Tuesday, August 24, 2010

مسلسل الجماعة: ما بين الدراما والتاريخ د. علياء رافع


من الصعوبة بمكان أن نحكم على عمل درامي لم يكتمل عرضه، ولكن لا بأس من إثارة بعض الموضوعات المتعلقة  بالرؤية الدرامية لشخصية حسن البنا، بإعتبارها شخصية محورية يدور حولها المسلسل كله.  وحسن البنا مثله، مثل أي شخصية تاريخية، تكتسب كازرمياتها بتواجدها وتفاعلها مع الواقع، ولكن بمرور الوقت قد يتغير الموقف ويصبح هناك من ينسب إلى الرجل ما لم يقله، أو يقرأ في حياته ما لم يعنيه.  والواقع أن هذا شأن كل الأعمال الدرامية التي تريد أن تسجل حياة لإنسان أو تصف فترة تاريخية لشعب. وهذا الأمر يثير موضوعا هامة عن علاقة الدراما التاريخية بكتابة التاريخ، ولا يقتصر على مسلسل حسن البنا وحده، لقد أثار مسلسل الملك فاروق ضجة حوله، لأنه بدا متعاطفا مع الملك، ومدافعا عنه، وهناك مسلسلات تاريخية عديدة، قدمت لسيرة بعض من الفقهاء، وبعض الشخصيات الهامة في التاريخ الإسلامي، أو التاريخ المصري الحديث.
ولاشك أن خيال المبدع يتدخل بقدر كبير لينسج من الأحداث والتحقيق التاريخي من خلال الدراسة التي قام به عملا فنيا متكاملا  لا بد أن يخضع للتمحيض الموضوعي والتحقق من صدق الأحداث، وتاريخ الحدث، ووجود الشخصيات، والتتابع المنطفي لتطور الشخصية.. إلخ، ومن ناحية أخرى فإن هناك مساحة لابد أن نتيحها للمبدع كي يستطيع أن يكتمل عمله، ذلك أن ذاتيته ورؤيته وقناعته القكرية والسياسية لا يمكن إستبعادها، ذلك أنه مهما توفرت رغبته في أن يكون موضوعيا، إلا أن أي عمل فني درامي لا بد أن تكون له رسالة أيضا مضمنة أو ظاهرة.
إختيار وحيد حامد أن يبدأ أول مسلسل  الجماعة بإستعراض ما حدث في الأزهر الشريف من قبل بعض الشباب المنتمين إلى جماعة الإخوان في سابقة هي الأولى من نوعها في هذا الصرح،  تحمل إلى المشاهد العديد من الرسائل،  أولها خطورة تواجد هذا التنظيم في إطار غير قانوني، وثانيها قناعة شباب هذا التنظيم بإستخدام السلاح والتدرب عليه لفرض ما يرونه في صالح المجتمع. وثالثها أن هناك مناخا مساعدا على إقبال الشباب على هذا الفكر.  ومن هنا كانت الحلقة الأولى هي تهيئة للمشاهد كي يزداد فضوله عن صاحب هذا الفكر، وكيف أنه بعد مرور أكثر من ستين عاما على وفاة هذا الرجل، مازال هناك من ينتمون إليه، ويدافعون عن رؤيته وعن فكره. ولذا كان الانتقال ما بين الماضي والحاضر يحمل رؤية ذكية، لأن المشاهد – و أتحدث عن نفسي – يتعاطف مع هذا الطفل النابغة الذي يبحث في كتب العلم، ويحمل من الجرأة والشجاعة ما يجعله مختلفا عن زملائه، فإصراره على إرتداء جبة وقفطان في مدرسة مدنية، يدل بلا شك على جوانب التحدي التي إستمرت مع هذه الشخصية. ولكن عندما ننتقل إلى الحاضر ونجد المنتمين إلى هذه الجماعة يخرقون القانون، ويضمرون تهديد أمن وسلامة المجتمع، نبدأ في رؤية جديدة لهذا الفتي وذلك الشاب الواعظ، وقد يمكنننا كذلك أن نقرأ ما بين السطور فيما ينقله لنا هذا العمل.
نجد على سبيل المثال "فكرة إستبعاد الآخر" فكرة أصيلة في فكر البنا منذ الصغر، ذلك أن النصارى يمثلون بالضرورة تهديدا للإسلام، والحرص منهم والبعد عنهم غنيمه. إن فكرة الإستبعاد ستكون بعد ذلك فكرة سائدة في توجهات الإخوان ليس فقط إتجاها إلى أصحاب الكتاب أو الديانات الأخرى، ولكن أيضا من يختلف معهم فكرا وعقيدة من المسلمين. إن تركيز المسلسل على هذه الفكرة، يصبح بعد ذلك سيناريو رئيسي يبرر العنف، وتثوير الشعب ضد النظام القائم إذا إختلف هذا النظام مع أيديولوجيات وفكر الإخوان.
