Tuesday, January 31, 2012

اشتدي يا أزمة تنفرجي


أصبح من الواضح أن شرعية المجلس العسكري تتآكل يوما بعد يوم إذا لم تكن قد تآكلت بالفعل، واندثرت. ومع إن" لو" من عمل الشيطان كما يقول الحديث، إلا أننا نستخدمها هنا لا ندما ولا أسفا، ولا رغبة في أن تعود الأيام إلى ما كانت عليه، ولكن نستعيد الماضي عظة وعبرة وتأملا، لننطلق من الحاضر إلى المستقبل.  كنت أتمنى أن ينحى المجلس العسكري منحى آخر تماما. أتذكر عندما ظهر لفيف من أعضاء المجلس في برنامج العاشرة مساء. كنت وأسرتي وأعتقد أن جميع المصريين شاركوني الفرحة والفخر، وأنا أنظر إلى الجنرالات العظام وأنا أذكر لهم بالامتنان أنهم الذين وقفوا بجانب الثوار، وضغطوا على الطاغية حتى يرحل. وكان رحيله أشبه بالمعجزة التي حدثت  في وقت مثالي (خلال ثماينة عشر يوما بدو كما لوكانوا ثمانية عشر دهرا). ملأنا الأمل أن الغد المشرق قد جاء أخيرا، وأن مصر ستنطلق إلى الأمام في سرعة ستذهل العالم.
عندما أتذكر هذه اللحظات اليوم، أشعر بالألم الشديد، لهذا الكنز من الحب الذي حمله المصريون جميعا لقيادات الجيش العظيم وهؤلاء الجنرالات يصرفون منه يمينا وشمالا، حتي أفرغوا رصيدهم منه، ولم يعد هناك في قلوب الملايين إلا الرغبة في أن يرحلوا في هدوء ويعودوا بالجيش إلى ثكناته، ويتركونا نبني بلدنا كما حلمنا جميعا في صباح الثاني عشر من فبراير الماضي، الذي خرج فيه المصريون جميعا عن بكرة أبيهم ينظفون الشوارع الميادين، ويعبرون عن انتمائهم  لمصر الكريمة العظيمة، وبدا الجميع مستعدين أن يبذلوا كل نفيس من أجل مصر، وقد أصبحت البلد بلدهم، وليست عزبة للحكام.
عندما كنت اسمع عن انتهاكات وتعذيب من ضباط في الجيش كان عندي يقين أنها حالات فردية، وأنه من الطبيعي أن يكون هناك البعض من أفراد الجيش الذين آلمهم أن يخرج عسكري مثلهم من السلطة بهذا الهوان، لقد كان القائد الأعلى للقوات المسلحة من قبل ومن بعد، وقد اعتادوا أن يبنوا علاقتهم معه على الاحترام والطاعة، فهم معذورون على كل حال، ولكن كنت أميل إلى التفكير أن هذه الانتهاكات لا يمكن أن تحدث بعلم من المجلس الأعلى للقوات المسلحة، وأنه لا يد أن هناك حسابا ما مع هؤلاء الذين يحتجزون الثوار ويعذبونهم.
كان من الممكن أن يكون كل فرد من هذا المجلس ملء القلب والسمع "لو" أنهم استجابوا وسمعوا جيدا لمطالب الثورة من أول يوم وساروا في الطريق المنطقي الذي يحقق الأمن والاستقرار في أقصر وقت ممكن، ألا وهو البدء فورا في "كتابة" دستور جديد في زخم ثورة أشعلت في كل المصريين بشرا وحبورا، ورغبة في العمل والبناء، ولو أخذت كتابة الدستور عاما، لكنا قد انتهينا اليوم منه، ولكانت الانتخابات النيابية لها شأن آخر، ولكنا اليوم في فرحة انتخاب رئيس. منذ أول لحظة لجأ المجلس لسياسات غريبة، لم يكن من شأنها إلا أن تفرق بدلا من أن تجمع، ودخلنا في غياهب إعلان دستوري لم يستفت الشعب عليه، وأعطي للمجلس العسكري سلطات ليس بأسوأ مما كان للرئيس السابق. ومن صوت بنعم للتعديلات الدستورية سرعان ماتنبه إلا أننا دخلنا نفقا مظلما من الإجراءات التي أخذت منا الوقت والجهد، وسحبت من تحت أرجلنا الحماسة والبشر. وكانت هذه هي بداية المطاف الذي أخذنا ندخل فيه من دهليز إلى آخر، ومن تصرف محبط إلى تصرفات صادمة، إلى أن وصلنا إلى المحطة التي نتمنى أن تكون الأخيرة، تلك هي محطة شارع مجلس الوزراء، حيث أفزغ قلوب الملايين وآلمهم في نفس الوقت أن يجدوا الجنود يعتلون سطح مجلس الشعب جنبا إلى جنب مع بلاطجية ويقذفون المعتصمين والمارين بكل أنواع الحجارة والأثاث بل وقنابل المولوتوف. وفي نفس الوقت يُجر ويسحل الشباب والشابات ويُعذبون في مبنى مجلس الشعب، تحت سمع وبصر وبأيدي ضباط من الجيش. أعتقد أنني وغيري ما كنا نحب أن نشهد هذا اليوم.
إن هذه المحطة الأخيرة بعد مشوار ومحطات سابقة جعلت الكثيرين ممن يتابعون ويبصرون يريدون أن يترك المجلس العسكري الحكم في أسر وقت ممكن. ويزيد الأمر استفزازا عندما نرى ونبصر الجرحي مكبلين بالكلبشات في المستشفيات، بل ومتهمين أيضا باستخدام العنف، ونرى القاتلين أحرارا بل ويُبرأ بعضهم من القتل.  لقد فقد المجلس العسكري الثقة التي كان ينعم بها في اللحظات الأولى، وأصبحنا لا نأمن على أن نكون تحت حكم  من لم يُراع الله فينا ولم يرحمنا، ولم يهب من أجل القصاص لدماء شهداء الوطن، بل ويزداد عدد هؤلاء على يده. لا شك في أن تسليم السلطة حالا وأمس قبل اليوم أصبح مطلبا شعبيا لن يتنازل عنه الشعب. إن الإرادة الشعبية اليوم تريد أن تنهي هذا الحال فورا، ولذا فإن تلبية نداء هذا الشعب يجب  أن تؤخذ مأخذ الجد، ولا ينبغي التحايل عليها أو الاستهتار بها.
وإذا كان لي أن أكون من الناصحين، فإنني لا أتواني في أن أطالب المجلس نفسه أن يجد الصيغة المناسبة للخروج من هذا المأزق الذي وضع نفسه فيه، صياغة تحافظ على كرامته، ولقد سبق وطلبت هذا في مقالات سابقة. واليوم فإنني أتمنى من كل قلبي أن يستجيب المشير والمجلس العسكري لإرادة الشعب. هناك اقتراحات كثيرة كي يترك الجيش السياسة ويعود إلى حماية الوطن، وعليه أن يختار الأفضل لمصر ولشعبها، والأكثر أمنا وسلاما له.
أعلم جيدا أن هذا الشعب لن يهدأ له بالا قبل أن يصل إلى أهدافه، وأتمنى أن يرى الجيش ما نرى جميعا، فيبدأ بالقصاص لمن قتلوا المواطنين في أحداث ماسبيرو، ومحمد محمود، ومجلس الوزراء، ويعاقب من عذبوا المواطنين في السجون الحربية، ويفرج عن جميع المحتجزين ومن صدر عليهم الحكم في السجون العسكرية فورا. لا أقول جديدا، بل أؤكد نبض الجماهير ونداءها.  وإذا قام المجلس العسكري بهذه الخطوات، قد يجد له عند المواطن المصري رصيدا ولو قليل، ولكنه صالح كي  تكون هناك صفحة جديدة بين قيادات الجيش وبين الشعب ليخرجوا من هذا المأزق آمنين. أما إذا صدقوا المنافقين والانتهازيين ممن يطبلون ويكذبون ويدعون أن أعضاء المجلس العسكري لم يذنبوا ولم يقترفوا إثما، فهذه طامة كبرى، لأن أبشع الكذب أن يكذب الإنسان على نفسه. وأيا ما كانت الأهداف والمبررات لاستخدام العنف ضد الشعب، فإن الشعب لن يقبلها. إن التيار آت آت، وسيجرف أمامه كل القوى التي تقف أمامه، وكلما طال الوقت كلما تأزمت الأمور أكثر وأكثر. 
لا أود أن أرجح حلا على آخر فيما يخص تسليم السلطة لمدنيين، ولكن أؤكد أن تسليم السلطة اليوم سيكون أفضل لكل الأطراف، وأن تجيء المبادرة من المجلس العسكري نفسه، فهذا أفضل من أن تكون هناك مبادرة من أي مصدر آخر، سواء كان مجلس الشعب، أو قوة الشارع. كان هدير المواطنين واجتماعهم على كلمة واحدة نذيرا بأن الحق لا بد منتصر، وأنه إذا الشعب يوما أراد الحياة فلابد أن يستجيب القدر.  دعائي دائما أن يجعل الله هذا البلد آمنا، وأن تحقن الدماء، وأن ننهي حالة الفوضى والصراع وندخل حالة التوافق والبناء. لن يتم هذا قبل رحيل المجلس العسكري عن كرسي الحكم. فهل سيستجيب !!!

