Tuesday, August 23, 2011

قضية أسماء محفوظ وأزمة الحرية د. علياء رافع


أخذت أستعيد ما حدث في ثورة الخامس والعشرين من خلال ما كتبت، وما كتب آخرون عن هذه الثورة، وبينما كنت أتصفح مقالا للدكتور عماد جاد في كتاب عن ثورة 25 يناير صادرا عن مركز الدراسات السياسية والإستراتيجية، أدهشني أن إدارة ما كان يحدث أثناء الثورة يتماثل إلى حد كبير مع إدارة ما يحدث الآن.
بعد سبعة أشهر من هذا الحدث الزلزال، الذي جمع المصريين حول هدف واحد "إسقاط النظام"،  نجد أن ما تحقق على الأرض كثير. ولكن الإنقسامات في الشارع المصري تراكمت وتفاقمت منذ أن أعلن المجلس العسكري تصميمه على تعديلات  لدستور فقد شرعيته بقيام الثورة،  وكان الإصرار على الإستفتاء على تلك التعديلات بداية لإنقسام واسع في الشارع المصري، والأدهش من ذلك أن أحد أعضاء المجلس العسكري وهو اللواء حسن الرويني إعتبر أن نتيجة الإستفتاء التي خرجت بالموافقة على التعديلات كانت تعبيرا عن تأييد الشعب لتولى المجلس الأعلى العسكري مقاليد البلاد. وهذه العبارة على قدر غموضها، فهي عبارة في غاية الخطورة، لأن الجيش عندما ساند الثورة وحماها، فإن الشعب كله هتف قائلا "الشعب والجيش إيد واحدة"، وأتصور أن المجلس العسكري كان يمكن أن تجتاج شعبيته الأفاق إذا ما كان أكثر تلبية لمطالب الثورة من اليوم الأول، وبدءا من إقالة وزارة حلفت اليمين أمام رئيس مخلوع. وما يزعج المرء بحق أن اللواء الرويني أكد أن الجيش لم يكن مجرد حاميا للثورة، وإنما هو السلطة السيادية التي شاركت فيها. ووقفت أمام هذه العبارة طويلا، وأدركت  مغزاها أخيرا أن الرويني يريد أن يقول "إتركوا الجيش يحكم بما يرى أنه في صالح البلاد دون تدخل" ، وهي عبارة تتناغم  مع الطلب المستمر بالثقة في المجلس الأعلى العسكري وعدم التشكيك فيه. ويعيدنا هذا إلى تذكر تلك الوصاية الأبوية التي كنا نعاني منها في عهد مبارك، وأنه رمز الأمة، ولا يجوز أن يوجه إليه أي نقد. وعلى نفس الغرار فإن أي نقد يوجه إلى ممارسات المجلس الأعلى، فإنه يؤخد على أنه نقد موجه إلى القوات المسلحة بأكملها. بهذا المنطق الترويعي، فإن أي نقد يصبح خارجا عن نطاق المسموح به.
وأما على مستوى القوى السياسية، فلقد تفتت الشمل، وتعددت الأهداف وتصارعت وتناقضت. وفي خضم هذا الصراع السياسي، حدثت بلبلة في تقييم ما يحدث على مستوى  الشارع المصري، وتصور البعض أن المعتصمين في ماسبيرو أولا ثم التحرير بعد ذلك فريق يريد أن يحدث فوضى. ولم يلتفت هؤلاء إلى أن التباطؤ في محاكمة المسئولين عن أحداث 28 يناير وقتل المتظاهرين لم تأخذ العناية الواجبة، وبالتالي فإن أهل الشهداء قرروا أن يعتصموا في ماسبيرو أولا، ثم تحركوا إلى التحرير بعد أحداث 28 يونيو المؤسفة عندما إختلط البلطجية بالأهالي، وقاموا بأعمال عنف، قد تكون بطبيعتها قد أدت إلى إثارة مشاعر المعتصمين والمتظاهرين، ودفعتهم إلى هتافات مضادة للإدارة العسكرية، والتظاهر أمام وزارة الداخلية. وقوبل هذا بعنف من الشرطة التي ظهرت بكثافة وإستخدمت القنابل المسيلة للدموع، ويقال أنه كان هناك إستخدام أيضا للأعيرة المطاطية، وتم إعتقال أعداد كبيرة من المتواجدين في هذا المكان. وقام الإعلام بدوره المعهود في توجيه الرأي العام ضد هؤلاء المعتصمين الذين قيل عنهم أنهم مثيرو الشغب والفوضى.  ثم جاء التحرك نحو وزارة الدفاع في 22 و 23 يوليو لتحفيز المجلس العسكري الحاكم للإستجابة لمطالب الثورة عامة، ولأهالي الشهداء على وجه خاص. ووجد المتظاهرين أنفسهم محاصرين في العباسية عند مسجد النور بين صفوف من الشرطة العسكرية وقفت حاجزا حتي لا يتموا مسيرتهم إلى الوزارة، وبين الأمن المركزي، بينما أخذ أهالي العباسية وبعض البلطجية في ضرب المتظاهرين من أعالي العمارات بالملتوف والطوب. وتضاربت الأقوال والروايات مما زاد البلبلة وضبابية الرؤية. وبلغ الأمر أن يتهم الرويني المتظاهرين أنهم كانوا مبيتي النية على إستخدام العنف.