نجد في هذه الشخصية أيضا قدرة على إحتواء المختلف، إحتواء إستراتيجيا، حتي تتمكن من إستقطابه لصالحها والعمل معها، أو لتجنب قوته، حتي تتمكن منه، فتستبعده من طريقها. إن هذا الأسلوب ليس أسلوب شخص، ولكنه تكتيك جماعة ومنهجها، ولذا فإنه من الصعوبة بمكان أن يلتزم الإخوان بقدرتهم على قبول الرأي الآخر، إذا ما صعدوا إلى السلطة. وهذا الحكم ليس حكما جزافيا، أو متجنيا، ولكن لأن الفكر الأحادي الذي يضع خطوطا فاصلة بين الصواب والخطأ، مفترضا أنه دائما على حق، لا يمكن أن يعيد النظر في طريقته في التفكير، أو يتقبل رؤية تختلف عن رؤيته. سنجد مثلا حماس، وهي تشترك مع الإخوان في كثير من ثوابتهم، ترى أن كل من يختلف معها في طريقة حل القضية الفلسطينية خائنا، ومواليا لإسرائيل، وهكذا وجهت حربها إلى فتح، بدلا من التضامن معها من أجل القضية.  وموقف الإخوان ثابت وواضح من إسرائيل، فهم إذا جاءوا للحكم سيطيحوا بمعاهدة السلام، ويدخلوا البلاد في خطورة الحرب، لأنهم سيعتبرون أن فلسطين أرض محتلة، والجهاد من أجلها فرض على كل مسلم ومسلمة. يقومون بهذا دون إعتبار لرؤي أخرى، تعتمد على دراسة الواقع ووضع الخطط الاستراتيجية المناسبة للإستفادة لصالح القضية بأكبر قدر في حدود ماهو ممكن.
سنجد أيضا أن المد الإخواني الذي بدأ منذ عام 1928 قد ظهر في وقت كانت الحياة الفكرية الليرالية في مصر في أوجها، وظهر رعيل من مفكري التنوير، متنوعي الاتجاه، ولكنهم يؤمنون بأهمية البحث والإعتماد على العقل، وإخضاع النص للعقل. فينتشر طه حسين كتابه في الأدب الجاهلي، مثيرا زوبعة من المعترضين، ويخرج علينا على عبد الرازق بكتابه عن الخلافة وأصول الحكم، متحديا بذلك فكرة ظلت ثابتة أكثر من ألف وثلاثمائة عام، معلنا أن الخلافة نظام سياسي، وليس له أصل ديني، وأن نظام الحكم يمكن أن يتغير من ذلك الإطار، مواكبا ما حدث على الساحة السياسية في مصر وفي العالم. ونجد أحمد لطفي السيد يفتح أبواب الجامعة للفتيات، فتدخل سهير القلماوي وتكون أول فتاة تدخل الجامعة المصرية، وتعين زينب على حسن في هيئة التدريس الجامعي بعد رجوعها من إنجلتزا حاملة شهادة عليا في العلوم، وتتوالى النساء في ولوج المجال العام.
لقد كانت مصر في ذلك الوقت الذي ظهرت فيه جماعة الإخوان تشهد طفرة تقدمية ثقافية، دون أن تفقد شخصيتها المتميزة، والذي يشكل فيها الإيمان عنصرا أصيلا من ملامح شخصية شعبها مسيحييه ومسلميه. وكان ظهور ونجاح جماعة الإخوان هو إستجابة للخوف من التغريب، على الرغم من أن كل قيم الحداثة تتناغم وتتجاوب مع قيم الإسلام الأصيلة. ولا شك أن الإسلام يشكل قاعدة أساسية في المجتمع المصري، ولذا لاقت دعوة البنا قبولا على المستوى القاعدي. ولكن خطورة الفكر الإخواني أن يرفض التجديد ويرفض الآخر، ويتخذ من الغرب عدوا، ويحكم على أي نظام حكم لا يتبع مايقولون أنه جاهلي. إن الفكر الذي قدمه حسن البنا، لا يترك مساحة ولوضئيلة للإختلاف، ويعتبر أن ما يدعو إليه هو "الإسلام"، وما دون ذلك فليس إسلام. ويصدر حكما مطلقا على حكام الدول الإسلامية فيقول: "إن قوما فقدوا الإسلام في أنفسهم، وفي بيوتهم وشئونهم الخاصة والعامة لأعجز أن يفيضوه على غيرهم، ويتقدموا بدعوة سواهم إليه".
أتتطلع إلى إستكمال رؤية هذا العمل الدرامي الهام، والجاد، والذي قام فيه مؤلفه بمجهود بحثي مشهود وواضح، ولا شك أن تأثيره الثقافي سيكون هاما للغاية، وقد يكون مرجعية كذلك لمن يريد أن يعرف طبيعة الظروف التي أفرزت هذا الفكر، وإتجاهاته في المستقبل. 

Tuesday, August 17, 2010

رمضان وقراءة القرآن د. علياء رافع


في المقالة السابقة تناولت ما أثاره توجه د. نصر حامد أبو زيد في إجتهاده لإيجاد منهج في تأويل القرآن من إشكاليات، وأوضحت أن الاختلاف أو الاتفاق مع ما توصل إليه من نتائح ليس معيارا للحكم، الأهم هو أن يكون هناك حق للإختلاف. الإختلاف  يثرى الفكر ويجعلنا نعيد رؤية ما نعتقده من مسلمات قد لا تكون بالضرورة كذلك، ولنننظر على سبيل المثال كيف يمكن أن يكون حال المرأة اليوم، إذا ما إستمر فكر القرن التاسع عشر في حجبها عن العمل والتعليم تحت إدعاءات دينية؟ وقد ننتفض فزعا عندما نرى أسلوب طالبان في إدارة المجتمع الأفغانستاني، الذي أعاد أفغانستان قرونا إلى الوراء، تحت زعم  الإلتزام الديني، وهكذا.  نحن في حاجة إلى هزات فكرية من حين لآخر،  لتصبح إعادة التفكير في المسلمات الثقافية منهجا  لنتقدم في فكرنا، ونطور من إدراكنا بصورة مستمرة.   ولقد أثارت مقالتي عن نصر حامد أبو زيد عددا من التعليقات، إذ يبدو أنه قد حدث اختلاط بين تناول منهج التأويل وبين ما يحمله القرآن من معرفة تتخطي الزمان والمكان. ولذا فلا بد من العودة إلى الموضوع من زوايا متعدده.
