Tuesday, January 26, 2010

العقد الاجتماعي الجديد : احتواء أم تمكين؟ د. علياء رافع


دعيت مع غيري من أساتذة  علم الاجتماع لحضور ندوة على مدار يومين، وكانت أول مرة أسمع فيها عن "مركز العقد الاجتماعي الجديد", قد كان عنوان الندوة أو المنتدى "تكامل السياسات الاقتصادية والاجتماعية"، تحت رعاية البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة UNDP، ومركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار.   وإذا كنت قد تحدثت أكثر من مرة في هذا المكان عن الحاجة إلى تمكين القاعدة العريضة من ا الجماهير للأخذ بالمبادرة والحركة، بدلا من خطاب المن والعطاء من الدولة للشعب، فإن هذا المركز بما وضعه من أهداف قد جعل من هذا المنظور واقعا. وقد نشأ هذا المركز استجابة لما جاء في تقرير التنمية البشرية في مصر لعام 2005   " أنه لم يعد بإمكان مصر أن تواصل الأخذ بمنهج استمرار الوضع القائم لتتمكن من الصمود أمام التحديات الشديدة التي ستواجهها على مدى السنوات القليلة القادمة، و قد تنامي الإدراك بأن هناك حاجة "لعقد اجتماعي جديد" يحدد بشكل أفضل المفاهيم المتعلقة بحقوق والتزامات المواطنين بهدف صياغة العلاقة بين شركاء التنمية في المجتمع من مجتمع مدني وحكومة وقطاع خاص"
ولفد كانت أو ملاحظاتي أن هذا المنتدى قد نسى أو تناسى عنصرا هاما ألا وهو الجانب الثقافي، وأقصد به مفهوم الثقافة بمفهومها العام، بما تحمله من قيم وبنية فكرية، ذلك أن أي تطور مجتمعي على أي مستوى لا بد أن يدعمه ما يعتقده المشاركين فيه. ومهما كانت الدراسات والبحوث جيدة، فإن آلية الخروج منها إلى أرض الواقع يستلزم شراكة من تخدمهم هذا الأبحاث في مساعدة أنفسهم، وهذا في الواقع هو المفهوم الأساسي لفكرة "العقد الإجتماعي"، فكيف تكون هناك مبادرة من أحد الأطراف بإقامة عقد، ولا يستجيب الطرف الآخر؟
ويجيء مفهوم الشراكة بالنسبة للعقد الاجتماعي كأحد المفاهيم الهامة والأساسية، فالدولة لا تستطيع وحدها أن تتحمل عبء التنمية بالكامل، والمجتمع المدني بكل مؤسساته لن يشكل دولة داخل دولة، ولذا فإن التفاعل والتكامل بين الدولة والمجتمع من شأنه أن يعظم من قدرة التنمية. وقد جمع هذا المنتدي لفيفا من المشاركين سواء بالكلمة أو بالحضور من مختلفة أطياف المجتمع فكريا وحزبيا، وحضره العديد من الوزراء المعنيين أو مندوبين عنهم. وعلى قدر ما سعدت بهذا الزخم من المشاركة والأوراق الجادة التي قدمها المركز،  على قدر ما شغلني كثير من الهواجس، خاصة وأن بعضا من الحاضرين كان لديهم كثير من الشكوك والتحفظات، وبدا الأمر لهم وكأنه تجميل للحكومة وسياستها، وتأكيد للتحالف من المال مع السلطة، وليس مع الشعب.
كانت التعليقات السلبية لمن حولي لها ما يبررها في واقع الأمر، بل ولقد شعرت أنني أنجذب بشدة إلى ما يقولون، ذلك أن الكثير منا في هذا الوطن، قد عاش أحلاما كبيرة سرعان ما تحطمت على صخرة الواقع، ولعل من بينها التعليم الذي أعلنت الدولة أنه مشروعها القومي منذ التسعينات من القرن الماضي، ومازلنا نخطو بخطوات بطيئة للغاية، بل إن الأمر يزداد تعقيدا بين السياسات المتضاربة في هذا المجال، فعلى الرغم من تمسك الدولة بمجانية التعليم، إلا أن التعليم الخاص والأجنبي هو الذي يؤهل بالفعل خريجيه للعمل والانتاج. ومن ناحية أخرى فإن هذا الإصرار لم يتمخض في النهاية إلا على انتشار الدروس الخصوصية التي أصبحت  بمثابة نشاط غير رسمي وغير محكوم، وهو الذي يحكم ويتحكم في مصير أطفال وشباب مصر. وبالرغم من كل المجهودات المقامة من خلال برامج الجودة، إلا أن التعثر في الربط بين جودة التعليم ودخل المعلم ستظل عقبة في تحويل نظرية الجودة إلى تطبيق.