Tuesday, January 24, 2012

البرادعي ليس مرشحا محتملا بل قائدا روحيا للثورة د. علياء رافع

عندما علمت بإعلان د. البرادعي عن انسحابه من سباق الرئاسة، انتابني كما انتاب الكثيرون من مؤيديه -على ما أعتقد - غصة وألم أن نفقد أملا في أن يجيء رجل مثل البرادعي ليقود المسيرة في المرحلة المقبلة. ولكن عندما استمعت إلى كلمته التي ألقاها شرحا لهذا الموقف، أدركت أن اختياره يتناسب مع شخصيته الشجاعة المنحازة إلى المباديء قبل الأهداف الشخصية. أدركت أنه مرة أخرى يقف أمام الطغاة ويتحداهم دون خوف ودون مواربة، وأن موقفه سيكون مرة أخرى ملهما للجماهير العريض ألا تتخاذل عن تحقيق الحلم.
وأريد مع قارئي أن أتوقف لأحلل هذا الخطاب بروية، لأن الكثيرين ممن اعتصرهم الألم تقاذفتهم الأفكار السلبية أيضا تجاه رجل أحبوه ووضعوا آمالهم عليه، وظنوا أنه خذلهم.  ولكن قبل أن أعيد القراءة في الكلمات التي عبر بها د. البرادعي عن اختياراته، أحب أن أقرأ الموقف  نفسه. سنجد أن موقفه يشير إلى أنه قد خرج من موقع الهدنة مع من يحكمون مصر، إلى موقف المقاومة لسياساتهم. لم يكن انسحابه إذن تخاذلا أو هربا، ولكن كان بداية لعمل قادم واضح المعالم، لا بديل عن الحرية والكرامة الإنسانية.   
بعد هذه الرؤية المبدئية، نعود إلى الخطاب مرة أخرى لنجد أنه في بلاغة وقوة شبه الثورة بالسفينة والمجلس العسكري بالربان الذي قاد هذه السفينة دون أن يتوجه بها إلى المسار الذي يعبر عن رغبة أصحابها. واتخذ مسارا آخر ليعود بهم إلى نقطة البدء. هل فعل ذلك عن جهالة أو عدم خبرة، كما يقول الكثيرون؟  لو كان ذلك كذلك لسأل أهل الخبرة، ولكنه أبي أن يفعل.
نفهم إذن أنه كانت هناك محاولات من د. البرادعي  للمناقشة والنصح ولكنها باءت جميعها بالفشل. نذكر أنه قد قابل المشير في أعقاب أحداث محمد محمود، والتي أوقعت وزارة عصام شرف، والتي أسفرت أيضا عن وضع تاريخ محدد  لانسحاب المجلس العسكري من اختصاصات رئيس الجمهورية بعد انتخاب رئيس، وإنشاء المجلس الاستشاري. اقول أنا ما لم يقله البرادعي من أن ذلك المجلس الاستشاري شكلا خاليا من المضمون، لأنه لا يقوم بأي دور فاعل، بل إنه قد فشل في أول موقف اختبار، إذ أنه بعد أول جلسات انعقاده، تم ضرب المعتصمين في مجلس الوزراء، واستقال القليلون، بينما وقف رئيسه مزهوا بأن المجلس العسكري قد استجاب لطلبات المجلس الاستشاري، مخادعا نفسه قبل أن يخدع غيره، لأن مطاردة النشطاء واصطيادهم كانت تتم في الشوارع، والتعامل معهم بكل قسوة وكأنهم مجرمين كان سياسة واضحة.   
كان البرادعي قبل أحداث مجلس الوزراء مستعدا للتنازل عن الترشح لرئاسة الجمهورية وقبل أن يكون رئيسا للوزراء بأهليات كاملة غير منقوصة حتي تصل السفينة – على حد تشبيهه – إلى بر الأمان.  وكان المجلس العسكري يدرك أن شخصية البرادعي لن تكون تحت السيطرة،  ولذا فإنه جاء بمن يمثل الإتجاه السابق وينتمي إلى الفكر القديم، ويمكن التعاون معه، ومن أفضل من د. الجنزوري للقيام بهذا الدور؟  
إن موقف البرادعي بعد أحداث شارع محمد محمود يؤكد أن حبه لبلده يفوق تطلعه لأي منصب مهما كان، ولذا  فإنه لا صحة لتلك الآراء التي تربط بين انسحاب البرادعي من سباق الرئاسة وبين تخوفه من عدم الفوز . لا بد أن أحداث مجلس الوزراء كانت أحداثا صادمة له لأنها كانت كذلك للمصريين جميعا، ولا بد أنه كان يفكر كثيرا في الموقف الذي وصلنا إليه.  إنه موقف تحد مباشر للثورة ليس فيه أي إخفاء من المجلس العسكري لرغبته في كسر شوكة الثوار. كان من الواضح أن أكثر النشطاء وطنية وتحمسا مستهدفون، إما بالقتل  أو بإقتلاع العيون، والتسبب في عاهات مستديمة.   لقد ذخر خطاب د. البرادعي بالممارسات التي لا تتمشى مع اتجاه الثورة تصريحا  وليس تلميحا عندما  تحدث عن "اتباع سياسة أمنية قمعية تتسم بالعنف والتحرش والقتل، وعلى إحالة الثوار لمحاكمات عسكرية بدلا من حمايتهم ومعاقبة من قتل زملائهم".  وأضاف إليها نقدا لاذعا لسياسة إدارة شئون البلاد سواء على مستوى الاقتصاد، أو الأمن أو الإعلام  واستمرارية رموز النظام السابق في قيادة أماكن حيوية.
