Tuesday, December 27, 2011

دماء الشهداء لن تذهب هباء د. علياء رافع

هل الزمن يسير إلى الوراء أم إلى الأمام.. لماذا لا ينتهي هذا الكابوس المفزع الذي لا يبدو أن له نهاية؟ هل نحن نعيش الثورة أم عصر مبارك، ولكن أسوأ كثيرا من مبارك. كان مبارك يقوم بأفعاله ففي الخفاء، يتواري خجلا ويريد أن يحفظ مظهرا متحضرا، وكان هذا في حد ذاته يضع أمامه بعض الحواجز والسدود. ولكن الألعن أن الإعتداء على المواطنين وتعذيبهم وقتلهم وسحلهم يتم علنيا أمام الجميع، بل  نجد القاتل يحاول أن يكسر الضحية معنويا بالإعتداء، ثم بعد ذلك  بإعلان التدعيم، وكأن أيديه بريئة من الدم. فأي نوع من البشر هؤلاء؟ لقد خرجنا من نظام مبارك لنقع في إرهاب العسكر.
منذ أسبوعين قلت في هذا المكان أن شرعية المجلس العسكري قد انتهت بعد مذبحة محمد محمود، ولكن أردت أن ألفت الانتباه أن المطلوب هو أن يعود المجلس العسكري إلى دوره الطبيعي في حماية البلاد ويترك القيادة إلى مجلس رئاسة في هذه المرحلة الانتقالية.  وإذا كانت مصلحة البلد هي ألا يتم فتح الأوراق القديمة لما حدث منذ 12 فبراير، فإن المصريين قادرون على تقدير الأخطاء والخروج منها بسلام. ومع خالص الشكر والتقدير للمجلس. كلنا كمصريين نريد سلامة هذا الوطن، وفي هذا السبيل ومن أجل هذا الهدف النبيل لن تتم محاسبة المجلس العسكري على سوء إدارته للبلاد في هذه الفترة.
  ولكن ما حدث بدءا من ديسمبر 16 أي قبل أن يمر شهر على مذبحة محمد محمود يضع الشعب والجيش في مواجهة مباشرة. فليس مقبولا على الإطلاق أن يستخدم الجيش هذا العنف المفرط ضد المتظاهرين، بل وأكثر من ذلك أن يصدر بيانا ينكر أن هناك أعمال عنف من الجيش أو أي اعتداء قد حدث على المتظاهرين، بل ويخرج علينا رئيس الوزراء بإستخفاف شديد ليتحدث عن البلطجية مرة أخرى، وكأننا لم نكن نر ما يحدث من سحل وضرب وقتل. هل أصبحت مصر كلها مجتمع بلطجية؟ وكيف لا يستطيع أن يضبط عمل البلطجية دون هذه الحرب الشعواء التي تجعلنا نشعر أن  الجيش في حرب مع عدو – هو الشعب. هل الجيش قوى احتلال، أم أننا نحن الشعب جئنا من مكان آخر ونعيش في وطن غير وطننا.  حتي لو كان الجيش يضرب بلطجية، فإن تلك المعاملة غير المقبولة إنسانيا لا يمكن أن تكون مبررا لهذه القسوة التي فاقت كل حد.    
يقول طبيب المستشفي الميداني أنه استقبل حالات برصاص حي، وخرطوش، وجروح قطعية نتيجة للضرب بالسونكي. ويؤيد التشريح هذه الحقائق، مما يؤكد أن الجيش هو القاتل، بل ويتجرأ الجنود على اقتحام المستشفي الميداني، وضرب الأطباء. ويحدث اعتداء  ويضيف إلى أن هناك محاولة اقتحام للمستشفى. المجمع العلمي يحترق لساعات، ويترك بشكل مخزي دون أي محاولة لإطفائه، بل يقال أن البلطجية تعرضوا لسيارات الإطفاء بالملوتوف، فتراجعت سيارات الإطفاء، وتركت المجمع في حالة اشتعال لتؤتي النار على كل ما فيه من الكتب. هل يمكن أن يقبل هذا التبرير أي إنسان. جيشنا العظيم الذي يحمي البلاد لا يستطيع أن يقف أمام مجموعة من البلطجية، يحرقون ثروة مصرية، ولكنه يجري وراء العزل ويقبض عليهم، ويمسك بفتاة ويسحلها، ويخلع عنها ملابسها أمام مرأى ومسمع العالم أجمع. والشباب الثائر الذي تستهدفه الرصاصات الطائشة، وقطع الرخام الحادة، وزجاجات الملوتوف الحارقة، يدخل في بسالة لينقذ ما يمكن إنقاذه. هل يمكن أن يصدق عاقل ما يقولونه؟ نستمع إلى سناء سيف، غادة كمال، فريد الحمامصي وهن يقصصن كيف اعتدى الجنود عليهن، وأظن أن رجال مصر لابد أن يخجلوا من شجاعة هؤلاء النساء وصمودهن.
والأدهى والأمر أن السلفييين الذين ملآوا آذاننا بالدولة الإسلامية العادلة التي يريدون أن يقيمونها على ربوع مصر، يسقطون في أول ابتلاء وطني  بجدارة وهم يتنكرون لكل ما يرون من تعرية للفتيات وضربهن والقبض عليهن، في غير مراعاة لخلق أو دين، بل ويجرأون بعد ذلك على إلصاق تهمة قتل الشيخ عماد عفت إلى الشباب الثائر، ويعاودون مرة أخرى إظهار الولاء لجيش مصر العظيم. هل نحن في مسرحية هزلية، أم أن ما نراه واقعا. أين هتافاتهم الحماسية لحماية "أختي كاميليا و أختي عبير؟  لماذا لا تنطلق صرخاتهم من أجل إيقاف هذا الانتهاك اللاآدمي لفتيات يمتلكن شجاعة يعجز عنها رجال ممن يصرخون بأنهم منقذو الأمة من الفساد؟  كيف يتجرأون على مهاجمة هؤلاء الفتيات بدلا من الدفاع عنهن؟ أنه هزل لا يستطيع كتابته أكثر الروائيين خيالا وإبداعا.  وتخرج النساء في مظاهرة رائعة من كل الأعمار صارخين بأن سيدات مصر لن يقهرن ولن يعذبن.
ومع ذلك أقول للجميع أن دماء الشهاداء لن تضيع هدرا، ستتنصر الثورة، لأن ذلك الشعب العظيم الذي أقسم بقلب مؤمن حقا، والإيمان ليس في حاجة إلى اسم لدين، إنه إيمان قلب إنسان ولد مسلما أم ولد مسيحيا، فهو مؤمن بالله لا يخشي في الحق لومة لائم.  هذا الشعب سيستمر في الدفاع عن حقه في الوجود وفي استعادة شخصيته الحضارية العظيمة. والذي يحدث هو فرز من نوع خاص، فنحن في وقت لا بد أن نكتشف فيه من يجيد الكلام المعسول، ومن يعيش ما يقول، بين مؤمن لا يرى مقصوده إلا وجه الله، وبين رجل يتحدث عن الدين وعن الرسول، ويتملق الحاكم، ولا يخشى الله، ويكتم الشهادة. الإيمان ليس في حاجة إلى إعلان. إنه ما وقر في القلب وصدقه العمل. ألا يستطيع هؤلاء الذين يتحدثون عن مرجعية دينية أن يتعرفوا أن الإيمان الحق هو الحرية الكاملة من كل خوف، والعمل الدءوب لنشر الحق. لا يحتاج هذا إلى كلام فلسفي، ولكننا في حاجة إلى ثورة ثقافية جديدة تواجدت بالفعل في ميدان التحرير، وتجسدت في هؤلاء الأبطال الذي لم ترهبهم قوة الجيش، ووقفوا بصدور عارية وبسلام في القلب والفعل، مينا ومحمد، وجورج وحسن.
وفقط من قبيل الخيال، عندما رأيت ما يحدث أمام مجلس الوزراء في قذف للمتظاهرين بكل أنواع الحجارة والرخام، وحتي أثاث وأطباق، على مرأى ومسمع من العالم أجمع، وكلنا يرى، عندما رأيت كل هذا، تصورت أنه من الممكن أن يخرج كمال الجنزوري ليعتذر للشعب ويقدم استقالته فورا، قائلا أنه لم يستطع أن يقوم بدوره الوطني في حماية شعب مصر، نتيجة لضغوط المجلس العسكري. تخيلت أن منصور حسن يخرج بكلمة قوية يقول فيها إننا بكل وضوح فشلنا أن نكون ناصحين للمجلس العسكري، الذي لم يأخذ بمشورتنا على الإطلاق قبل البدء في فض الاعتصام بهذه القوة المفرطة. أليس من المفروض أن هؤلاء المستشارين أن يستشاروا في كيفية الخروج من مأزق اعتصام القليل من المواطنين أمام مجلس الوزراء، ويتم نصح المجلس بأفضل صورة يمكن التعامل بها مع شباب الثورة. بدلا من هذا وذاك شعرت بالخزي والعار وأنا أستمع لكل من كمال الجنزوري ومنصور حسن، لقد فاق ما قالوه  كل تصور ممكن لأقل مستوى من التفاعل مع الإنسان – حتي لو لم يكن مصريا – فما بالنا ونحن جميعا مصريين. ينكر الأول الاعتداء، ويطالب الثاني على استحياء بالتوقف عن الاعتداء، ثم في تخاذل ضمير يفوق الحد يعلن أن المجلس العسكري قد استجاب لطلبات المجلس، بينما الصور توضح أن الاعتداء ما زال مستمرا. ثم يجيء المؤتمر الصحفي للمجلس العسكري، فيصدمنا السيد اللواء عادل عمارة بتصريحاته عن تأكيده لوجود ذلك المجهول الخفي الذي يتآمر ويخرب على مرأى ومشهد من كل أجهزة الاستخبار المصرية، ويظل يعبث ليدمر البلاد. 
 هذه شهادتي للتاريخ، وإنني بالفعل أحسد كل شهيد الآن غادر هذه الأرض إلى جنان السماء، لأنه قد أدى دوره، وقام بمهمته على خير وجه، وأثق في أن رحمة الله ستتولي كل جريح، وسيعيش حياته في اطمئنان نفسي وسلامه روحية، لأنه لم يكن جبانا. وأتساءل كيف سينام كل من أمر بالقتل، واشترك في الجريمة، وتواطأ مع المجرم، وبرر له جريمته. وأرثي لنفسي أنني ما زلت أشاهد هذا المشهد الحزين أنا وغيري وقلوبنا تدمي، ولكننا لسنا عاجزين فنحن مشاركون في هذه الثورة بالكتابة والنزول والحركة والدعاء، وهو أقوى الأدوات، الله موجود وهو القاهر الجبار، ولن يترك هؤلاء يعبثون إلى مالانهاية، لأننا كلنا –نحن المصريين – مستعدون أن نكون شهداء. لن نكتم الشهادة أبدا، وعدم كتمان الشهادة هو العمل المستميت من أجل الحياة، حياة أفضل لمن يخلفنا، ولن نعيش في هذه المهانة، وليعلم المجلس العسكري أن قوة المقاومة ستزيد وتزيد ولن تتوقف بأعمال الإرهاب. ليس هناك مناص من أن يرحل المجلس الآن وأن يتولى أمور البلاد مجلس رئاسي من الشخصيات العامة التي لها قبول لدى الرأي العام المصري من مختلف التيارات، لا يجب أن ننتظر أكثر من هذا، فكل لحظة تخسر مصر أبناءها في معارك وهمية لا ضرورة لها.   