ومن ناحية أخرى فهناك شلل قد أصاب الكيفية الإدارية، لأن الثقة في المشاركة الحقيقية يكاد يكون معدوما، خاصة وأن كل مسئول في أي موقع ينتظر دائما أوامر من هو أعلى منه وظيفيا، ولا يستطيع أن يتحرك بدون توصيات عليا، حتي نصل إلى رئيس الجمهورية، الذي كثيرا ما يستخدم الوزراء عبارة أنه بناء على "توجيهات الرئيس" فإنهم ينفذون ويعملون. ولا بأس أن يكون هناك توجيهات من رئيس الجمهورية تعمل عليها السلطة التنفيذية، ولكن ليس من المعقول أن يكون الجهاز الإداري والفني للوزارات عاجزا عن وضع خططة الاستراتيجية وآليات تنفيذها، بل والتمسك بها وعرضها بأمانة وشفافية على الرئيس، حتي لو كان هناك بعض التحفظات عليها من سيادته. ولا أعتقد أنه سيكون هناك تعارض بين تلك السياسات وبين "توجيهات الرئيس"، لأن الرئيس في المقام الأول يقوم على رعاية مصلحة الشعب. ولكن ما يحدث بالفعل على أرض الواقع، قد يجعل هناك تشككا في أن هناك آلية للدراسة والتنفيذ والمشاركة.  ولا أدل من ذلك من أن كثيرا من القوانين المستحدثة التي تم الموافقة عليها من مجلس الشعب قد تثير غضبا شعبيا، قادما من عدم الثقة في الحكومة، وكثيرا ما يتدخل الرئيس لإلغاء أو تعديل هذه القوانين، وهو ما يثير تساؤلات كثيرة مثل: إلى أي مدى يمثل النواب في البرلمان المواطنين الذي انتخبوهم، وهل هم حقيقة يعبرون عنهم؟ وما هو دور السلطة التنفيذية في اقتراح قوانين؟ وهل يتم دراسة هذه القوانين بدقة؟
وعلى الرغم من أنه قد يبدو للقاريء أنني قد بعدت عن الموضوع الرئيسي وهو العقد الاجتماعي، إلا أنني في الواقع أتحدث في صميم الموضوع، ذلك أن كل ما يبدو براقا ومبشرا بالخير، قد ينتهي فجأة وبدون إنذار، أو قد توضع العقبات هنا وهناك لتوقف التقدم الفعال لهذا المشروع أو تلك الفكرة. وإضافة إلى هذا وذالك فإن الناس باتت تدرك أن هناك دائما وجهة جميلة، ولكن تخفي تحتها تحالفت  أو خطط على مستوى آخر. أصبح الكثيرون مثل من رأيتهم في هذا اللقاء ليسوا فقط متشككين ولكن يبدو أنهم على يقين من أن مثل هذه الندوة هي تجميل للحكومة من أجل احتواء قوى المعارضة الحزبية والشعبية من أجل الانتخابات القادمة. وهكذا فإن العقد الاجتماعي الذي يجب أن يقوم على قناعة من المواطنين بأنهم قادرون على المشاركة، ينقلب إلى رغبة في الابتعاد عن الحلبة. إذن مع من سيقوم العقد الاجتماعي؟ هل عقد للدولة مع رأس المال لخدمة النظام القائم؟  وكيف يمكن أن يقتنع الناس بجدية مثل هذه الخطوة  التي قد تؤدي إلى تغيير حقيقي في رسم وتنفيذ كل السياسات بمشاركتهم فهيا؟
يبدو أن الأمر أكثر تعقيدا من إعلان الدولة عن رغبتها في التحالف مع الجماهير من خلال عقد اجتماعي، لأن هذه الجماهير ترفض أن تضع يدها في يد الحكومة تحت أي مسمي وتحت أي قيادة. وبناء الثقة بين الشعب وبين الدولة في حاجة إلى كثير من الجهد. ولا بد من إلقاء الأضواء بقوة على إيجابيات الجمعيات الأهلية وما حققته من خلال الشراكة ، حتي يشجع ذلك آخرين أن يدخلوا ويتفاعلوا إيجابيا مع مشاكل المجتمع. فحتي لو كان ما يحدث هو من أجل مكاسب سياسية للحزب الوطني، فإن الأمر أخطر بكثير من شعبية حزب، لأنه يمثل فرصة متاحة للمنظمات المدنية أن تعبر عن وجودها، وليس بالضرورة أن تؤيد هذا الحزب أو ذاك. 