ما هو المخرج إذن؟
لم يقل الرجل أن الالتفاف حوله لقيادة الثورة واستمراريتها هو طوق النجاة، لم يشير إلى شخصة من قريب أو بعيد، كما يقول البعض في تعليقاتهم، ومنهم من يشهد له بتاريخ ثوري ونضال قوى، ولكنه عبر عن إيمانه بهذا الشعب الذي كسر حاجز الخوف و انه "استعاد قدرته على التغيير" وأدرك أنه "السيد والحاكم" كما جاء في نص الخطاب.  ويعبر د. البرادعي أو يذكر بأن "سلمية" الثورة كان وسيظل سر نجاحها. وأحسب أن العقلاء لن يجدوا سبيلا آخر.
يجب بعد ذلك أن ننتبه لقوله " أن ضميري لي يسمح لي بالترشح للرئاسة أو أي منصب رسمي آخر إلا في إطار نظام ديمقراطي حقيقي يأخذ من الديمقراطية جوهرها وليس شكلها فقط". لقد وصف د. البرادعي في بداية كلمته المناخ الذي خلقه الحكم العسكري منذ رحيل مبارك عن الحكم وإلى تلك اللحظات. حيث أدخلنا "ربان السفينة" على حد قوله في متاهات وحوارات عقيمة في حين تفرد بصنع القرارات وبأسلوب ينم عن تخبط وعشوائية الرؤية". أفهم متخبطا بشكل خاص، لأننا سنجد أن القيادة كانت تمسك بالجزرة والعصا معا، وتعطينا ما يرضينا حينا، لتضربنا مباشرة بعدها حينا آخر. وفي ظل العطاء والأخذ يتم تشويه الثورة والمطالبين بتحقيق مطالبها، مما أوقع المجتمع في فرقة لم نشهد لها مثيلا، وأضعف تأييد قطاعات كثيرة من الشعب لمطالب الثورة.  إنها نفس استراتيجية المخلوع، ولكنه بصورة أفظع كثيرا، لأن "الحرب" على المكشوف وليس في الخفاء، والتحدي يتم بالعنف المباشر.
يبدو واضحا أن البرادعي متوافقا مع نفسه، وصادقا معها، سنجده أيام مبارك طالب بتغيير الدستور قبل أن يقبل الترشح للرئاسة، ونجده اليوم يكرر مطلبه. ولكن الوضع اليوم أخطر كثيرا من أوضاع الأمس، ذلك أن اختلاق الفوضى أصبحا جزءا لا يتجزأ من دفاع النظام القائم عن نفسه. كلما هدأت الأمور وظننا أننا نسير في طريق آمن، هبت رياح العنف والضرب والاعتقالات،  في محاولة لاجتذاب الثوار إلى ساحة المعركة للقضاء عليهم، قتلا أو تشويها أو اعتقالا. ومن ناحية اخرى فنحن في اختيارات أحلاها مر، لأن الإسراع بكتابة دستور قد لا تلبي آمال الجماهير المتطلعة إلى الحرية، والتمهل في هذه الخطوة يطيل حكم العسكر الذي يصعب علينا التكهن بما سيفعلونه بنا. وانتخاب رئيس جمهورية بدون وضع الدستور سيجعل أي رئيس منتخب لا يعرف ما له وما عليه مما قد يوقعه تحت سيطرة المجلس العسكري بصورة غير مباشرة.
في كل الأحوال فإن انسحاب د. البرادعي من سباق الرئاسة لا يعني أنه ترك قضيته، ولكنها بداية جديدة للنضال مع الشعب الذي لن يهدأ حتي يحقق آماله وأحلامه. وهو ما لا يستطيع أن يستوعبه من يحكمون مصر، لا يستطيعون أن يدركوا أن العودة إلى الوراء قد أصبحت مستحيلة، ولا يدركون كذلك أنهم خلقوا قاعدة شعبية تتسع شيئا فشيئا مع كل شهيد أو جريح.  لن يرض الشعب بالحرية بديلا، ولن يتوقف عن المطالبة بالحرية مهما كلفه الثمن، وكلما ازداد القمع ستزداد المقاومة.  
منذ عام طلبت من مبارك أن يستبق الأحداث وأن يحدث ثورة بنفسه في نظام حكمه ترضي آمال الشعب، ولكن لا أظنني قادرة على أن أطالب المجلس العسكري بنفس الشيء اليوم، لأن السن الماضية قد خلقت فجوة من المستحيل سدها، إنها نفس الجوة التي اتسعت يوم 28 يناير الماضي عند الضرب الوحشي للمتظاهرين، وانسحاب الشرطة، وفتح السجون، وكان طريق اللاعودة قد تأكد يوم 2 فبراير.  ولكنني آمل أن يترك الجنرالات الحكم ويرحلون عن البلاد في سلام في أقرب فرصة ممكنة. نريد سلامة مصر قبل كل شيء وبعد كل شيء. ولا شك أن الخطوة التي قام بها البرادعي بطريق مباشر أو غير مباشر ستزيد من إصرار الشعب على السير قدما لتحقيق أحلامه. 

