Tuesday, March 13, 2012

وصال مع الإنسان في كل مكان

د. علياء رافع
بدت لي السبع أيام التي قضيتها في كينيا وكأنها دهر كامل، لم يكن الأمر انتقال من بلد إلى بلد، ولكن شعرت أنني انتقل من عالم إلى عالم آخر تماما. وعندما ركبت الطيارة في طريق العودة، بدا لي أنني إنسان قد أضيف إليه الكثير. كان حديثي  في مركز الأمم المتحدة بنيروبي عن التحول النوعي في الوعي، وانتقل هذا الحديث من كلمات إلى تغيير حقيقي في وعيي الذاتي والشخصي.  تحولت كل موضوعات البيئة والمحافظة عليها من رؤية تعتمد على العلم والفكر، إلى وجدان يتألم لتآكل طبقة الأوزون ونفاذ الموارد الطبيعية ووجدتني أسمع صراخ الأرض وهي تولول على أبنائها الذي يقتلونها ويقتلون أنفسهم، وصراخ الأطفال وهم لا يستطيعون التنفس، ولا يجدون نقطة المياه، وصراخ البشر في كل مكان وقد انهمر الجليد ليبتلع اليابس من الأرض ويغرق أهلها. إذا لم نستيقظ اليوم، فإننا هالكون غدا لامحالة، قد لايرى جيلنا، أو جيل أبنائنا هذه الأهوال، ولكن ألسنا مسئولين عن الأجيال القادمة؟
وعندما تواصلت مع أحفادي وأحفاد البشرية، تفتح قلبي ليتواصل مع أرض كينيا وأهلها أرى المعاناة والفقر والإهمال في البنية التحتية في بلد إفريقي ثري بمناخه المعتدل، وتنوعه البيئي، واخضرار غاباته، وخير المطر الذي ينهمرعليه فيروي أرضه السمراء ويطرح فيها الزرع والنماء. وعلى الرغم من كل ذلك تنتشر البيوت الصفيح والأكواخ البالية التي لا مثيل لها في بلادنا بهذه الكثافة وبهذا الوضوح. لماذا يختلط التقدم الرائع في التكنولوجيا بالثبات المخجل في مستوى الحياة والمعيشة. كينيا تلك الأرض التي ظهر فيها الإنسان الأول، وبفضل كفاحه استمرت الحياة، ونشأت الحضارات.
الإنسان في كينيا وفي كل مكان يريد أن يعيش حياة طيبة، تحترم فيها آدميته، ويحفظ فيها كرامته، هل هذا أمر مستحيل التحقق؟ على قدر ما يبدو الأمر بسيطا، على قدر ما تقف أطماع البشر حجر عثرة أمامه.  وقد أدرك الساسة في كل البلاد أن بقاءهم في مركز السلطة والقوة والنهب يعتمد على خلق واختلاق الفقر، حتى ينشغل الناس بمشاكل البقاء على قيد الحياة عن المطالبة بحقوقهم الإنسانية. ويعتمد هؤلاء على نشر الجهل حتي إذا ما كانت هناك مؤسسات تعليمية تتدعي أن تقوم على التعليم والتربية. يستخدم ذو السلطان هذه المؤسسات كي تمجد أعمالهم، وتلهي شعوبهم عن رؤية الواقع والحقيقة. ليس هذا حكرا على كينيا، ولكن ما رأيناه ونراه في بلادنا، بل وفي كل مكان، لن ننتظر حتي تتغير النظم السياسية، لقد علمتنا الثورة المصرية أن الأمر بيد القاعدة البشرية، ولكننا في حاجة إلى الوصلة والوصال الإنساني.
كينيا تتحرق شوقا إلى المصريين، يحبهم أهلها ويحترمونهم، رأيت مصر بلدا عملاقا بما يتواجد فيها من علم ومن خبرات بشرية يمكن بها أن تمتد يدها إلى بلاد أفريقيا السمراء. هكذا قال أحد البسطاء عندما عرف أنني مصرية، تدفق منه الكلام بصدق وحيوية، لماذا لا تتعاونون معنا أيها المصريون، لماذا تنظرون إلينا بتعال، وتبعدون عن أرضنا؟ وبصرف النظر عما إذا كان هذا واقعا أم إسقاطا، فإن هذه الأرض وأهلها الطيبون في حاجة إلينا، ونحن في حاجة إليهم.
وفي وسط هذا البؤس الإنساني في كينيا، أذهلتني السيدة الإيطالية كوكي جولمان التي توفي زوجها الشاب منذ سنين على هذه الأرض، ومن بعده إبنها الصغير، ولكنها أصرت أن تستمر في الحياة في كينيا من أجل المساهمة في الحفاظ على البيئة، ومساندة أهلها وإنشاء مدارس لتعليمهم. واشترت محمية طبيعية تبلغ آلآفا من الفدادين، وأنشأت عليها منتجعا يعتمد على الطاقة الشمسية، ويتناغم مع الطبيعة في كل شيء، بدءا من الإعداد البسيط، من خيم قماشية متناثرة، إلى ما بداخل هذه الخيم من أثاث يعتمد كله على ما يوجد في البيئة.  وعشت في هذا المنتجع أربع ليالي في ضيافة السيدة كوكي التي تعاونت مع المبادرة النسائية العالمية للسلام، والأمم المتحدة كي تتم وقائع هذا اللقاء وجلساته في هذه الأجواء الطبيعية، خاصة ونحن نتحدث عن صرخة الأرض التي لا نبالي بها، والتي ننتهك خيارتها، غير مبالين بالأجيال القادمة.
