Tuesday, February 28, 2012

لن يتوقف قطار الثورة عن بلوغ غايته


أعتقد أنه هناك إجماع على أن الثورة قد أسقطت رأس النظام ولم تسقط النظام الفاسد، والأدلة لا تعد ولاتحصي. ولكنني أضيف أن ما يحدث الآن يفوق في القبح ما كان يحدث في عهد مبارك. أعداد المعتقلين في السجون العسكرية يتزايد، الانفلات الأمني لا يزال يتفاقم، وما أبشع ما حدث من اعتداء على المرشح المحتمل للرئاسة د. عبد المنعم أبو الفتوح من ملثمين – هذا إ           ذا اعتبرنا أن الحادث جنائيا وليس سياسيا – بالإضافة إلى  تزامن هذا الإعتداء مع حادث لعضو مجلس الشعب حسن البرنس الذي طالب بإيداع الرئيس المخلوع مستشفى سجن طرة.  وأما إفراغ قناة مثل قناة التحرير من أصحاب الرأي الحر الذين كانوا يحققون نسبة مشاهدة عالية جدا فهذا أمر يضيف إلى هاجس تصاعد كتم الحرية والرأي. أين ذهبت دينا عبد الرحمن بأدائها الرفيع وشجاعتها المشهودة؟ أين حمدي قنديل بأسلوبه المتميز واختياره للموضوعات التي تهم الرأي العام؟ أين إبراهيم عيسى بقدراته الإعلامية الجذابة والثاقبة؟ اختفي هؤلاء في غمضة عين من قناة أقبل عليها الجماهير لأنها عبرت عن "الميدان" اسما ومعنى "التحرير".  وفقدت  قناة التحرير الحرية.  وبدأ الهجوم على قناة الأون تي في، وتم قطع بث برنامج معتز مطر. وهي إشارات لسياسات قمعية تتزايد في القوة، مثلما حدث على صعيد الشارع، حيث بدأت الاعتقالات بسيطة وغير مرئية يوم 25 فبراير، و9 مارس، وتصاعد القمع العلني يوم 28 يونيو (مسرح البالون)، و9 أكتوبر(ماسبيرو)،  و19 نوفمبر (أحداث شارع محمد محمود) ثم 16 ديسمبر (أحداث مجلس الوزراء). ومع كل حدث يزداد الاستفزاز والإثارة.
لقد قلت وأقول مرارا وتكرارا أن الزمن لا يعود إلى الوراء، وأن القطار سيسير إلى المحطة التي حددها القدر، ولن يعوقه عائق عن المضي في الطريق، ولكن عرقلة القطار ليهديء من خطوه خطر علينا جميعا، لأن الزمن لا ينتظرنا، ولأن العالم يسير بسرعة أكثر كثيرا مما نتصور. وسيحاكم التاريخ من يقومون بتعطيل السير بجرائم متعددة، فهؤلاء يدافعون عن أنفسهم ومصالحهم ولا يهمهم في هذا السبيل ما يمكن أن يحدث للبلد، بل أزعم أنهم يريدون أن يذيعوا الفوضى والفساد، ويقوضوا أركان الدولة. لا تسألني من هم الذين أشير إليهم.  أستطيع أن أقول لك بكل قوة وثقة، ليسوا الثوار- حتي ولو أخطأ بعضهم التعبير أو لم يكن صائبا في اختيار القرار -  ولا أومن بنظرية اللهو الخفي. إذا درسنا الماضي البعيد والماضي القريب لأدركنا أن من يريد أن يوقف حركة الشعوب يذهب دائما إلى الجحيم الدنيوى والأخروي، بالتأكيد لن يفلت مستبد من العدل الإلهي، وتستمر حركة التاريخ  في السير لا توقفها أي قوة.