وتطور الأمر مؤخرا عندما أصبح الجيش يقف في ميدان التحرير منعا لأي تجمع داخل الميدان، بينما تتواجد سيارات الأمن المركزي بأعداد غفيرة في صورة إستفزازية للغاية، وكأن هناك معركة ما توشك على الإندلاع، وذلك على الرغم من أنه على مدار السبع أشهر كلها، كان المتظاهرون سلميين, وأكثر من هذا فلقد أثبت الشعب المصري أنه على درجة عالية من التحضر والوعي، عندما تكونت تلك اللجان الشعبية بعد الفراغ الأمني المذهل والمروع بعد يوم 28 يناير لتحافظ على الأمن والإستقرار.  
لم تكن إسماء محفوظ بدعا من الشباب الذين تم القبض عليهم ومحاكمتهم محاكمة عسكرية، ولكن لأنها من الناشطات المعروفات، واللائي إرتبط إسمهن ببدايات الثورة، فإن إحالتها إلى المساءلة العسكرية، أشعل فتيلا من الغضب بين الشباب الثائر، إلى حد الإضراب عن الطعام.  ولكن ومع إختلافي في أسلوب أسماء في تعبيرها عن رأيها، فإن عقابها بأي صورة فيه تعدي على حرية الرأي، وإذا علمنا أن هناك آخرون كثيرون مجهولو العدد متعقلين أو مقبوض عليهم للمحاكمة، لأصبحت الحرية التي قامت من أجلها الثورة كلمة جوفاء لا معنى لها في هذا المجتمع الذي يجذبنا بشدة إلى حال ما قبل الثورة، ولكن هيهات.  
وأخير جاءت إلينا أحداث سيناء لتوجه النظر إلى خطورة وجود عدو متربص بنا، مازال الموقف غامضا، ولكن أشعر أن هناك تصعيدا لهذا الحدث، مما سيؤثر سلبا على الإنتباه والتركيز في الإنتخابات القادمة.
يجعلنا الجو العام بصورة مباشرة أو غير مباشرة نقارن بين ما كان يحدث قبل وبعد الثورة، إذن لماذا سالت هذه الدماء ؟ ولماذا كانت هناك ثورة؟  ما لا يستوعبه الكثيرون، خاصة من يديرون شئون البلاد أن ثورة 25 يناير بداية لروح جديدة بعثت في مصر،  ويوم فارق لما قبله. ولن يمكن السيطرة على هذا الشعب مرة أخرى. وحتى مع تلك الفرقة والشتات، فإن إستمرار سياسة الجزرة والعصي ستكشف للناس كما كشفت من قبل إن ما يريده الشعب حرية وديمقراطية حقيقية وليست شعارات وهمية، ومهادنة من هنا وضرب وترويع من هناك.
لم يكن ما قالته أسماء في التويتر سوى تعبير عن وجهة نظر، وليس تحريضا بأي معنى من المعاني، كما أن كلماتها التي نددت في بالمجلس العسكري أثناء موقعة العباسية، خرجت في  لحظة حرجة، وهي ترى حياتها وحياة المتظاهرين في خطر. ولا نفهم لماذا هذاالحصار لمتظاهرين سلميين، وتحويل المشهد كله إلى إشتراك في تراشق بالحجارة. إن تصريحات اللواء الرويني وإتهام حركة 6 إبريل بأنها تعمل على إثارة الفتنة بين الشعب والجيش، فيه إفتراء على حركة وطنية إستطاعت أن تقف في وجه الطغيان في أحلك اللحظات، وهو ما يجعلني أتمنى أن يكون رأيه معبرا عن نفسه، وليس عن باقي أعضاء المجلس العسكري، فهو يذكرنا تماما بنفس الأسلوب الذي تعودنا عليه قبلا.