Tuesday, January 17, 2012

الأيقونة التي خلقتها ثورة 25 يناير د. علياء رافع

منذ  أعوام طوال، قدم لي صديق من الهند ورقة عليها صورة غاندي، وبها "تعويذة" لزوال اليأس والاكتئاب. وتعجبت من مقولته ومن العنوان الذي كتب على الورقة، ولكن زال عجبي وامتلأ قلبي بالبشر بعد أن قرأت الكلمات، كانت مجرد قراءة الكلمات التي كتبت على هذه الورقة مبعثا للإنشراح، حيث قال غاندي في بساطة شديدة أنه إذا استبد بأي إنسان شعور بالحزن والاكتئاب واليأس، فليفكر في أكثر الناس تعاسة في العالم، ممن أهم أشد منه في المحنة والآلام، وليفكر جيدا وبعمق كيف يمكن أن يساعد انسانا ليخرج من كبوته وألمه ومحنته. لا شك أنه سيجد إنسانا ما قريبا منه في حاجة إلى مساعدته. عندما يفكر جديا في الخروج من محنته إلى مساعدة غيره، ستنقشع غمامة الحزن والاكتئاب.
إذن كلما اجتررنا أحزاننا وأخذنا ندور في دائرة مفرغة من الألم، نجد أن فكرنا قد أحاطنا بقيود وسجننا في دائرة النفس الصغري، والطريق الذي يخرجنا من هذا السجن أن نترك ما يحزننا وننطلق لنرفع الحزن عن غيرنا، وهذه الخطوة ستساعدنا أن نتغلب أيضا على أحزاننا. إنه تدريب بسيط ولكنه عميق في دلالاته وأثره عندما يصبح منهجا شائعا بين البشر. تذكرت هذه التعويذة وأنا أرى حرارة في المطار يستقبل رضا. كلاهما فقد نور عينيه، ومع ذلك ترى البشر على وجهيهما، وترى التصميم على استكمال الطريق. كيف يفكر هذان البطلان؟ إن أسوأ من أن يفقد الإنسان نور عينيه أن يفقد نور بصيرته، والخوف من الطاغية أسوأ كثيرا من أن يفقد إنسان عضوا من أعضائه، حتى لو كانت عيناه. لا بد أنهما يدركان هذا "الأسوأ" ويريدان أن يساعدونا على إدراك قيمة الحياة ومعناها. حقا لقد أضاء لنا هذان الشابان الطريق. ما الذي يمكن أن يكون أعظم من مساعدة الملايين على الرؤية؟
 لا شك أن تلك السكينة المرتسمة على وجهيهما نتاج للامتلاء الروحي والنفسي لأنهما قدما حياتهما من أجل هدف أكبر من الدائرة الضيقة التي تدور فيها النفس، فعلا ذلك بتلقائية شديدة، ووضوح في الرؤية، ولذا فإن الإطمئنان والبشر اللذان ينعمان به غمر روحهما وأعطاهما ذلك الضياء الذي ينضح به وجهيهما. هل ينتابهما القلق مثل الكثيرين ألا تحقق الثورة أهدافها؟ هل يندمان أنهما فقدا أعينهما بينما ترتفع أصوات تتهم الثوار بأنهم سبب الفوضى؟ هل يلمحان أولئك الذين يستخدمون فكرة الثورة من أجل التجارة والكسب؟ لا شك أنهما يدركان كل ما يحدث حولهما، ولا شك أنهم بشر يمتليء قلبهم بالألم، ولكن لا أحسب أنه يمكن أن يشعرا بالندم، خاصة وتلك القلوب حولهما تشد من أزرهما، وترسل لهم حبا وتقديرا حتي ولو على البعد.
ونظرا للظروف التي نمر بها، وبعد الأحداث الدامية التي أخذت تتوالي وتتصاعد في شدتها وعنفها، حتي أن معركة الجمل على وحشيتها أصبحت حادثا صغيرا بجانب أحداث ماسبيرو، وشارع محمد محمود، وأخيرا مجلس الوزراء، فإننا في حاجة إلى تعويذة مثل تعويذة غاندي، ولكن يبدو أنها لن تكون فاعلة في حالتنا. إن قلوبنا جميعا تدمي لتلك الأرواح التي خسرنا من خيرة أبناء مصر وشبابها. لم يعد الأمر يخص حزنا خاصا أو يأسا خاصا، بل تعدى الأمر إلى إحساس عام بعدم الأمان. وإذا تركت ما يكتبه المحللون عن السيناريوهات والاحتمالات، لن يبق أمامي إلا شعور مبهم بعدم الاطمئنان. من يقولون أن ستة أشهر ليست زمنا طويلا لتننتقل السلطة إلى مدنيين، لا يرون الأخطار المحتملة والتي لا نستطيع أن نشير إليها بالبنان، لأن الأحداث تجيء إلينا دون  