 وفي هذه اللحظات الحاسمة في تاريخنا لا أستطيع إلا أن أقارن بين ما كنا عليه من أوضاع متردية، وما نحن عليه الآن من وضع أكثر ترديا. ويبدو لي للوهلة الأولى أن ما كنا عليه من سوء أفضل مما نحن عليه الآن. ولكن ما أخشاه فعلا أن يستمر الحال في التردي أكثر مما نحن عليه. لا يهديء من روعي أن العسكر سيعودون إلى سكناتهم قريبا، وأن رئيسا منتخبا سيتولى أمور البلاد، وأن دستورا على وشك الظهور لينظم حياتنا السياسية والاقتصادية والتشريعية.  وعدم الإطمنان الكامل ليس حالة نفسية غير مبررة، بل إنها وليدة قراءة لما حدث في السنة الماضية من قوة مضادة للثورة تحارب روحها الوليدة بكل قوة. وأحسب أنني بحاسة الأمومة أدرك الأخطار المتربصة بهذه الروح الوليدة.
شاهدنا كما شاهد العالم ميلاد لروح مصر، قال البعض "هذا شعب يتعرف على ذاته وشخصيته"، وتحقق في 18 يوما الحلم الطوباوي التي حلمت به البشرية، ولم يصدق العالم أن الحلم الإنساني بعالم يملأه السلام والوئام، والتعاون والنظام والانتظام يمكن أن يتحقق. كانت هذه مصر بشخصيتها وأصالتها. نزل الناس بعد رحيل المخلوع إلى الشوارع ينظفوها ويزينونها، وتكونت مبادرات شعبية للبناء والتنمية. انتظم المرور في الأيام الأولى لرحيل المخلوع، وتغيرت أخلاقيات القيادة، فأصبح كل يسير في طريقه دون محاولة "للكسر" والسباق المجنون. ولكن ما حدث بعدذلك كما نعرف جمعيا كان مؤسفا للغاية، وسأشير إليه سريعا لأن مقالاتي منذ تلك اللحظات كانت تتابع الأحداث وتتفاعل معها.
كان من الغريب أن تندلع أحداث فتن طائفية في أطفيح وامبابة وأسوان وقنا. بدا كأن الشعب الذي كان في ميادين التحرير والذين يعدون بالملايين وكأنهم قد هبطوا من السماء فجأة، ولأن هذا التصور لا يتناسب مع التفكير القويم والمنهج العلمي السليم، الذي لا بد أن يصل إلى أن ميادين التحرير – وإن لم تكن كل مصر كما يحلو للكثيرين أن يقولوا – إلا أنها تعبر عن الأغلبية العظمي من هذا الشعب، فهي عينة عشوائية (بالمعنى العلمي للكلمة) موزعة على أنحاء الجمهورية. بالتأكيد اختفت روح الطائفية تماما أثناء الثورة. كان هذا مذهلا بالنسبة للكثيرين وبالنسبة لي، ولكن انكشف جانب لم نكن على وعي به، وهي أن ما يبدو أنه احتقان طائفي ليس إلا صناعة مدبرة تستثير وتثير روح الفرقة، لينشغل الناس عن مراقبة الحاكم والمطالبة بحقوقهم ويغوصوا في الشقاق. واستمرت بعد ذلك سياسة التفرقة، وهي سياسات تذكرنا بما كنا ندرسه صغارا عن الاستعمار "فرق تسد".  ولعبت سياسة التفرقة على أوتار الرغبة في السلطة والتطلع إليها، وهي رغبة وأهواء لقيادات تعبر عن قوى سياسية. لهذا وقعنا في الخطأ العظيم، ألا وهو قبول استفتاء على ما سمي "بتعديلات دستورية".  ما زلنا ندفع ثمن هذه الخطأ الفادح إلى اليوم. وهذا هو مبعث القلق لأن كتابة دستور في هذا الوقت سيثير من اللغط أكثر مما يمكن أن يثير من التوافق، ويسخر الفرقة أكثر مما يجمع الأمة. لن تترك التيارات السياسية التي يقال أنها ذات مرجعية دينية (التعبير الغامض الذي لا أفهمه) الفرصة، ستحاول أن يكون الدستور متوائما مع طموحاتها السياسية ومع طبيعة تفكيرها في إدارة البلاد، والتي قد تذهب في تشددها وغلوائها إلى ما يتعارض مع الحقوق الإنسانية ولايتناسب مع الشخصية المصرية. من ناحية أخرى فإن العقلية العسكرية التي سيطرت على الحكم لمدة ستين عاما، لن تقبل أن تتنازل عن السلطة المتاحة لها الآن، ولذا سيكون الدستور القاعدة التي تبني عليها شرعية تسلطها وتحكمها في البلاد.
