Tuesday, February 28, 2012

لن يتوقف قطار الثورة عن بلوغ غايته


أعتقد أنه هناك إجماع على أن الثورة قد أسقطت رأس النظام ولم تسقط النظام الفاسد، والأدلة لا تعد ولاتحصي. ولكنني أضيف أن ما يحدث الآن يفوق في القبح ما كان يحدث في عهد مبارك. أعداد المعتقلين في السجون العسكرية يتزايد، الانفلات الأمني لا يزال يتفاقم، وما أبشع ما حدث من اعتداء على المرشح المحتمل للرئاسة د. عبد المنعم أبو الفتوح من ملثمين – هذا إ           ذا اعتبرنا أن الحادث جنائيا وليس سياسيا – بالإضافة إلى  تزامن هذا الإعتداء مع حادث لعضو مجلس الشعب حسن البرنس الذي طالب بإيداع الرئيس المخلوع مستشفى سجن طرة.  وأما إفراغ قناة مثل قناة التحرير من أصحاب الرأي الحر الذين كانوا يحققون نسبة مشاهدة عالية جدا فهذا أمر يضيف إلى هاجس تصاعد كتم الحرية والرأي. أين ذهبت دينا عبد الرحمن بأدائها الرفيع وشجاعتها المشهودة؟ أين حمدي قنديل بأسلوبه المتميز واختياره للموضوعات التي تهم الرأي العام؟ أين إبراهيم عيسى بقدراته الإعلامية الجذابة والثاقبة؟ اختفي هؤلاء في غمضة عين من قناة أقبل عليها الجماهير لأنها عبرت عن "الميدان" اسما ومعنى "التحرير".  وفقدت  قناة التحرير الحرية.  وبدأ الهجوم على قناة الأون تي في، وتم قطع بث برنامج معتز مطر. وهي إشارات لسياسات قمعية تتزايد في القوة، مثلما حدث على صعيد الشارع، حيث بدأت الاعتقالات بسيطة وغير مرئية يوم 25 فبراير، و9 مارس، وتصاعد القمع العلني يوم 28 يونيو (مسرح البالون)، و9 أكتوبر(ماسبيرو)،  و19 نوفمبر (أحداث شارع محمد محمود) ثم 16 ديسمبر (أحداث مجلس الوزراء). ومع كل حدث يزداد الاستفزاز والإثارة.
لقد قلت وأقول مرارا وتكرارا أن الزمن لا يعود إلى الوراء، وأن القطار سيسير إلى المحطة التي حددها القدر، ولن يعوقه عائق عن المضي في الطريق، ولكن عرقلة القطار ليهديء من خطوه خطر علينا جميعا، لأن الزمن لا ينتظرنا، ولأن العالم يسير بسرعة أكثر كثيرا مما نتصور. وسيحاكم التاريخ من يقومون بتعطيل السير بجرائم متعددة، فهؤلاء يدافعون عن أنفسهم ومصالحهم ولا يهمهم في هذا السبيل ما يمكن أن يحدث للبلد، بل أزعم أنهم يريدون أن يذيعوا الفوضى والفساد، ويقوضوا أركان الدولة. لا تسألني من هم الذين أشير إليهم.  أستطيع أن أقول لك بكل قوة وثقة، ليسوا الثوار- حتي ولو أخطأ بعضهم التعبير أو لم يكن صائبا في اختيار القرار -  ولا أومن بنظرية اللهو الخفي. إذا درسنا الماضي البعيد والماضي القريب لأدركنا أن من يريد أن يوقف حركة الشعوب يذهب دائما إلى الجحيم الدنيوى والأخروي، بالتأكيد لن يفلت مستبد من العدل الإلهي، وتستمر حركة التاريخ  في السير لا توقفها أي قوة.