Tuesday, December 13, 2011

يسري فودة والحوار مع السلفيين د. علياء رافع

في برنامج يسري فودة الحواري كان هناك متحاوران في مقتبل الشباب أحدهما يمثل التيار السلفي بل هو المتحدث الرسمي بإسم حزب النور نادر بكار، والثاني هو الباحث الشاب ابراهيم الهضيبي، ولقد كنت قد  شاهدت حوارا  للهضيبي على قناة الجزيرة يؤكد فيه أن عبد المنعم الشحات السلفي قد خالف العهد الذي أخذه على نفسه بألا ينزل الحزب بشعارات دينية في مليونية 29 يوليو.  ولعل من أبسط قواعد الأخلاق أن يلتزم الإنسان بوعده. بالطبع لا ينبغي أن يؤخد السلفيون بجريرة أحد منهم أخطأ، ولكن إذا انطلقنا بعد ذلك من هذا الموقف إلى فكرهم السياسي عامة، سنجد أن هناك خلطا بينا بين السياسة والدين بمعنى أن وظيفة الدولة بالنسبة لهم هي أرساء أركان الدين، وهناك فرق كبير بين أن يكون الإسلام مرجعية تشريعية، وأن يكون الهيمنة على العباد بإسم الإسلام المهمة الرئيسية للدولة. كنت أتمنى أن يتنبه المذيع اللامع يسري فودةإلى هذه المنطقة الحساسة التي حاول الهضيبي أن يلفت النظر إليها من خلال مداخل مختلفة ومتعددة.
كان المتحدث  الرسمي لحزب النور نادر بكار يحاول أن يظهر ثقافته واطلاعه على التاريخ الإسلامي، خاصة تاريخ الدولة الإسلامية في الماضي والحاضر، مؤكدا أنها تتشابه مع الدولة العصرية، ولذا فيجب أن تكون الدولة المصرية إسلامية الحكم. وعندما قاطعة المذيع أن لا أحد ينكر أن الحضارة الإسلامية قد أسهمت اسهامات مشهودة، أصر أنه  لايقصد  الحضارة بوجه عام، وإنما يعني ما بلغته الدولة الإسلامية من تقدم في الإدارة وأساليب الحكم.  كنت أتمنى أن يمسك أي من المتحاورين الخيط ويقف قليلا كي نعيد تذكرة الناس بالفظائع التي ارتكبها الأميون والعباسيون ضد من كان يعارض حكمهم، وكيف استخدم هؤلاء الدين من أجل تبرير أعمالهم. كان يجب أن يذكره أحدهم كيف حّول معاوية نظام الحكم إلى نظام وراثي، ضاربا بذلك آداب الرسالة التي لم يحدث أن قام صاحبها الرسول (صلعم) بأي وصية لمن يتولى الحكم بعده، وترك أمر المسلمين شورى بينهم. بل وأكثر من ذلك فإن يزيد حارب آل بيت رسول الله، وقتل  الحسين وصحبه لينفرد بالحكم دون منازع. وعندما جاء العباسيون لم يكونوا أفضل حالا، بل تعقبوا الأمويين محاولين تصفيتهم عرقيا (بإستخدام عبارات اليوم).
وانظر إلى عبارات أبو جعفر المنصور العباسي وهو يقول: "أيها الناس لقد أصبحنا لكم قادة وعنكم ذادة، نحكمكم بحق الله الذي ولانا وسلطانه الذي أعطانا، وأنا خليفة الله في أرضه وحارسه على ماله". أنظر إلى هذه العبارات التي زج فيها "حق الله" ليكون هو ومن معه "آلهة" يأمرون وينهون في العباد. كنت أتمنى أن يكون يسري فودةالمذيع واسع الثقافة ذائع الصيت أن يذكره أن الدولة الإسلامية قد أقحمت الفقه في السياسة، شرع الفقهاء أن الخروج على الحاكم خروج على الدين، ورسخوا هذه الفكرة حتي يحكموا قبضتهم على البلاد وعلى العباد، ومازالت هذه العبارة تستخدم في السعودية.  ولعل سلفيو اليوم  سيحاولون بكل الطرق أن يدخلوا نصا ما بهذا المعنى في دستور قادم لا نعرف كيف سيكتب.
أن رسالة السلفي الذي يمثله نادر بكار وغيره،  أن يكون وصيا على الناس، متحكما فيهم بمفهومه هو عن "شرع الله"، ناهيا لهم عما يغضبه متوهما أنه يغضب الله.  ولننصت جيدا لحازم صلاح أبو اسماعيل وهو يتحدث عن التدرج في فرض الزي الإسلامي منتقلا به من المسلمات إلى غيرهن، ليكون معبرا عن الثقافة والآداب الإسلامية، لنستمع إليها جيدا لندرك أبعاد الفكر الذي يحمله، ولا نأخذ تلك العبارات التي تمدح الديمقراطية مأخذ الجد، لأن ديمقراطيتهم تتوقف عندما يوجد فكر معارض لفكرهم، ولأنهم يعتقدون أن فكرهم هو الدين الحق. عندما يقولون أنهم سيتعاملون مع الأقباط بكل العدل لأنهم في ذمة أمة مسلمة، لا يدرون أن هذه العبارة نفسها تضع حاجزا بين المصري المسلم والمصري القبطي، وتضع المسلمون دائما في موقف الأعلى، وليس المتساوي مع الآخر.
لم يتطرق النقاش إلى تلك المناطق الشائكة التي كان  لا بد أن يقترب منها، كي يدرك الناس كيف يفكر السلفيون، على الأقل من يشاهدون هذا البرنامج، وأزعم أن الكثيرين منهم برغم أنهم الطبقة المثقفة، يمكن أن تفوت عليهم هذه الثغرات. كان الهضيبي يقظا لتلك الكلمات المنمقة وأثار قضية هامة في سؤاله عن دور الدولة من وجهة النظر السلفية في سلوكيات أفرادها على المستوى الشخصي. وكان أيضا لماحا عندما تعرض لمحاولة إذابة الهوية المصرية في الهوية العربية الإسلامية، وهي الطامة الكبرى، التي كنت أتمنى أن يلتقط يسرى فودةالخيط من هنا، ليسأل نادر بكار ممثل السلفيين عن رؤيتهم للخلافة الإسلامية، وهي الرؤية التي يشترك فيها السلفيون والإخوان على حد سواء، ولكنهم لا يجاهر بها الإخوان، انتظارا لتقلدهم الحكم والإمساك بمقاليد الأمور.  
إن تلك النبرة التي يتحدث بها السلفيون، تجعلنا نشعر أنهم يفترضون في أنفسهم أنهم على علم بأمور الدين علما كاملا متكاملا. وأنهم لن يقبلوا فكرا آخر أو رؤية أخرى حتي إذا كانت تنطلق من نفس المرجعية الدينية.  وقد يقول قائل وما هو الضرر في أنهم يريدون للمجتمع أن يسير في هذا الاتجاه. والاجابة أن الأمر لا يتعلق برفض اتباع تعاليم الدين، ولكن الخطر هو أن يكون هناك مفهوم واحد للدين وتعاليمه، وأن تمحي أي أراء معارضة أو مختلفة، أن نخرج من حكم قمعي يمكن الثورة عليه، إلى حكم قمعي يتحدث بإسم الله والدين والإسلام، ويصبح من يختلف في الرؤية وكأنه مارق شرير، أن تنقلب وظيفة الدولة إلى وظيفة دعوية. إن الزعم بأن أحد مسئولية الحكم هو تطبيق الشريعة، هو قول متفق عليه بشكل عام، ولكنه مع السلفيين سيأخذ منحي آخر، حيث تصبح الشريعة هي الأداة التي يعطون بها لقوتهم وسلطانهم القوة، فهم الفئة التي تحكم بما أنزل الله، وغيرهم لا ولن يحكمون بشرع الله إلا إذا اتبعوا فقههم ورؤيتهم.
كانت تعليقات يسري فودةعلى اجابات نادر البكار تعليقات ضعيفة لم تتوجه إلى جوهر القضية، وإنما أعطت له فرصة ليبدو أكثر منطقية وعقلانية وتفهما للأمور، بل ومقنعا أحيانا، وكنت أتساءل هل تحت مقولة الحيادية نترك مثل هذا الالتفاف الفكري ينتشر. وهل من الحيادية أن يجيء ذكر اسم الفريق صادق في سياق غير موضوعي يشوه فكر الرجل. ألا يعلم يسري فودةدور صادق في حرب الاستنزاف، ألا يعلم أن خطة هدم الساتر الترابي تبلورت وتم الإعداد لها قبل الاختلاف بين الفريق صادق والسادات، ألا يعلم أن الروس هم الذين امتنعوا عن تزويد مصر بالسلاح، وليس صادق هو الذي رفض أخذ السلاح من الروس؟
مع خالص احترامي للمذيع اللامع يسري فودةالذي يجذبني رغما عني لأسهر للساعة الثانية بعد منتصف الليل، والذي استمتعت بكثير من حلقاته التي كانت أكثر من مجرد برامج حوارية، بل أسقطت وزارات، وأظهرت حقائق، وأمتعتنا ثقافيا بالمبدعين الوطنيين. وقليل هي تلك الحلقات التي خرجت منها وأنا أشعر أن هناك غماما قد أضيف إلى رؤيتنا للحقيقة، ومنها تلك الحلقة مع نادر بكار وابراهيم الهضيبي. إن القضية جد خطيرة، يجب أن يدرك الناس إلى أين سيقودنا السلفيون. لتكن أراؤهم في الدين ما تكون، فلهم كل الاحترام، ولكن عندما يريدون أن يحكموا بإسم الله، سنواجه مشكلة حريات بلا جدال، مهما قالوا عكس ذلك. ولنا في عبد المنعم الشحات مثال ، وفي تعاملهم مع الانتخابات مع الجماهير الطيبة مثال آخر، وفي تصريحاتهم التي تشير إلى عدم الحسم في أمور لا ينبغي أن تكون فيها مجاملة مثال ثالث. أذكر فقط موقفهم من أحداث 19 نوفمبر وما تلاه من أحداث شارح محمد محمود، ولمن يشاء أن يتأمل في هذا الموقف أن يقرأ ما كتبوه، دون تعليق مني. 

Tuesday, December 6, 2011

نبكي أم نضحك: شر البلية ما يضحك د. علياء رافع

أبناؤنا .. فلذات أكبادنا يقتلون بقلب خالي من الرحمة، ودون ذنب جانوه، سوى أنهم لم يستطيعوا أن يتحملوا هجمة غاشمة من قوات يفترض أن تكون قوات أمن، ولكنها مازالت قوات رعب، تهجم على جرحي "الثورة" هجمة شرسة وحشية بربرية.. ينتقض ضمير كل من رأي هذا المنظر المستفز.. ينزل من ينزل، ويفتح صدره للنار من يفتح، وينهمر الرصاص الطائش، والقنابل الغازية – سواء كانت سامة أم غير ذلك – بغزارة، فمن لم يصبه الرصاص، يختنق ويترنح.  لن يغيب هذا المشهد عن الذاكرة المصرية، سيظل حاضرا، كما كان مشهد الملايين يحتشدون بصرخة واحدة وقلب واحد "الشعب يريد ....." في ثمانية عشر يوما توقف التاريخ ليكتبها ولتكون شاهدا على حضارة شعب، بعثت روحه من جديد، وسيدافع عن هذا البعث لآخر قطرة فيه، ولن يتوقف عن الدفاع عن حريته. أنه الواقع الذي لا يتفهمه جلادوه.
 ثلاثة آلاف من المصريين معظمهم من الشباب، يقع جريحا، ونحن في ميدان التحرير ولسنا في ميدان قتال. يجرحون بأيدي من؟ بأيد مصرية. لماذا؟ لا أحد يجيب. وإذا أجاب أصبحت الإجابة إدانة وليست شفاء للسؤال الحائر. يقولون أنهم يتهجمون على وزارة سيادية. ويصبح السؤال أكثر غموضا. لماذا؟ يقولون مندسون ؟  تظل العقول حائرة وتعقد الدهشة الألسن. هل يمكن أن يخاطر هؤلاء المندسون بحياتهم؟ الإجابة مؤلمة .. لا يتحملها قلب مصري يريد أن يلتئم الشمل وأن تتوحد الكلمة، لا نريد أن نصدق أن القوة المعادية للثورة أصبحت أكثر قوة، لا نريد أن نصدق أن نظام مبارك – على قسوته واستبداده – كان أرحم مما نحن فيه الآن. لا نريد نرى ثورة عظيمة يريد لها أعداؤها أن تنهزم، ويحصدون أنبل وأغلى وأطهر شبابها.
في وسط هذه الجريمة الشنعاء، يطلق الإعلام زغاريط الفرح وأنباء العرس الذي جاءت به الانتخابات، وكيف أقبل المصريون عليها. كل يغني على ليلاه، البعض يريد أن يمحو ذلك المشهد الحزين، يتجاهل هؤلاء الشهداء الأطهار، وهذا الكم من الجراح، وتزيد هذه المحاولة الألم والعذاب، والآهة الحزينة في كل القلوب التي مازالت عامرة بالإنسانية.  البعض الآخر مقتنع فعلا أن الانتخابات هي طريقنا إلى الخروج من هذا النفق المظلم، ويعتقدون أن النهار أصبح على وشك الظهور. لهؤلاء أقول إن الأمر جد خطير، وأن هناك خططا استراتيجية، وبدائل متنوعة يضعها المجلس العسكري في جعبته يظهرها شيئا فشيئا. أقول قولي هذا مستفيدة من دروس عشرة أشهر، أدرس فيها الخطوات الحثيثة التي بدأت مع تأييد الجيش للشعب، ثم انقلابه عليه شيئا فشيئا. أقرأ هذا في تقديم خطوات إيجابية رائعة، ثم سحبها بأعمال متناقضة تماما معها ، أذكر فقط على سبيل المثال ما تبقي الذاكرة: 26 فبراير، 9 مارس، 28 يونيو، 23 يوليو، 9 أكتوبر. كل من هذه التواريخ تحمل أحداث مؤلمة، وأخيراأقرأ هذا في ذلك الاستفزاز المتعمد لجرحي الثورة العزل، ثم ترك الميدان ليمتليء بالثوار، فالهجوم عليهم. أقرأ هذا في القبض المستمر والممنهج للنشطاء الذين كانوا أعمدة الثورة، وتلفيق التهم الغريبة لهم، خاصة الناشط الشاب علاء عبد الفتاح.
لا أطالب بعدم الإشتراك في التصويت في ذلك الباب المفتوح أمامنا، ولكنني أستنكر الفرحة به، أستنكر أن يلهينا ذلك الضجيج عن النظر بعين الحكمة لما نحن مقبلون عليه. مرة أخرى أصبحنا في مأزق يشبه تماما ذلك المأزق الذي واجهناه عندما قيل لنا هل توافقون على التعديدلات الدستورية، وجرى استفتاء لم يكن شرعيا بمنطق ثورة حدثت وغيرت نظاما بأكمله. كان الاحجام في ذلك الوقت وعدم المشاركة فيه خنوع لقوى تريد أن تحيي الدستور القديم، وكان التصويت من ناحية أخرى ليس فيه أي ديمقراطية لأن الأغلبية لم تكن تدرك نتيجة اختيارها، بما فيهم النخبة والمثقفون أنفسهم. وبالفعل فإن الإقبال على هذا الاستفتاء، تم تفسيره على أنه إعطاء شرعية للمجلس العسكري، الذي كان يعلم جيدا أن وجوده بقرار من رئيس مخلوع لا يكفل له البقاء والاستمرار. ولا أدري كيف أمكن الربط بين استفتاء على تعديدلات في الدستور، وبين رغبة الشعب في استمرار المجلس في الحكم. والمأزق الذي نواجهه اليوم، أن التخلي عن التصويت سينتج عنه اكتساح قوى سياسية معروفة لمقاعد البرلمان القادم، ومن ناحية أخرى فإن التصويت في هذا الانتخاب، سيعاد تفسيره على أنه موافقة على خارطة الطريق التي وضعها المجلس العسكري الحاكم. وأما المطالبة بإلغاء الانتخابات برمتها، فإنه سيزيد من الفوضى في ظل غياب قيادة شعبية يرتضيها الجميع.
نحن إذن مكرهون على التصويت، وليس في هذا احتفال بعرس ديمقراطي كما يحلو للبعض أن يقول. لا يكرهنا أحد، ولكنه الخيار الأقل ضررا في سلم اختيارات تقودنا إلى الهاوية. ولا أدري لماذا كل هذه التعقيدات. أما كان بالأجدر أن نبدأ صفحة بيضاء من أول يوم بعد رحيل الدكتاتور،  نسطر فيها يوما جديدا بكل المعايير والقيم. وطالما أننا سرنا في هذا الطريق المحفوف بالمخاطر، فإنه لا يجب أن يغيب وعينا أو يزيف مرة أخرى.
وأما عن تلك الانتخابات التي هلل لها وصفق من صفق، فإن ما حدث فيها مهزلة بكل المقاييس، وعلى الرغم من غياب البلطجية المأجورين الذين تعودنا على وجودهم طوال الانتخابات السابقة، وعلى الرغم من حضور الأمن بصورة طيبة، إلا أن تجاوزات أحزاب التيارات الإسلامية فاق كل حد. ليس فقط لأنهم كانوا يقومون بدعايتهم أمام الدوائر الانتخابية في يوم التصويت، ولكن لأنهم أيضا كانوا يرشدون الأميين من أبناء الشعب الذي يصعب عليهم فهم ما يجب أن يقوموا به، ويأخذون أصواتهم لحسابهم. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن عملية الفرز كانت تتم في أجواء غير صالحة وغير مؤهلة على الإطلاق، حيث الازدحام الشديد، والضجة التي يصعب فيها أن يسمع الإنسان نفسه، فكيف لأي موظف يقوم بالفرز أن يكون دقيقا في عمله. وأما من ناحية معايير الحصول على مقاعد برلمانية بين الأحزاب الفائرة، فإنه لغز لم أستطع أن أفهمه أو أتابعه عندما تم شرحه على القنوات الفضائية.
لا أقلق من مجيء التيارات الإسلامية للبرلمان، ولكن أن تجيء هذا التيارات في تلك اللحظة التاريخية الحاسمة التي سيتحدد على أساسها مستقبل أمة في خطر شديد، خاصة عند اختيار لجنة تأسيسية لكتابة الدستور الذي سيكون الوثيقة الحقيقية الحاكمة التي سنعيش بها وعليها لسنوات لا يعلم مداها إلا الله. هل سيعبر هذاالدستور عن أمل مصر وحلمها وشخصيتها؟ الإجابة الإيجابية ليست حاسمة، ولا نملك إلا أن ننتظر.
بكل ما في قلبي من يقين وفي عقلي من وضوح للرؤية، أدعو الله ألا نعود إلى ما كنا عليه من قبل، أدعوه ألا تطير تلك الكلمات في الهواء كما حدث من قبل، وقد زاد في ألمي ورغبتي في التضرع الصادق إلى الله سبحانه وتعالى، ما وقع في يدي من مقالات لي ولغيري، وكلها كان يطلق نذير الخطر، ويطالب بالإصلاح؟ كتبت عام 2004 (28 سبتمر) في جريدة نهضة مصر:" أسلوب الحكم يجب أن يتغير بأن تعطي للمجتمع المدني مسئولية وشراكة، ...، وأن يزداد شعور الشعب بأنه قادر بالكلمة والعمل أن يبني مستقبل بلده". "لا بد أن تبني الرؤية المستقبلة على تفعيل المشاركة السياسية من خلال محاوز متعددءة بدءا من دستور يتيح فرصة تداول السلطة، واحترام الرأي الآخر المعارض، مرورا بقوانين تسهل ممارسة العمل العام وتعطي مزيدا من الحريات للجمعيات والمؤسسات غير الحكومية". وقامت الثورة وأخذ الشعب حريته بيده، ولكن مازال القهر مستمرا ومازالت الثورة مستمرة. إلى أي مدى ستزهق أرواح وتسيل دماء، حتي تتحقق الحرية؟  هل يحق لنا أن نضحك ضحكة فرح، أم أن شر البلية ما يضحك. 