عندما إنتهيت من قراء ما كتب د. عماد جاد، وجدت أنه فصل يمكن أن يكتب اليوم عما يحدث بالفعل الآن: التهوين من قوة المتظاهرين- تكليف القوات الأمنية بالتعامل معهم (القبض عليهم على أنهم مثيرون للشغب وأنهم بطلجية) – إستخدام نظرية المؤامرة (تلقي أموال من الخارج – إنهيار المتظاهرين الخلقي – أنظر قصة الروينى على المعتصمين في ميدان التحرير) – ترويع الشعب بمختلف الوسائل (الإدعاء أن الإنهيار الإقتصادي تراجع السياحة نتاج للمظاهرات – الفتن الطائفية المتوالية التي أقل ما يقال بشأنها أن هناك تخاذلا أمنيا في إحتوائها) - تضارب بين تصريحات الشخصيات العسكرية داخل المجلس العسكري، بين من نشعر أنه يؤيد الثورة بحق، وبين من يشكك في وطنية أصحابها، وهو ما يجعلنا نشعر أن هناك صراعا ما غير منظور.  وأخيرا فيجب أن ندافع كلنا على حرية التعبير وحرية التظاهر  وأن ندفع بكل الطرق السلمية الممكنة نحو تحقيق أهداف الثورة، دون أن نطالب بإسقاط المجلس العسكري، ذلك أن البديل سيكون مريعا ومرعبا وفي غير صالح هذا الوطن. وأقول للواء الرويني أن من أسقط الدولة – ليسوا الثوار – ولكنه النظام السابق عندما سحب الأمن وأشعل الحرائق في كل مكان، وفتح السجون وأشعل الفوضى وترك الحدود بدون حراسة.  ولم تكن حركة 6 إبريل أو غيرها من الحركات الوطنية مسئولة عن هذا الإنهيار. حفظ الله مصر من كل سوء. 

Tuesday, August 16, 2011

الإخوان المسلمون : الأفكار والمواقف د. علياء رافع


دارت مناقشة حادة بيني وبين أحد الأكاديمين المرموقين عن الإخوان المسلمين والتيار الديني، كان هجومه ضد الإخوان شديدا، وكان موقفه مني غاضبا،  لأنني حاولت أن أفرق بين الفكر والموقف، بين السياسة والتدين، وبين تسييس الدين والدين بإعتباره منهج شامل لحياة الإنسان. ودهشت أن هذه التفرقة ليس واضحة في عقول الكثيرين، حتى بين هؤلاء الذين حصلوا على أعلى الدرجات العلمية.  
قام الإخوان المسلمين بخطوات إيجابية في نقدهم لفكرهم، وتطويره، وكثيرون منهم أقتربوا كثيرا من الفكر الليبرالي الحر، أو الإشتراكي المستنير على ما بين الإتجاهين من مسافة أيديولوجية واسعة. سنجد إخواني مثل د. عبد المنعم أبو الفتوح لا يتحرج من أن يطلق على نفسه أنه إخواني ليبرالي، وفي نفس الوقت يميل إلى ذلك الجانب الإنساني في الإشتراكية من حيث أنه يجد أنها تتفق مع الإسلام في إنحيازها للفقراء. هكذا حاولت أن أعبر عن رأيي،  وما كدت أنهي عبارتي، حتي قوبلت بقدر هائل من الهجوم على ما أقول، إذ أن صديقي العالم قد أغضبه أن أثني على هذا الإتجاه، وكأنني بذلك قد قمت بجريمة لا تغتفر. وكان ثائرا لأنه كان يرى أن الإخوان المسلمين لا يتحدثون بما يؤمنون به، وأن نيتهم غير خالصة، و.... و... وأخذ يعدد ويضرب الأمثلة بمواقفهم المتناقضة.
ولم أختلف معه كثيرا عن تلك المواقف المتناقضة، وكلنا يعلم ماذا فعل الإخوان عند الإستفتاء على التعديلات الدستورية، وكيف وزعوا بعض المواد التموينية في محاولة لإستمالة الجمهور لإختيار "نعم"، هذا بالإضافة إلى أن البعض منهم قد ربط في أذهان العامة علاقة غير حقيقية بين الموافقة على التعديلات وبين تأكيد أهمية مباديء الشريعة في إصدار قوانين البلاد. وفي الحقيقة أن مهما حاول البعض منهم إنكار هذه الممارسات، إلا أن الواقع يشهد بها.
وكذلك أتفقت مع محدثي فيما يتعلق بذلك البيان الذي أصدرته الجماعة قبل جمعة الغضب الثانية التي كان مقررا لها يوم 27 مايو الماضي، تلك التظاهرة التي  كانت تستهدف الإعتراض على بطء الإجراءات الخاصة بتحقيق أهداف الثورة وعلى رأسها محاكمة رموز النظام السابق. وبالفعل كانت مظاهرة مليونية إتسمت بالسلمية. ولكن بيان الإخوان كان إستفزازيا بالفعل إذ نص على أن  الدعوة على فعالية جديدة لا تعني إلا أحد أمرين، الأول أنها ثورة ضد الشعب أو أغلبيته الواضحة، والثاني أنها وقيعة بين الشعب وقواته المسلحة وقيادتها الممثلة في المجلس الأعلى. وبهذا البيان فإن قيادات الإخوان فصلت نفسها عن التيار الرئيسي للثورة، في محاولة واضحة للتودد للمجلس العسكري. وهو ما دعا البعض إلى تصور أن هناك إتفاق مبرم بين الجانبين. ولسنا في حاجة إلى الخوض في مثل هذه التكهنات لأنه لا يوجد دليل عليها. ولكن الواضح أن الإخوان كانوا يتطلعون إلى مكاسب سياسية على حساب التيار الثوري. لماذا أختلفت إذن مع صديقي؟
إنصب إختلافي على أننا يمكن أن نناقش الفكر مناقشة موضوعية خالصة، ومن ناحية أخرى، فعلينا أن ندرك أن كثيرين ممن ينتمون إلى هذا الجماعة قد توافقوا مع هذا الفكر، وهم يدعون إليه، وفي هذا مكسب ثقافي للمجتمع بشكل عام.  كنت أتحدث عن الفكر الذي يقدمه بعض الإخوان إنطلاقا مما يقولونه بالفعل من أنه ليس هناك دولة دينية في الإسلام، وأن التعامل مع النص هو تعامل إنساني، ولا يستطيع إنسان أيا ما كان موقعه أن يزعم أن رأيه أو رؤيته أو تفسيره لأي نص ديني إنما يعبر عن الإرادة والمقصد الإلهي. وأعتقد أن هذه القفزة على المستوى الفكري يمكن أن تشجع الكثيرين على التوافق مع الفكر "الديني" للإخوان، والذي أصبح يقترب إلى حد كبير مع فكر المستنيرين من رموز الفكر الإسلامي على مر العصور.