لاشك أن مقولة أن القرآن يحمل معرفة تتخطى الزمان والمكان هي مقولة إيمانية، ولايمكن أن يوضع الإيمان في موضع جدل، ذلك أن الإيمان دائما ينتمي إلى التسليم بقضية ما، لا تخضع للتمحيص، وإلا تحول الإيمان إلى معرفة.  وأظن أن معظم المسلمين يؤمنون بأن المعاني القرآنية لا تخضع للزمان والمكان، ولكن القضية هي كيف نتناول نحن ذوي القدرة المحدودة والإدراك الذي يحده الزمان والمكان آيات القرآن. ولذا يجب أن أبدأ بالقول أن تلاوة القرآن تعبدا، لا تتطلب إطلاقا أي محاولة تأويلية،  لأن التلاوة التعبدية تتطلب فقط تهيأة نفسية وروحية، كي يستقبل من يتلو بعض فيوضات القرآن النورانية، وهذا التوجه يجعل القرآن يتخاطب مع الإنسان خطابا شخصيا بحتا، فما يقع في قلبي من فراءة آية من آيات الذكر الحكيم في لحظة ما، قد يختلف عن قراءتي لنفس الآية في لحظة آخرى. لا نستطيع أن نتحدث عن تلك المعاني التي تقذف في القلب أنها تفسير للقرآن ولكن هي إستقبال لبعض المعاني، وتظل نفس الآية قادرة على أن تولد معاني أخرى في لحظات أخرى، وهذا أحد الجوانب التي تجعل من تلك الأيات مصدرا للإستزادة في كل مكان وزمان.
ولأوضح ما أعنيه أذكر  حدث  هزني من الأعماق، فلقد جاءتني أم شابة توفت إبنتها البالغة ستة عشر ربيعا في حادث مأساوي، وقد استبد بهذه الأم حزن عميق، وأسئلة لا تستطيع أن تجيب عليها، وكان تسليمها لقضاء الله وقدره فوق طاقتها الإيمانية، فقررت أن تذهب إلى عمرة، لعلها تنقذ نفسها من إعتراضها الذي جعلها قاب قوسين أو أدنى من الكفر، وذهبت إلى الأراضي المقدسة، وبينما هي تطوف بالكعبة، إذا بمطر ينهمر من السماء، وإذا بها تشعر وكأن هذا الماء يهديء من غليانها النفسي، ويطفيء ذلك الحزن الذي يحرق قلبها، وتنتهي من الطواف، ويهدأ المطر، وتجلس في المسجد الحرام، فيغشاها نوم لطيف، فتستيقط من نومها، وتشعر براحة لم تشعر بها منذ وفاة إبنتها. نعم هي ما تزال حزينة، ولكنه حزن من نوع آخر، ليس ذلك الحزن الذي كاد يدفع بها إلى حافة الجنون. وتمسك القرآن وتقرأه فإذا به يخاطبها. "إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاءً لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَىٰ قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ" (الأنفال، آية 11). لقد شعرت أن الله يخاطبها جهرة من خلال هذه الآيات. وتركتني محدثتي وأنا أسبح بعظمة الله.  وعلى كثرة ما قرأت القرآن واستمعت إليه، بدا لي أنها أول مرة أقرآ فيها هذه الآية في هذا السياق.
وأذكر في هذا الصدد أيضا  قصة للمفكر الأمريكي جيفري لانج الذي ولد مسيحيا، ولكن خرج من المسيحية متشككا في وجود الله أصلا، وذلك لأنه لم يستطع أن يعقل أن الإله الكامل يخلق الشر، ولأن الشر والأشرار موجودون فهذا يتناقض مع فكرة الكمال. وظل متشككا في وجود الله، إلى أن تلقي هدية من أحد أصدقائه، ووجد أنها "القرآن" مترجم بالإنجليزية، ففتح الكتاب لتقع عيناه على الحوار الذي يسرده القرآن بين الله والملائكة عندما أنبأهم بخلق آدم، وإذا به يجد أن الملائكة تسأل الله نفس الأسئلة التي يسألها قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ" (سورة البقرة آية 30) وإستمر يقرأ فإذا به يجد إجابة لأسئلته، وكأن القرآن يخاطبه هو. وزاد فضوله عن الإسلام، فأخذ يقرأ عنه بنهم، إلى أن أعلن إسلامه.
