمة الهرم الاجتماعي، متحكمين ومسيطرين على الأمور كلية، ويري البعض الآخر أن الإسلام من حيث هو دين شمل كل جوانب الحياة، فإن الجانب التشريعي فيه جانب مقدس لا يمكن أن يتغير أو يتبدل بأي صورة ولأي هدف لأنه يحتوى على حكمة لا نعلمها ولكن يعلمها الله وحده، ولكنها في النهاية من أجل مصلحة الإنسان.
ولكل من الاتجاهين منطق له وجاهته،  ولكن القضية ليس جدلا فكريا، إذ أن الأجدر بالإهتمام هو كيف يتحرك أي منهما على أرض الواقع،  فالشمولية والتحكم والسيطرة ليست حكرا على الفكر الديني السلفي، والحرية والانطلاق والإبداع ليست حكرا على الفكر العلماني أيضا. ولذا فإن الجدل بين الطرفين جدل عقيم ما لم نتجه إلى رؤية تبدأ من الواقع ولا تقفز عليه.  ومن المثير للإهتمام حقا أن العلاقة بين الوحي الإلهي وتنظيم المجتمع، كانت إستجابة لمتطلبات واقعية، ولهذا جاء التشريع منجما ولم يجء مرة واحدة.
يمكن أن نضع يدنا على سبب التناقض بين الرؤية الدينية والرؤية العلمانية في أن أحدهما يرى أن التشريع يجب فرضه على  الواقع، أيا ما كان هذا الواقع، والآخر يرى أن التشريع ينبثق من قراءة الواقع ويخدمه. فأما من يقولون بأن التشريع مفروض على الواقع فهؤلاء يضعون المقاصد التي ترضيهم، حتي عندما يتحدثون عن المصالح المرسلة، ودرء المفاسد. وأما الفريق الآخر، فإنه لا يستفاد الاستفادة الكافية بما وراء الخطوط العريضة التي يقدمها النص الديني والقابلة للقراءة وإعادة القراء، والتفسير والتأويل بلا حدود.
وعلى سبيل المثال فإنه من العار ونحن نعيش في القرن الواحد والعشرين أن نجد أن قانون الأحوال الشخصية الذي يقال أنه مستنبط من الشريعة الإسلامية ،ينص على أن من حق الزوج على الزوجة الطاعة، ومن حقها عليه الإنفاق، ويترتب على هذا أن خروجها من المنزل غاضبة أو لأي سب آخر نشوذ، وله الحق في أن يعيدها إلى الحياة الزوجية بقوة القانون فيما يسمي ببيت الطاعة. وتعطي شهرا واحدا، وبعد ذلك للزوج أن يطلقها بدون أي حقوق لها عليه لأنها ناشذ.  وما أريد أن أوضحه في هذا المثال، أن هذه الرؤية للعلاقة الزوجية، يخرج بها من إطار المودة والرحمة، إلى إطار آخر تنتهك فيه كرامة المرأة، وتفقد العلاقة الإنسانية معناها ومدلولها. هذا بالإضافة إلى أنها لا تساوي بين الرجل والمرأة، فيمكن للرجل أن يهجر بيت الزوجية لفترة غير معلومة، دون أن يكون في هذا لوم أو تقصير، بل وإن العقاب البدني من الزوج لزوجته – مالم ينتج عنه عاهة أو إصابة بالغة – يعتبر نوع من التأديب والزجر المسموح به قاونا (بناء على الشريعة). وهذا التطبيق غير الإنساني لفهم بعض الفقهاء عن "مقاصد" الآيات القرآنية، يجعل الكثيرين لا يملكون الشجاعة الكافية للولوج في هذه الساحة، خوفا من إتهامهم بالزندقة والخروج على الدين. ذلك أن من يهاجم مثل هذا القانون كأنه يهاجم التنزيل ذاته.  ولذا فإنه إختصارا للطريق، يحاول العلمانيون ألا يدخلوا في دائرة مغلقة، من الصعب الولوج إليها، وينادوا بقوانين وضعية تتلاءم مع العصر ومتغيراته.