وأما عن انتخاب رئيس للجمهورية، فإن بدء الحديث عن "رئيس توافقي" لا يبشر بخير، لأنها عبارة تتناقض بشكل صارخ مع مبدأ احترام إرادة الجماهير. يشير  مثل هذا الأسلوب من التفكير إلى أن هناك عزما على "ايجاد" أو "اختيار" وتدعيم  شخصية يسهل اخضاعها للعسكر، ولا تعارض طموحات جماعة الإخوان المستقبلية. ولا أستبعد في هذه الحالة محاولات لتزوير الانتخابات بطرق مبتكرة. والجميع يشهد أن انتخابات مجلس الشعب لم يتم تزويرها في صناديق الاقتراع، ولكن لم تكن هناك معايير موضوعية لضمان نزاهة الفرز. إضافة إلى التجاوزات الأخرى التي كانت تجرى في جذب المواطنين البسطاء إلى انتخاب ممثلي الأحزاب ذا المرجعية الدينية في الدوائر الانتخابية. ولذا فإن مجلس الشعب الحالي الذي يستمد شرعيته من انتخاب الجماهير، لا يعبر فعلا عنها. وأخشى أن يتم نفس الشيء في انتخابات رئيس الجمهورية.
أتوقف عند هذه الحد من الشكوك والظنون المبررة، وأعود إلى تلك اللحظات الرائعة بعد الثورة، كان في إمكان القيادات العسكرية أن تكتسب تأييدا وطنيا كاسحا ، ولكن الأهم هو أننا كنا أمام فرصة رائعة لبداية نهضة وأقامة نظام جديد بمعنى الكلمة.  كان يجب أن تكون الخطوة الأولى أقالة وزارة شفيق لعدم شرعيتها، والشروع في تكوين لجنة تأسيسية لكتابة الدستور. والبدء فورا في إعادة هيكلة أو إعادة تنظيم وزارة الدخلية لعودة الأمن في أسرع وقت ممكن، وبالتوازي مع  محاكمة سياسية للمتورطين في قتل المتظاهرين، وأولئك الذي أمروا بإنسحاب القوات الأمنية يوم 28 يناير 2011،  وأيضا التحقيق مع من أمر بفتح السجون لخلق حالة من الرعب بين المواطنين. لم يحدث شيء من هذا، بل واستمر التباطؤ الرهيب في الاستجابة لمتطلبات بديهية. لماذا لم يحدث ما كان متوقعا؟  سيتكشف الأيام القادمة عن إجابة هذا السؤال. ولكن الإجابة العفوية والسريعة والتي تحضر أي متأمل للأحداث هو أن هناك مصالح مشتركة بين النظام القديم والنظام الحالي، وأن القضاء على أحدهما يتضمن إدانة للآخر.
تم إهدار فرصة عظيمة بإقتدار، ولكن الأمل في تخطي الحدود والقفز على العوائق موجود. حقا هناك تكتيتكات واستراتيجيات تعمل على استبقاء النظام القديم، ولكن مهما حاول من يحاول أن يستمر في إحكام قبضته على مقادير البلاد، فإن الله أكبر، ولن يذهب دم الشهداء هباءا.  

Tuesday, February 21, 2012

امتهان "الوطنية"


يتمنى كل مصري وطني أن تعيش مصر حرة ثقافيا واقتصاديا وسياسيا، ولا يختلف على هذا إثنان، ولقد كان جزءا من امتهان كرامتنا بدءا من سياسات الانفتاح غير المدروسة أن الغرب أصبح معبودنا ثقافيا، وانهارت اللغة العربية إلى الحضيض في مدارسنا، وأصبحنا نقابل طلبة في الجامعات يصعب عليهم الكتابة بلغتهم الأم. والسعداء هم ذلك النفر الذي استطاع أن يدخل مدارس أجنبيه مرموقة وقد تكون دولية من أجل الحصول على تعليم مقبول.  ونتجت لغة حديثة – لا أنقص من قدرها – وهي ما نسميه لغة الشباب، وهي لغة تعتمد على الكلمات المتقطعة والتي تحمل دلالاتها الخاصة عند المتحدثين بها.  وعلى أي الأحوال ليس الشباب من ألومه، ولكن انهيار التعليم هو الذي تسبب في هذا الانحدار الثقافي.