توقعات. يُهاجم متظاهرون مسيحيون في ماسبيرو بمدرعات وبلطجية ويُقتلون بدم بارد، ويُعتدى على مصابي الثورة في التحرير بقسوة وغلطة تثير حنق الشعب كله، فينزل ويلاقي ما يلاقي في شارع محمد محمود، ويصرح رئيس الوزراء أن الاعتصام حق مكفول للجميع وأنه لن يتم الاعتداء على معتصمين، فإذا بنا نرى بأعيننا الطوب والرخام والمولوتوف يقذف بها من أعلى سطح مجلس الشعب على اعتصام سلمي، ويتم تعذيب الفتيات ومن يدافع عنهن من الشباب، ويصبح الضحايا بعد ذلك متهمين، ويستمر مسلسل ترويع المجتمع بمداهمات منظمات أهلية حقوقية بصورة بوليسية  لتخرس الألسن، ويتم اتهام النشطاء بشتى أنواع المخالفات والجرائم (الشيخ مظهر شاهين،  نوارة نجم، أيمن نور، طارق الخولي..إلخ).  ما الذي يمكن أن يكون أسوأ مما يحدث لنا؟ كيف يمكن أن نساعد أنفسنا ومجتمعنا في هذا الجو غير الآمن؟  حقا على المستوى المنطقي يبدو أنه لا بديل سوى الانتظار لانتخابات مجلس الشوري، ثم فتح الباب للترشيح للرئاسة في تزامن مع وضع الدستور. ولكن قياسا على ما حدث من قبل، لا ندري ماذا يمكن أن يحدث غدا؟ هل سيظهر بلطجية يهجمون على نشطاء؟ أم سيتم القبض على متآمرين؟ أم أن البلاد في وضع خطير يستلزم تأجيل هذا أو ذاك؟
عندما دارت بخلدي هذه الأسئلة التي يشاركني فيها الكثيرون بلا أدنى شك، تلاحقت أمامي صور الشهداء، بدءا من أول أيام الثورة وإلى اليوم، كلهم يبتسم ابتسامة اطمئنان وسكينة ورضا. لم تكن وجوها ساخطة ولكنها وجوه مستبشرة، لقد ظن جلادوهم أنهم قتلوهم، ولكن الحقيقة أنهم قد أعطوهم مزيدا من قوة العمل "لا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أموانا بل أحياء عند ربهم يرزقون".
 لم ولن يختفي هؤلاء الشهداء من ساحة الدفاع عن الحرية والكرامة الإنسانية، لأنهم قد أصبحوا أيقونة خالدة، تعطينا – نحن الذي ما زلنا نتسربل في الرداء المادي – قوة لا تنضب، كلما وهن العزم، واختفي الأمل تظهر لنا هذه الوجوه، هنا يبدو الشيخ عماد عفت، وهناك علاء عبد الهادي، ومينا دانيال، وكل من يعرف شهيدا سيجد روحه ترفرف وتبعث الأمل. كلهم يعطينا قوة مضاعفة في استكمال الرسالة، مدركين أن الحياة الحقة هي تلك التي تشع قيمة ومحبة، وأن الموت هو انكسار النفس والروح إذا ما انتابها الخوف، وانحنت إلى الجبابرة والطغاة.
كلما لاحت وجوه الشهداء في الأفق، انطلق نور يظهر الحق حقا، ويرينا الباطل باطلا، ويبدو هؤلاء الذين يخادعون أنفسهم، والذين يريدون أن يلبسوا الحق بالباطل واقفين في كهوف مظلمة مختفين ومهجورين، ويضحك منهم التاريخ ضحكة كبيرة، لأنهم اختاروا أن يكونوا ممن يلقيهم الزمن في غياهب النسيان، وينظر إليهم الحكماء على مر العصور باستنكار وشفقة متعجبا أنهم لم يتعلموا من حكمة الزمان وما حدث للأولين. ألم يدركوا بعد أن كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء، وأن الكلمة الخبيثة مثل الشجرة الخبيثة اجتثت من فوق الأرض وما لها من قرار. 
ما يبدو واضحا الآن أن معاقبة من قتل الشهداء على مدار العام الماضي بدءا من 25 يناير 2011 واجبا فوريا. وأنه لا مناص من إخلاء السجون العسكرية من المدنيين ومحاكمة المتهمين منهم أمام قاضي مدني. لا يحتاج الشعب اليوم إلى الوصاية أو التهديد، ولذا فإن الطريق إلى استعادة الثقة بين الحكام وبين الشعب لن تتواجد ما لم توجد  شفافية ومصارحة . عار على من ينكرون أن أخطاء لم ترتكب في حق هذا الشعب. عار على من يصدقون معسول القول ولا ينتبهون إلى قسوة الفعل.