إذا انطلقنا من واقعنا دارسين ما يجتاجه المجتمع حتي  يتقدم وينهض، يمكننا أن نستفاد من تجارب الشعوب من ناحية، وأن نعيد رؤيتنا للنصوص من ناحية أخرى مستنبطين منها ما يلاءمنا. ولذا فإن الاتجاه الذي أدعو إليه من شأنه أن يفتح بصيصا من الأمل في ألا نتخلى عن الهدي الإلهي، وفي نفس الوقت أن يكون الواقع هو المرشد الحقيقي لإعادة قراءة النص. إن المرأة التي تحدث عنها الإسلام، والتي تحظي الآن بكافة الحقوق المدنية، والتي تشغل أعلى المناصب في الدولة ليس تابعا لزوجها ولكنها رفيق وشريك له في الحياة.  لا يعقل من وزيرة يطلبها رئيس الوزراء لاجتماع طاريء أن ترفض دعوة رئيس الوزراء لأن زوجها في الخارج، وهي لم تأخذ إذنه. ولا يعقل أن الزوجة التي تذهب إلى بيت أمها المريضة مع إعتراض زوجها تعتبر ناشذ.   إن هذه النظرة الضيقة لمقاصد الشريعة أو مباديء الشريعة، هي التي جعلت بلدا مثل أفغانستان يعيش في عصور الظلام، تحت نظام حكم طالبان، وهي التي تصبغ العالم الإسلامي بتلك الصبغة التي يراها البعض نقيد مباديء التقدم والحداثة وما بعد الحداثة.   
والتخلي عن الفهم وإعادة الفهم في النص الديني يحرمنا من جانب آخر من رؤية قد تنير لنا الطريق، وتضعنا مع أنفسنا ومع من حولنا في سلام وأمن. وعلى سبيل المثال ما دمنا نتحدث عن المرأة،  فتلك  الرؤية للقداسة التي أعطاها الله للعلاقة بين الرجل والمرأة والتي لا بد أن تكتمل من خلال الإشهار بإعلان الزواج، تحمي أبناءنا من الانزلاق مع شهواتهم دون تحمل العواقب. وهذا الالتزام بالعفة والنقاء يعود على الفرد والمجتمع بالاستقرار النفسي والأمان. إن هذا الإلتزم الأخلاقي لا يتم تحت أي قانون، ولكنه الرؤية الكلية التي يوفرها الدين لاحترام الإنسان في كافة علاقته، والخروج به من رؤيته في جانبه الغرائزي البحت إلى رؤية كلية تحترمه جسدا وروجا.  ولهذا لا يمكن أن يكون الزواج عبودية للمرأة في ظل سيادة ذكورية، وإستخلاص هذه النتيجة وجدها كفيل بإعادة صياغة القانون سابق الذكر.  
ما أريد أن أخلص إليه في هذه القضية الهامة والشائكة أن البدء من الواقع وما يذخر به من تعقيدات، من ناحية، والتدبر فيما هو أفضل للإنسان والمجتمع على المستوى الإنساني والنفسي والروحي من ناحية أخرى، يجعلنا قادرين على التحرر من جمود الفكر السلفي الذي يقدس الأقدمين، ويقترب بنا من الفكر الإنساني العالمي، مستفيدين من كل ما هو أفضل للإنسان، مدركين أنه يمكن عندما نكون مستعدين نفسنا ومعنويا وفكريا لرؤية جديدة لتعاليم ديننا، ستقدم لنا القراءة في النص المقدس رؤية تساعدنا على الخروج من الجمود إلى رحابة الحرية والانطلاق، وتنكسر تلك الحواجر بين الرؤية الدينية والعلمانية.    

No comments:

Post a Comment