Tuesday, November 29, 2011

مع خالص الشكر والتقدير د. علياء رافع

مع هذا العدد من الشهداء والجرحي بدءا من يوم السبت الماضي، فقد المجلس العسكري شرعيته في الحكم، ولا يمكن أن توضع المسئولية كاملة على وزارة الداخلية، أو على رئيس الوزارة، لأن الوزارة بأكملها تخضع للمجلس العسكري بإعتباره رئيس للجمهورية في هذه الفترة الحرجة. من الأفضل للمجلس العسكري أن يسرع اليوم قبل الغد في تسليم السلطة إلى حكومة أو مجلس وطني مدني يتولي مهام رئاسة الجمهورية، ويعود مع خالص الشكر والتقدير إلى ممارسة مهمته الرئيسية في حماية أمن الوطن. لا عتاب ولا حساب إذا حدث هذا اليوم، أما إذا تباطأ فإن الدم الذي سال، والعيون التي اقتلعت والعاهات المستديمة التي أحدثها الاعتداء الغاشم لقوات الشرطة ستظل سدا منيعا بين أي كلمة يقولها أي فرد من أفراد المجلس العسكري، مهما كانت بليغة، وبين أي مبادرة مهما كانت فاعلة وبين الجماهير العريضة. لقد قطع هذا المجلس خيط الثقة بينه وبين الشعب، وستكون النتيجة وخيمة إذا ما أصر على الاستمرار. لا نريد بأي حال أن نكون ليبيا أو سوريا، كل مصري غيور على هذا البلد يريد أن تكون مصر آمنة سالمة، وجيشها عزيز مهيب، وقيادته لا يمسها تهوين أو تقليل من الشأن. نريد للمجلس العسكري أن يستعيد قليلا مما فقده من الثقة. وعندما يترك مهام الحكم اليوم، سيكون له كل التقدير. أما إذا أصر على الاستمرار، فإن مزيدا من المقاومة سيعصف بكل الأجواء وبكل محاولات الإصلاح. وأخشى ما أخشاه أن يزداد العنف. وليكن واضحا أنه من الصعب أن تتطلب من البشر ألا يكون بشرا.
إن ذلك الأب أو الأم، الأخ أو الأخت، الصديقة أو الصديقة الذين فقدوا عزيزا لديهم لن يستطيعوا أن ينتظروا يوما واحدا جديدا دون معاقبة فورية لمن قام بقتل أحبائهم. وإن كل مصري رأي ذلك الضابط الذي رمي جثة أحد الشهداء في مقلب الزبالة، لن يستطيع أن ينتظر ساعة واحدة أخرى دون أن يرى عقابا رادعا لهذا الشخص الذي لم يراع حرمة الموت، وقداسة الإنسان لمصري مثله. بل إننا بأخلاقنا المصرية ننأى أن نقوم بهذا مع الأعداء، فكيف يجرؤ هذا الضابط على مثل هذا الفعل. ما الذي يتوقعه المجلس العسكري من مثل هؤلاء؟ لن يهدأ لهم بال إلا إذا رجع اللواءات المحترمون إلى واجبهم القومي الطبيعي، وتركوا الأمر كله لمدنيين، واكتفوا بهذا القدر من تلك المهمة الثقيلة التي لم ينجحوا في القيام بها تبعا لم توقعته منهم الجماهير العريضة، ليتركوا الحكم لمدنيين يمكن محاسبتهم ونقدهم، ولكن اللواءات المحترمون يرأسهم المشير، تصعب الصراحة معهم، ويصعب توجيه اللوم إليهم، إذ أنهم رموز للجيش ولا ينفصلون عنه، وإزدواجية المهام لن تسير بنا إلى الطريق المنشود الذي سالت من أجله الدماء وأزهقت في سبيله أرواح. هل نسكت مرة أخرى على ظلم، وكأن من ينتقد المجلس يسيء إلى الجيش كله، كما كان يقال أن من ينتقد الرئيس يسيء إلى مصر؟ هل يسكت الشعب على قهر وإخماد للصوت مرة أخرى مهما حسنت النوايا؟
 ليعلم المجلس العسكري أن الشعب لن يصدق أن العدالة ستأخذ مجراها، وقد تعاملت الشرطة مع  المصابين في ثورة يناير وكأنهم بلطجية ، وأدعياء، وبلغ العنف من الشرطة إلى حد يفوق التصور في التهجم عليهم. هذا في الوقت الذي  مضى عشرة شهور، لم يصدر فيها حكم ضد وزير الداخلية السابق، وذلك تحت زعم نزاهة القضاء وضرورة العدالة، بينما شاب وطني  مثل علاء عبد الفتاح، على خلق ومن أسرة وطنية، يتهم إتهامات لا يرقي شك أي إنسان أنها باطلة. بيما يتم القبض على الشباب بعشوائية بالغة، لترهيب الآخرين من الإقدام على التعبير عن آرائهم.
لن يصدق الناس أن ما يوعدون به سيتحقق، وقد توقفت محاكمات الرئيس المخلوع أو المتخلي، ويعيش أبناؤه وحاشيته في سجن طرة، متمتعين بكل وسائل الرفاهية والعناية، في الوقت الذي يحبس فيه أبناؤنا في سجون عسكرية، لا يعلم إلا الله وحده كيف يعاملون، وماذا يأكلون. وقد سقطت عنهم كل الحقوق في الدفاع عن أنفسهم، أو النقض في الأحكام التي صدرت ضدهم.
لن يصدق الناس أن الأمن سيعود، وأن هيكلة الشرطة ستتم، وقد صبروا عشرة أشهر، ليجدوا في النهاية أن شهداء يسقطون ضحية لشهوة الانتقام من جانب الشرطة، التي لم تتوان عن إطلاق الرصاص المطاطي والحي على المتظاهرين في وحشية بالغة فتقتل من تقتل، وتقتلع العيون في مهارة بالغة، وفي تسابق وتشجيع وتهليل وهو ما أوضحته صور الفيديو التي تم التقاطها.
لن يصدق الناس أن المجلس العسكري حريص على حقوق الإنسان، وهو يري بوضوح فتاة يتم سحلها في الشارع وضربها بالعصي على مرأي ومسمع من الجميع، وعندما تقع الصحفية الشابة صغير السن منى الطحاوي في أيديهم، ويأخذون في ضربها حتي يكسر رسغها ويدها، ويزيدون من التحقير من شأنها بالعبارات البذيئة والتحرش بها، وهي بين يديهم لا حول لها ولا قوة.
لن يصدق الناس ما يقوله المجلس العسكري مؤكدين إدعاءات وزير الداخلية أنه لم يتم ضرب خرطوشة واحدة أو رصاص على المتظاهرين، بينما يقع عشرات القتلى أمامهم بهذا الرصاص. ويدين إدعاء الوزير بوجود قوى خفية تعمل على الوقيعة بين الجيش والشعب مزيدا من عدم الثقة. يصبح نفي استخدام أسلحة نارية ضد المتظاهرين أقبح من الفعل نفسه. إذ أن تواجد هذه القوى في كل مذبحة تقوم بها الشرطة المدنية والعسكرية وإستمرارها في العمل لمدة تزيد على العشرة أشهر، يعني أننا أمام شرطة ضعيفة غير قادرة على التعرف على هذه القوى الخفية. إذا صدق هذا، فنحن حقا في مأزق أمني داخلي وقومي. أليس هذا مدعاة للمحاسبة.
وكما هو الشأن أثناء وبعد قيام ثورة 25 يناير، فإن الأقنعة أخذت تقع ويظهر الأشخاص على حقيقتهم الصادمة. كم من  قلم ظننا أنه نزيه وعظيم، إذا به يسقط ويفقد الإحترام، وأخذ الفرز في التصاعد، إلى أن ظهرت معادن الناس النفيسة، وغيرتها على البلد وعلى الثورة. وعند نجاح الثورة غير الكثيرون جلدهم وتلونوا بلون جديد، وأخذوا يعللون ويفسرون مواقفهم السابقة، ويتحدثون عن الثورة المجيدة والشباب البطل. ذلك الشباب الذي اتهموه من قبل بالعمالة وبتنفيذ مخطط أجنبي. ولقد وضع الإخوان المسلمون أنفسهم في موقف حرج للغاية، عندما قاموا بمليونية لا ضرورة لها، وفي نفس الوقت امتنعوا عن تأييد الشعب في مليونية لا بد منها. ولم يكتفوا بهذا بل حاولوا أن يقوموا في نفس الوقت بدعوة إلى تحرير الأقصى، وهذا لاضعاف مليونية التحرير، وتشتيت الانتباه. إذا لم يكن هذا من أجل مكاسب سياسية، فلماذا إذن؟
ما أشبه الليلة بالبارحة، لا أكاد أن أصدق أذني وأنا أسمع نفس الاتهامات، نفس الصوت العالي، وكأن الصريخ هو الذي يثبت ويؤكد الوطنية: "التحرير ليس كل المواطنين"، "الشباب الخائن الذي يتقاضى أموالا من الخارج"، "سيضيع الوطن نتيجة لهذه المطالب الحمقاء"، "هناك أجندة أمريكية لإضعاف الوطن"، "الجيش هو الملاذ الوحيد ومن يهاجم المجلس العسكري سيوقعنا في فوضى". "حرام عليكم الاقتصاد ينهار ولن نجد غدا لقمة نعيش عليها". وينخدع الكثيرون بهذه العبارات، لا يعلمون أن ثورة قد قامت من أجل حرية الرأي والتعبير، ودماء أزهقت من أجل الكرامة الإنسانية، وأن أي مساس بالحرية والكرامة، هو رجوع إلى النظام السابق. لا يعلمون أن مد الفترة الانتقالية سببا من أسباب خروج الاستثمارات من مصر، والتدهور الاقتصادي، لا يعون أن عدم التواجد الأمني يضعف السياسة، وليس المظاهرات السلمية التي لم تتوقف أن تكون سلمية وحتي الأن. ما يحدث يعيد إلى أذهاننا أجواء الثورة، مع الفارق الكبير وهو أن المجلس العسكري ليس حسني مبارك، ولا نريد له أن يسقط، ولكن الشعب يريد فقط أن يترك المجلس الحكم الآن وليس غدا مع خالص الشكر والتقدير، وكفي. 