ولأن قوة الشهداء مستمرة معنا، فلن تهدأ الثورة قبل أن تحقق جميع أهدافها، وسيخسر من يقف أمام هذا النهر الجارف الذي بدأ في السريان ولن يتوقف قبل أن يطهر الطريق أمامه. حقا لقد أصبح الشهداء أيقونة مستمرة في وجداننا، أنهم الملاذ الذي سنتذكره كلما لاح يأس أو اكتئاب أو احباط. أيقونة الشهداء تؤكد أنه بدون حرية لا حياة. حفظ الله مصر وجنودها الشرفاء وشعبها النبيل.   

Tuesday, January 10, 2012

عام مصيري: مين اللي يقدر على القدر إذا حضر د. علياء رافع

هذا العام فريد لأننا نبدأه وقد ذابت الفواصل بين الماضي والحاضر بين عام وعام، وإذا كان هذا هو الزمن، ونحن الذي نضع له الحدود، إلا أن عام 2012 لن يمكننا من فصله عن العام الذي سبقه ذلك أن عام 2011 انطوي في لمحة خاطفة.. ماكاد يبدأ حتي انتهي. اختلطت الشهور بعضها بالبعض، وتداعت الأيام مسرعة تحمل إلينا أحداثا متوالية نصنعها ونلهث وراءها في نفس الوقت. في كل يوم في ذلك العام المنصرم عشنا نكتم الأنفاس مترقبين ما يحدث، ومتطلعين إلى تحقيق أمل أشعلته في قلوبنا ثورة لم يحدث مثلها في التاريخ- وكثير هي الثورات- ولكن ثورة المصريين أرسلت للعالم أجمع رسالة لخصت فيها حلم البشرية على مدى السنين عندما يقهر السلام أكثر النظم تعسفا وعنفا، وعندما يصبح الفرد أمة، والأمة فردا حيث ذابت أنا وأنت وهو في بوتقة واحدة "أنا المصري" "ارفع رأسك أنت مصري".. كلنا ذلك المصري، كلنا ذلك الإنسان الذي امتزج في هدير بشري ملأ مصر من أقصاها إلى أقصاها. عندما سقطت كل الأيديولوجيات التي تفرق، والطبقات التي تميز، والألقاب التي تخدع، وأصبح كل فرد نقطة في بحر بشري، يتعالي فيه نداء الحرية والكرامة الإنسانية.
 شعور بالمصرية خلا من العنصرية وامتلأ بقيم حضارية عاشت منذ بدأ المصريين يتعرفون على هويتهم على أرض طيبة شقها النيل وأصبح مجرى الحياة، وسطروا تاريخا امتلأ بالألم والمعاناة، بالقهر والاستعباد، للدرجة التي كانت فيها كلمة "بلدي"، تعني دون المستوى الراقي، تتداولها الطبقات المتفرنجة استهزاءا بأهل البلد. عاش المصريون تحت حكم أجنبي، إلى أن جاء أول رئيس مصري بعد آلاف السنين، ومنذ عام 1952، واستقبل المصريون الطليعة العسكرية التي قامت بالإنقلاب العسكري ضد الحكم الملكي بالفرحة والفخر، وانضم الشعب إلى جيشه في ثورة بيضاء مجيدة. وملأ الأمل النفوس في حكم رشيد، ينعمون فيه بالحرية التي تاقوا إليها، وجسد جمال عبد الناصر حلما انتظرته الشعوب العربية جميعا في قيادة منها، تدعو إلى الاستقلال عن المحتل الأجنبي، وأثرت الثورة في العالم الثالث كله، ولكن انقلب نظام الحكم إلى حكم شمولي لا يسمح بالتعددية والتعبير، وتوالت الأحداث التي لا نريد أن نذكرها تفصيليا، ولكن منذ ذلك التاريخ وإلى أن قامت ثورة 25 يناير، لم ينعم الشعب المصري بالحرية التي هفت روحه إليها. ولذا لن يتخلى الشعب هذه المرة عن تطلعاته في حياة كريمة، ولن تتمكن قوى الثورة المضادة من قتل هذه الروح العظيمة.
وتذخر الكتابات بالتحليلات والتوقعات، ولكنني توقفت طويلا أمام الشاعر العظيم سيد حجاب، وأذهلني بكلمات تعبر عن صوت مصر. وعندما يكون الشاعر صوت أمة تقف التحليلات السياسية عاجزة  عن توصيل الرسالة التي يوصلها الشعر في بساطة وعمق، فتعبر عما يجيش في العقول والقلوب من ألم وفرح، أمل ويأس، تطلع وانسحاب. يرتفع صوت الشاعر ليعلنها صريحة واضحة أن شعب مصر لن ينهزم، فتكون كلماته ريحا صرصرا، يرهب من يريد أن يحطم، وتصبح كلماته سلاحا أقوى من أعتى الأسلحة فتكا، تنادي بالحق وتشدو بأنشودة السلام. استمعت إلى سيد حجاب في ليلة ليلاء، خيم فيها الحزن، والأسى، مع طعنات ممن وضعناهم في حنايا القلوب مطمئنين، فإذا بالطعنات تجيء الواحدة بعد الأخرى في قلوبنا، فتقتل من تقتل وتصيب من تصيب، ويكون الألم مزدوجا، ألم لمن استشهدوا، وألم لمن جاء عل يدهم الاستشهاد، لأنهم خانوا الأمانة والعهد والود. يقول سيد حجاب :
سقط القناع وبرقع الحيا  شالوه ... واتعرت السوءات وشاهت الوجوه
رفعنا قامة وهامة  بانت الكرامة ... وانكسر سم االأفاعي والضباع