وإذا استمر هذا الاغتراب بين الدولة وبين الناس فقد يؤدي هذا إلى مزيد من الفساد المستتر، أو إلى عدم استقرار بشكل أو آخر. أعتقد أن ما يريده كل مواطن حريص على مستقبل هذا البلد هو أن يحدث التغيير في ظل مناخ اجتماعي وسياسي مستقر، ولا يمكن أن يتم هذا بدون مشاركة حقيقية. 

Tuesday, January 19, 2010

مشروع قومي لإعادة بناء ثقافة مصرية أصيلة د: علياء رافع


منذ بدأت أحداث نجح حمادي  المشئومة لم تتوقف وسائل الإعلام عن تأكيد أن هذا الحادث لا يعبر عن واقع  العلاقات بين المسلمين والأقباط في هذا البلد.  وعلى صعيد آخر، نجد أن هناك نبرة ألم عند الكثيرين من الأقباط وهم يتحدثون عن ملاحظاتهم في كثير من الممارسات سواء على المستوى الشعبي، أو المستوى الرسمي،   فعلى سبيل المثال مازال مشروع قانون بناء دور العبادة الموحد عالقا، ولم يصدر في شأنه أي قرار. وهناك غياب واضح للأقباط في بعض المناصب الحكومية مثل "رؤساء الجامعات"،  وهناك شك وشكوى من التحيز ضد تعيين الأقباط في أماكن يستحقونها بكفائتهم، ولكن يحرمون منها لدينهم، وكذلك فإنهم يعبرون عن تحيز رجال الأمن ضدهم في أي خلاف أو مشكلة بينهم وبين المسلمين، حتى لو كانت تبدو من أجل خلافات مدنية وليست دينية. وعند الاستماع إلى  المرارة التي أصبحت تملأ أحاديث الأقباط بشكل عام وصريح في وسائل الإعلام، خاصة بعد هذا الحادث الذي جاء ليثير ألاما مكتومة،  يقف المرء متساءلا هل حقا  توجد مشكلة طائفية في مصر؟
وليست هناك إجابة قاطعة على هذا السؤال، فنحن نعلم جيدا أن هناك كثيرا من المسلمين ومن الأقباط الذين لا يشغلهم التصنيف الديني، والذين يعيشون في محبة وسلام دون أن يجعلوا من الهوية الدينية أمرايفرقهم عن إخوانهم في الوطن.  ولكن نحن نعلم كذلك أن هناك خطاب سائد يستخدم الدين ليفرق بين المسلمين والمسيحيين، وهو خطاب في كلا الجانبين.  وقد بدأ مع التغيرات الاجتماعية والاقتصادية التي حدثت في مصر في السبعينيات وبدأت آثارها تظهر في الثمانينيات.  وكلنا يعلم أن الرئيس السابق أنور السادات قد شجع الجماعات الإسلامية على ممارسة نشاط ديني، كي يضعف من التيار اليساري، ولكن للأسف فإن هذه السياسة قد انقلبت عليه، وأصبح هو ضحية من ضحايا التطرف والعنف. ومع سياسة التهجير للتخلص من كثير من المشاكل الاقتصادية الداخلية، عاد المصريون من بلاد المهجر العربية يحملون أفكارا لا تمت بصلة للإسلام الذي عرفوه وعاشوه على مدى قرون طويلة، فأصبح المظهر الديني أهم من أخلاقيات الدين، وصار التطرف جزءا من ممارسة الحياة اليومية. بل وتغلغل هذا الاتجاه داخل المدارس في حصص اللغة العربية وحصص الدين.  ولا أدل على ذلك من أن أحد أصدقائي، جاء يشكو من أن ابنه يتساءل لماذا سيعذب الله المسيحيين وهو يؤمنون بالله؟ وعند سأله والديه عن السبب وراء هذا القول، فإنه سارع قائلا، هذا ما تعلمناه في درس الدين اليوم، وذكر الآية التي يرددها المدرس تأكيدا لكلامه.
فما كان من والديه إلا أن تلوا عليه آيات أخرى تنفي ما قاله هذا المدرس، توضح أن من آمن بالله اليوم الأخر وعمل صالحا، فله أجره عند ربه، وهناك من الآيات الكثير الذي يحمل هذا المعنى، مثل الآية التي تقول" لَيْسُوا سَوَاءً ۗ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ . وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا ۗ أُولَـٰئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ." (آل عمران 11-12) ومن الملاحظ أن هذه الآيات لم تذكر أن أهل الكتاب قد تحولوا إلى مسلمين، ولكن تصفهم بدينهم الذي ينتمون إليه، ولكنها تؤكد على صحيح إيمانهم واستقامتهم.