Tuesday, November 22, 2011

خيط رفيع بين التقدم والتقهقر الثوري د.علياء رافع

لا شك أن إستمرار القدرة على التجمع من أجل الإتفاق على أهداف مشتركة  قوة مضافة إلى ما حققته الثورة، وهو ما ينعش الأمل في أن تلك الجماهير العريضة لن تسكت عن حق مسلوب أو محاولة لاختطاف الثورة. ولكن السؤال هو على كل تجمهر يعبر حقا عن نبل الثورة المصرية التي بدأت في الخامس والعشرين من يناير واستمرت لمدة ثمانية عشر يوما ؟  ولم يكن تجمع المصريين يوم 18 نوفمبر من أجل الاعتراض على وثيقة السلمي فقط، ولكنها كانت من أجل إعلان الرفض التام للمحاكمات العسكرية للمدنيين، كانت من أجل المطالبة بحقوق من أصيبوا في الثورة وفيما تالاها من أحداث عنف، كانت من أجل نقد سلبيات سياسة حكومة عصام شرف، والشعور بعدم الارتياح من جراء سياسات المجلس العسكري.  وهكذا أثبت الشعب يقظته وقوته.
لم تكن فكرة وثيقة أو بيان لمباديء حاكمة جديدة، لقد سبق وعرض د. البرادعي وثيقته، وكذلك صدر بيان الأزهر للمباديء الرئيسية للدستور، كما كانت هناك وثيقة المجلس الوطني التي جمعت العديد من القانونيين والشخصيات العامة، وعرضت هذه الوثائق في حوار وطني موسع، ولكن وقف الإخوان المسلمون مع عدد قليل من الأحزاب ضد مبدأ إصدار وثيقة سابقة على تكوين لجنة تأسيسية لكتابة دستور جديد للأمة. إلى أن جاءت وثيقة السلمي التي أثارت غضبا هائلا لما بها من مواد تعطي للجيش سلطة مطلقة في التحكم في مقادير البلاد، وتجعله دولة لها ميزانية خاصة وغير معلنة على الشعب. 
وبصرف النظر عما إذا كان من حق القوى السياسية أن تصدر وثيقة مباديء لحماية تحكم أي تيار له أغلبية في الانتخابات القادمة في الحكم أم لا، فإن القضية أعمق كثيرا وأهم من "وثيقة السلمي"، إنها قضية فرض إرادة المجلس العسكري والحكومة على الشعب، كما حدث عند صدور الإعلان الدستوري عقب نتيجة اللإستفتاء على التعديلات الدستورية. ومرة أخرى فإن صدور الإعلان الدستوري في حد ذاته ليس جوهر القضية، ولكن عدم وضوح الرؤية قبل الإستفتاء، وعدم الجهر بالخطوات التي تليه يعني أن هناك دائمة خطوات يتخذها المجلس العسكري دون إعلان ودون أن يهتم بإرادة الشعب. ولو أدرك الناس أن إجابتهم بنعم على التعديلات، تعني عودة أغلب مواد الدستور القديم، لأحجم البعض أو الكثيرون منهم عن هذا الاختيار. مع العلم أن تعديل مواد في دستور سابق للثورة لا يتمشى مع الشرعية الثورية بأي حال من الأحوال. ولقد أشرت إلى هذه النقطة في مقالات كثيرة من قبل. 
 ما أزعجني أن الإخوان المسلمين يتركون جوهر القضية ألا وهي المطالبة بالشفافية وعدم التسلط والتحكم في تجاهل لإرادة الشعب، إلى مجرد مهاجمة وثيقة مباديء أساسية، ولو دخل الإخوان في الإجماع العام لكتابة وثيقة، لأصبح هذا في حد ذاته مكسبا يستطيعون من خلاله أن يشاركوا في خروجنا من تلك الأزمة التي بدأت مع رحيل الرئيس السابق، ومجيء المجلس العسكري بديلا عنه في الحكم. كنا نتصور أن هذه الخطوة الشجاعة من الجيش سيعقبها إستجابة لمطالب الثورة، ولكن ما زلنا نعيش في توجس وخيفة من جراء ما يحدث كل يوم من سلوكيات تبدو متناقضة كل التناقض، حيث يوجد الآن ما يقرب من ستة عشر ألفا في السجون العسكرية، بينما ينتشر البلطجية في كل مكان. ومع حالة عدم الإستقرار تعزف الأموال عن القدوم للإستثمار على أرض مصر، ويستمر السياح في الإحجام عن القدوم إلى مصر، إلى آخر التداعيات السلبية.
ونتيجة لهذه الفوضى والإنقسام يتداعي الحابل بالنابل، ونرى مظاهرات صاخبة تتطالب برحيل مدير مكتبة الإسكندرية د. إسماعيل سراج الدين لأسباب غير عقلانية ولا منطقية، وتحت زعم أنه جزء من النظام السابق، وهو ما يعني أن كل من يعمل في مؤسسة تابعة للدولة جزء من النظام السابق. الأولى أن ننظر إلى تاريخ الرجل وما قام به لمكنبة الإسكندرية، وما هي الأخطاء التي وقع فيها. إذا ما كان فيه إستبداد النظام وطغيانه، حسبناه عليه، وإذا كان الأمر غير ذلك، فليكن له التقدير والاحترام.
 وعادة ما يشدني أ. يسري فودة وبرنامجه المحترم آخر كلام ، ولكن تلك الحلقة التي إستضاف فيها مدير مكتبة الإسكندرية، ساءني أسلوب الحوار إلى حد الإزعاج، شعرت فيه بالتحيز غير الموضوعي ضد الرجل. ولم يكن مقبولا أو منطقيا أن يكون أجر هذا الرجل محلا للنقاش والمساءلة على الاطلاق، ذلك أن مكتبة الإسكندرية مؤسسة دولية، لها احترامها على مستوى العالم أجمع، ولها برتوكول خاص.  ولا بد من الإشارة إلى أن ما يتقاضاه هذا الرجل  لا يقارن بتلك الملايين التي يأخذها رؤساء إدارة الجرائد "الحكومية" التي تجيء ميزانيتها فعلا من الشعب. كان من الممكن لهذا الرجل ذو المكانة الدولية الرفيعة  أن يعمل في مناصب أخرى في مقابل أضعاف هذا الأجر. مجرد إثارة هذا الموضوع في بداية حلقة محترمة جعلني أشعر بالإساءة البالغة لشخصية في قيمة د. سراج الدين. ما توقعته هو أن يكون هناك نقاش عن سياسة إدارة المكتبة، ويمكن هنا أن يكون هناك النقد موضوعي. أذ أن المشاهد يريد أن يتفهم لما يثور العاملون في هذه المؤسسة؟ ما هي الأخطاء التي ارتكبتها الإدارة؟  كيف يمكن تصحيح هذه الأخطاء؟ وأما الدخول في تلك التفصيلات العقيمة عن أجره لماذا تم رفعه، ثم بعد ذلك أثارة عدم إستقبال مدير المكتبة وموظفوها للمسئول من الجهاز المركزي للمحاسبات، فهو يبدو هراءا، وليس مجاله برنامج تليفزيوني، ولكن مكانه بلاغ للنائب العام.  هذا في الوقت الذي أكد فيه مدير المكتبة أن ميزانية المكتبة معلنة للكافة على الموقع الخاص بالمكتبة. وتجيء المهزلة في الدخول في تفاصيل ليس لها أي دلالة خاصة بالرجل، وإنما هي تخص نظاما بأكمله، وقد حاول د. سراج الدين أن يشرح أن ما كان يتناوله رجال الأمن والحراسة من المكتبة كان بتكليف مركزي ليس له فيه إختيار، إلا أن المذيع يأبي أن يأخذ بهذا المنطق.
 أما تبعية المكتبة  لرئاسة الجمهورية مباشرة لا يعني أن مديرها كان خاضعا لسياسات رئيس الجمهورية، وإنما هو إعلاء لشأن المكتبة وقيمتها الوطنية. لم تكن المكتبة ملكا للرئيس وقرينته إنما هي جزء من صرح مصري له صبغة دولية، ولها إستقلالية.  لقد شاهدت بنفسي كيف أن القادمين إلى مصر يضعون زيارة مكتبة الإسكندرية على قائمة الإختيارات، ويعتبرونها صرحا عظيما لا يد من اكتشافه.  هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن نظام مبارك نفسه حارب هذا الرجل عندما كان رشحته دولة صغيرة لمنصب رئيس اليونسكو، وتخلت عنه مصر. لم يدخل سراج الدين الحزب الوطني، ولم يمارس أعمالا حزبية أو سياسية، وإنما سخر جهده في جعل هذه المكتبة مكانا للحوار الحضاري لتلعب دورها في دعم رسالة السلام في العالم، والخروج من الإستقطابات الفكرية التي تسبب العداء الفكري الذي ما يلبث أن يتجسد على أرض الواقع في حروب حقيقية.  إذا كان البرنامج يريد أن يبين الأخطاء الإدارية كان عليه أن يكون أكثر موضوعية. وليس هناك إنسان فوق النقد، أما تعمد الإساءة لمجرد أن مكتبة الإسكندرية إرتبط اسمها بالرئيس الممخلوع وقرينته، فهو تحيز لا مبرر له، وهذا هو الخط الرفيع بين ما سيدفعنا إلى الأمام، وما سيشدنا إلى الوراء. حمي الله مصر من كل سوء. 