وأما من الناحية الاقتصادية فإنني لا أستطيع أن أجزم أنه كان بمقدورنا أن نوقف المساعدات الأجنبية، ولكن من الممكن أن يكون واضحا لدي كما هو واضح للكثيرين، أن المساعدات الأمريكية على وجه خاص قد جاءت إلى مصر في أعقاب معاهدة السلام، وكثمن مباشر لتحييد الموقف المصري تجاه القضية الفلسطينية, ولذا فإن من يتحدث عن المساعدات الاقتصادية لا يبنبغي أن يغفل الجانب السياسي المصاحب لها. لم تفرض الولايات المتحدة مبادرة السلام على السادات، ولكنها شجعتها عن طريق الدعم الاقتصادي. ويمكن لمصر أن تكون لها إرادة حرة في توجيه اقتصادها كما تشاء، ويجيء الدعم الخارجي في حالة ما إذا كانت هناك مصالح مشتركة للجانبين، ولذا فإن تصوير الأمر على أن الدعم الخارجي يعني بالضرورة غياب الإرادة الوطنية يعبر عن رؤية اختزالية بسيطة وغير واقعية في عالم اليوم.
على مدى الخمس والثلاثين سنة الماضية، وبدءا من معاهدة السلام، لعبت المعونة الأمريكية دورا لا ينكر في تنمية كثير من القطاعات الحيوية،  ومنها الزراعة على سبيل المثال. ولكن كانت هناك دول أخرى تقوم بمعاهدات مشتركة وتدعم مصر في كثير من القطاعات الاقتصادية الأخرى. وقد جاء هذا الدعم مساندا للإقتصاد المصري بشكل واضح. وإذا كان هناك سوء إدراة في وضع الأولويات، فإن هذا لا يرجع في حد ذاته للدعم الأجنبي، ولكن يرجع إلى اهتمامات القيادات السياسية السابقة.  ويمكن القول أنه من أحد ما يمكن أن يقال عنه تميز في الحكم السابق، هو قدرة مصر على حذب معونات واستثمارات أجنبية، ساعدتها على عدم الانهيار عندما حلت الأزمة الاقتصادية الكبري بالولايات المتحدة عام 2008 ، وتسببت في انهيار اقتصاد كثير من الدول المرتبطة بها، حتي أن دولة مثل نيوزيلندا أعلنت إفلاسها.  لا يعني هذا بالطبع الإشادة المطلقة بإدارة السياسية الاقتصادية لمصر في تلك الحقبة السوداء،  فنحن نعلم اليوم أن هناك مليارات قد تم سرقها من أموال هذا الشعب، وندرك جيدا أن السياسة الاقتصادية لم تكن تعني بالشرائح الدنيا من المجتمع، على الرغم من رفع الشعارات لذلك.  ولكن ليس هناك ربط بين قبول معونات أجنبية وبين ضعف الأداء الاقتصادي، ولكن الأكثر منطقية هو مراجعة كيفية صرف أموال المعونات الأجنبية، وهل تم توجيهها في الأهداف التي تساند البلد ومن أجل مصلحة شعبها، أم كانت تستخدم لتخدم مصالح الحكام.
والآن أتعجب من تلك النغمة التي تذكرنا بعصر الخمسينيات والستينيات،  وهي نغمة لا تصلح في عصر التشابكات الاقتصادية المعقدة، وتعاظم الاعتماد المتبادل بين الدول.  ويتم هذا تحت شعارات الكرامة الوطنية. وتختزل قضية الكرامة الوطنية في "قبول" أو رفض المعونات. وفي نفس الوقت نجد رئيس الوزراء يصرح في حزن ويأس بالغ عدم وقوف الدول العربية مع مصر في محنتها الاقتصادية. وتتم هذه التصريحات في الوقت الذي نعلم فيه جميعا أن الجيش المصري يعتمد اعتمادا كليا ومنذ معاهدة السلام على الدعم الأمريكي.