في الحالة الأولى التي ذكرتها عن تلك السيدة، فإن الرسالة التي وصلت إليها لتهدأ نفسا، وتطيب خاطرا،  لا تعني أنه كلما إنهمر ماء من السماء تجيء معه الرحمة، فقد يكون نقمة عندما يصبح المطر فيضانا مثلا. إضافة إلى هذا يمكن إعتبار أن نزول الماء من السماء تعبير مجازي يشير إلى الرحمة. وأما عن الحالة الثانية الخاصة بتفاعل جيفري لانح، فلن يستطيع إنسان أن يعرف طبيعة هذا الحوار الذي حدث بين لله والملائكة، أو أن يدرك كيف تحدث الله إلى الملائكة، ولن يمكنني أن أعرف طبيعة الملائكة وتكوينهم وشكلهم.  يكفي أن أستقبل ما يعطيه لنا هذا الموقف من معاني تؤكد أن هناك حكمة من خلق الإنسان فاقت قدرة الملائكة على الفهم، وأن هناك الكثير مما لا نستطيع أن ندرك الحكمة وراءه، وعلينا أن نتفاعل مع هذا العجز بإيجابية وليس بسلبية، أي نسلم بقدراتنا المحدودة دون أن يعني هذا التوقف عن التساؤل والبحث في حدود ما نحن مزودين به من أدوات عقلية وغيرها لنصل أو نكتشف ما نجهله.
وقد يقرأ الكثيرون القرآن وكأنهم يقومون بما ينبغي عليهم أن يقوموا به، دون أن تكون هناك تلك الشعلة الداخلية القلبية التي تتيح لهم أن يستقبلوا بعضا من فيوضات هذا الكتاب الكريم، فيقعوا في الحرفية المطلقة، التي قد تغلق أمامهم باب الاستقبال. أو قد يزج البعض من المفسرين بآرائهم في أمور لا نستطيع إدراكها مثل وصف الجنة أو جهنم أو يوم القيامة، أو غيرها إعتمادا على ظاهر اللفظ، وهو ما يجعل ما يقولونه رجما بالغيب، ويجعل من يملك عقلا نقديا تتوفر له أسباب الإعتراض والتشكك. الأيات التي تتناول الثواب والعقاب تستهدف أن تصل بنا إلى الإيمان بقانون محكم للجزاء، حتى لا يظن الظالم الذي افترى على الناس بأي صورة أن قدرته على الهروب من عقاب المجتمع الذي يعيش فيه، سيجعله يفلت من العدل الإلهي، ولا يظن من يعمل خيرا ولا يجني آثاره أن عمله قد ضاع هباءا. وأما إذا دخلنا في تقاصيل حتي مع أكثر العقول قدرة على التأويل فيما يتعلق بيوم الدين والجنة والنار والملائكة والخلق، فلن نستطيع أن نفك الشفرة القرآنية التي أريد لها أن تكون كذلك، لتقذف في قلوبنا مشاعر متجددة من الجلال والمحبة، تشعرنا بحدودنا وعجزنا وحاجتنا إلى العون القدسي. وهذه الشفرة مضمنة في اللغة التي نزل بها القرآن بما فيها من تركيبات خاصة، واختيار محكم للكلمات.
عندما نتحدث إذن عن القرآن، فنحن لا نستطيع أن نتعامل مع كل الآيات بنفس الأسلوب، إو بإستخدام نفس المنهج،  الإلمام بالمعنى اللغوي للفظ كما تداولته العرب هو فقط أحد الأدوات الهامة في تأويل بعض النصوص التي تحمل في طياتها أبعادا تطبيقية أو أمورا متعلقة بهذه الحياة. فالتواصل مع القرآن يتم في أحد جوانبه عن طريق التعبد، وفي جانب آخر عن طريق التفكر، وفي جانب ثالث عن طريق التأويل، وقد يتشابك كل هذا معا، وذلك لأن الآيات القرآنية تختلف في مقصدها وفي سياقها وفي تركيبها، فيجب أن نفرق في الآيات القرآنية بين آيات قد نزلت إستجابة لظروف أو لحدث بعينه، وآيات أخرى تتناول قضايا عقائدية، إذ نجد فاتحة الكتاب مثلا دعاء، ونجد أول سورة البقرة توضح أن قراءة هذا الكتاب تستلزم أن يكون الإنسان عنده قدر من الإيمان والتقوى، ثم نجد آيات الميراث، أو القيام بشعائر الحج، وغيرها من الأمور التي تتعلق بالعبادات والسلوكيات، وهكذا.
إننا ونحن في أنوار هذا الشهر الكريم في حاجة إلى تلاوة القرآن تقربا واحتسابا، وتعبدا وإنابة، واستقبالا لفيوضاته النورانية، والأمر أكبر من أن تكون القراءة هي إحاطة باللغة، على أهميتها، ولكن طهارة القلب، والإيمان بقدسية هذا التنزيل أساس وتهيئة للتواصل والتفاعل مع آيات الذكر الحكيم.    
  

Tuesday, August 10, 2010

نصر حامد أبو زيد وإشكالية تأويل النص د. علياء رافع


بعد إنتقال د. نصر حامد أبو زيد إلى رحمة الله، أخذت أقلام المفكرين والصحقيين تملآ الصفحات عن حياة هذا الرجل وفكره،  ومما قرأت أذكر 3 مقالات للشاعر أحمد عبد المعطي  حجازي، وأخرى للدكتور جابر عصفور، وثالثة للأديب والمفكر العظيم جمال الغيطاني وتحقيق في المصور مع زوجة د. أبوزيد، وعلى الشبكة الدولية (إنترنت) هناك موقع  تحت إسم رواق  قد جمع أغلب ما كتب عن نصر حامد أبوزيد،  وأتصور أنه هناك الكثير مما لم أقرأ.