 وبان لنا  اللهو الخفي واللي خفوه... واللي في لحظة يحضروه واللي بمزاجهم يصرفوه
وعرفنا  مين فينا الجبان اللي اشتري فينا وباع ... واللي الجميع بيعرفوه
 ومين  قتلنا وافترى وأدمن الخداع ...  وشفنا مين  مع الحقيقة وشمسها
ومين سعى لطمسها..  لما سألنا عن ضميره... قالوا ضاع
طالعين وطالبين الشهادة ومن طلب حق الشهيد ...  بيجرموه وبيحرموه في سجنه من ابنه الوليد
 ويباركوا للي صاب نشانه عين أخوه ...  تسلم ايديك يا باشا صبته في النخاع
لأ قطع ايده وفض فوه.... وعار على اللي خلفوه
والقصيدة طويلة مليئة بكل ما انكوت به قلوبنا، ولم نستطع أن نعبر عنه مثلما عبر هذا الشاعر العظيم، كلماته ليست كلمات مسجوعة أو مصنوعة، ولكنه توحد مع عقل شعب وضميره، ولذا فإن كل بيت منها رنين انطلق صداه في أنحاء الأمة. أنه عام مصيري، لأن ما بدأ في يوم 25 بداية لحقبة جديدة، ومن لا يدرك ذلك سيجتاحه طوفان الغضب. أجمع هذه الكلمات المتناثرة من قصيدة هادرة:  
احنا بقينا بكرة والنور اتبدر .. وانتم يابعدة مكلبشين  في ظلام سنين غبرة وأيام غابرة
الحق الحق وحقنا وحق الشباب اللي تهدر .. واللي تكسر ما ينجبر
الدم حقه غالي وعمره ما بيروح هدر.. واللي خرج من قمقمة مارد محال تلجمه  أو ينجبر
الناس طوفان غضبان وهيجانه خطر
اسمعني يا بتاع .. يا اسمك إيه ..حتسيب لنا بكره احنا أدرى وأولى به .. عالم جديد ..حر وسعيد .. ما بقاش بعيد، فجره الوليد طاهر عفي
 مصر الضمير والحق دينه ومذهبه
والحق ظاهر ووشه طاهر .. والمصري مش حيلين لمن أرهبه .. وياويله من هان شعبنا أو أغضبه.. ارحلوا عنا بسلام أو جربوا غضب الحليم إذا غضب.. قومي يا أمة واهتفي ومصدقك يا أمي من غير ما تحلفي.
انزاح ياليل .. ارحل يا ليل .. ولم تعابينك ياليل .. ولم وطواطيك يا ليل .. كل الظلام .. شمعة وحده تغلبه.. ايدينا الحرة دقات القدر.. مين اللي يقدر على القدر إذا حضر.
عبر سيد حجاب ببلاغة عن أن هذا العام مصيري، وأكرر أنه عام مصيري لأن ذلك الهدير مازال مستمرا، وذلك الشلال مازال جارفا لكل ما ومن يقف في طريقه، ولهذا فإن من يخيل إليه أنه سيقضي على آمال وأحلام هذه الثورة، فإنه لن ينجح مها أوتي من دهاء ومكر وخداع، لأن صوت الحق يهزم الزيف دائما.. حقا إن ضوء شمعة كاف ليقضي على الظلام. ليست هذه أحلام الشعراء، ولكنها حقائق التاريخ.
ظن السفهاء أنهم قادرون على  حرق ابراهيم (عليه السلام)والتخلص من دعوته، ولكن الله جعل النار بردا وسلاما عليه، وظن آخرون أن صلب المسيح  (عليه السلام) سيقضي على تبليغه، ولكن رسالته أنارت العالم بالمحبة، واجتمع أهل قريش ليقتلوا محمدا (عليه السلام) فكانت هجرته بداية لانتصار رسالته. ويظن المستبدون أنهم قادرون على قتل ثورة نبيلة ضحى في سبيلها شباب طاهر، ولا يدرون أن من قتلوهم  سيظلوا جذوة تشعل القلوب بالإصرار، ولا يتصورون أن من أصابوا عيونهم قد أضاءوا بصيرة شعب بالرؤية والوضوح.
إن كل حديث ينزل بنا من الرؤية الشاملة إلى التفاصيل المملة، قد يجعلنا نفقد الطريق من تحت أقدامنا، وهذا ما يريده أعداء هذه الثورة تماما، يريدوننا أن نهلل فرحين، أو نعبس معترضين على فوز التيار الديني داخل البرلمان، وننسى القضية الأساسية "الحرية". يريدون أن نغرق في قضايا فرعية عن الشريعة وأحكامها، وننسى أن مباديء الإسلام بل وكل الأديان هي تحقيق العدالة واحترام الإنسان وحريته.  يأخذوننا إلى خندق الطائفية، والطائفية هي صنيعة وخدعة أدخلنا فيها النظام المستبد، وليست مرضا عضالا. إن الأمر واضح لمن يريد أن يرى، غامض لمن ينسى الهدف العظيم الذي جمع شعب مصر في لحظة حاسمة من تاريخ هذه الأمة، ويتصور أن "الاستقرار" أهم من "الاستقلال"، يريد أن يغرق في نعيم "العبودية" ولا يستمتع بنشوة المقاومة من أجل "كرامة الإنسان".  كلنا مسئول عن حمل الشعلة التي تخرجنا من ظلمات التفرق والتشرذم إلى نور التوافق والسير قدما، ننتصر لحقنا في حياة كريمة لا تهددها قوة الغاشمين، دعاؤنا إلى رب العالمين أن ينصر الحق المبين.. آمين. 