 وبين هؤلاء الأباء المستنيرون له بطريقة بسيطة أن الإسلام هو دين الأنبياء جميعا، وهكذا تحدث عنهم القرآن، ولذا فإنه وأكدوا له  أن الإيمان بالله يجمع بيننا جميعا، وأن الإيمان هو الذي يساعد الإنسان على حسن الخلق. هكذا استطاع أصدقائي أن يزيلوا بعضا مما أثاره هذا المدرس في نفس ابنهم  الصغير من بلبلة، ولكن كم من الأبناء يتناقشون مع أبائهم في مثل هذه الموضوعات، وكم من الأباء قادرون على تصحيح هذه الترهات. ما أريد أن أؤكد عليه هو أن هذا المدرس هو مثال متكرر في كثير من المدارس.  بل إن كثيرا ما يتردد هذا الاستبعاد للأقباط في الدروس الدينية المغلقة، أو في بعض الجوامع. ومهما نشطت وزارة الأوقاف في منع مثل هذه الأحاديث، يظل هذا الفكر المسموم ساريا في الشارع المصري، وهو ما يودي بوحدة هذا الوطن إلى التهلكة.
وإذا كنت في مقالي السابق قد تحدثت عن ضرورة تشكيل الوعي في اتجاه خلق ثقافة مبنية على معرفة التاريخ المصري، والاجتماع على ما يوحد المصريين، لا ما يفرقهم، فمن الطبيعي أن تكون هذه الخطوة هي من خلال عملية تثقيف شاملة تقوم به كل وسائل التنشئة، وأدوات الإتصال الجماهيري والمراكز الثقافية. وفي نفس الوقت فلا بد أن نتذكر أن ما يقال عن سماحة الإسلام، والظهور الإعلامي المستمر لشيخ الأزهر مع البابا شنودة، وموائد الإفطار المشتركة بين المسيحيين والمسلمين، وغيرها من الصور التي تؤكد  حسن العلاقة بين الجانبين، أقول أن كل هذه المظاهر لا تنفي أن هناك الكثير مما هو شائع في الفهم الديني عن اعتبار غير المسلمين أيا كانت ملتهم "كافرين"، وهذا الفهم الشائع والخاطيء في حاجة إلى تصحيح من الأزهر الشريف الذي يحمل مسئولية التنوير الديني، وإخراج مصر والعالم الإسلامي من عباءة الظلام التي ستأخذنا إلى مجاهل لا يعلم إلا الله وحده مداها.
لا ينبغي أن نقف عند القول أن الدين الإسلامي دين متسامح دون أن نبين كيف أن هذا الدين يقبل الاختلاف، ويعلم المسلم أنه لا يصح  أن يحكم على عقائد الآخرين، وهكذا تعلمنا آداب القرأن وسلوك رسول الله صلي الله عليه وسلم، الذي  خاطبه الله سبحانه مبينا له أنه ما هو إلا مذكر وليس علي الناس بمسيطر، والذي قال له في مقام آخر "ذكر إن نفعت الذكرى سيذكر من يخشى ويتجنبها الأشقى"  والذي  أوصاه أن يقول لمن لا يقبل دعوته، إشهدوا بأنا مسلمون.  وأمرنا ألا نخاطب أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن.  لماذا تترك هذه الأمور معلقة ؟ ولماذا تكون السياسة البديلة هي التجاهل المطلق والاتجاه نحو إلهاء الناس بديلا عن الإيضاح.؟
إن المشروع القومي الذي يجب أن نتبناه في الوقت الراهن يجب أن يكون مشروعا تنويريا يعيد للعقل ازدهاره، وللوجدان إشراقه، وللدين عنفوانه، وذلك من خلال  تنمية الوعي بتاريخنا من ناحية، والتأكيد على جوانب المحبة في كل الأديان من ناحية أخرى. إنه مشروع جدير بأن تضعه الدولة في مقدمة خططها الاستراتيجية، وتفتح مجالا واسعا لإعادة مناقشة التفسيرات الدينية التي تشدنا إلى الوراء،  وتقديم رؤية  "الإيمان" بإعتباره حالة وجدانية تعبر عن نفسها في محبة الناس دون تفرقة بين دين أو جنس أو لون. وحتي يتم ذلك فلا بد من حركة ثقافية واسعة النطاق، يتحدث فيها الجميع،  ولايحتكر فيها رجال الدين الكلام عن الدين، وإنما يكون هناك مجالا واسعا للتعبير والمناقشة الحرة دون خوف من أي نوع.  إن التوتر الطائفي، لن تحله المسكنات، ولكن يجب أن نقتلعه من جذور الفكر الذي يؤدي إليه.