ولا شك أن قضية د. أبو زيد أثارت ضجة كبرى في الثسعينيات، تعدت أصداؤها العالم الإسلامي إلى العالم الغربي، الذي وجد في التصدي له والهجوم عليه ثغرة، يهاجم بها قصور الدول الإسلامية عن تحقيق مبدأ هام من حقوق الإنسان ألا وهو حرية الفكر. وفي كل الأحوال فإن ما قدمه هذا الرجل من رؤية تستحق أن يعاد عرضها، وليتفق معه من يتفق أو ليختلف معه من يختلف، دون أن يكون الإتقاق أو الاختلاف هو المعيار الذي يتحدد معه أصحاب الفكر المستنير أو غير المستنير، ذلك أن عصر المطلقات قد انتهي، وأصبحنا نعيش في عملية مستمرة للبحث، دون إطلاق الأحكام جزافا، بل وإن قبول التناقض والاختلاف هو أهم ما يميز هذا العصر. وهذه بالفعل أحد القضايا التي حاول د. أبو زيد  أن يبرزها، مدافعا عنها ومهاجما من يعطون لأنفسهم أهلية للوصول إلى الحقيقة المطلقة.
وأنطلق من مناقشتي لتوجهات د. أبو زيد ليس من منطلق الإشادة به، أو الهجوم عليه، ولكن من بناء حوار يقوم على أساس مناقشة القضايا الأولية التي بنى عليه أطروحته في تفسير أو تأويل النص. ولقد لا حظت أن الكثيرين ممن كتبوا عنه قد أسقطوا بعضا من تصوراتهم على فكره، فالرجل حاول أن يضع قواعد لتفسير القرآن، ولم  يقل بأنه يشجع من يطلق العنان لكل من يريد أن يدلي بدلوه في إستخراج المعاني دون ضابط أو رابط. ولم يدخل د. أبوزيد في وضع تعريف للدين، وكذلك لم تكن كتاباته أراء، ولكن فاق اهتمامه بوضع منهجية قراءة النص المقدس وضبطها أي قضية أخرى.  ولأنني أريد أن أطرح توجهات هذا المفكر بصورة تبسيطية وأرجو ألا تكون إختزالية، فإنني سأطرح الفكرة الأولية في رؤيته للنص الديني، ولقد طرح هذه الرؤية كي يبني عليها نتائج فقهية وفلفسية أثارت حربا فكرية عليه.
أراد د. أبوزيد أن يتعامل مع النص في البعد الاجتماعي والبيئي الثقافي،  ولم يكن هذا سبقا تفرد به،  ولكنه من أجل أن يخرج بمنهج تفسيري جديد، أسرف في تأكيد أن لغة القرآن تخضع للبحث النصي من حيث أنها لغة العرب في ذلك الوقت، ومرة أخرى فإن قوله هذا ليس جديدا، ولكن إثارة هذه القضية في بعدها "الكلامي" أي فيما يختص بالفلسفة الإسلامية، من حيث إصراره على ماجاء به المعتزلة قبله أن النص القرآني  يخضع للتمحيص المنهجي اللغوي لأنه متقيد بظروف الزمان والمكان الذي ظهر فيه، لأنه خلق في الزمان والمكان، وقد أثار عليه  هذا الرأي حفيظة من هاجمهم وإتخذوا من هذا القول ذريعة يتهمونه فيها أن ينفي أن القرآن "كلام الله".  ومن ناحية أخرى فإن محاولته للتعرض وإعادة تفسير كلمة "وحي"، على الرغم أنه لم يكن يقصد بها نفي المصدر الغيبي للقرآن، إلا أنها قد جلبت عليه كثيرا من النقد الذي تجاوز في بعض الأحيان حد المعقول أو المقبول.
لم تكن الإشكالية التي طرحها د. أبو زيد ومخاصموه جديدة على الإطلاق، لأنها نفس القضية التي أثارها علماء الكلام عن "القرآن" هل هو قديم أم حادث؟ وأري أن هذا التساؤل تساؤل مختلق ليس له إجابة، لأنه يخلط بين أمور لا يصح أن نخلط بينها.  ذلك أنه إذا كان القرآن كلام الله، إيمانا بأن الرسول لم يبتدعه ولم يؤلفه، فهذه حقيقة يشهد بها الاختلاف الواضح بين أحاديث الرسول والأحاديث القدسية، وبين أسلوب القرآن. وكل من آمن برسالة الرسول صلى الله عليه وسلم، فهو يؤمن بأن القرآن قد تنزل على الرسول، ولسنا في حاجة إلى جدل في هذا الشأن، لأن من لا يؤمن بذلك فهذا شأنه، ولا جدوى من محاولة إقناعه. ولكن جوهر عقيدة  المسلم هي أن "القرآن كلام الله"، لأنه ليس كلام الرسول، وليس كلام يمكن أن ينتسب إلى بشر أو شخص معروف. لم يتعرض د. أبوزيد لهذه الرؤية لأنها تبدو له بديهية، على ما أظن.