وتحتل أخبار المؤسسات الأجنبية التي كانت موجودة تحت سمع وبصر الأجهزة الحكومية الصفحات الأولى من حيث اتهامها بأنها تتدخل في شئون البلاد السياسية. ولا يخفي على أي متتبع لما يحدث على أرض مصر أن هذه الحملات تهدف إلى جذب الأنظار بعيدا عن تلك الجرائم المتوالية والتي راح ضجيتها شهداء وآخرها مذبحة بورسعيد التي لم تهز فقط الضمير المصري، بل وسمع صداها في العالم أجمع.
من ناحية أخري فإنني أسأل بعض الأسئلة البريئة التي قد يشاركني فيها الكثيرون أيضا، هل حقا يمكن للمصريين في الخارج أن يثقوا في هذا النظام الآن الذي يعيد نفس أسلوب النظام السابق، وهل يمكن أن يمولوا الصندوق الوطني المزمع إنشائه؟ ولماذا لا تكون الأولوية تشجيع المجتمع المدني على القيام بدوره في التنمية، فالمؤسسات المدنية قادرة على جذب الأموال لأن صرفها لتلك الأموال مرتبط بأهداف ومشروعات محددة يمكن تتبعها. أما أن نضع أموالنا في صندوق لا نعرف كيف سيتم استخدامه، فلا أعتقد أن المصريين يقبلون مثل هذه المغامرة.  ومن ناحية أخرى هل يمكن أن ننعزل عن العالم اقتصاديا ونعتمد على أنفسنا. 
إن الوطنية كلمة كبيرة لا يصح أن تمتهن بهذه الطريقة الساذجة، لأن الوطني هو من يحترم هذا الشعب ويحافظ على كرامة كل فرد فيه. ليس وطنيا من لا يحاكم من أهدر دم هذا الشعب طوال هذه السنوات الطوال، وليس وطنيا من يقتل أبناء هذا البلد بقلب خالي من المشاعر.  لقد فات أوان اللعب على عقول المصريين، لأن هذا الشعب قد استيقظ ولن ينام مرة أخرى.   

Tuesday, February 7, 2012

العنقاء لا تموت إلا في خيال الجاهلين


كيف يكون الإنسان إنسانا إذا لم يعتصر الألم قلبه وهو يرى مذبحة استاد بورسعيد، وهي أشبه بالأهوال والكوابيس منها إلى الحقيقة، وأقرب إلى الخيال من الواقع. ولكنها أحد مشاهد المسلسل الرهيب وغير المعقول أو المقبول الذي تعيشه مصر منذ أن بدأت الثورة وإلى اليوم. متى تجيء النهاية، هل من سبيل أن نرى نورا في نهاية هذا النفق المظلم الذي دفعنا إليه دفعا. كيف ولماذا تقتل أرواح بريئة، ذنبها الوحيد أنها دافعت عن الحرية في ثورة مجيدة بيضاء . ظهر الألتراس وفرض نفسه بقوة على المشهد الوطني في ثورتنا الطيبة السلمية المباركة. وشباب الألتراس من أطهر وأجمل شباب مصر، يملك من النبل ما لايقل عما يملكه من قوة الشباب وجرأته وشجاعته. أحلامه خضراء وتطلعاته بريئة، وبحثه عن الحلم والأمل بدأ بتشجيع الكرة، ولكنه لم يتوقف عندها، وتجاوزها إلى بذل النفس في حب الوطن.
ولأن هناك من يريد لهذه الثورة أن تموت ولمصر أن ترجع القهقرى، فوجئنا بهذه المذبحة، بعد أن مر 25 ينايرهذا العام (عام 2012) وما تلاه من أيام بسلام، وبعد أن ظهر الشعب المصري مرة أخرى بقوته وعنفوانه وتطلعه إلى الحق والخير، واستخدم خلاقيته وإبداعه في مسيرات تلف أنحاء الجمهورية من أقصاها إلى أقصاها، لتجمع كل المواطنين. وبين هذه الأعداد الضخمة، يستتب الأمن دون شرطة، وتختفي البلطجة والسرقات بقدرة قادر.  وعلى مدار العام الماضي، كان هذا ظاهرة متكررة فعندما تختفي الشرطة من المظاهرات المليونية يترسخ الشعور بالأمن والأمان. وتختقي الجرائم خارج الميدان.  كان خروج الملايين يوم 25 يناير إشارة مطمئنة للإستثمار فإرتفعت البورصة. ولكن كيف لأعداء مصر أن يرضوا بحالة الإطمئنان. أبى هؤلاء إلا أن يستمروا في الحرب الخفية، فإذا بالسطو على البنوك يبدأ كظاهرة لم تشهدها مصر على مدار السنوات التي عشتها، وهي كثيرة. ويخطف أطفال من هنا وهناك في مسلسل بث الفزع والإرهاب، وترسيخ كراهية ما جاءت به الثورة، ثم يجيء ميعاد موقعة الجمل لحدث أبشع منها، ألا وهو هذه المذبحة الشنعاء، ليموت ثلاثة وسبعين شهيدا، ويعاني المئات من الجراح والإصابات.  