 وفي هذه اللحظات الحاسمة في تاريخنا لا أستطيع إلا أن أقارن بين ما كنا عليه من أوضاع متردية، وما نحن عليه الآن من وضع أكثر ترديا. ويبدو لي للوهلة الأولى أن ما كنا عليه من سوء أفضل مما نحن عليه الآن. ولكن ما أخشاه فعلا أن يستمر الحال في التردي أكثر مما نحن عليه. لا يهديء من روعي أن العسكر سيعودون إلى سكناتهم قريبا، وأن رئيسا منتخبا سيتولى أمور البلاد، وأن دستورا على وشك الظهور لينظم حياتنا السياسية والاقتصادية والتشريعية.  وعدم الإطمنان الكامل ليس حالة نفسية غير مبررة، بل إنها وليدة قراءة لما حدث في السنة الماضية من قوة مضادة للثورة تحارب روحها الوليدة بكل قوة. وأحسب أنني بحاسة الأمومة أدرك الأخطار المتربصة بهذه الروح الوليدة.
شاهدنا كما شاهد العالم ميلاد لروح مصر، قال البعض "هذا شعب يتعرف على ذاته وشخصيته"، وتحقق في 18 يوما الحلم الطوباوي التي حلمت به البشرية، ولم يصدق العالم أن الحلم الإنساني بعالم يملأه السلام والوئام، والتعاون والنظام والانتظام يمكن أن يتحقق. كانت هذه مصر بشخصيتها وأصالتها. نزل الناس بعد رحيل المخلوع إلى الشوارع ينظفوها ويزينونها، وتكونت مبادرات شعبية للبناء والتنمية. انتظم المرور في الأيام الأولى لرحيل المخلوع، وتغيرت أخلاقيات القيادة، فأصبح كل يسير في طريقه دون محاولة "للكسر" والسباق المجنون. ولكن ما حدث بعدذلك كما نعرف جمعيا كان مؤسفا للغاية، وسأشير إليه سريعا لأن مقالاتي منذ تلك اللحظات كانت تتابع الأحداث وتتفاعل معها.
كان من الغريب أن تندلع أحداث فتن طائفية في أطفيح وامبابة وأسوان وقنا. بدا كأن الشعب الذي كان في ميادين التحرير والذين يعدون بالملايين وكأنهم قد هبطوا من السماء فجأة، ولأن هذا التصور لا يتناسب مع التفكير القويم والمنهج العلمي السليم، الذي لا بد أن يصل إلى أن ميادين التحرير – وإن لم تكن كل مصر كما يحلو للكثيرين أن يقولوا – إلا أنها تعبر عن الأغلبية العظمي من هذا الشعب، فهي عينة عشوائية (بالمعنى العلمي للكلمة) موزعة على أنحاء الجمهورية. بالتأكيد اختفت روح الطائفية تماما أثناء الثورة. كان هذا مذهلا بالنسبة للكثيرين وبالنسبة لي، ولكن انكشف جانب لم نكن على وعي به، وهي أن ما يبدو أنه احتقان طائفي ليس إلا صناعة مدبرة تستثير وتثير روح الفرقة، لينشغل الناس عن مراقبة الحاكم والمطالبة بحقوقهم ويغوصوا في الشقاق. واستمرت بعد ذلك سياسة التفرقة، وهي سياسات تذكرنا بما كنا ندرسه صغارا عن الاستعمار "فرق تسد".  ولعبت سياسة التفرقة على أوتار الرغبة في السلطة والتطلع إليها، وهي رغبة وأهواء لقيادات تعبر عن قوى سياسية. لهذا وقعنا في الخطأ العظيم، ألا وهو قبول استفتاء على ما سمي "بتعديلات دستورية".  ما زلنا ندفع ثمن هذه الخطأ الفادح إلى اليوم. وهذا هو مبعث القلق لأن كتابة دستور في هذا الوقت سيثير من اللغط أكثر مما يمكن أن يثير من التوافق، ويسخر الفرقة أكثر مما يجمع الأمة. لن تترك التيارات السياسية التي يقال أنها ذات مرجعية دينية (التعبير الغامض الذي لا أفهمه) الفرصة، ستحاول أن يكون الدستور متوائما مع طموحاتها السياسية ومع طبيعة تفكيرها في إدارة البلاد، والتي قد تذهب في تشددها وغلوائها إلى ما يتعارض مع الحقوق الإنسانية ولايتناسب مع الشخصية المصرية. من ناحية أخرى فإن العقلية العسكرية التي سيطرت على الحكم لمدة ستين عاما، لن تقبل أن تتنازل عن السلطة المتاحة لها الآن، ولذا سيكون الدستور القاعدة التي تبني عليها شرعية تسلطها وتحكمها في البلاد.