كان لهذاالاقتراب الحميم مع الطبيعة، وتلك الحياة البسيطة أثره في أيقاط وعيي بهذه الأرض الحنون التي نعيش عليها، ولا نكاد نحمد لها فضلها على ما توفره لنا من خيرات كي نعيش بها، توجه الحضور في جلساتهم وكلماتهم إلى تفعيل العلاقة بين البشر وبين الطبيعة، خاصة الأرض.  هذا الجمع الذي بلغ ثمانين شخصا قادمين من أنحاء العالم  قدموا رؤاهم في كيفية أيقاظ الوعي بأننا مرتبطون بالطبيعة حولنا بشكل عام وبالأرض بشكل خاص، وأن هذا التواصل ينبغي أن يقوم على الاحترام، وليس الانتهاك. وفي أحد الجلسات قدمت شابتان من الصين فيديو عن كيف تستهتر الدول المتقدمة بالموارد الطبيعية وكيف تستنزفها استنزافا، وهو ما سيشكل على أحفادنا خطرا حقيقيا، وسيتسبب عنه انقراض الجنس البشري تدريجيا، لنضوب موارد المياه التي هي أساس كل شيء حي، وللتغيرات المناخية الناتجة من التلوث المناخي، وارتفاع درجات الحرارة على سطح الأرض بعد أن خلقنا جدارا خانقا حولها من ثاني أكسيد الكربون.
في هذا الزخم من الأحاديث والصلوات والاحتفالات برزت التجارب الإنسانية الرائعة التي تعتمد على جهود ذاتية، تعبر عن حركة شعبية في مختلف أنحاء العالم تقف أمام توحش الحكومات والنظم السياسية، فها هي د. سكينة يعقوبي من أفغانستان تحدت طالبان، وكانت من ضمن هؤلاء السيدات اللائي أصررن أن يعلمن الفتيات رغم كل شيء، حتي أن حياتها كانت في خطر، فكانت تنتقل من مكان إلى مكان هربا من تعقب طالبان لها، وكانت جريمتها أنها تعلم الفتيات. والآن أنشأت مدارس تبدأ من التعليم الابتدائي إلى الثانوي، وفي سبيل إنشاء جامعة. ألتقيت أيضا بهذه السيدة التيلاندية الرقيقة الراهبة التي تركت وراءها زوجا غنيا، وعملا يدر عليها ربحا وفيرا لتهب نفسها لخدمة المرأة والأطفال. وأما هذا الشاب الأمريكي فإن تعاطف مع كمبوديا ومأساة شعبها، وعاش ليخفف من آلام الفقراء والبائسين وضحايا الحرب، ويبذل حياته من أجلهم، ويقول في بساطة شديدة ما معنى الحياة إذا لم نكن قادرين أن نرى ما وراء طموحاتنا الذاتية. وأما ليلي الحسيني فإن شجاعتها أبهرتني كما أبهرت الجميع. فهي فتاة فلسطينية نابهة، تقوم بدراستها في جامعة هارفارد، ولكن شجاعة ليلي أنها فتاة فاقدة للبصر، وجاءت إلى هذا اللقاء دون مساعدة خاصة، فهي تسير وحدها بدون حتى عصاة، معتمدة على الله، وعلى كرم البشر. تتحدث عن التحديات التي تقابل الشعب الفلسطيني بشجاعة ولكن بدون أن تختلط كلماتها بالكراهية والتعصب، تلقي نكاتها الساخنة فاضحة بذلك الفكر العنصري للصهيونية الإسرائيلية، وتثير حولها ودا ومحبة وتعاطفا.
هذا قليل من كثير من النماذج الإنسانية التي جاءت لتصلي من أجل أن يلهم الله البشر سواء السبيل، وأن يعملوا من أجل الحياة، وألا يقتلوا الأرض، فيقتلون أنفسهم. ركبت الطائرة لأعود بروح جديدة، أصلي أن يحفظ الله الحياة على هذه الآرض وأن يهدي أبناءها ليعرفوا ويقدروا نعمة الحياة، وينعكس هذا في وعيي أن أحافظ على نقطة الماء، والكهرباء، وكسرة الخبز، و... كل ما تجود علينا به الطبيعة، في حمد دائما وشكر مستديم. الحياة نعمة تستحق أن ندافع عنها في كل صورها، بدءا من أنفسنا والحفاظ عليها، إلى نهرنا العظيم، وشمسنا المشرقة. والحياة قيمة تتأكد بالحرية والكرامة الإنسانية شعارات ثورتنا العظيمة التي ستظل تضيء للعالم طريقه، فمهما واجهنا من صعاب، فإننا قادرون بإذن الله على اجتيازها.. الدنيا بخير، والله أكبر.  


No comments:

Post a Comment