وفي خضم الأحداث توجه الاتهامات إلى مجتمع طرة حيث يقيم شلة النظام السابق، ويبدو واضحا للعيان أن هذا المجتمع يحتل الآن الشماعة التي أصبح يعلق عليها كل أسباب الفوضى في البلاد. إنهم الطرف الثالث الذي يظهر ويختفي تبعا لمواقيت محددة وخطط مرسومة. كانت إيران وأمريكا وإسرائيل أياد خفية في المرحلة السابقة، تلك الأيادي التي قتلت المتظاهرين وسحلتهم ودهستهم واقتلعت عيونهم، واليوم توجه أصابع الإتهام إلى المختفين وراء الأسوار. وتأخذ التحليلات مسارا معقدا تختفي فيه الحقيقة، بينما يبدو الأمر أسهال من ذلك كثيرا. أولا لماذا اختفت الشرطة المؤسسية والشرطة العسكرية، ولماذا تقاعس الموجود منها عن القيام بدوره؟ ولماذا أغلقت أبواب الممرات التي تستخدم في أحوال كهذه؟ ولماذا غاب المحافظ عن حضور الماتش؟ ولماذا لا يتم القبض مباشرة على من قاموا بالقتل وقد سجلت الكاميرات صورهم؟ بل أسهل من ذلك كثيرا فإن تحقيقا مع أفراد الشرطة الذين كان منوطا بهم أن يقفوا دون حدوث هذه المجزرة أن يعللوا سبب عدم تدخلهم، وأن الضباط المسئولين أن يحقق معهم فورا.  لا أريد أن اخوض فيما خاض فيه غيري من تأكيد وجود مؤامرة ما، ولكن أريد فقط أن أؤكد أن المسئولين المباشرين عن هذا الحدث هم من يديرون شئون هذا البلد.  ولن تقودهم هذه الفوضى إلى ترسيخ اقدامهم ليسيطروا على هذا البلد، بل إنها تضعف من شوكتهم، وتضعهم في مأزق عسير أمام هذا الشعب.
لم يعد مقبولا اليوم أن يتشدق البعض بالقانون والتحقيقات العادلة، لأن هذا أمر لم يحقق العدل في خلال العام المنصرم، ونحن نرى أحكاما بالبراءة لكل المتهمين في قتل الثوار أثناء الثورة، بل والعناية الفائقة برفاهة الأسرة الحاكمة السابقة وأعوانهم وما ينفق عليهم من أموالنا نحن الشعب الذي تحول الثوار فيه إلى متهمين بالبلطجة والجريمة. إذن ما هو المخرج؟ قبل أن أتحدث عن المخرج يجب أن أتحدث عن المحاذير التي تبدو واضحة للعيان، ولكن الفتنة تعمي البصر، وتجعلنا نسير على غير هدى.
أولا: وعلى الرغم من التحفظات الكثيرة من موقف الإخوان المسلمين وحزب الحرية والعدالة، وموقف هذا الحزب من هذه المجزرة في البرلمان، إلا أننا لا يجب أن ننشغل بمعارك جانبية بين بعضنا البعض ونترك القضية الأساسية. وموقف الإخوان من المتظاهرين أمام مجلس الشعب يسجل عليهم الكثير من المآخذ التي تجعل الشك في ترتيب ما مع المجلس العسكري يأخذ منحى التيقن. ومع ذلك فإنني أتمنى أن نتغاضى عن هذه الاختلافات ونركز على المطالبة بالإسراع بإنتخاب رئيس للجمهورية.