Tuesday, November 15, 2011

الأمل في سلام عالمي مرتبط بنجاح ثورة مصر د. علياء رافع

نظرت إلي الأستاذة الرائدة في مجال العلوم الإجتماعية جين ليبمان بلومان قائلة، إذا فشلت الثورة المصرية، سيحدث للعالم كله إحباط وتخيب آماله في إمكانية قيام سلام. كان قولها فيه حزم ووضوح. ثم أكملت حديثها قائلة، الثورة المصرية تختلف عن ثورات المنطقة كلها. نعم إن المطالب واحدة، وتتمثل في حق هذه الشعوب في الحرية والكرامة الإنسانية والعدل الإجتماعي، ولكن ما حدث في الثورة المصرية كان أمرا مختلفا، سلميتها لها نوع خاص، والتضامن الذي حدث بين جموع هذا الشعب العظيم لها دلالات هامة. وكان حديثي عن الثورة المصرية في ورقة مقدمة لجلسة نقاشية عنوانها "إعادة رسم خريطة لقيادة من أجل السلام" لمؤتمر عقد في لندن تحت إشراف رابطة القيادة الدولية International Leadership Association وانعقدت في لندن في الفترة ما بين 26-29 أكتوبر.
شاركني في هذه الندوة أستاذ من جنوب أفريقيا تحدث فيها عن التعليم وأهميته من أجل إيجاد قيادة من أجل السلام، موضحا أن السلام كلمة عامة تختلف دلالاتها، وإستخداماتها، وقال إن غياب العنف لا يدل على السلام، والإستسلام للأقوى وعدم مقاومته لا يدل على السلام، والسلام ليس ضعفا، وليس إنسحابا. وأضاف أن السلام هو ممارسة أكثر منه تعريف نظري، موضحا أن تلك الممارسة لا بد أن تبدأ في المؤسسات التعليمية. وشاركني في الجلسة أستاذة من الولايات المتحدة، تحدثت عن "المقاومة التي تبدأ من القيادات"، والواقع أنها قدمت رؤية غير معهودة، عن دور القيادة من أجل السلام، ذلك عندما قدمت رؤيتها الجديدة التي لا تجد تناقضا بين القوة ممثلة في القيادة، وبين المقاومة القادمة من نفس المصدر أيضا، أي أنها تقول أن القيادة والمقاومة ليسا عمليتان مختلفتان، إنما العلاقة بينهما علاقة ديالكتيكية، ذلك أن القيادة يجب أن تكون مقاومة لكل العوامل التي تؤدي إلى التفكك، وإلى الصراع والعنف، في حركة تطوير مستمرة، تجمع بين المنتاقضات في حركة ديالكتيكية، إذ أن القائد الناجح هو من يستطيع أن يدرك عوامل الإنهيار قبل أن تحدث، وأن يعمل على تحدي النماذج القائمة من أجل بناء نماذج جديدة بشكل مستمر، متجها أن يكون السلام محورا رئيسيا في هذا التجديد.
في هذا اللقاء العلمي كان لي الشرف أن أتحدث عن الثورة المصرية،  ومن خلال إستعراض مراحل تطور هذه الثورة العظيمة، أصبح واضحا للعالم أن انهيار الثورة المصرية الآن إنهيار للأمل في السلام في العالم أجمع. إن المعجزة التي حدثت كانت لها إرهاصاتها ومقدماتها، وقدمت رؤية للمقاومة السلمية لا أحسب أن أحدا قد أشار إليها من قريب أو بعيد، والكل يتحدث عن الثورة كأننا نبدأ فيها من الصفر. لم يتحدث أحد عن العلماء والبنائين في كل المجالات، وكل الشرفاء الذين كانوا ينحتون في الصخر من أجل إصلاح الفساد بالعمل الجاد، ومقاومة الظلم بإقامة العدل في مؤسساتهم البسيطة.  ألم يقم مركز الكلى العالمي في المنصورة في العهد السابق؟ هل ينكر أحد مجهود محمد غنيم؟ كيف أمكن أن تتطور وسائل الإتصال بهذا الزخم الذي ساعد في الواقع على قيام الثورة؟ ألم تكن هناك أيادي كثيرة تحاول أن تربط مصر بالعالم؟ كيف ننكر العمل الأهلي الذي كان قائما على قدم وساق من أجل مساعدة المهمشين؟  إذن لقد كانت المقاومة السلمية عن طريق البناء عملا داؤبا حفظ لمصر الحد الأدني على الأقل من السلامة، وتحدي النظام بشكل عملي. ولكنه بالقطع لم يكن كافيا كي يكون هناك إصلاح، ذلك أن النظام السابق نشر الفساد في الجسم المصري كما ينشر المرض الخبيث نفسه في الجسد الإنساني ليدمره، ولذا كانت الثورة ضرورة لإنقاذ هذا البلد.
ولكن في محاولة أن أضع يدي على تفرد هذه الثورة بين الثورات الأخرى، حاولت أن أركز على  تلك الحالة الإستثنائية التي حدثت أثناء هذا الحدث التاريخي، وهي خروج الإنسان المصري من ذاتيته الضيقة إلى إندماج كامل في الكل – الوطن – الشعب – المقدس. لقد كانت هناك حالة شعبية طغت على ملايين الثوار الذي شعروا أن هناك قوة تحملهم على الخروج للتعبير عن مطالبهم، مهما كلفهم هذا، لقد أصبحت الحياة بدون كرامة لا قيمة ولا معنى لها. إنه شعور طاغ، وليس مقولة أخلاقية، يقولون بكل تصميم لمبارك إقتلنا جميعا ولكن لن نتنازل عن مطالبنا. هناك 85 مليون شهيد مستعدون للموت. "إعتقلوني ومش حتشوفوا الخوف في عيوني". وخرجت الأغاني تعبر عن تطلع الروح إلى الحرية التي تنادي في كل شبر في أرض مصر. إن هذا الإنطلاق من الذات إلى الكل، من الفرد إلى الجماعة والوطن، من الحياة إلى ما بعد الحياة، من المادة إلى الروح، من التمسك بالأرض إلى التطلع إلى السماء، هي مظاهر لذلك الإيمان القوي بالله الذي يحمله هذا الشعب، إيمان لا يعرف الطائفية، ولا المسميات الدينية.  إنه السر الذي جعل هذه الثورة المصرية ثورة يتطلع إليها العالم.
حافظت هذه الروح على سلمية هذه الثورة، حتي إستطعنا أن نتخلص من الطاغية،  وهذه الروح إذا تواجدت في العالم أجمع بين شعوب الأرض، لأمكن أن نقضي على كل محاولات الهيمنة القادمة من القوى الإقتصادية العظمى التي تتصارع بشكل أو آخر صراعا اقتصاديا ومعرفيا من أجل الهيمنة وإستنزاف من هم أقل قوة وقدرة، وينعكس هذا على بؤر تتصارع في العالم أجمع صراعا يجعلها أكثر ضعفا، ويعطي القوى المهيمنة فرصة لمزيد من الإستنزاف. والمكان لا يتسع للمزيد من التحليل، ولكن علينا في هذه المنطقة أن ننتبه أن خلق صراعات في المنطقة يخدم مصالح القوى الكبرى. نجد صراعا بين إيران والبلاد العربية، من ناحية، وجهود لتغذية الإتجاهات التي تبرر الإعتداءات المتكررة على الفلسطينين من ناحية أخرى، وخلق فرقة عربية تجاه المشكلة الفلسطينية، والعمل على تعظيم الإتجاهات الطائفية وغيرها. وعلى الرغم من أنني أكره تعليل السلبيات التي توجد في المجتمع تحت وهم أو فكر المؤامرة إلا أنه ينبغي أن نضع هامشا ولو صغيرا إلى وجود من يريد أن يقضي على هذه الثورة المصرية لمصالحه الخاصة. والتغلب على  هذه المؤامرات ليس بترديد الفكرة، ولكن بتكوين مجتمع متماسك قوي، والبحث عن أسباب الفرقة  جذريا وليس سطحيا، ولقد تبين لنا أن الشعب المصري متماسك، ولكن التعرض المستمر للفتن قد يضعف جهازه المناعي، ويقع فيما لا يحمد عقباه، ولذا فإنه كلما استبد بي القلق على مستقبل مصر، إستعدت في ذاكرتي هذا التلاحم الذي حدث بين الشعب في لحظة تاريخية عظيمة، وسجل لها التاريخ في ذاكرته صورة لن تنسى، إنها صورة ميدان التحرير، حيث عاشت مصر لحظة بعث جديد وأصبح الكل في واحد. 

Tuesday, October 25, 2011

قيادة من أجل السلام د. علياء رافع

عندما ينشر هذا المقال سأكون في الطائرة متجهة إلى لندن في مؤتمر عالمي عن القيادة، ودوري  هناك هو أن أجلس على مائدة حوار لأقدم رؤيتي عن كيف نعيد رسم أهداف القيادة لتكون من أجل السلام. مهمتى أن أتحدث عن الثورة المصرية. وقد دعيت إلى هذا الحوار في مارس من هذا العام، أي بعد قيام الثورة المصرية بشهرين، وذلك ونحن والعالم منبهرون بما حدث، وغير مصدقين لما رأينا. كانت الثورة مهيبة، وكانت شجاعة المصريين وتحضرهم مشهدا وقف العالم كله يتطلع إليه. 
وبإعتباري دارسة لعلوم الإجتماع، لم تكن هذه الثورة تعبر عن أي نظرية إجتماعية سابقة، ولم أعرف لها مثيلا في تاريخ الإنسانية، من حيث أنها لم تكن ذات قيادة مركزية. حتي إئتلاف الشباب الذي دعا إلى المظاهرات، لم يكن يتوقع أن يخرج الشعب كله بهذا الزخم وهذه القوة. لم يدبر أحد لهذه الثورة، لم تبدأ من تنظيمات تحتية من أجل قلب نظام الحكم.  وعلى الرغم من خروج الملايين إلا أنها كانت سلمية إلى أقصى الحدود. عبرت الثقافة والتنظيم في ميدان التحرير عما يمكن أن يكون عليه مجتمعنا، عن آمالنا وأحلامنا في أن نتعاون معا، نعيش بسلام، يرعى بعضنا البعض، يساعد من معه من ليس معه.  إنه مجتمع المدينة الفاضلة الذي تحلم به مصر وتحلم به البشرية كلها. 
ولكن أين ذهب المصريون الذي عاشوا معا في هذا الميدان وفي كل مكان في مصر، لماذا عدنا إلى الفوضى، والإعتداء والتزاحم، والأنانية، لماذا ضاعت الرؤية؟ هل سنعود القهقري مرة أخرى؟ هل يمكن لمن ذاق معنى الحرية، والكرامة الإنسانية، وكسر حاجز الخوف أن يختفي وراء السدود، ويعيش بلا أمل؟  لا أعتقد أن هذا يمكن أن يحدث. ومن يظن أن هذا ممكنا فهو لا شك قد فقد الرؤية والبصيرة. ولكن الخوف كل الخوف أن  تتحول مقاومة القوى المضادة التي تريد لنا أن نعود مرة أخرى إلى الجحور المظلمة إلى مقاومة تستخدم العنف.
لقد كتبت عدة مقالات معبرة عن قلقي لعدم وجود قيادة تأخذ بزمام الأمور، وتعبر عن طموح هذا الشعب، وتعكس شخصيته وأخلاقه الأصيلة التي تكاد تختفي عن أعيننا مرة أخرى، ولكن هذه المرة أريد أن أكتب عن مواصفات هذه القيادة بصرف النظر عن الأشخاص، تلك المواصفات التي يمكننا أن نستقرأها من تاريخ الإنسانية، عندما نحاول أو نضع أيدينا كيف بدأت التغيرات الكبرى التي أضافت إلى التاريخ الإنساني نقلة نوعية في التقدم الحضاري.
سنجد أن التاريخ دائما يبدأ من القدماء المصريين، ويبدأ بشكل خاص من مينا موحد القطرية، وهذا التوحيد له رسالة قيمية قبل أن يكون  حدث تاريخي، أن ينضم الشمال والجنوب في نظام واحد يعني أن هناك حالة صراع قد انتهت وحالة سلام قد بدأت، ولا بد أن يكون إنتهاء حالة الصراع قد تمت بنقلة نوعية أخرى في الوعي والأخلاق. وينقلنا هذا إلى إستخدام هذا المقيا س" ارتباط التقدم الحضاري بالوعي الأخلاقي" في تأمل اللحظات العظيمة التي حدثت فيها تحولات خطيرة.  نجد أن الأديان قد نقلت الإنسان أيضا من حالة وعي إلى حالة أخرى تختلف تماما عما قبلها، ولا أتحدث هنا فقط على الأديان الإبراهيمية، أو المنزلة عن طريق الوحي، ولكن أتحدث أيضا عن  معلمي البشرية العظام، التي جاءت رسالتهم الأخلاقية متوائمة ومتناغمة مع الرسالات السماوية.  كل هذه الرسالات قد غيرت تاريخ الشعوب، وتحول هذا التغير إلى العالم أجمع.
وعندما ننظر إلى الثورة المصرية، سنجد أيضا أنها قد أحدثت نقلة نوعية في رؤية المصريين لأنفسهم من ناحية، وقدرتهم على التعبير من ناحية أخرى. لقد كان ميدان التحرير بشهادة الجميع تعبيرا عن عالم مثالي خيالي كما سبق القول، ولكن إستمرارية هذا الوعي بوحدة المصريين، وتآلفهم مع بعضهم البعض، ومن ثم مع العالم أجمع لا بد أن يستمر من خلال توفير البيئة التي يمكن أن ينمو فيها، ومن خلال تواجد قيادة شعبية تلم الجمع، وتوضح الرؤية، وتساعد الشعب على بلورة الغاية. من أهم صفات هذه القيادة أن تكون قادرة على تجميع المصريين على أهداف قومية واحدة، نابعة من إرادتهم وليست مفروضة عليها، معبرة عن أحلامهم، وليس من أجل خدمة القيادات السياسية. هذه القيادة لا تنحاز لطبقة على حساب طبقة أخرى، ولا لدين على حساب دين آخر، ولا للرجل ليقهر المرأة ولا العكس أيضا. إنها قيادة صادقة، تستطيع أن تتخاطب مع الجماهير وتؤثر فيها، ليس عن طريق القدرة الخطابية التي تدرس في أماكن مختلفة، ولكن عن طريق التعبير بصدق عما يحتاجه المصريون، فهي قيادة منهم ولهم وبهم.
ومن أهم صفاتها أن تكون قيادة تعمل على السلام الإجتماعي، ليس بترديد كلمات قد مللنا الإستماع إليها، ولكن من خلال تجميع المصريين جميعا بدون تفرقة حول هدف قومي، يشعرون فيه بوحدتهم، وليس تفرقهم، تكون هذه القيادة واعية بالتاريخ المصري، وإمتداد الشخصية المصرية التي من أهم ما يميزها الإيمان بالله، وهو إيمان وجودي وليس شكلي.  إن القيادة التي ننتظرها تعيش هذا الإيمان دون أن تتشدق به، نشعر بقوة الإيمان مما تحمله هذه القيادة من قدرة على حل الصراعات، والتصرف التلقائي النابع من القلب، وليس من محاولة لاسترضاء أو إرضاء فريق على حساب الآخر.
قد لا تكون هذه القيادة متواجدة في شخص واحد، ولذا علينا أن نوجدها، لا بد أن نعمل على تجميع قوانا كشعب، لتتواجد هذه القيادة التي إذا تأملنا ما أشرت إليه من صفاتها، لوجدنا قد تجمعت في شعب عبر نفسه في لحظة تاريخية ستسجلها صفحات التاريخ باعتبارها حركة تحول في تاريخ الإنسانية، لأنها ستكون ملهما لكل العالم. وسواء إستطعنا أن نستكمل الطريق الآن أو بعد وقت ما، فإن هذه الثورة قد دخلت التاريخ بالفعل لتغيره، وتضيف إليه، ونحن نشهد ارهاصات هذا التحول الآن في العالم كله، وأصبحت هذه الثورة نموذجا سيعيش في ضمير الإنسانية وسيختزنها عقلها الجمعي من أجل المستقبل.   

