Tuesday, November 22, 2011

خيط رفيع بين التقدم والتقهقر الثوري د.علياء رافع

لا شك أن إستمرار القدرة على التجمع من أجل الإتفاق على أهداف مشتركة  قوة مضافة إلى ما حققته الثورة، وهو ما ينعش الأمل في أن تلك الجماهير العريضة لن تسكت عن حق مسلوب أو محاولة لاختطاف الثورة. ولكن السؤال هو على كل تجمهر يعبر حقا عن نبل الثورة المصرية التي بدأت في الخامس والعشرين من يناير واستمرت لمدة ثمانية عشر يوما ؟  ولم يكن تجمع المصريين يوم 18 نوفمبر من أجل الاعتراض على وثيقة السلمي فقط، ولكنها كانت من أجل إعلان الرفض التام للمحاكمات العسكرية للمدنيين، كانت من أجل المطالبة بحقوق من أصيبوا في الثورة وفيما تالاها من أحداث عنف، كانت من أجل نقد سلبيات سياسة حكومة عصام شرف، والشعور بعدم الارتياح من جراء سياسات المجلس العسكري.  وهكذا أثبت الشعب يقظته وقوته.
لم تكن فكرة وثيقة أو بيان لمباديء حاكمة جديدة، لقد سبق وعرض د. البرادعي وثيقته، وكذلك صدر بيان الأزهر للمباديء الرئيسية للدستور، كما كانت هناك وثيقة المجلس الوطني التي جمعت العديد من القانونيين والشخصيات العامة، وعرضت هذه الوثائق في حوار وطني موسع، ولكن وقف الإخوان المسلمون مع عدد قليل من الأحزاب ضد مبدأ إصدار وثيقة سابقة على تكوين لجنة تأسيسية لكتابة دستور جديد للأمة. إلى أن جاءت وثيقة السلمي التي أثارت غضبا هائلا لما بها من مواد تعطي للجيش سلطة مطلقة في التحكم في مقادير البلاد، وتجعله دولة لها ميزانية خاصة وغير معلنة على الشعب. 
وبصرف النظر عما إذا كان من حق القوى السياسية أن تصدر وثيقة مباديء لحماية تحكم أي تيار له أغلبية في الانتخابات القادمة في الحكم أم لا، فإن القضية أعمق كثيرا وأهم من "وثيقة السلمي"، إنها قضية فرض إرادة المجلس العسكري والحكومة على الشعب، كما حدث عند صدور الإعلان الدستوري عقب نتيجة اللإستفتاء على التعديلات الدستورية. ومرة أخرى فإن صدور الإعلان الدستوري في حد ذاته ليس جوهر القضية، ولكن عدم وضوح الرؤية قبل الإستفتاء، وعدم الجهر بالخطوات التي تليه يعني أن هناك دائمة خطوات يتخذها المجلس العسكري دون إعلان ودون أن يهتم بإرادة الشعب. ولو أدرك الناس أن إجابتهم بنعم على التعديلات، تعني عودة أغلب مواد الدستور القديم، لأحجم البعض أو الكثيرون منهم عن هذا الاختيار. مع العلم أن تعديل مواد في دستور سابق للثورة لا يتمشى مع الشرعية الثورية بأي حال من الأحوال. ولقد أشرت إلى هذه النقطة في مقالات كثيرة من قبل. 
 ما أزعجني أن الإخوان المسلمين يتركون جوهر القضية ألا وهي المطالبة بالشفافية وعدم التسلط والتحكم في تجاهل لإرادة الشعب، إلى مجرد مهاجمة وثيقة مباديء أساسية، ولو دخل الإخوان في الإجماع العام لكتابة وثيقة، لأصبح هذا في حد ذاته مكسبا يستطيعون من خلاله أن يشاركوا في خروجنا من تلك الأزمة التي بدأت مع رحيل الرئيس السابق، ومجيء المجلس العسكري بديلا عنه في الحكم. كنا نتصور أن هذه الخطوة الشجاعة من الجيش سيعقبها إستجابة لمطالب الثورة، ولكن ما زلنا نعيش في توجس وخيفة من جراء ما يحدث كل يوم من سلوكيات تبدو متناقضة كل التناقض، حيث يوجد الآن ما يقرب من ستة عشر ألفا في السجون العسكرية، بينما ينتشر البلطجية في كل مكان. ومع حالة عدم الإستقرار تعزف الأموال عن القدوم للإستثمار على أرض مصر، ويستمر السياح في الإحجام عن القدوم إلى مصر، إلى آخر التداعيات السلبية.