وأما عن انتخاب رئيس للجمهورية، فإن بدء الحديث عن "رئيس توافقي" لا يبشر بخير، لأنها عبارة تتناقض بشكل صارخ مع مبدأ احترام إرادة الجماهير. يشير  مثل هذا الأسلوب من التفكير إلى أن هناك عزما على "ايجاد" أو "اختيار" وتدعيم  شخصية يسهل اخضاعها للعسكر، ولا تعارض طموحات جماعة الإخوان المستقبلية. ولا أستبعد في هذه الحالة محاولات لتزوير الانتخابات بطرق مبتكرة. والجميع يشهد أن انتخابات مجلس الشعب لم يتم تزويرها في صناديق الاقتراع، ولكن لم تكن هناك معايير موضوعية لضمان نزاهة الفرز. إضافة إلى التجاوزات الأخرى التي كانت تجرى في جذب المواطنين البسطاء إلى انتخاب ممثلي الأحزاب ذا المرجعية الدينية في الدوائر الانتخابية. ولذا فإن مجلس الشعب الحالي الذي يستمد شرعيته من انتخاب الجماهير، لا يعبر فعلا عنها. وأخشى أن يتم نفس الشيء في انتخابات رئيس الجمهورية.
أتوقف عند هذه الحد من الشكوك والظنون المبررة، وأعود إلى تلك اللحظات الرائعة بعد الثورة، كان في إمكان القيادات العسكرية أن تكتسب تأييدا وطنيا كاسحا ، ولكن الأهم هو أننا كنا أمام فرصة رائعة لبداية نهضة وأقامة نظام جديد بمعنى الكلمة.  كان يجب أن تكون الخطوة الأولى أقالة وزارة شفيق لعدم شرعيتها، والشروع في تكوين لجنة تأسيسية لكتابة الدستور. والبدء فورا في إعادة هيكلة أو إعادة تنظيم وزارة الدخلية لعودة الأمن في أسرع وقت ممكن، وبالتوازي مع  محاكمة سياسية للمتورطين في قتل المتظاهرين، وأولئك الذي أمروا بإنسحاب القوات الأمنية يوم 28 يناير 2011،  وأيضا التحقيق مع من أمر بفتح السجون لخلق حالة من الرعب بين المواطنين. لم يحدث شيء من هذا، بل واستمر التباطؤ الرهيب في الاستجابة لمتطلبات بديهية. لماذا لم يحدث ما كان متوقعا؟  سيتكشف الأيام القادمة عن إجابة هذا السؤال. ولكن الإجابة العفوية والسريعة والتي تحضر أي متأمل للأحداث هو أن هناك مصالح مشتركة بين النظام القديم والنظام الحالي، وأن القضاء على أحدهما يتضمن إدانة للآخر.
تم إهدار فرصة عظيمة بإقتدار، ولكن الأمل في تخطي الحدود والقفز على العوائق موجود. حقا هناك تكتيتكات واستراتيجيات تعمل على استبقاء النظام القديم، ولكن مهما حاول من يحاول أن يستمر في إحكام قبضته على مقادير البلاد، فإن الله أكبر، ولن يذهب دم الشهداء هباءا.  

No comments:

Post a Comment