 ولكن قضية التعامل مع كلام الله (القرآن) هي القضية الهامة التي أثارت الكثير من اللغط والاختلاف، قديما وحديثا،  حيث أنه لا يوجد إتفاق على ما إذا كان المعنى المقصود في النص واضح بذاته، أم أنه في حاجة إلى تأويل. ولو كان أبو زيد إكتفي بالقول مستشهدا بالتاريخ أن العلماء قديما وحديثا قد اختلفوا في تفسيرهم للآيات، لكان هذا في حد ذاته دليلا على أن الاعتقاد في قدسية المصدر،  لا تتعارض مع الاختلاف في تعدد التفسيرات بشأنه ، وقد قال ويقول كثير من الناس هذا الرأي دون أن يتعرضوا للمساءلة، ولكن أبو زيد أراد أن يضيف سبقا فكريا، عندما حاول أن يؤكد أن النص القدسي قد ظهر في زمان ومكان وتقيد باللغة التي كان يتكلم بها العرب، وحاول فلسفيا أن يؤكد هذا المعنى، وعبر عن هذا الفكر بأسلوب جديد وبعبارات مستحدثة، وذلك من أجل الإسهام في بناء منهج علمي لغوي في التعامل مع النص.
وأعتقد أن المنطقة التي ولجها أبوزيد، ليست فقط منطقة شائكة، بل هي منطقة يجب فك الخيوط فيها قبل الولوج إليها، حتي لا يختلط الأمر بين مستويين من الرؤية متوازيين، لا يلتقيان في نفس المستوى.  ذلك أن الإيمان بأن القرآن كلام الله لا يتطلب نفي أنه نص لغوي قابل للتفسير والتأويل، والقول أن هذا النص قابل للتفسير والتأويل تبعا للمعاني التي تحملها الألفاظ في الوقت الذي نزل فيه، لا يلغي عنه صفة القدسية، أو يجعل أحكامه نسبية. ولذا فإن المطالبة بوضع إجابة جازمة عما إذا كان القرآن مخلوقا أم قديما، مقدسا أم  يحمل لغة إنسانية، هو سؤال لا معنى له أساسا
ومن ناحية أخرى فإننا إذا تأملنا في التعبير "كلام الله"، فإن هذا التعبير يقصد به القدرة التي يتجلي بها الله لخلقه، والآيات التي يظهر بها في الوجود، بهذا الفهم يكون القرآن هو تعبير عن هذه القدرة. ومن ناحية أخرى، إذا آمن الإنسان بوجود تلك القوة القدسية فهل هو قادر على تصور "اللازمان" أو ما بعد الزمان، هل يستطيع العقل أن يصل أو يدرك معنى "الأزل". إنه معنى أفتراضي نسلم به، لأننا لا نملك من القدرة غير ذلك، لأننا ندرك أن الأزل يلغي الزمن تماما. وإذا كان حديثنا عن "القرآن" الذي نقرأه ونعرفه، فهو قد تجلى في زمان، بل ونزل منجما متفرقا، ليتجاوب التنزيل مع الظروف والأحوال التي كان يمر بها الرسول، ويمر بها مجتمع المسلمين.  إذن ببساطة شديدة فإنه من منطق الأشياء ألا نمزج ما ظهر من خلال الزمن بلغة يمكن قراءتها وفهمها وبين ما هو فوق الزمان. ولا يعني هذا أن نصل إلى فصل الخطاب بالقول أن القرآن مخلوق أو بفصل الخطاب أن نقول أن القرآن قديم، لأننا نجهل حتي ماهية خلق القرآن (تجلي المعاني في ألفاظ)، ونجهل كذلك  المقصود بتعبير "كلام الله"، إذا كنا نقول أن القرآن كلام الله، فإن هذا يدخل في دائرة المجاز وليس الوصف، مثل القول أن "عيسى كلمة الله وروح منه".
ولأن د. أبوزيد لم يكن يتحدث عن البعد العقائدي بالنسبة للمسلمين، لأنه قد إعتبر أن التعرض لهذا قد يخرج به عن موضوع بحثه العلمي،  ولأنه تحدي الكثيرين ممن يجعلون النص واضحا بذاته دون فهم للبعد الاجتماعي والتاريخي والثقافي، فإنه فتح الباب أمام المختلفين معه في الرآي ليكيلوا له إتهامات إذا كانت تدل على شيء، فهي تدل على عدم فهمهم للهدف الذي سعى إلى تحقيقه في أطروحته التي عرضها. كان من الممكن مراجعته في منهجيته وبيان قصورها في  التأويل. ذلك أن القرآن مع أنه لغة، فهو ليس لغة فقط، وليس تركيبات بنائية لفظية فقط،، فهو قبل هذا وبعد هذا نص يحمل طاقة روحية، ولذا كانت قراءته تعبدا، وأما ما يختص بمعالجته لأحوال البشر والمجتمع، فإن البحث في الظروف الاجتماعية والثقافية والبيئية والتحقيق اللغوي ينبغي أن تكون أحد آليات البحث عن "المقصد"، وهو بحت متصل ومتواصل ولاينتهي. وليختلف المختلفون بعد ذلك في فهم "المقصد" أيضا، أو التعبير عنه تطبيقيا من خلال التشريعات. وليكن هذا الاختلاف مصدرا للإثراء وليس للإلغاء. لقد حرك أبوزيد المياه الراكدة، ومازلنا في حاجة إلى مزيد من الاجتهاد والحوار.