ونتيجة لهذه الفوضى والإنقسام يتداعي الحابل بالنابل، ونرى مظاهرات صاخبة تتطالب برحيل مدير مكتبة الإسكندرية د. إسماعيل سراج الدين لأسباب غير عقلانية ولا منطقية، وتحت زعم أنه جزء من النظام السابق، وهو ما يعني أن كل من يعمل في مؤسسة تابعة للدولة جزء من النظام السابق. الأولى أن ننظر إلى تاريخ الرجل وما قام به لمكنبة الإسكندرية، وما هي الأخطاء التي وقع فيها. إذا ما كان فيه إستبداد النظام وطغيانه، حسبناه عليه، وإذا كان الأمر غير ذلك، فليكن له التقدير والاحترام.
 وعادة ما يشدني أ. يسري فودة وبرنامجه المحترم آخر كلام ، ولكن تلك الحلقة التي إستضاف فيها مدير مكتبة الإسكندرية، ساءني أسلوب الحوار إلى حد الإزعاج، شعرت فيه بالتحيز غير الموضوعي ضد الرجل. ولم يكن مقبولا أو منطقيا أن يكون أجر هذا الرجل محلا للنقاش والمساءلة على الاطلاق، ذلك أن مكتبة الإسكندرية مؤسسة دولية، لها احترامها على مستوى العالم أجمع، ولها برتوكول خاص.  ولا بد من الإشارة إلى أن ما يتقاضاه هذا الرجل  لا يقارن بتلك الملايين التي يأخذها رؤساء إدارة الجرائد "الحكومية" التي تجيء ميزانيتها فعلا من الشعب. كان من الممكن لهذا الرجل ذو المكانة الدولية الرفيعة  أن يعمل في مناصب أخرى في مقابل أضعاف هذا الأجر. مجرد إثارة هذا الموضوع في بداية حلقة محترمة جعلني أشعر بالإساءة البالغة لشخصية في قيمة د. سراج الدين. ما توقعته هو أن يكون هناك نقاش عن سياسة إدارة المكتبة، ويمكن هنا أن يكون هناك النقد موضوعي. أذ أن المشاهد يريد أن يتفهم لما يثور العاملون في هذه المؤسسة؟ ما هي الأخطاء التي ارتكبتها الإدارة؟  كيف يمكن تصحيح هذه الأخطاء؟ وأما الدخول في تلك التفصيلات العقيمة عن أجره لماذا تم رفعه، ثم بعد ذلك أثارة عدم إستقبال مدير المكتبة وموظفوها للمسئول من الجهاز المركزي للمحاسبات، فهو يبدو هراءا، وليس مجاله برنامج تليفزيوني، ولكن مكانه بلاغ للنائب العام.  هذا في الوقت الذي أكد فيه مدير المكتبة أن ميزانية المكتبة معلنة للكافة على الموقع الخاص بالمكتبة. وتجيء المهزلة في الدخول في تفاصيل ليس لها أي دلالة خاصة بالرجل، وإنما هي تخص نظاما بأكمله، وقد حاول د. سراج الدين أن يشرح أن ما كان يتناوله رجال الأمن والحراسة من المكتبة كان بتكليف مركزي ليس له فيه إختيار، إلا أن المذيع يأبي أن يأخذ بهذا المنطق.
 أما تبعية المكتبة  لرئاسة الجمهورية مباشرة لا يعني أن مديرها كان خاضعا لسياسات رئيس الجمهورية، وإنما هو إعلاء لشأن المكتبة وقيمتها الوطنية. لم تكن المكتبة ملكا للرئيس وقرينته إنما هي جزء من صرح مصري له صبغة دولية، ولها إستقلالية.  لقد شاهدت بنفسي كيف أن القادمين إلى مصر يضعون زيارة مكتبة الإسكندرية على قائمة الإختيارات، ويعتبرونها صرحا عظيما لا يد من اكتشافه.  هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن نظام مبارك نفسه حارب هذا الرجل عندما كان رشحته دولة صغيرة لمنصب رئيس اليونسكو، وتخلت عنه مصر. لم يدخل سراج الدين الحزب الوطني، ولم يمارس أعمالا حزبية أو سياسية، وإنما سخر جهده في جعل هذه المكتبة مكانا للحوار الحضاري لتلعب دورها في دعم رسالة السلام في العالم، والخروج من الإستقطابات الفكرية التي تسبب العداء الفكري الذي ما يلبث أن يتجسد على أرض الواقع في حروب حقيقية.  إذا كان البرنامج يريد أن يبين الأخطاء الإدارية كان عليه أن يكون أكثر موضوعية. وليس هناك إنسان فوق النقد، أما تعمد الإساءة لمجرد أن مكتبة الإسكندرية إرتبط اسمها بالرئيس الممخلوع وقرينته، فهو تحيز لا مبرر له، وهذا هو الخط الرفيع بين ما سيدفعنا إلى الأمام، وما سيشدنا إلى الوراء. حمي الله مصر من كل سوء. 

No comments:

Post a Comment