 ومن هنا تكون هذه الجماعة مثل أي جماعة سياسية أخرى نابعة من ثقافة هذا المجتمع  وتدينه وإحترامه للأديان عامة، وللإسلام خاصة متوافقة مع الفكر العام في الإتجاه نحو إحترام مباديء الشريعة الإسلامية. لأن هذا الإحترام لا يعني أن تستأثر جماعة بالقول أنها ذات مرجعية دينية، ولا تتخذ من غير المسلمين أعداء. وعلى الرغم من هذه الميزة المكتسبة للجماعة، إلا أنها في نفس الوقت تنزع تميزها، ذلك أن طبيعة المجتمع المصري ترفض بشدة أي إتجاه نحو إستبعاد المرجعية الدينية، وبالتالي فإن أي حزب لن ينكر أهمية مباديء الشريعة الإسلامية في صياغة الدستور، ومن ثم التشريعات القانونية، ويصبح الإختلاف في التعامل مع الفقه قديما وحديثا مصدر إثراء وتقدم، وليس مصدر تجمد وتخلف. وإنطلاقا من هذا التوجه تصبح النتيجة الطبيعية هي أن تذوب هذه الجماعة في الإطار العام للمجتمع، وتشترك في قواه الوطنية بإعتبارها أحد المكونات الفكرية (ليست بالضرورة متميزة على مستوى تمسكها بالإسلام لأن المجتمع كله يتمسك بالمرجعية الإسلامية)
وأعتقد أن أي حزب أو جماعة فكرية تريد أن تضع مباديء الشريعة جانبا وتنطلق فقط من التجربة الإنسانية كما هو الحال في تركيا مثلا، لن يكتب لها النجاح في المجتمع المصري، بل ولن يمكن أن تتكون أصلا. وحتى من يطلق عليهم أنهم علمانيون فإن نقدهم للتيار الديني ينصب على فكرة واحدة وهي أنهم لا يريدون أن يٌستخدم الدين في القضاء على الحرية الفكرية، أو يؤثر على حقوق المواطنة، وهم يخشون أن يكون هناك قمع خفي بإسم الدين، وهو ما حدث في الواقع في كثير من البلاد التي قالت إنها تتخذ من الشريعة مصدرا أساسيا للتشريع وتنظيم المجتمع مثل إيران، والسعودية والسودان، وباكستان. وسينكسر هذا التخوف عندما يصبح هناك مرونة دون تفريط في الإسترشاد بالمباديء الأساسية للشريعة، والإتجاه نحو تفهم المقاصد وراء الأحكام التي جاء بها النص، والتي لايمكن القول أنها قطعية الدلالة بشكل مطلق، خاصة عندما نخرج من النص إلى التطبيق.
أزعم أن كثيرين من شباب الإخوان قد إنجذبوا إلى هذه الصياغة المعدلة الواضحة من فكر الإخوان المسلمين، لأنها تتناسب مع التعددية الفكري حتى داخل إطار التفسيرات الدينية، ولأنها تتناسب مع طموح هذا الشباب إلى الحرية وعدم قهره فكريا. كذلك فإن هذا الموقف الفكري يضع الإخوان في إتجاه مخالف تماما لإتجاه السلفيين الذي يصرون على أن هناك أمورا واضحا وأحكاما قطعية بصورة مطلقة، ولا يقبلون أي تأويل أو تعديل في الفهم والتفسير والملاءمة بين الواقع المتغير المتزايد في تعقيداته، وبين النص. إذن من الممكن أن ينتشر الإخوان المسلمون على نطاق واسع في المجتمع المصري، ويصبحون قوة تساعد على حيوية الإختلاف الفقهي وقبوله. وقد يهيء لهم هذا الإنتشار الفكري قوة سياسية تدعم أحزابهم المتعددة. وفي هذه الحالة أستطيع أن أقول أنه لن يصبح هناك تخوف من أن تأخذ هذه الجماعة مركزا مرموقا في الإنتخابات القادمة، إذا هي التزمت بما تقول، ولكن هل ستلتزم؟  
يجيء التخوف مما ظهر من سلوكيات القيادة وإدارتها لمواقفها في هذه المرحلة، وهذا اللعب السياسي الذي ظهر يتناقض في الواقع مع خلق الإسلام ومبادئه، وبالتالي فإنه يمكن أن يهدد بتفسخ هذه الجماعة وتدهور شعبيتها. إذن أنا لم أختلف مع صديقي في أنه يجب أن نأخذ جانب الحذر عند التعامل مع جماعة الإخوان من المنظور السياسي، وذلك إنطلاقا من مواقفها المتناقضة مع ما تعلنه،  ولكنني إختلفت معه في أن نحكم على كل المنتسبين إليها بأنهم مراوغون.  