Tuesday, January 12, 2010

تشكيل الوعي التاريخي لمصر د.علياء رافع


في غمرة الفرحة بعام جديد، مصر تنزف دما،  يقتل مواطن مصري أثناء أدائة لعمله على الحدود بين مصر وغزة، ويقتل ستة من الأقباط في طلق ناري وهم في غمرة الاحتفال بيوم ميلاد السيد المسيح رمز المحبة والسلام للمسلمين والأقباط على حد سواء.  مع كل حادث فيه اشتباه فتنة طائفية، سرعان ما ينبري الإعلام مؤكدا أن الأمر لا يتعدي أحداث بسيطة تنشأ من خلال شجار أو اختلافات عادية بين مواطنين مصريين، ويقال لنا عبر الأجهزة المسموعة والمرئية والمكتوبة أنه لا  يجب التركيز على الانتماء الديني والطائفي للمواطنين، وإلا كنا بذلك نخلق ونؤكد ونرسخ أن هناك فرقة بين عنصري الأمة. ولكن هذا الحديث لا يقنع الأقباط، وإلا ما خرج الفان منهم في ثورة عارمة يحطمون منشآت مدنية وذلك تبعا لجريدة الأهرام (8 يناير). وهذا الحديث يخفي واقعا نلمحه ونراه في الحياة اليومية من خلال ميكروفونات بعض المتطرفين في خطب الجمعة، ومن خلال هذا التمييز في الزي والمظهر الذي لم تعرفه مصر حتي في بدايات القرن العشرين عندما طالب قاسم أمين بتحرير المرأة، ذلك أن زي نساء الأقباط ورجالهم لم يكن ليختلف عن زي المسلمين من الرجال والنساء. ولكن ها نحن اليوم نشهد، ليس فقط انتشار غطاء الرأس، ولكن أيضا تسارع نمو ظاهرة التنقب. والتعصب بين بعض فئات المسلمين ، يقابله تعصبا آخر بين الأقباط ولن تتوقف الدماء ما دمنا نضع رأسنا في الرمال ولا نرى الواقع ونحاول إعادة تشكيله، فلابد أن نتنبه إلى الفتنة الكامنة قبل أن تنفجر.
إن الخطابات الدينية المتطرفة بين الجانبين المسيحي والإسلامي نابعة من التغافل عن قيم الديانتين، وكذلك من الجهل بشخصية مصر وتاريخها، فتلك الخطابات الدينية التي تفرق بين أصحاب الديانتين قادمة من فكر وافد متجمد وغريب على شخصية مصر، ولكن للأسف الشديد فإن ذيوع هذا الفكر أصبح خطرا يهدد أمنها بالفعل. لأن الصراع يبدأ من العقل قبل أن يأخذ طريقه إلى الواقع.
علينا أن ندرك أن الإسلام الذي دخل مصر والذي رحب به الأقباط  كان معبرا عن روح الإيمان الفطري التي تحلى بها هذا الشعب قبل الأديان، بل إن قدرة المسيحية على الولوج إلى أرض الكنانة ما كان ممكنا بهذه القوة وهذه السرعة لولا هذا التوافق العجيب بين ما دعت إليه المسيحية وبين العقائد المصرية التي آمنت بالحياة الآخرة البعث، ووضعت الأخلاق في أعلى قيمة يوم الحساب، وبلغت الرفاهة والحساسية بالمصري إلى الدرجة التي أصبح فيها مراقبا لفعله من داخل ضمير حي، وليس خوفا من عقاب اجتماعي، ولهذا فإن نية جرح مشاعر إنسان كانت تندرج تحت الآثام التي ينظر في شأنها يوم الحساب. إلى هذه الدرجة من الرقي الأخلاقي ارتفع المصري في سلوكياته، فكيف يمكن لمن كان هذا مقياسه أن يقتل أو يثأر أو يستخدم العنف بأي صورة من الصور.
وعندما جاءت المسيحية فإنها لم تغير من العقائد المصرية إلا الأسماء، ذلك أن الإيمان بأن هناك خالقا لهذا الوجود كان نتيجة فطرية توصل إليها المصريون بتأملهم في الوجود، بل إنهم رأوا أن كل المخلوقات هي آيات، ولكن تعبيرهم لم يكن كاملا، أو أن من ترجموا كلامهم أسقطوا عليهم أفكارهم، فتصوروا أنهم يعبدون آلهة، بينما هناك كثير من النصوص تشير إلى توصلهم إلى الإله الواحد الذي صمتوا عن إطلاق اسم عليه، لأن اسمه سر أعظم. هكذا كانت كلماتهم في كتاب الخروج إلى ضوء النهار، الذي ترجمه سير وليام بدج ووضع له عنوان "كتاب الموتي".  وجاءت الأديان السماوية لتنضج رؤية المصريين وتزول ما بها من شوائب. وهكذا عندما دخل الرسول مرقص الإسكندرية وبدأ بالتبشير، أقبل حوله المصريون وآمنوا بالدين الجديد بسهولة ويسر.