Tuesday, August 3, 2010

النظام السياسي القادم وبناء مستقبل مصر د. علياء رافع


إزدحمت الأفكار في رأسي وأنا في متن الطائرة العائدة بي إلى وطني الحبيب، بعد زيارة للولايات المتحدة، و في كل مرة أعود فيها إلى مصر وتقترب الطائرة من أرضها يخفق قلبي فرحا، وأتطلع إلى رؤية بلدي بشوق شديد، وينتابني شعور بالراحة والسلام والأمان. كانت أفكاري تدور في أكثر من اتجاه. فتلك الزيارة كان لها طعم خاص، ولقد اعتدت أن أذهب إلى العاصمة واشنطن كثيرا لأسباب عائلية في الأغلب، وعلمية في أحيان أخرى. ما تذوقته في هذه المرة كان مختلفا، ربما يكون ذلك لأنني إعتدت على رؤية هذه المدينة، وربما لأن حبي لبلدي وأملي في أن يعتني بها أبناؤها قد غلبني، وربما وربما ... ولكن في النهاية كنت أسير في واشنطن، وأتذكر الثراء المعماري والحضاري الذي تذخر به بلدي.
وبينما أنا في واشنطن، أخذت مخيلتي ترسم صورة مركبة من الشوارع العريضة والنظام المروري الدقيق الذي أستمتع به في هذا البلد وبين أحياء القاهرة القديمة، ووسط البلد، والجيزة، وكل حي من أحياء القاهرة وكل بلد في مصر.  أي أنني تصورت أنني أستطيع أن أسير في شوارع مصر بنفس هذا اليسر وأنه يمكن أن أقود أو أركب سيارة، واستمتع بقيادتها أو أشعر بجمال الانتقال من مكان إلى آخر وسط هذا الثراء الحضاري الذي تقف واشنطن خجلة أمامه. أسعدني هذا الخيال كثيرا، لأن هذا الحلم إذا تحقق، لأصبحت مصر بلا منازع من أجمل بلاد العالم. ولكن أفقت على الواقع فهناك الكثير من الجهد يجب أن يبذل حتي نستطيع أن نمزج بين الماضي العريق بكل ما يحمل من قيمة، وبين الحاضر الذي يذخر بالنظام والدقة في البلاد المتقدمة. ولكن ما جعلني أعتصر ألما أن هذا المزج ليس مستحيلا، ولكننا متهاونون في تحقيقه.  فهناك انتهاك لعظمة بلادنا واحترامها، وكل فرد منا مسئول عن هذا.
 في هذه الزيارة الأخيرة، تهاوت أمامي صورة أقوى دولة في العالم، وبرزت أمامي حضارة عظيمة يجب أن تعيش في الحاضر ولا تظل مدفونة في ذاكرة تاريخ ميت. إن كل حي من أحياء القاهرة يشهد بطبقة من طبقات التاريخ وبإنجاز  قدمته مصر. وسر الحضارة في قيمة الإنسان فيها، وقدراته الخلاقة، الحضارة ليس آثار، ولكن الآثار هي رسائل حية إلى الإنسان الآن في الحاضر. وقفز إلى ذهني ذلك الكتاب الذي أعطتني إياه صديقة للسير كنز روبنسون، والذي كان له أثر بالغ في ميدان التعليم والتربية، ويسمى بالإنجليزية The Element ومن الصعب ترجمة الكلمة ترجمة تنقل أراده الكاتب، فهو يريد بهذا المصطلح أن يشير إلى نقطة الإلتقاء بين الإمكانيات الخلاقة التي يتفرد بها كل إنسان وبين القدرة والرغبة على تفجيرها، وإذا حدث هذا أصبح الإنسان قادرا أن يعيش حياة مفعمة بالقيمة والخلاقية والعطاء، ويعطي هذا الكتاب أمثلة كثيرة لشخصيات معروفة في كل  الميادين سواء فن أو رياضة، أو اقتصاد وسياسية وغيرها، حققوا نجاحهم لأنهم وجدو نقطة الإلتقاء بين ما يتشوقون إليه، وبين ما حباهم الله به من إمكانيات، ويتحدث الكاتب عن دور التعليم في تدعيم الفرد أن يجد نقطة الإلتقاء هذه.  وإذا بالإفكار المشتته تترابط، فالتعليم هو أحد العوامل الأساسية لتحقيق نهضة لمصر. إنه تلك النوعية من التعليم التي لا تنظر إلى المواطن على أنه مجرد سلعة، ولكنها تنظر إليه من منظور إنساني، يفجر إبداعه وقدراته، فتعود الثمرة على المحيط الاجتماعي ككل.  
إن قدرات الإنسان المصري الكامنة هي رهاني دائما في كل مناقشة تسود فيها الأحاديث المتشائمة عن مستقبل مصر، وأومن من أعماقي أن هذا الشعب إذا أعطيت له الفرصة من خلال هذه النوعية من التعليم التي تحدث عنها السير روبنسون، وآمن أن النظام يقوم على العدل والمساواة، وشعر بأن قياداته تطبق على نفسها مبدأ الشفافية، وشعر أن حلمه القومي هو صمام الأمان لآماله وأحلامه، لحققت مصر في وقت قياسي وثبة كبيرة إلى الأمام، ولكان سباقها مع الزمن فوق الحسبان. أشعر بهذه النبضة الحية المبشرة في طالباتي اللائي يتجاوبن معي في المحاضرات، ويسعدنني بتعليقاتهن، وأري في أعينهن الأمل والحلم يتألق. وأشعر بنبض مصر في الفنون الجميلة، وفي محاولة الشباب أن يخرج من اليأس إلى الأمل بكل الطرق الممكنة، على كثرة ما يواجهه من المعوقات. وأرنو إلى المستقبل بشغف لأن كمية من أسعدني الحظ بلقائهن من المثقفين، والعلماء، ومن أقرأ لهن من الكتاب فخر لأي بلد.