ولكن الأهم من ذلك كله أنه علينا أن نفرق بين "الفكر" ونكون موضوعيين في مناقشته، وبين ملاحظة سلوكيات جماعة سياسية والإلتفاف حولها أو الإنفضاض عنها. ويذكرنا هذا بالنظام السابق الذي كان يرفع شعارات الإنحياز إلى ذوي الدخل المحدود، بينما كل السياسات الإقتصادية والتعليمية والممارسات على أرض الواقع تغلق الطريق نحو حراك إجتماعي صاعد، ولهذا قامت الثورة، ليس ضد الشعارات المعلنة، ولكن ضد الممارسات القمعية. ولهذا فإن قيادات الإخوان تكون قد حفرت لنفسها طريق إنهيار الجماعة من داخلها، إذا ما إستمرت في هذا التناقض بين القول والفعل، لأن من سيؤمنون بالفكر الذي تقدمه الجماعة، سيدركون أن هناك خللا ما في تطبيقه عندما يغلب تسييس الدين على إتباع الصدق والشفافية والبحث الدائم عن الفهم الأفضل دون الإدعاء بالإمساك بالحقيقة المطلقة. لم أكن إذن مدافعة عن جماعة الإخوان بإعتبارها جماعة سياسية، ولكنني كنت أرحب بتغير فكري، كنت أتمنى أن تلتزم به الجماعة، وإذا إلتزمت به حقا لأعطت لنفسها مسمى آخر، لأنها لن تكون "جماعة الإخوان المسلمين" في مجتمع غالبته مسلمين، ومرجعية أفراد هذا المجتمع هو المباديء الأساسية للشريعة الإسلامية، وهي الشريعة التي لا تفرق بين مواطن وآخر على أساس الدين. إنها تلك المباديء التي قامت عليها حضارة عظيمة، والتي جعلت مكرم عبيد الوطني القبطي لا يتحرج من القول أنه مسيحي الديانة، ومسلم الثقافة. 

Tuesday, August 9, 2011

خلط الأوراق وخلط المفاهيم د. علياء رافع


لعل النفوس قد هدأت وهي ترى مبارك في المحكمة مع ولديه ومعاونيه، وثبت أن علانية المحاكمة إستطاعت أن تعطي للشعب المصري ثقة في أن الأمور تسير سيرها الصحيح. وعلى الرغم من ذلك فإن الطريق مازال طويلا حتي تحقق الثورة أهدافها. وقد ولد هذا المشهد التاريخي مشاعر متضاربة بين الجمهور المصري، وأشار إلى نبل هذا الشعب وطبيعته السمحة، إذ هزني أب من أباء الشهداء في برنامج آخر كلام وهو يقول أن نفسه قد إطمنت بعد رؤيته لمبارك في المحكمة، ولكنه إنسانيا لم يكن يود أن يراه مريضا. هكذا تجاوز هذا الأب ذاته الصغيرة، وتخلص من مشاعر الإنتقام، وفي نفس الوقت فهو لم ولن يتخلى عن قضية إبنه الذي قتل، وضرورة معاقبة الظالمين القتلي. وأحسب أن الكثيرين حتى ممن زج بهم مبارك في السجون، فإنهم يريدون أن يروا العدالة قائمة، ولكن ليس لديهم شماته، أو فرحة خفية وهم يرون ضعفه الفيزيقي والنفسي.
ولكن البعض خوفا من خلق أي نوع من التعاطف مع هذا القاتل أو هؤلاء القتلة، فإنهم يصرخون قائلين لا تنسوا كم التعذيب الذي رآه المصريون في المعتقلات والسجون، ولا تغفلوا عن الشهداء الذين قتلوا بغير ذنب إلا أنهم نادوا بالحرية والكرامة الإنسانية،  لاتنسوا أن هذا الرئيس إستكثر أن يكن لهؤلاء المواطنين  صوت يعلو فأمر بقتلهم. لا تنسوا إنسحاب الأمن المريب، وتحطيم السجون ليخرج المجرمون يرعبون الآمنين في خطة دنيئة لإضعاف المظاهرات. حقا يجب ألا ننسى تلك اللحظات الدامية، وهذا التاريخ الخانق.  ويجب كذلك ألا ننسى يوم 12 فبراير حيث إستطعنا أن نستشق طعم الحرية في يوم بديع بكل المقاييس، وحيث خرج الجمهور المصري الثائر ينظف الشوارع والميادين، في حميمية بالغة، معبرا عن عودته إلى بلده وعودة بلده إليه. ولهذا فإن محاكمة الرئيس جاءت في سياق محاسبة من أراد أن يكمم أفواه هذا الشعب ليورث الحكم لولده من بعده. وسواء كان مبارك مريضا أم عفيا، فهذا أمر جانبي تماما. ولأننا لا يجب أن ننسي ما قاسيناه، فلن يستمر أسلوب مبارك في حكم مصر مرة أخرى. لأن محاكمة مبارك هي محاكمة نظام بأكمله وليس مجرد قصاص من شخص أخطأ خطأ جسيما في حق شعبه.