وجاء الإسلام إلى مصر ولم يقهر المصريين على التحول إلى شرائعه، لأن الإسلام هو دين اتسع ليحتوي كل الأديان ويؤيدها، ويدعو إلى الكلمة السواء، ونجد أن أمثال د. نبيل لوقا بباوي يبين بوضوح في كتابه "انتشار الإسلام بين الحقيقة والإفتراء"،  أنه إذا كانت هناك تجاوزات قد حدثت في تاريخ المسلمين قد أثرت على تحول الأقباط إلى الإسلام، فإن هذا أولا لم يحدث إلا في عصور متأخرة، وثانيا أن هذا التجاوز لا يشير أو يدل على أن الإسلام دين عنف. بل إن العنف الذي حدث في عهد الإمبراطور الروماني دقلديانوس (248م) ليس له مثيل، وهو اختراق لتعاليم السيد المسيح التي تدعو إلى السلام. فعلى الرغم من أنه كان مسيحي الديانة، إلا أنه انحرف تماما عن رسالتها، ويقال أن هناك مليون مسيحي قبطي قتلوا في عهده، وأطلق على هذا العام عام الشهداء، وأصبح بداية للتاريخ القبطي في مصر. 
إذن ينبغي أن يكون واضحا من خلال دراسة تاريخ هذا البلد أن أي عنف من قبل أي فئة هو نتاج الخروج عن تعاليم الدين الذي تنتمي إليه هذه الفئة، فكلا من المسيحية والإسلام يدعوان إلى السلام والمحبة. وإذا تحدثنا بلغة الإسلام، لقلنا أن رسالة المسيح عليه السلام، هي نفس الرسالة التي جاء بها رسول الإسلام سيدنا محمد صلوات الله وسلامه عليه، وهكذا قالها القرآن صريحة "لا نفرق بين أحد من رسله". فكيف يمكن لمن أدرك رسالة الإسلام وآمن بها أن يقتل روحا بدون وجه حق، أو يعتدي على أي إنسان لاختلاف العقائد. ليس هذا فقط خروجا عن تعاليم الإسلام، بل أن القرآن ليبلغنا في حسم أنه "مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا" (المائدة : 32). والانجيل مليء بكلمات السيد المسيح التي تنهى عن الآعتداء وتدعو إلى المحبة.
ولأن مصر والمصريون قد خبروا الإيمان في حضارتهم قبل الديانات فإن استقبالهما للمسيحية، وبعدها الإسلام، قد أنضج وعيهم بما آمنوا به، وعاش المسلمون مع المسيحيين أخوة متحابين، اللهم إلا في أوقات الأفول الحضاري والعتمة الثقافية، والهجمات الغاشمة لخلفاء نسبوا أنفسهم للإسلام ولكن لم يقيموا رسالته. ولكن في أغلب الأوقات فإن شخصية مصر المؤمنة لم تكن لتعبء بالأسماء، بل تؤكد دائما على روح الأخوة والعائلة الواحدة. لذا فإن الديانتان تعانقتا في مصر.
ولهذا فإنه عندما تحدث اليوم هذه الأحداث المتناثرة هنا وهناك، محاطة بصخب من الجانبين على المستوى الشعبي، يصبح الأمر خروجا عن طبيعة هذا الشعب، وحقيقة تاريخه. ولكن استعادة الوعي بهذه العلاقة الحميمة بين مسلمين وأقباط، لا يكمل إلا بوعي تاريخي بكيف انبثق الإيمان في مصر، إيمانا حقيقيا، نابعا من القلب، وليس مظهرا شكليا لدين.