لا يعني هذا إطلاقا أنني مغمضة العينين عن انتشار الفساد، والتطرف، والجريمة، واليأس، والانسحاب من المشاركة المجتمعية، وتغلب القيم المادية، والاهتمام بالمصالح الفردية، والفوضى المنتشرة في كل مكان. بل إن كل هذه السلبيات هي التي يجب أن تخلق في نفوسنا التحدي، والرغبة في التغيير.  وعلينا أن نتذكر أن أثناء حرب أكتوبر 73،  توقفت الجرائم، وأن يوم 26 فبراير 87 ، أخذ الناس دور الشرطة في تنظيم الشوارع، عندما حدثت حركة عصيان في قوات الأمن المركزي. هذا ما يجعلنا ندرك أن مظاهر الفساد والانهيار الأخلاقي هي أعراض لمرض، ليس من المستحيل علاجه، ولكنه يتطلب رؤية جديدة، ويتطلب أسلوبا جديدا في النظام السياسي، قائم على الثقة بين الشعب وقياداته وحكومته.
أقول قولي هذا ونحن مقبلون على انتخابات مجلس الشعب، ثم انتخابات اختيار رئيس الجمهورية. وعلى الرغم من احترامي وتقديري للرئيس مبارك، وثقتي في وطنيته، ورغبته في أن يحافظ على أمن هذا الوطن، وعلى رفاهة شعب مصر، إلا أنني أتحفظ في مقاومته للمطالب التي يدعو إليها د. البرادعي، والتي أجد فيها الملاذ الوحيد الذي يمكن أن يخرج شعب مصر من السلبية إلى الإيجابية، وأعتقد أن الرئيس إذا استجاب لهذه المطالب لحفظ التاريخ له مكانته وإسمه. بل وقد يكتسب شعبية كبيرة قد تدخله إلى كرسي الرئاسة مرة أخرى، ولكن هذه المرة بإرادة حقيقية، وليس لأنه لا يوجد بديل له، أو للشك الذي يصل إلى اليقين في تزوير الانتخابات.
وقد تبدو كلماتي صرخات في الهواء، وعلى الرغم من هذا أقول ما أعتقد، وهذا مايبعث في قلبي الأمل. نعم .. فهناك تلك المساحة الصغيرة جدا التي لم تنطفيء بعد، إنها مساحة إبداء الرأي.  ولمن عاش عصرا كان يخشى فيه الأباء الحديث أمام أبنائهم منتقدين نظام الحكم، خوفا من التعرض لزوار الليل الذين يأخذون الناس إلى غير رجعة، يدرك أن هذا العصر على ما فيه من سلبيات، ولكن به كثير من الإيجابيات، منها أننا نقول ما نريد أن نقول حتي ولوكان صرخات يرجع صداها إلى آذاننا.
ولكن ما الذي يمكن أن يحدث لهذا الشعب إذا شعر كل فرد فيه أنه قادر على المشاركة في كتابة تاريخ بلاده، وتغيير نظامها؟  ماالذي يمكن أن يحدث إذا اشتركنا جميعا في حلم قومي واحد، واجتمعنا لتحقيقه؟ نحن –الشعب المصري – الذي يرسم ملامح هذا الحلم، كلنا يشارك في تحديد ملامحه، وكلنا يلعب دورا من أجل الوصول إليه. إذا حدث هذا لعادت مصر إلى مصر.  وأقول لطالباتي لقد حقق الإنسان المصري معجزة ببناء جبل عملاق إسمه الهرم، وهذا الصرح القابع في هضبة الجيزة يرسل لنا رسالة هامة، فلا يجب أن نجعل الهرم مصدر فخر لأنه يعبر عن الماضي العظيم، ولكن يمكن أن نجعله قيمة تعيش فينا لنخلق المعجزات، ولن يحدث هذا إلا إذا تجمعنا، ونحن نعرف إلى أين نسير، وما هو الهدف.  لا ينبغي أن يضع لنا أفراد أهدافا ويدفعوننا للسير إليها، أو يشترون صمتنا بخدمات هي حقنا. إننا في حاجة إلى قيادة تخرج هذا المارد القابع في أعماق المصريين، وتمكنه أن يأخذ دوره في الخروج من مأزق الانحدار، إلى تحدي التقدم والإزدهار، حينئذ يمكن أن يهنأ قلبي، وأستطيع أن أسير في شوارع مصر بتلك الراجة التي أسير فيها في واشنطن، ولكن شتان بين البلدين، فهذه بلد إذا أستعادت شخصيتها ستظل تحمل رسالة القيم الأخلاقية العليا والنبل والعطاء، وتلك بلد سيخجل أبناؤها لما سببته لبلاد العالم من أهوال وشقاء. ويتوقف الأمل فهو رهن بما ستحمله الأيام القادمة: هل سيتمكن شعب مصر أن يأخذ دوره؟