لن يقبل هذا الشعب الحرية المنقوصة التي تعطي على قدر التهدئة، ثم تستمر في سياسة القمع، ولهذا فإن الذين يقولون إن إعتصام أهالي الشهداء في ميدان التحرير أدى إلى الفوضي، أو الذين رأوا أن السير إلى وزارة الدفاع هجوم على المجلس الأعلى العسكري، فهم غير قادرين على تفهم ما حدث للمصريين بعد 25 يناير. لأن هذه الثورة خلقت عند كل مصري إرادة وتصميم من أجل بلوغ ما يراه صوابا وحقا من حقوقه. ولذا فعندما تُرك أهالي الشهداء في الميدان شهرا بأكمله دون أدنى إحترام لمشاعرهم، كان لا بد أن يلجأوا إلى نوع ما من التصعيد. كانت المظاهرة سلمية وقد يكون البعض قد إنقاد إلى مشاعره الثائرة الغاضبة، فأخذ يردد شعارات ضد المجلس العسكري، وهو ما لا أتفق معه،  ولكن المظاهرة في مجملها كانت من أجل لفت نظر المجلس االعسطري لحق الشهداء، ووضع مزيد من الضغط عليه للإستجابة.
على قدر ما تبدو الأمور في غاية الوضوح لي ولغيري من الكتاب مثل علاء الأسواني وبلال فضل، على قدر ما يدهشني أنها ليست بهذا الوضوح عند الكثيرين الذين بدأوا يستنكرون المظاهرات والإعتصامات.  يكون خلط الأوراق مربكا، عندما يرى كاتب بقامة فاروق جويدة أن ما حدث يوم الجمعة 29 يوليو وهي جمعة الإسلاميين رد فعل للصوت العالي لمن يقولون أنه ليبراليون، يصبح الأمر جد خطير (الأهرام 5 أغسطس). ونكون قد جاوبنا الصواب تماما عندما تتساوى مظاهرات 8 يوليو في تلقائيتها ومطالبها العادلة، مع جمعة 29 يوليو التي بدأت فيها تجمعات غير تلقائية، وكان واضحا أنها قامت على إستجلاب الجماهير من كافة أنحاء مصر. وتكون الفتنة قد وصلت إلى أهدافها عندما يغمض علينا أن جماعات السلفيين والجماعة الإسلامية على وجه خاص، وجماعة الإخوان المسلمين بوجه خاص قد نقضوا عهدهم في جمعة وحدة الصف ولم الشمل، وبدلا من الإلتفاف حول المطالب المشتركة كما صرحوا، أعلنوها حربا على "الجاهلية" التي تبدو أنها أي فريق لا يتبع فكرهم.
ولا يصح أن نقول أن شعار "الدولة المدنية"  يتناقض على الإطلاق مع شعار دولة تتبع مباديء الشريعة الإسلامية، فالإسلام لم يعرف إلا الدولة المدنية، ولم يكن حتى رسول الله (صلعم) حاكما يمثل السلطة الإلهية في الأرض، لقد كان يقبل إستشارة صحبه، ويستفاد من تجارب قوم آخرين، مثلما حدث في غزوة الخندق التي جاء التخطيط لها بعد مشورة سلمان الفارسي. ومباديء الشريعة الإسلامية تؤكد جوهر الدين الحنيف الرحب الذي جعله الله سبحانه وتعالى رحمة للعالمين، وليس تقييدا وحجرا على حريتهم وفكرهم، وطلبهم لتحسين أسلوب حياتهم.