Tuesday, October 18, 2011

من وراء أحداث ماسبيرو؟ د. علياء رافع


لقد ظل هذا السؤال حائرا في معظم عقول المصريين، وأحسب أنه سيظل يتردد دون إجابة لفترة ما، ولكن في النهاية سينكشف الأمر، وما كان لغزا سيصبح مفضوحا.  وعندما أطرح هذا السؤال، فإنني لا أدعي بالطبع أن أكون قادرة على الإجابة عليه. إذ انه من السهل أن تشير أصابع الإتهام إلى عدد ممن يريدون للثورة المصرية أن تفشل، ولكن من الصعوبة أن يثبت أي إنسان إن ظنونه حقيقة.
وعندما أطرح هذا السؤال، فإنني في الواقع أريد أن أمحو هذا التحليل الإختزالي الذي يرجع السبب إلى قوة واحدة فقط،، إذ يري البعض أن أتباع الرئيس السابق قد أرسلوا مرة أخرى بلطجدتهم، ويرى الآخرون أن الشرطة قد خانت الأمانة كعهدها في السابق،  أو أن الشرطة العسكرية قد تجاوزت حدودها، وخرجت من دور الحماية إلى دور الاعتداء، ويرى فريق آخر يتهامس في سرية بالغة، ولكنها تنتشر انتشار النار في الهشيم أن الأقباط يريدون أن يحولوا مصر كلها إلى ديانتهم، ويعلنون أن المسلمين غزاة، وهم الذين بدأو بإثارة الشعب مع الشرطة العسكرية.
 وتبعا للتشخيص السابق يمكن وضح الحلول،   ذلك أن البلطجية من السهل القبض عليهم، لأنهم معروفون وكانوا يتعاونون مع جهاز أمن الدولة السابق، وأما الشرطة العسكرية والشرطة التابعة لوزارة الداخلية، فإنه من السهل أيضا أن يعاقب كل من خالف أوامر قيادته، سواء من الشرطة أو من الجيش. أما إذا كان الأقباط هم الذين بدأوا بالإعتداء على الجيش،  على الرغم من أن هذا لا يعقل، ولكن قد يكون البعض منهم قد استشاط غضبا، وبدأ في التصرف بهستيرية، إذن يمكن أيضا القبض على هؤلاء والتحقيق معهم. لماذا لا يحدث كل هذا الآن ومباشرة. وهذا سؤال آخر لا إجابة له. ولكنه يضع المجلس العسكري أمام إختبار هام، فهو إما أن يبدأ مباشرة في مساءلة الجناة في هذه الاعتداءات، أو سيفقد ثقة الشعب فيه تماما. وفي هذا خطورة بالغة على مجرى الأحداث فيما بعد.  أخشى أن يتحول الأمر إلى الشك في أن القيادات نفسها هي التي تريد إجهاض الثورة. وقد بدأ هذا الشك في الزيادة مع التباطؤ في السير قدما نحو تحقيق الأهداف البسيطة والمعلنة للثورة، ومع الاسترخاء الأمني وترك البلطجية أحرارا، والقبض على مدنييين ونشطاء سياسيين بتهمة البلطجة ومحاكمتهم عسكريا، وتحول الإعلام إلى أداة لحجب الحقيقة والتحريض وخلق مشاكل وفتن. وما أبشع أن يحفز الإعلان الرسمي المواطنين للنزول دفاعا عن الجيش. ولا يقال وزير الإعلام مباشرة بعدها.  وهذا حادث متكرر، فما حدث يوم 28 يونيو على سبيل المثال كان تكرار ليوم 28 يناير، ومازال وزير الداخلية يقوم بعمله. لا أريد ولا أتجرأ ولا أحب أن أتهم قيادات المجلس العسكري بالتواطؤ مع النظام السابق، ولكن لا أفهم ولا أستطيع أن أقبل هذه الممارسات.
عندما ننظر إلى ماحدث من زاوية أخرى، لندرس ما هو المستهدف من قتل الأقباط،  ومهاجمتهم بهذه الطريقة الهمجية، ولنتأمل أيضا ما هو الهدف من تصوير مدنيين يتهجمون على ممتلكات عامة، ويتهجمون على الشرطة العسكرية. سنجد أننا لن نتمالك أنفسنا من الغضب والسخط المتجه في كل مكان.. يتولانا الغضب من الشرطة العسكرية التي إعتدت على مدنيين مسالمين، يقومون بمظاهرة للتعبير عن غضبهم إزاء ممارسات أقل ما يقال فيها أنها غير عادلة. وينتاب البعض الغضب والسخط تجاه الأقباط الذين يعتدون على جنود من الجيش، والجيش هو رمز لكرامة المصريين كلهم. ونغضب جميعا ونسخط لأن الأمن غير متوفر، والمؤسسات التي من المفروض أن تحمينا فإنها أقل ما يقال عنها، أنها أضعف من أن تقف في وجه "حزمة من البلطجية"، وهو ما يجعل هذه المؤسسات في موضع إتهام من جميع الشعب.
إذن المستهدف أن ينتشر الغضب والسخط بين المصريين بعضهم البعض، وأن يزيد شعورنا بالتشتت والإنقسام. وذلك في الوقت الذي سيتحدد فيه مستقبل مصر عندما يتم إنتخاب المجالس النيابية التي سترشح الهيئة التأسيسية للدستور، والتي سيقع على عاتقهم رسم الصورة التي ستكون عليها مصر في السنين القادمة. لا شك أن هذا التشتت يخدم قوى مختلفة، فهو من ناحية يخدم المجلس العسكري إذا كان في نية هذاالمجلس أن يمتد وجوده في حكم البلاد لأطول فترة ممكنة. وكذلك فإن حال الفوضى والحزن والتشتت يخدم التيارات الدينية الأكثر تنظيما وخبرة في دخول الانتخابات النيابية، ويخدم هذا الحال أيضا مؤيدي النظام القديم الذين ما زالوا  يحلمون أنه بالإمكان أن يعودوا في مراكز قوة، ويعيدو القيادات التي تحاكم اليوم. وفوق كل هذا فإن من مصلحة إسرائيل أن ترى هذا البلد في هرج ومرج وفوضى قد تؤدي إلى حرب أهلية إذا لم يتم تداركها. تكره إسرائيل أن ترى مصر قوية، لأنه إذا شبت مصرت ,إشرأبت إلى بناء مجتمع قوي، فإن هذا يهدد أمانها وأمنها. فهي لا يمكن أنت تأمن لجانب العرب عامة والمصريين خاصة.   
وإذا كان البحث عن المجرم في أي جريمة يبدأ بالبحث عمن لهم مصالح من القيام بهذه الجريمة فإننا في هذه الحال، سنجد أن أكثر من قوة وفصيل سيكون مستفيدا إذا ما انشغل الناس بالحالة الطائفية ونسوا الحالة المصيرية التي يمر بها البلد. والسؤال هل تعمل كل قوى على حدة أم أنهم يعملون معا؟ وكلا الفرضين ممكن. ولكنني أتوقف هنا لأقول أنه إذا كان فرض أن الجيش يريد أن يبقي لأكبر وقت في السلطة، إلا أنه ليس من مصلحته أن يثير سخط الأقباط عليه بهذه الطريقة. ومن ناحية أخرى، فإن خلق عداء بين المجلس الأعلى وبين الشعب سيؤدي بالضرورة إلى مزيد من الفوضى، ليست في صالح الجيش إلا إذا كان يخطط لضرب الجماهير، وهذا احتمال غير وارد. ولكن هذا لا ينفي أن الجيش بصورة أو أخرى لم يكن على قدر المسئولية في حماية المتظاهرين، ويجب أن يكون هناك تحقيقا ما في هذا الشأن. وعلى الرغم أنه من مصلحة الإخوان أن تنشغل القوى السياسية والرأي العام بالجانب الطائفي ومشاكله، إلا أنه ليس من المنتظر بعد أن استطاع الإخوان أن ينشئوا أحزاب مدنية يضمون إليها أقباط أن يقوموا بإستعداء هذا القطاع العريض من جمهور الناخبين. الإخوان المسلمون أذكى من أن تكون هذه الفتنة طريقهم إلى الوصول إلى مجلس الشعب. ولا يبقي لنا ممن لهم مصلحة سوى أتباع النظام القديم ممن هددت الثورة مصالحهم، وأيضا القوى الخارجية المتربصة بنا، وفد يكون هناك تحالف بين القوتين. يخرج بنا هذا التحليل إلى نتيجة يصعب التأكد منها أيضا. ولكنها تقودنا في النهاية إلى أن نرمي وراء ظهورنا السؤال الحائر  "من راء أحداث ماسبيرو" مؤقتا، متجهين إلى كيف  نبني علاقة قوية بين المصريين أقباطا ومسلمين، وكيف يمكن أن نضغط على المجلس العسكري ليسير في إتجاه تحقيق مطالب الثورة، دون أن نرفع شعارات العداء معه.
إذن يجب أن تتجه جهودنا في المرحلة القادمة إلى تحقيق العدالة والضغط على القوة الحاكمة في السير إلى هذا الطريق بكل السبل التشريعية أولا، والقضائية.  وما حدث في ميدان التحرير لمدة 18 يوما هو تعبير عن حقيقة العلاقة الحقيقية بين المصريين. وأما ما نشاهده من عنف، فهو عارض مرضي، يجب أن نعالجه بالإستئصال، ذلك أنه  قد ينقلب الفيروس الصغير إلى مرض عضال إذا لم نبدأ بمقاومة هذه النزعة الطائفية الغريبة، وأضع على مسلمي هذا الشعب مسئولية عظيمة، حيث أن الأقباط في حاجة إلى الإحتواء في هذا الوقت العصيب، وفي حاجة إلى التعاطف، والمحبة والسعة والإطمئنان، وهم أقل عددا ولكنهم ليسوا أقلية، لأنهم جزء لا يتجزأ من شعب واحد تجمعه كل القيم المشتركة والثقافة الواحدة. ومازلت أتطلع إلى قيادة تلم الشمل، وتقود المسيرة، وهي ليست في المجلس العسكري بكل تأكيد.  