Tuesday, January 3, 2012

عام 2012 المرأة تكسر الطغاة د. علياء رافع

مضى عام ليس مثل أي عام مضى، فقد ازدحمت الأحداث بميلاد جديد للبلاد العربية التي قررت شعوبها بكل إرادة وتصميم أن تكسر الطغاة، وبإضرار لا يلين استشهد من استشهد، وجرج من جرح ولا يزال الصراغ بين الطغاة والتحرر قائما. كانت تونس هي البلد التي سبقت الجميع والتي ألهمت الجميع، وكانت مصر هي الثورة التي هزت العالم من أقصاه إلى أقصاه بطبيعتها الخاصة التي ألهمت بلادا في مختلف أنحاء العالم، بما فيها الولايات المتحدة الأمريكية نفسها، حيث في أكثر من مظاهرة، بدأت بولاية وسكنسون، وانتهت بمظاهرات وول ستريت.  ومصر أيضا لها طبيعة خاصة من ناحية أخرى، إذ أن الصدام المباشرة بين الشعب ونظام الحكم لم يكون عنيفا في بداية الأمر، مثلما حدث في ليبيا، واليمن، ومازال يحدث في سوريا، حيث بدا للجميع أن الجيش وقف بجانب الشعب، ولكن جاءت الرياح لما لا تشتهي السفن.
عند بداية الثورة لم أكن أقبل التفرقة بين الرجل والمرأة، أو حتى الحديث عن دور المرأة لأن في أعماقي لم يكن هناك إلا شعب واحد انتفض انتفاضة واحدة، وقرر أن يحقق المستحيل. لم أستطع أن أفرق كذلك بين هؤلاء الذين ضحوا بأنفسهم قبل يوم 25 يناير، وبين أولئك الذين مهدوا لهذا الحدث العظيم قبل ذلك اليوم الفاصل. لقد ذخرت الساحة السياسية بمناضلين من كل الأعمار، ومنهم الناضجون والشيوخ وأيضا الشباب. كان د. عبد الوهاب المسيري، وعبد الحليم قنديل، وجورج إسحاق، وإبراهيم عيسى، وغيرهم كثيرون من جيل الناضجين والشيوخ الذين لم يهابوا السلطة وتعرضوا لما تعرضوا من ضغوط وتهديدات وحبس وتنكيل.  هؤلاء الذين تجاسروا على تحدي الظلم والاستبداد دون خوف قبل الثورة مهدوا الطريق لهذه الثورة أن تقوم.  وتوالت الحركات الاحتجاجية، بدءا من حركة كفاية  التي تحدث الصمت عندما خرجت للتظاهر أول مرة عام 2004، وانضمت حركة 6 إبريل إلى المسيرة، ثم توالت الحركات المختلفة "من أجل التغيير"، "قضاة من أجل التغيير"، محامون من أجل التغيير، حركة 9 مارس من أجل التغيير، وهكذا. وجاء البرادعي بعد انتهاء مدته كمدير للهيئة الدولة للطاقة الذرية ليحيي أملا كبيرا في التغيير. إليه يرجع الفضل في بلورة المطالب الأساسية التي أصبحت بعد ذلك هي نفسها مطالب ثورة 25 يناير.  
كان يوم 25 يناير تتويجا لجهاد كبير قبل بدأه، ولكنه أيضا مفاجأة لأنه لم يكن من المنتظر إن ينقلب الاحتجاج إلى ثورة بهذا الزخم وهذه المشاركة العظيمة التي كان يصعب تصديقها في أكثر الأفكار تفاؤلا.  هؤلاء الذين خرجوا من قبل، لم يكونوا إلا فئات قليلة. وفي الثمانية عشر يوما التي سبقت تخلي مبارك عن الحكم، شهدت مصر ميلادا جديدا، شهدت بعثا لروح حضارة عظيمة، تجددت بها نفوس الكثير من المصريين  الذين رأوا أنفسهم يولدون من جديد بروج وثابة وأمل متطلع إلى المستقبل. ومع كل خطوة إلى الأمام ، كانت هناك تلك القوة العاتية التي تعيدنا خطوات إلى الوراء. لم تمض أيام قليلة حتي داهمت الشرطة العسكرية المعتصمين في ميدان التحرير يوم 26 فبراير، بل وقبل هذا التاريخ كانت هناك انتهاكات وقبض على المتظاهرين وتعذيبهم في المتحف المصري، سمعنا وقرأنا عن هذا في المؤسسات الحقوقية الدولية، وكنا دائما نشعر أنه ربما كانت هناك حالات فردية من ضباط ، لم يستيسغوا أن يقع منهم رجل عسكري مثل مبارك. ولكن وبعد مرور السنة الأولى للثورة، ومن خلال تتبع الأحداث المتعاقبة، انتهينا في نهاية العام السابق إلى مكاشفة لا مواربة فيها أن المجلس العسكري الحاكم يقوم بخطة ممنهجة للقضاء على الثورة والثوار. وإذا بنا نرى المرأة في وسط هذا الهجوم  مستهدفة بشكل خاص.
لا بد أن استهداف المرأة بهذا الشكل الصريح وراءه إدراك رائع  أن كسر المرأة في الثورة يعني هزيمة الثورة، لأن المرأة هي روح السلام والإطمئنان الذي يبعث السكينة للإنسان، فهي ليست مجرد عدد يضاف إلى مجموع من البشر، ولكنها قوة معنوية تدفع الرجال إلى الإقدام، وتوجد التوازن الضروري في الميدان. وعندما يتم تحطيم معنويات المرأة فإن مجموع الرجال حولها يقعوا في منطقة مظلمة من الخوف، لأن الرجل قد يندفع نحو الاستشهاد وهو مطمئن النفس، ولكن أن تصاب إمرأة من أسرته إبنة أو زوجة أو أم أو أخت، فإن هذا يحطمه معنويا، وينهكه نفسيا، ويجعله متحسبا لخطواته التي لم يكن يعمل لها حسابا من قبل.
وأثبتت النساء في هذه الثورة أنهن حقا شقائق الرجال، وأنهن أقوى من أن تكسرهن أحداث من هناك ومن هناك. كثيرات هن النساء الذين ظهرت أسماءهن، ولكن المجهولات أكثر كثيرا. أتذكر أسماء محفوظ في برنامج تليفزيوني، ولم تكن قد ذاع اسمها بعد، ويحاورها مذيعين يردن أن ينكلن بها أو يجذباها إلى أقوال تدينها، وهي تجيب بتلقائية وصدق وقوة أيضا. يخفق قلبي لهذه الفتاة التي أرى فيها كل بنات مصر. أقرأ لنوارة نجم، ولم أكن أعرفها، فإذا بها تعبر عن أفكاروضمير أمة. أنظر إلى ليلى سويف وهي تحمي ابنها في الميدان ليلة 27 فبراير من سحل الجنود له، أرى فيها أمومة كل مصرية وشجاعتها. وإسراء عبد الفتاح التي اختفت في سجون أمن الدولة، وخرجت أكثر قوة.  وجاءت سميرة ابراهيم لتكون قنبلة انطلقت لتصيب صدور كل هؤلاء الذين أرادوا أن يذلوا الفتاة وأهلها، بتلك الكشوف المهينة.  صممت تلك الفتاة الشجاعة أن تقاضي من أراد أن ينتهك عرضها، لتصل في النهاية إلى إثبات تلك المهزلة، التي كان ينكرها المجلس الحاكم وضباطه، وفي هذا بداية لطريق طويل، ستخوضه المرأة من أجل مقاضاة جلديها. لن تتهاون عن حقوقها. هذه الوحشية التي مورست ضد الطبيبات والثائرات في أحداث مجلس الوزراء، لم يكن أبشعها الكشف عن جسد فتاة في الميدان وضربها في صدرها، بل كان التعذيب والقتل والسحل الذي سجلته الوثائق الرسمية للمستشفيات التي قابلت هذه الحالات، وللفيديوهات التي صورت كل هذه الانتهاكات شهادات على استهداف المرأة.
وخرجت النساء في السابع والعشرين من ديسمبر 2011 في ثورة تذكرنا بثورة 1919، وكان تماسكهن وقوتهن وأصواتهن الناعمة في الهتاف، قوة أعتي من أصوات الفنابل التي كانت تتفجر في الميدان، إنها قوة تزلزل أركان الطغيان، وتعلن للعالم أجمع أن المرأة المصرية ليست مستضعفة، ولن تجعل شقائقها من الرجال الشجعان منكسرين وخائفين، لأنها قادرة على المطالبة بحقها، ولن ينحني لها رأس، ولن تخضع للطغاة أيا ما كانوا.
إن هذه القوة النسائية التي ظهرت وتجلت في ثورة 25 يناير إضافة لقوة هذه الثورة التي لن تتوقف إلى أن تصل إلى أهدافها، والمرأة هنا هي التي ستحمي سلمية هذه الثورة، وتنقذها من العنف الذي قد لا يولد سوى عنف مضاد. لقد بدأ العد التنازلي للإستبداد، ولن يمر عام 2012 إلا وقد حققت مصر الحرية التي ترنو إليها، والتي لم تتوان عن بذل النفس والنفيس في سبيل الوصل إليها. لن تذهب دماء الشهداء هدرا، بل ستكون سيفا مسلطا على رقاب الطغاة، تتفلده المرأة المصرية التي تملك من أسلحة السلام ما هو أقوى كثيرا من كل ما يملكه الجلادون من أسلحة العنف والقتل.