يتكرر المشهد مرة أخرى بنفس الألفاظ من أستاذ جليل في الطب النفسي هو د. أحمد عكاشة، وكان ضيفا في برنامج آخر كلام للإعلامي الرائع يسري فودة. وتحدث د. عكاشة عن صوت التحرير العالي الذي يريد أن يفرض رأيه، وعدم قبول الرأي الآخر. وتذكرنا هذه العبارات بما كان يقال عن الثائرين في الثمانية عشر يوما الأولى للثورة، إنها نفس الجمل ونفس الألفاظ. وكأن المطالبة بالعدالة تحتمل أن يكون هناك رأيان، أو أن الحفاظ على كرامة المواطن المصري وعدم الإستهانة به وإذلاله قضية قابلة للمناقشة. وشعرت أنني أضرب في مقتل عندما سمعت عبارات رائعة أومن بها بل وأقولها ولكنها تستخدم في غير سياقها، حيث يقول د. عكاشة أن الحب هو أساس العلاقات جميعها وأن من خلاله يمكن أن يتسع بعضنا للبعض، ولكن هذه العبارات قيلت في سياق حديث د. علاء الأسواني تعليقا على فيديو، يقوم فيه أحد ضباط الشرطة الذي يرتدي رداء مدنيا بضرب أحد المدنيين من المواطنين البسطاء، ويقبل شخص آخر قد عقد عزمه على توجيه مزيد من الإهانة والضرب للمواطن المسكين، ويبدو واضحا أنه لم يكتف باللكمات البسيطة، ولكنه لجأ إلى الركل، كل هذا على مرأي المشاهد، بينما يتحدث د. احمد عكاشة معلقا بهذه الكلمات التي ليس مكانها أو مجالها أن تقال في هذا السياق. إن الحب هو الذي يجعلنا لا نقبل أن يهان مصري، وهو الذي يجعل الحياة غيرذات قيمة إذا لم نتماسك معا لنبلغ غايتنا.
لا أريد أن أبدو مثل النعام الذي يضع رأسه في الرمال، نعم هناك أفراد أو تجمعات تريد أن تزايد على الثورة، وتستغل المناخ الحر في إشعال الفوضى، وهناك حاقدون يريدون أن ينتقموا من أي إنسان ناجح بوضعه إفتعالا وكأنه من أركان النظام السابق، وهناك من العلمانيين أو الليبراليين وكذلك من تيارات تسييس الإسلام من يتنازع على السلطة والقوة، ولكن التيار العام في مصر هو التيار الثوري الإيجابي، وسيقع هؤلاء عندما يستمر مناخ الحرية غير المنقوصة، وعندما نكون قادرين على التمييز بين الخبيث والطيب، وما قلته ما هو إلا قليل من كثير في هذا الوقت العصيب الذي أصبحت فيه حرب الكلمات أعتى الحروب.     

Tuesday, August 2, 2011

بداية إنكسار تيارات تسييس الإسلام د.علياء رافع


إنتشرت خيبة الأمل بعد جمعة ووحدة الصف، ولم الشمل وتأكيد الإرادة الشعبية التي دعت إليها تيارات الإسلام السياسي متمثلة في الإخوان المسلمين، والجماعات الإسلامية والسلفيين. ولقد بدأت هذه التيارات دعوتها، موضحة أن الهدف الرئيسي هو الإذعان للإرادة الشعبية وعدم الإلتفاف حولها. وشرحت أن الإلتفاف حول الإرادة الشعبية يتمثل في التفكير حول كتابة دستور قبل الإنتخابات، شارحة أن طرح هذه القضية في حد ذاتها غير منطقي لأن الموافقة على التعديلات الدستورية قد جعل كتابة الدستور لاحقة للإنتخابات، ومنبثقة من إختيارات مجلسي الشعب والشورى للجنة التأسيسية. ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل إنها إستخلصوا من هذه الرؤية أن محاولة كتابة أي وثيقة لمباديء فوق دستورية، أو حاكمة أو أي تحت مسمى آخر، هو إلتفاف حول الإرادة الشعبية، لأنها ستوجه الشكل الذي سيكتب به الدستور الجديد قبل إنتخابات ممثلة للشعب.
وعلى أية حال فإن مثل هذه الرؤية لها منطقها، ولها مسبباتها، وإن كان هناك كثيرون لا يتفقون مع هذا التيار في هذه الرؤية، وقد سبق لي مرارا وتكرارا أن وضحت أن إجراء الإستفتاء في حد ذاته على تعديلات دستورية، تعني أن دستور 1971 لم يسقط، ومجرد قبول التعديلات يعني أنه قد أعيد للحياة مرة أخرى، ويصبح تولي المجلس الأعلى العسكري غير دستوري من هذا المنطلق، ولذا فإنني أفهم الآن منطق إصدار الإعلان الدستوري الذي أتي بعد الإستفتاء مباشرة، إذ أن الإكتفاء بالتعديلات الدستورية يشير إلى أن الدستور القديم قد عاد إلى الحياة، ويصبح من المنطقي أن يترك المجلس الأعلى مهام رئيس الجمهورية.  ولذا فقد بدت لي القصة برمتها – مع أنني لست قانونية – لا معنى لها. ولا أستطيع حتى الآن أن أتفهم لماذا لم نبدأ مباشرة في كتابة دستور جديد، أو إستخدام دستور 1954 الذي أجمع فقهاء الدستور والنخبة على أنه دستور جيد، وإعتباره دستور مؤقت، أو حتي الإكتفاء ببيان المجلس الأعلى العسكري الذي وضع فيه مباديء دستورية أساسية هي بمثابة إعلان دستوري إلى أن يتم تشكيل اللجنة التأسيسية على مهل.