Tuesday, October 11, 2011

25 يناير و6 أكتوبر : روح واحدة د. علياء رافع

كان العبور معجزة، كما كانت ثورة يناير معجزة، والإعجاز هنا يعتمد على تلك الإرادة التي وحدت المقاتلين وووحدت الشعب نحو أهداف واحدة، ذابت فيها الأثرة، وتجلى فيها الإيثار، وعمر القلوب إيمان عميق يحفز على الإبداع والعمل والفكر، وينشر الأمل والبشر في النفوس في أحلك اللحظات. إنها معجزة لأنه لم يكن لها مقدمات راسخة.  في أكتوبر 73، كان عار النكسة محبطا لآمالنا، وسالبا ثقتنا في أنفسنا. ولذا عندما جاء العبور وإستطعنا أن نكسر خط بارليف الذي كان بمثابة حاجز جبلي رملي يبدو إستحالة تدميره، فإن الشعور بالفخر عاد مرة أخرى إلى أرواحنا.  وعندما خرج الشباب يوم 25 يناير، كان الكثيرون وأنا منهم نظن أنها مظاهرة ستنتهي كما حدث من قبل مع مظاهرات مثيلة، ولكن أن يخرج ملايين البشر في هذه القوة وهذا الهدير البشري مطالبين بتغيير النظام، فلقد أظهر هذا أن إستمرارية حياة الشعب المصري بهذه القوة معجزة.
بالنسبة للسادس من أكتوبر فإن الآمال والأحلام والتطلعات لعودة الحلم العربي مرة أخرى كانت قوية للغاية، ذلك أن هذا التضامن العربي هو الذي حقق النصر، ولعبت كل دولة عربية دورها بتناغم وتناسق في ظل سيمفونية واحدة، هل ينكر احد دور المملكة السعودية والدول العربية البترودولارية في إستخدام سلاح البترول، وهل نستطيع أن نغفل دور ليبيا في شراء خراطيم المياه التي إستخدمت في هدم الساتر الترابي، محاولة بذلك أن تخدع المصدر، وكان التناسق بين الجيوش العربية التي تقف على حدود إسرائيل رائعا. وهكذا. فجر العبور أملا في أن يعبر الشعب العربي من مرحلة التخلف إلى التقدم. وكانت تلك التجربة نموذجا مصغرا على إمكانية تحقيق هذا العبور.  ولكن مبادرة السادة للسلام المنفرد مع إسرائيل ضربت هذا الحلم في مقتل. وتفرق العرب مرة أخرى، وبغياب مصر عن محيطها العرب ووضعها المحوري، أمكن حدوث حروب عربية عربية، تجسدت في غزو العراق للكويت، ثم بعد ذلك تآزر العرب مع القوى الغربية الأمريكية على إستعادة الكويت، وإتاحة الفرصة لجيوش أجنبية للدخول والتمركز في بلادنا العربية.
 بينما نجد أنه على مستوى الداخل المصري فإن إختفاء العدو الإسرائيلي من الوعي المصري، أفقد القضية لفلسطينية الدعم الشعبي المطلوب ، كما خلق جوا من الفراغ الوطني، حيث تحول تحرير فلسطين من حلم قومي إلى قضية هامشية، ولم يعد هناك بديل لحلم قومي آخر. في هذا الجو المليء بالفراغ المعنوي والأيديولوجي، جاء حكم مبارك ليكمل الحلقة التي بدأها السادات.  للأسف فإن نصر أكتوبر الذي جسد روح التضحية والفداء تم إفراغه من مضمونه، وإجهاض الروح التي كان من الممكن أن تبني صفحة جديدة تماما في تاريخ العالم. ومضى ما يقرب من أربعين عاما، وهي أعوام تعيد ميلاد أي أمة من جديد. كتبت أقول في أحد مقالاتي، كيف سنتقابل مع شهداء حرب 73 الذين قدموا دماءهم من أجل مستقبل أفضل لكل المصريين. لقد خذلهم نظام مبارك، وقتلهم مرة أخرى لأنه لم يحافظ على روح العبور.  بل على العكس فإن هذا النظام أخذ ينفث سمومه القاتلة حتي يحطم إرادة هذا الشعب، ويجعله في يأس مطلق، ومن ثم في إستسلام كامل لطغيانه. وفي اللحظات التي ظننا فيها أننا نقرأ المستبقل، إن غدا واضح المعالم، يجي الإبن ليأخذ مكان الأب، ويستمر النظام في سيطرته وإستبداده. في لحظات اليأس التي إنتابت الكثير منا، إذا بالشعب ينتفض إنتفاضة عظيمة، وتبعث فيه الروح التي ظن النظام أنه قتلها.  
نزلت غشاوة سميكة على الحاكم الظالم لم ير فيها أن إنتفاضة هذا الشعب العظيم أصيلة وحقيقية، ظن أنه أكبر من أن يخشى بعضا من هؤلاء المتمردين، وأن ترسانته البوليسية قادرة على قمعهم وإرهابهم. ولو أنه أدرك في تلك الحظات أن الأمر جد وما هو بالهزل، لكان تصرفه مختلفا تماما، ولتدارك الموقف، وحاول أن يتراضي مع الشعب الثائر من أول لحظة، منذ خروجه معبرا عن غضبه يوم 25 يناير.
ولم يكن 25 يناير إلا ومضة، وبداية لثورة هائلة عظيمة وقوية وهادرة. وبعد مضي تسعة شهور وعدد من الأيام على هذه الثورة، نجد أننا نسير في إجهاضها، كما حدث لإنتصار 6 أكتوبر. ويرجع ذلك إلى أن القيادات التي قدر لها أن تحكم هذا البلد لم تستطع حتي هذه اللحظة أن تستوعب ما حدث، فهي تتعامل كما لو كان الأمر المطلوب هو إصلاحات عجزت عن تنفيذها القيادات السابقة، وتسير في خط التغير إنطلاقا من هذه الرؤية، متبعة نفس أسلوب الحكم السابق وفلسفته، متجاهلة أن هناك ثورة حقيقية قد أحدثت تغييرا جذريا، ليس فقط عندما خلعت رئيسا وأجبرته على التخلي عن مهام رئاسته، ولكن لأن أهدافها كانت واضحة وصريحة، نادت بالحرية والكرامة الإنسانية، أرادت نظاما  لا يقهر، ولا يخرج العصا والجزرة تبعا لتكتيكاته، حتي يكسب موقف حينا، أو يفرض سياسته حينا آخر.  
أنا لا أخشى على الثورة الأنتكاس، لأنني على ثقة أن هذا الشعب العظيم قد عادت إليه روحه مرة أخرى، ولن تموت هذه الروح بسهولة، ولكنني أخشى على هذا الشعب من الفتنة، وقد إختلطت الأمور، وغابت الرؤية، وإنفض الجمع والتألف الذي نصر هذه الثورة. لقد تخطت مرحلة النضال في هذه الثورة ما يحدث من تجمعات هنا، وهناك، ينبغي أن تكون ثورة في عقول النخبة والشباب الذين قاموا بالثورة. إننا في حاجة إلى تآلف كل القوى السياسية في كتلة موحدة ترسم الخطوات القادمة التي تخدم معنى الثورة، أي تتوجه إلى تغيير كامل في فلسفة وأسس الحكم الذي قام عليه النظام السابق.
والسؤال هو: كيف يمكن أن يتحول هذا إلى سياسة على أرض الواقع؟
ليست لدي الإجابة الواضحة، ولكن ينبغي أن يكون وراء أي قرار يؤخد مبدأ أخلاقي واضح المعالم، فمثلا عندما تصور البعض أن الإجابة "نعم" على قبول التعديلات الدستورية، سيسرع بخروج المجلس العسكري من الحكم، فإن هذا الإختيار لم يكن متمشيا مع منطق الثورة، ولهذا أدت نتيجة هذا الإستفتاء إلى ما نحن عليه الآن. بل وأقول أنه عندما قبل الشعب أن يكون هناك إستفتاء على "تعديلات" ، فإن هذا في حد ذاته يعتبر تراجع عن معنى قيام ثورة. لأن سقوط الدستور القديم (وليس تعديله) هو الرمز الوحيد على أن هناك ثورة قد قامت، والتخلي عن هذا الرمز ودلالاته، يعني أن هناك تخليا عن "الثورة".
ولكن هل نستطيع أن نعيد الأيام مرة أخرى، بالطبع لا، ولكن ما يمكن أن نتمسك به اليوم، هو عدم إتخاذ أي قرارات قائمة على مجرد محاولة التخلص من الحكم العسكري، إنما يجب أن يكون إنتهاء هذا الحكم مبنيا على خطوات تتمشى مع منطق الثورة.  ليس مقبولا التجاوزات التي تحدث على مسمع ومرأي الشعب والعالم فيما يتعلق بالإعتقالات المتوالية، وإستمرار قانون الطواريء، وتوجيه الإعلام بشكل فاضح، وتهديد الإعلام المستقل.
في المقالة السابقة أشرت إلى ضرورة ظهور قيادة، وقد لا تكون القيادة المطلوبة شخصا واحدا، وإنما قد تكون القيادة التي نحتاجها في تلك الحظات الحاسمة قيادة جماعية تتألف من النخبة والقوى السياسية، لتحمل على أكتافها عبء هذه المرحلة الهامة من تاريخ الوطن. وتتجه بكل الطرق الممكنة التي تؤهلنا لتشكيل هيئة تأسيسية وطنية تجمع كل فئات الشعب من أجل تشكيل دستور يعبر عن آمال هذا الشعب في هذه المرحلة. لست أطرح هنا قضية الإنتخابات أولا أم الدستور أولا، بل أضع كتابة الدستور هدفا أوليا ضروريا، قد تكون الإنتخابات النيابية وسيلة لتحقيقه، ولذا يكون الإنتباه إلى كل ما يضمن نزاهة الإنتخابات، وآليات الترشيح هي المعبر كي يجيء مجلس شعب معبرا عن إرادة الأمة، وهذه هي مسئولية القيادة الشعبية التي أتحدث عنها، والتي قد تكون فردا أو جماعة. إنها قيادة لا تستهدف القوة والحكم، وإنما تعرف دورها في هذه الفترة الحرجة، ويجتمع عليها الناس جميعا.
إذا كان هذا يبدو مستحيلا، فليس هناك في ذهني أو فكري بديل آخر يستطيع إدراكي أن يصل إليه، ولكن عندما يصل الإنسان إلى منتهى العجز، فإنه يترك الأمور إلى القادر القاهر، لعله يلهمنا ما فيه خيرنا.  ولكن في كل الأحوال فإن الأمل أن  تظل روح يناير وضاءة قوية أمل لا يغيب، لأنه الله الذي أظهر هذه المعجزة، قادر على أن يلهمنا الطريق لإستكمال المسيرة بعونه وإرادته، فهو نعم المولى ونعم النصير. 

Tuesday, September 27, 2011

أين قائد الثورة المصرية؟ د. علياء رافع


كانت ثورة 25 يناير ثورة بدون قيادة مركزية، وكان البطل فيها الشعب بأكمله. كانت الأهداف واضحة وصريحة، "إسقاط النظام"  بكل ما تحمله هذه الكمة من معاني وتداعيات. وإلى الآن لم يتغير النظام، لقد إختفت القيادة القديمة ممثلة في أسرة حاكمة، وليس فردا واحدا، وجاءت القيادة الجديدة متمثلة في المجلس العسكري وليس قائدا واحدا، وحكومة تم تأييد رئيسها من ميدان التحرير. وهناك فرق أن يكون رئيس الوزراء إنسان أمين نزيه ووطني، وأن يكون قائدا قادرا على فهم متطلبات المرحلة الحالية، أي أن يسير بالثورة نحو تحقيق أهدافها. خابت الآمال في د. عصام شرف، لأنه لم يستطع أن يسير بنفس الخطو والقوة التي أعطتها له جماهير الثورة.
أما المجلس العسكري، فحدث ولا حرج، قد تكون النية طيبة في خدمة الوطن، ولكن تولي أمور البلاد لا يكون بالنيات، وإنما يكون بالأفعال، وبما يتم على أرض الواقع. من الواضح أن الشعب والمجلس العسكري قد إشتركا في هدف واحد، وهو إزاحة رأس الدولة عن الحكم، ولكن لم يستطع المجلس حتى الآن أن يكون قائدا لهذه الثورة، لأنه لا يحقق أهدافها. ولا يكفي التغيرات التي حدثت من إسقاط المجالس النيابية، وحل المجالس المحلية، والتغييرات الوزارية المتوالية لأننا إذا نظرنا إلى هذا التغيرات لأدركنا، أنها تتم في نفس إطار تغيير الوجوه، وبقاء النظام. 
المقصود ببقاء النظام، ليس مجرد أن يكون القائمون على الأمر من الحزب الوطني، أو من الموالين لحكم مبارك، ولكن من يحملون نفس العقلية في الإدارة والرؤية. إن هذا يذكرنا بما كان يحدث لنا في الماضي، دعوة إلى الديمقراطية، وإذا  بالديمقراطية تختزل إلى صرخات يطلقها المعارضون هناك وهناك في وسائل الإعلام، ولكن فليصرخ من يصرخ، ويظل الأمر على ما هو عليه على الأرض. واليوم فليذهب إلى ميدان التحرير من يذهب، وليظل الأمر على ما هو عليه أيضا. إستجابة من هنا، وقضاء عليها من هناك.
وأما المرشحون لرئاسة الجمهورية، فلا يوجد إجماع شعبي على شخصية من هذه الشخصيات، وعلى الرغم من قناعتي الشخصية أن د.محمد البرادعي هو أصلح من يتولى قيادة المسيرة، ولكن نجح النظام السابق في تشويه صورته، بحيث أصبح إزالة ما علق بالأذهان في حاجة إلى جهد يفوق قدرة أي حملة إنتخابية أو شعبية. وفي نفس الوقت فإن تصريحات د. البرادعي تخرج متقطعة وبعيدة بعضها عن البعض، بحيث تختفي كلماته سريعا ولا تؤتي الأثر المطلوب.
ولكن الأدهي والأمر ظهور الإنقسام في الشارع السياسي، وإستشراء الفتن، وهناك فرق بين الإنقسام الخبيث، والإختلاف الحميد. يمكن أن تختلف الرؤي في ظل أهداف واحدة، ولكن الإنقسام الخبيث هو أن يقف فريق ضد فريق، يهاجمه ويحاول أن يقضي عليه في مقابل الحصول على مكاسب سياسية، أو ضمن خطة ما، قد يكون وراءها جهة ما. وعلى الرغم من أنني أكره منطق المؤامرة ، إلا أن هذا الغموض الذي يكتنف المناخ السياسي، يقبل أي تفسير.  ما معنى أن يخرج السلفيون مطالبون بتطبيق الشريعة الإسلامية؟ إن هذا يخرج الموقف السياسي كله عن هدفه، ويسير بنا إلى مناطق غامضة من الخوف من المجهول.
أولا: لا يوجد من يقف ضد مباديء الشريعة، حتي المسيحيين أنفسهم لا يعارضون، ولكن يكون الإختلاف في كيف ستطبق الشريعة، وهذا الإختلاف صحي، طالما أنه يتجه لمصلحة الوطن، و لايتعارض من العقلاء من فقهاء ظهروا على مر العصور أخرجوا "فقه المقاصد" ، وفقه المصالح المرسلة. لماذا إذن هذا الضجيج غير المفهوم؟
ثانيا: هل من مصلحة مصر أن تظهر للعالم أنها ستكون صورة مكررة من إيران أو طالبان أو أي من الدول الإسلامية ذات النظم الشمولية المتشددة؟  إن شخصية مصر التي ظهر فيها التدين والإيمان كأساس لقيام حضارة عظيمة، لا تقبل هذا التدين الشكلي الظاهري المتشدد، والذي يفرق ولا يجمع.
عندما قامت الثورة كان أحد أسباب قوتها هو أنه لم تكن هناك قيادة مركزية في شخصية محورية، ولهذا صعب على النظام السابق أن يتصدي لها أو يقضي عليها، ولكن بعد مرور ثمانية أشهر على هذه الثورة، فإن الفشل في ظهور قيادة شعبية، يتجمع حولها الشعب أصبح مهددا لقدرتها على الإستمرار. وأتمنى أن يخرج د. البرادعي من صومعته إلى الميدان، لا أقصد أن يكون متواجدا بجسده في أي مظاهرة، ولكن ليعود مرة أخرى إلى الضوء، وبحسه المرهف الذي إستطاع به أن يقوم بالمبادرة الأولى في طلب إسقاط النظام، يمكن اليوم برؤيته الحكيمة أن يعيد الأمور إلى مسارها الطبيعي. إنه الشخصية التي يمكن أن تقود مصر في الوقت الراهن من هذا التخبط إلى بر الأمام، لأنه شخصية مصرية أصيلة إنبثقت جذورها من أرض هذا الوطن، تميزت بالشجاعة التي ظهرت جلية في مجلس الأمن ليعلن هذا الرجل بكل قوة ضد كل المعلومات الإستخبارية الملفقة أن العراق بلد خالي من أسلحة الدمار الشامل. وهو مسلم ملتزم دون تعصب، ومفكر ليبرالي دون تحلل، وذي فلسفة إنسانية تتراحم مع الضعفاء والفقراء دون تطرف يساري.     
لن تتخلى مصر عن شخصيتها الإسلامية، ولكنها شخصية متميزة لأنه تتمتع بالتوازن بين التمسك بالدين، وبين سماحة الإسلام في تقبل الآخر وعندم أقصائه. ولن تتخلى مصر عن تاريخها الحضاري الذي هو حلقة متصلة متواصلة من تراكم ثقافي تفاعل مع الثقافات الأخرى وإمتزج معها، وأعاد صياغتها لتتلاءم مع شخصيتها. ومصر المسيحية هي نسيج تاريخي لا يمكن فصله عن تيار الشخصية المصرية. لقد إستشهد المصريون في عصر دقلدنيوس حتى يحافظوا على دينهم وشخصيتهم وبلدهم. إن القيادة المصرية يجب أن تكون مستوعبة لهذا التاريخ الفريد لمصر، قادرة على التواصل معه وأزالة الغبارعنه، وفي نفس الوقت قادرة على إستيعاب متغيرات العصر وأهميتها للنهضة المصرية. 
أما من يعبرون عن التيار الديني الإسلامي فإن لديهم قبول في الشارع المصري بين الملتزمين دينيا، ولكن هناك تحفظات كثيرة لا يحيط بها إلا من درس تاريخ الحركة الوهابية، وحركة الإخوان المسلمين تفصيلا. إن حازم أبو إسماعيل بفكره السلفي غير قادر على أن يتفاعل مع متطلبات العصر الحديث. وعلى الرغم من منطقه المحكم، وشخصيته القوية، إلا أن سيسير بنا في خط متشابه مع البلاد الخليجية، التي لا يتلاءم فكرها السياسي والحضاري مع الفكر السياسي في مصر. وأما عبد المنعم أبوالفتوح فإن شخصية متوازنة، ومتفتحة ورصينة، ولكن إنتماء د. عبد المنعم أبو الفتوح  إلى فكر حسن البنا، دون إعلان صريح بنقاط الإختلاف والإتفاق، يجعلنا في تخوف مما ستحمله لنا الأيام إذا تولى مقاليد الحكم. ذلك أن الإخوان المسلمين يرون أن الخلافة الإسلامية هي الأمل وفيها الخلاص. وهذا الفكر لا يتناسب مع العصر، ولن يجرنا إلا إلى أحلام تطير في الهوء دون أن يكون لها أساس أو قبول على أرض الواقع. هذا بالإضافة إلى أن فكر البنا إقصائي إلى أبعد الحدود، إذ يرى أن الإسلام والقومية الإسلامية شيء واحد ومتداخل، وهو مايفصل المسلمين عن العالم، لأن الإسلام أوسع كثيرا ممن يحملون إسمه، وصدق الشيخ محمد عبده عندما قال ما معناه أنه رأي في الغرب إسلام بدون مسلمين، ورأي في الشرق مسلمين دون إسلام، مشيرا إلى أن الإسلام ليس مجرد شكل، وإنما هو خلق ومباديء تتحرك على أرض الواقع.
وأما باقي المرشحين، فلعل حمدين صباحي هو أبرزهم قدرة على التواصل مع الناس، ولا غرابة أن يكون شعار حملته"واحد من الناس"، وهو يجتهد في أن يجمع حوله كوكبة من المستشارين الأكفاء كي يضع برنامجا إنتخابيا، قائما على دراسات جادة ورؤية واضحة. ويبقي بعد ذلك المستشار هشام البسطاويسي بنزاهته وشجاعته وماضية المشرف، وهو يجتهد كثيرا في الطريقة التي يقدم بها نفسه إلى الناس، ومن الواضح أن تطور شخصيته في خلال الفترة السابقة شهد قفزات في قدرته على التواصل وتعميق رؤيته للأمور. هذه هي أبرز الأسماء من وجهة نظري. من الذي سيأخذ القيادة، ولا أعني رئاسة الدولة.  قد نكون في إنتظار القائد الذي لم يظهر بعد، ولكن لا بد أن يظهر الآن، أو أن يأخذ د. البرادعي هذا الدور فورا ودون تباطؤ. لعل وعسى.  بدون قيادة نحن في خطر. 