 إحياء معنى الحضارة المصرية التي قامت على الإيمان، ورؤيتها أصلا من أصول نمو الشخصية المصرية، كفيل بأن يجعلنا نتفهم لماذا كان "الإيمان" تحت أي مسمى ديني جمع المصريين في محبة ووئام كل هذه السنوات، ولماذا نحتاج اليوم إلى استعادة هذه الرؤية لتلك الوحدة التي تميز مصر، وتجعلها قادرة على قيادة حوار بين الأديان في العالم أجمع.  إن استعادة هذا الوعي يبدأ من تعليم وإعلام الشعب المصري بتاريخه الطويل، وما يحمله قلب هذا البلد من حضارة قامت على الإيمان، واستقبلت كل الأديان وتفاعلت معها تفاعلا خاصا، عبر عن جوهر هذه الرسالات.  وهذا هو الدور الخليق أن يقوم به الإعلام، والرسالة التعليمية التي تحملها المناهج في كل مراحل التعليم، وذلك حتى نجابه هذه العصبية التي تبعد بنا عن روح الإسلام وروح المسيحية.. روح مصر المؤمنة.

Tuesday, January 5, 2010

ما الذي نتطلع إليه في العام الجديد؟ د. علياء رافع


في مقال سابق أشارت كاتبة هذه السطور إلى أهمية استشراف المستقبل، معبرة عن ذلك بالقول أن هذا الاستشراف هو بمثابة استحضار فعلي للنتيجة الحتمية لما نقوم به اليوم، وموضحة أن العالم في حاجة إلى تغيير راديكالي في نظرته وممارسته لتغيير مجرى التاريخ، وهو ما أسمته بالهجرة إلى المستقبل. والقاريء للأحداث ، سيجد أنه في ظل السياسات الدولية الحالية، خاصة سياسات الدول المتقدمة التي تضرب بأخطار البيئة عرض الحائط، فإن أفول هذا الكوكب سيكون نتيجة طبيعية، أو فلنقل أن المخاطر التي سيجابهها أحفادنا من شأنها أن تقضي على الحياة على الأرض. ومن ناحية أخرى فإن السكوت على الظلم البين وانتهاك حقوق الإنسان في أكثر من بقعة من بقاع الأرض، خاصة ما يحدث على أرض فلسطين اليوم من خطة محكمة لتهويد القدس، سيخلق بؤرة مملوءة بالصراع بين المسلمين وبين الدولة الصهيونية، ستكون نتائجها وخيمة على المنطقة بأسرها، وسيؤثر هذا البركان المفتوح على المحيط الدولي برمته، ,قد يقود إلى دمار من نوع آخر.
ومن ناحية ثالثة، وعلى المستوى الوطني فإن تجاهل  المطالب الشعبية بإعادة النظر في المواد الدستورية التي تتيح اختيارات أكثر موضوعية للرئاسة، سيثير حفيظة المصريين الذين باتوا يعرفون مقدما ما ستتمخص عنه الانتخابات الرئاسية في عام 2011، وهو ما  سيصيبهم باليأس والاحباط.  لقد أصبح المصريون في حاجة إلى الشعور بأنه يمكن أن تتغير القيادة السياسية، وهذا ليس بالضرورة  قدحا في الرئاسة الحالية.  ولكن الشعور بالاستبعاد تولد عنه شعور بالعزوف عن المشاركة في الحياة السياسية بشكل إيجابي. ومن ناحية رابعة، فإنه بعد مرور ما يقرب من عام على تولي الرئيس أوباما مقاليد الحكم في الولايات المتحدة الأمريكية، ومدى الترحيب الذي لاقاه على المستوى العالمي، واستحقاقه جائزة نوبل للسلام لشجاعته في تغيير دفة قيادة السياسة الأمريكية من خطاب الهيمنة، إلى خطاب الحوار، إلا أن النتائج الفعلية لهذه السياسة ليس لها مؤشرات واقعية محسوسة، بل إن المرء ليشعر أن الرئيس الأمريكي لا يملك زمام الأمر، وأن السياسة الفعلية تسير في غير الخط الذي رسمه وأعلنه.
من هنا فإنه على الرغم من أن بداية عام 2009 كانت تحمل استبشارا، إلا أن بداية هذا العام تحمل توجسا، وإذا كان الاستبشار ضروريا عندما يتعلق الأمر بالمستقبل، فإن واقعية التغير هي في أيدي كل فرد على وجه هذه البسيطة، وهي الرؤية التي أريد أن أطرحها اليوم، لأن انتظار التغير على المستوى الوطني أو الإقليمي أو العالمي، يبدأ بالإيجابية التي يتحلى بها الأفراد في النظر إلى ما يمكن أن يقوموا به. الأبواب ليست مغلقة تماما، والفرص ليس ضائعة بالكامل، سيكون هناك دائما بابا يمكن أن نفتحه. وأعتقد أن الباب الأول الذي يجب أن نراه، والذي يمكن أن يقودنا إلى أبواب أخرى، هو كسر السجن الاختياري الذي نضع أنفسنا فيه، عندما تصبح مصالحنا الفردية هي المحور الذي تدور حوله الحياة، فنعيش في جزر منعزلة، ونخلق صراعات وهمية، تغلفها الأنانية. هكذا قالت لي محدثتي وهي سيدة قد شغلت منصبا رفيعا، وتحمل رؤية عميقة لكيفة إدارة المؤسسات التعليمية. لقد نظرت ببصيرة نافذة إلى مستمعيها وهي تقول بحسرة عن تجربتها في الإدارة وكيف أن الصراع من أجل المصالح الخاصة يلغي الرؤية إلى المصلحة العامة للمؤسسة التي ينتمي إليها الجميع. 