ثانيا: لا أدري لماذا ينزلق هذا الجمهور من المتظاهرين إلى الشرك المنصوب لهم في التوجه إلى أماكن ترفع من مخاطر المواجة مع الجيش أو مع الشرطة. أتفق تماما انه من حقهم أن يتظاهروا سلميا أمام وزارة الداخلية  رمزا لاحتجاجهم على السياسات الأمنية. ولكن في هذا الوقت الذي أصبحنا فيه على يقين أن شباب الثورة الناشط لا بد من القضاء عليه، كيف يستعيد النظام الذي لم يرحل قوته، علينا ألا نعطي لهؤلاء فرصة يبررون فيهم عدوانهم.  ومع إدراكي وعلمي أن اندفاع أهل مصر نحو وزارة الداخلية لم يكن عملا منظما من الحركات الثورية، بل هو رد فعل طبيعي نتج عن الغضب من أنهار الدم التي تزهق دون مبرر، إلا أنني أصر أن قيادات الحركات الثورية وإئتلافات شباب الثورة تتحمل مسئولية جزئية في تبصير الجماهير بهذا الشراك المنصوب لهم.
ثالثا: أصبح مجلس الشعب سلطة شرعية وحيدة على الساحة اليوم، ولكن لا يعني هذا أن ما يتخذه من قرارات فوق النقد. ولذا أرجو أن  الأكثرية الممثلة في حزب الحرية والعدالة أن تدرك خطورة هذه اللحظة التاريخية وأن تتعامل معها بقدر المسئولية التي وضعها الشعب على كاهل هذه المؤسسة.  والكثيرون محبطون من القرار الضعيف الذي لم يتعد أن يكون تكوين لجنة تقصى حقائق فيما حدث. كانت المجزرة تتطلب من مجلس الشعب أن يقود الثورة من داخل جدرانه مطالبا بإسقاط حكومة الجنزوري فورا وهو أضعف الإيمان، وطلب رئيس المجلس العسكري ليوضح موقف المجلس أمام البرلمان من خلال طلب إحاطة.
رابعا: أتمنى ألا يفقد المصريون إيمانهم أن الثورة ستصل إلى بر الأمان، وأنه لن يهزمها جبروت، ليس فقط لأن هناك دماء زكية قد سالت وغذت جذوتها، ولكن لأن الدفاع عن العدالة والحرية أصبح أغلى عند المصريين من الحياة تحت القهر والذل والظلم. ولأن هذه النفوس النبيلة التي تؤكد وجودها تملك من القوة الروحية ما يؤهلها لنصر الله وتأييده، ولأن المحبة التي تنتشر بين المصريين على اختلاف دياناتهم وطباقاتهم ومهنهم وأصولهم الثقافية أقوى من مسلسل التفرقة والدمار الذي بدأ بعد تخلي مبارك عن مسئولياته ولم ينته، ونجح جزئيا، ولكن طبيعة هذه الشعب أقوى من كل عوامل التفرقة التي تهدده.
بإختصار يجب أن نتجنب كل ما يثير التفرقة بيننا نحن المصريين، وألا نقع في فخ المواجهة الجسدية المباشرة مع قوات الأمن أو الجيش لا خوفا، ولكن صيانة للدم. مع الاحتفاظ بالضغط في اتجاهات أخرى، ونحن قادرون على هذا، وألا نفقد الإيمان بنصرة الحق، لأن الإرادة التي ظهرت لن تضعف أبدا، ولأن هذا الشعب النبيل الذي ظهر عنصره الأصيل سيجذب طاقات الخير التي هي اقوى من أعتى الأسلحة. ولنعلم جميعا أن الطغاة ضعفاء، وأنهم يتسلحون بالعنف لأنهم لا يستطيعون أن يواجهوا أنفسهم، وأن شوكتهم سريعة الإنكسار أمام سلمية الثوار وحشودهم. وليستمر الحشد إلى أن نحقق الحرية والكرامة والعيش الكريم لكل فرد على هذه الأرض الطيبة. من مصر ستنطلق رسالة السلام.