Tuesday, September 20, 2011

هل حقا يمكن أن نشبه الليلة بالبارحة؟ د. علياء رافع


في يوم 25 يناير2011 تصادف نشر مقال لي أطلب فيه من رئيس الجمهورية أن يقوم بالتغيير الجذري بنفسه، محذرة من أن البديل قد يكون ثورة تنتشر بعدها الفوضي. ولكن كانت الثورة رائعة وعظيمة، قادها شعب مصر كله، ولأول مرة في التاريخ البشري المعروف تقوم ثورة دون قيادة ودون زعيم ودون أيديولوجية. ولقد عجل تآزر الجيش مع الشعب في القضاء على رأس النظام.
واليوم بعد مرورثمانية أشهر على هذا الحدث العظيم، أجد أن المخاوف التي كنت أحذر منها أصبحت واقعا نعيشه، ولكن ليس بسبب الثورة، وإنما بسبب من يحكمون البلاد. بعد قليل من قيام الثورة كتبت عن غصة الفرحة، ولكن هذه الغصة تزداد مرارة، وتتراجع الفرحة، وأرجو ألا يتصور قارئي أنني متشائمة، بل إنني متفائلة وأوكد ذلك قبل أن أكمل حديثي، لأن تفاؤلي نابع من إيمان عميق بقدرة الله سبحانه وتعالي الذي جعل هذا الشعب ينتفض بعد أن ظننا أنه مات، وكانت رعاية الله ظاهرة قوية، ولا أحسبها تخفي إلا على أعمي، وثانيا لأن ماحدث يوم 25 يناير تاريخ جديد في حياة مصر – بل أكاد لا أكون مبالغة إذا قلت وفي تاريخ البشرية، ولن يمكن أن تعود الأيام القهقرى أبدا، ولن يفلح أي إرهاب في إسكات هذا الشعب. والذي بعث الحياة لن يأخذها من هذا الشعب.
لماذا الغصة إذن؟ لأن حكامنا يأبون أن تسير الثورة في مسارها الطبيعي منذ أول يوم، منذ رفض المجلس إقالة وزارة شفيق وأصر تعديلات دستورية، بدلا من البدء فورا بتكوين جمعية تأسيسية لكتابة دستور جديد، غير مدركين هذه السياسات لاتتمشى مع منطق ثورة. ومازالت الخطوات تسير في هذا النهج، وتتوالى الأسئلة الحائرة على أذهان أبناء هذا الوطن دون مجيب. 
وعندما بعث لي صديق خطابا إلكترونيا مصحوبا بمقتطفات من عناوين الصحف التي صدرت إبان ثورة 52، لم أصدق هذا التشابه بل التطابق في بعض الأحيان بين عناوين الأمس واليوم: "محاكمة من إستغلوا نفوذهم وأفسدوا الحياة السياسية " (الأهرام 22 ديسبمر 1952) "عبد الناصر يحذر من قوى الثورة المضادة".هل قضت محاكمة مفسدي ما قبل 52 على الفساد، وهل ستقضي محاكمة مفسدي ما قبل 25 يناير على الفساد؟  ألا يحذر الجيش اليوم من قوى الثورة المضادة أيضا، والأموال والأسلحة التي تتسرب من الخارج، وتصبح "الثورة المضادة" كلمة قد تشمل القوى الوطنية التي قامت بالثورة مثلما حدث مع حركة 6 إبريل. "الجيش والشعب جبهة واحدة متراصة" هذه عنوان قديم، وهذا هو أيضا التأكيد الذي يتحدث به كل من يوجه إليه إنتقاد من المجلس، لأنه سرعان ما يقول أن الجيش هو الذي وقف بجانب الشعب، ومع إختلاف الموقف أمس واليوم بين دور الجيش والشعب، إلا أن النغمة قد تغيرت حيث كانت البداية هي التعظيم للثورة والشعب والشهداء، ثم أصبح الجيش صاحب فضل على الثورة، بدونه ماكان يمكن تنجح.، هذه التصريحات تعود بنا إلى إنقلاب مجلس قيادة الثورة على محمد نجيب الذي وضع في الصورة أولا ممثلا الثورة، ثم بعد ذلك تم تجنبه، وهانحن أمام نفس التكتيك، حيث كان الشعب هو البطل، ثم بعد ذلك  أصبح الجيش هو قائد الثورة، وأصبحت إرادة الشعب وكرامته كلمات دون مدلول واقعي، وذلك مع الإعتقال المستمر ومحاكمة المدنيين محاكمة عسكرية، ومع إشاعة فكرة الأجندات الخارجية، والإنهيار الإقتصادي، وقوى الثورة المضادة، والفوضى والبلطجة.  كل هذه عمل على خلط الحابل بالنابل، وبلبلة الرأي العام، والعمل على تقسيمه، وزرع كراهية الثوار.
في الأيام الماضية، جاء مانشيب يقول " حل مجلس الشعب يوم 24 يوليو وتسليم البلاد لممثلي الشعب"  "لاحرمان من الحقوق السياسية حتى لا تتأثر حرية الإنتخابات". ومع ذلك تم التخلص من الأحزاب السياسية، وحل جمعية الإخوان المسلمين.  الموقف اليوم يختلف قليلا أو كثيرا، ولكنه في غاية الخطورة، قانون الأحزاب غير متفق عليه حتى كتابة هذه السطور، إظهار صعوبة السيطرة على أعمال البلطجة، عدم قبول رقابة دولية على الإنتخابات، عدم وجود خارطة طريق واضحة المعالم. كل هذه الأمور تجعلنا نخشى أن يكون الماضي قد أعاد نفسه.
وصدر إعلان دستوري رائع  بعد ثورة 1952، وصدر إعلان دستوري في البيان الثالث بعد ثورة 25 يناير، تلاه إعلان دستوري بعد الإستفتاء بدا كأنه إحياء للدستور القديم مع تغييرات طفيفة، وتعديلات أدخلت عليه، وهي تلك التي عرضت في الإستفتاء.وأعطي الإعلان الدستوري مجلس قيادة الثورة سلطة مطلقة في إتخاذ القرارت حيث تقول  المادة الثامنة في الإعلان الدستوري القديم " يتولى قائد الثورة أعمال السيادة العليا وبصفة خاصة التدابير التي يراها ضرورية لحماية هذه الينة والنظام القائم عليها لتحقيق أهدافها وحق تعيين الوزراء وعزلهم"   ونحن أيضا نشهد اليوم دون نص صريح تمتع المجلس العسكري بسلطة مطلقة كذلك. ونجد في اعلان الدستور المؤقت الذي أصدره المجلس الأعلى بعد ثورة 25  يناير دون إجراء إستفتاء عليه أنه أعطي للمجلس العسكري الحاكم سلطات واسعة  مثل حريته المطلقة في إصدار التشريعات، والقوانين، وهذا وحده يسحب السجادة من الإرادة الشعبية بالكامل. ويجوز له كذلك تعيين رئيس الوزراء والوزراء وعزلهم، وقد يكون هذا حق ضرورى في فترة إنتقالية، ولكن لم يضع الإعلان أي ضوابط لعزل رئيس الوزراء أو الوزراء، إلا مقولة فضفاضة بالقول بما يتمشى مع القانون، في الوقت الذي يملك المجلس نفسه المقدرة على تغييره، وسن قوانين كما يشاء.
 وأما بالنسبة للدستور فقد أصدر مجلس قيادة الثورة قرارا يقضي بإتخاذ الإجراءات لعقد جمعية تأسيسية تنتخب عن طريق الإقتراع العام المباشر على أن تجتمع في خلال شهر يويو 1954 ويكون لها مهمتان، الأولى مناقشة مشروع الدستور الجيد وإقراره، والثانية القيام بمهمة البرلمان إلى الوقت الذي يتم فيه عقد البرلمان وفقا لأحكام الدستور الذي ستقره الجمعية التأسيسية.  وقرر المجلس أن تلغي الأحكام العرفية قبل إجراء إنتخابات الجمعية التأسيسية بشهر كما قرر إلغاء الرقابة على الصحافة والنشر صدر هذا البيان في 5 مارس 1954 ويصرح الرئيس محمد نجيب أن الجمعية التأسيسية تنتخب من تراه صالحا لرياسة الجمهوربة، ويقول نريد لمصر أحزاب حقيقية ترتكز إلى المباديء والأهداف. ولا شك أن هذه القرار أفضل كثيرا مما نواجهه اليوم، من تكوين جمعية تأسيسية بعد إنتخابات مجلسي الشعب والشورى، ووضع ضوابط تأسيسها من داخل المجلس، وهو ما سينحرف بمسار الثورة إنحرافا كبيرا، إذ يعطي لمجالس نيابية إنتخبت في ظروف إستثنائية، وقد لا تكون معبرة تعبيرا حقيقيا عن الإرادة الشعبية قوة التحكم في مصير مصر لسنوات مقبلة.  هل سيؤدي هذا إلى الإستقرار؟ أم إلى الإحتقان؟ ولماذا خلق هذه الإنقسامات بصورة مستمرة. هل المستهدف أن نصرخ طالبين القبضة الحديدية لحكم عسكري جديد؟ لقد بدأت بالفعل بعض الأصوت تظهر على إستحياء، ولكن قد تعلو بعد ذلك تطالب بإحكام قبضة المجلس العسكري على الأمور. وفي الوقت نفسه فإن أي قوى وطنية أو صوت ينتقد ما يحدث يصبح صوتا يعمل على الوقيعة بين الشعب والجيش. لو كان الجيش قد إستجاب لمطالب الثورة وتعامل معها على أنها ثورة منذ اليوم الأول لنال شرفا لم  يكن لينله جيش من قبل، ولدخل التاريخ مكرما مبجلا، ولكان من الممكن أن يعلو صوت الشعب مطالبا شخصيات محترمة من الجيش أن تتولي الرئاسة في فترة محدودة. لماذا لم يحسن المجلس إستخدام هذا الحدث التاريخي لصالح البلاد، ومن ثم لصالحه؟.
على الرغم من تشابه السياسات بين مجلس قيادة الثورة أمس والمجلس العسكري اليوم، إلا أن الماضي لا يعود ولن يعود، وهذا يقيني وإيماني. وأتمنى من أعماق قلبي وأدعو الله صادقة أن يلهم المجلس الأعلى سياسات راشدة، متجاوبة مع آمال وطموحات هذا الشعب العظيم، وألا يضعنا في هذا المأزق الصعب بين الأمل واليأس، لأن هذا التذبذب يسبب الإحباط، وهو ليس في صالح شعبنا الذي كسر حاجز الخوف، ولا في صالح هذا الوطن، نريد أن يتصرف المجلس العسكري بحكمة لأننا في حاجة إلى القوات المسلحة بشدة، فهي صمام الأمن والأمان لهذا البلد.