والقضية لها جوانبها المتعددة، فهؤلاء الذي يتصارعون قد ضاقت بهم الحياة، ولم يعودوا يرون  إلا الجوانب السلبية، وباتوا على يقين أن المجتمع الكبير لا يقدم لهم الأمان والأمن، ولذا فإن أمانهم الفردي اصبح مركز اهتمامهم. وبالطبع هذا ليس تبريرا لسلوكيات الأنانية. وعلى صعيد آخر هناك  خبرات تعتبر نماذج لا بد من إلقاء الضوء عليها، لتشجيع من انتابه اليأس إلى زرع الأمل من جديد، فمثلا تجربة الدكتور محمد غنيم في مركز الكلي في المنصورة،  والصرح الثقافي العالمي لمكتبة الإسكندرية الذي أصبح مزارا لكل العلماء والمثقفين في العالم تحت إدارة د. إسماعيل سراج الدين، ومركز التوثيق الحضاري، وهي الفكرة العبقرية لدكتور فتحي صالح، وغيرها من النماذج الرائعة،  تجعلنا نستعيد الأمل مرة أخرى، ولهذا فيجب أن يتساءل كل واحد منا في العام الجديد، كيف يمكن أن يجعل هذا العام مختلفا عن الأعوام السابقة، ماالذي يمكن أن يقوم به. والأمر ليس في حاجة إلى القيام بمشروعات عملاقة، ولكن بالبحث عن فكرة جديدة تجعل للحياة معنى جديد، يخرج الإنسان من نطاق ذاته الدنيا، ويعيده إلى الالتحام بالحياة، وليس الانعزال عنها. إن مجرد تغيير النظر إلى ما نقوم به بالفعل من اعتباره عمل روتيني إلى إعادة رؤيته في ظل منظومة قيمية أخلاقية، يجعل له طعم جديد، ويغيره، بل ويفتح للإنسان مجالا للإبداع فيه. أقول قولي هذا على كل المستويات، بدءا من تربية الأطفال، صعودا إلى من هم القيادات العليا. 
إننا لا ننتبه إلى ذلك  التشابك غير المنظور الذي يربط كل إنسان بإنسان آخر، وكل فعل له نتيجة مؤثرة على حياة البشر عامة، وعلى سبيل المثال فإن التواصل الذي يحدث عن طريق الشبكة الدولية (الانترنت) هو نتاج بحث علمي قام به عدد من العلماء استحقوا أن يحصلوا على جائزة نوبل أمثال  تشارلز كاو وويلارد بويل وجورج سميث  لم يكن هؤلاء العلماء بفكرون في الجائزة ، بقدر ما كانوا يقومون بعملهم بإتقان، وبحب. وكانت النتائج التطبيقية لهذا العمل ذات أثر غير مسار المعرفة في العالم أجمع، وهكذا كل الاختراعات العملاقة بدأت بأفكار بسيطة، فكيف يمكن أن نتخيل حياتنا بدون كهرباء وتليفونات، وطيارات، وغيرها من التكنولوجيا المتقدمة.   وعلى صعيد آخر فإن وراء الأبطال السياسيين شخصيات لا نعرفها، قد تكون معلم في مدرسة، أو أستاذ في جامعة، أو أم مثابرة، أو صديق مخلص، أو زوجة محبة. ولا يدرك كثير من الفنانين أو المشهورين من أصحاب الفكر إلى أي مدي يمكن أن تكون كلماتهم أو سلوكياتهم ذات تأثير على الناس. إن هذا التشابك في كل ما نقوم به وتأثيره على من حولنا يجعلنا في مسئولية مستمرة أن نعطي عملنا قيمة، وندرك جيدا أن له تأثير واسع المدى، مهما بدا الأمر غير ذلك، لا بد أن نملأ الجو حولنا بالمحبة والبشر. إذ أنه مهما اشتد الظلام فلا بد أن يجيء الفجر وينتشر النور، ونريد في نهاية عام 2010 أن نرى الحياة أفضل بجهد كل فرد منا هنا وفي العالم أجمع.