أصبح هذا الجدل غير ذي جدوى الآن، ولكن القوى السياسية والنخبة أرادوا أن يتداركوا كثيرا من المخاطر التي يمكن أن تؤدي إليها حالة عدم الإستقرار، وما يمكن أن ينشأ عنها من صراعات سياسية غير ضرورية، ولذا فكانت فكرة الوثيقة هي أحد الأفكار المطروحة على الساحة، والتي رفضها التيار الإسلامي خوفا من أن تتضمن مباديء لا تتماشى مع أهدافه، على الرغم من أن مجال الإشتراك في كتابة هذه الوثيقة كان مفتوحا للجميع. وهذا من حقه، ومن حقه كذلك محاولة تجميع الجماهير على رؤيته. ولذا فإنه أراد أن يظهر أن رؤيته لها تأييد شعبي من خلال الدعوة إلى مظاهرة في يوم الجمعة 29 يوليو، وأطلق عليها مسميات مختلفة ولكنها تدور حول إستنكار أن تكون هناك وثيقة مباديء دستورية، والتي أراد بها أيضا أن يثبت الولاء للمجلس الأعلى العسكري الحاكم. وكأنه بهذه الدعوة يريد أن يرسل رسالة إلى القوى السياسية المختلفة أنها لا تحمل من الولاء ما يحمله التيار الإسلامي، ومن ناحية أخرى فإنه يوجد المبرر كي يرفض المجلس العسكري وثيقة المباديء الدستورية، ويسير في الإتجاه الذي سبق أن وضعه.  
وحتى يحدث هذا التجمع، كان هناك إختياران أمام التيارات الإسلامية، إما أن يختاروا مكانا آخر غير التحرير، وإما أن يخلوا الميدان ليكون حكرا لهم، ويبين قوتهم في الشارع المصري. ولا شك أن الإختيار الأول لم يطرح أساسا، ذلك أن التحرير أصبح رمزا للثورة، وأرادوا هم أن يكون المكان رمزا لقوتهم الشعبية. وفي ظل ظروف الإعتصام القائمة في ميدان التحرير طلبا للقصاص من قتلة الشهداء، أصبح من الصعوبة بمكان أن يكون التحرير مقتصرا على تجمع تيارات الإسلام السياسي، ولذا صدرت بعض التصريحات من البعض بأن المعتصمين يجب أن يفضوا إعتصامهم، ويتركوا الميدان.  وصرحت بعض قيادات هذا التيار إلى أنهم سيطهرون التحرير من هؤلاء، مما كان يعني أن نوعا من الإستنكار لحق أهالي الشهداء في الإعتصام،  كما  كانت تحمل تهديدا بالعنف سيستخدم من أجل إخراج المعتصمين من التحرير. ولما رأت تلك الجماعات  إستهجان الرأي العام لهذه النبرة، غيروا من خطابهم، ولجأوا إلى ما أسموه بالتوافق ولم الشمل، وإعتذروا عن أقوالهم السابقة.    ولقد شهدنا على شاشات الفضائيات التلفزيونية إجتماعات متعددة بين الإئتلافات المختلفة، والأحزاب السياسية على أن تكون جمعة 29 يوليو هي جمعة توحيد الصف، والعودة إلى روح الثورة التي تآلف فيها الجميع من أجل أهداف كبرى مشتركة، وإتفقوا كذلك على ترك الخلافات مثل رفض أو قبول وثيقة مباديء دستورية، وترحيلها إلى مائدة الحوار بعد ذلك. وإعتذر هؤلاء الذين لوحوا بإستخدام القوة عن تصريحاتهم. وقد نتج عن هذا تفاؤل كبير على المستوى العام، وعزم الكثيرون على النزول في هذا اليوم أملا ألا نفقد هذه الروح.
ولكن ما حدث في يوم الجمعة لم يكن كما توقع الجميع، إذ فوجيء المعتصمون أنه بدءا من يوم الخميس أن هناك إستعدادات غريبة تمهد أن يكون يوم الجمعة دعوة خالصة للتيارات الإسلامية، وبدأت الهتافات التي تحمل شعارات توحي بأن هناك مقاومة لتطبيق الشريعة الإسلامية، وهو أمر خال من الصحة، بالإضافة إلى أنه مستفز. وفي نفس الوقت ظهرت هتافات غريبة جدا مثل "صور صور يا أوباما.. الميدان كله أسامة". وأعتقد أن مثل هذه الهتافات غير مسئولة على الإطلاق. ولم يقتصر الأمر على هذا، بل إنتشرت في الميدان أعلام السعودية، وأعلام أخرى كتبت عليها شعارات دينية. وعبر المفكر القبطي كامل زاخر عن رأيه فيما حدث قائلا في أحدى  الفضائيات إنه لم يكن يوما مستنكرا إسلامية مصر، فهي إسلامية منذ القرن الثاني عشر الميلادي، ولكن ما أقلقه هو بعض هتافات مثل " "خيبر خيبر يايهود الإسلام لازم يعود".
ويوحي هذا المشهد بأن ذلك التيار يتصور أنه في حالة حرب، ولكن لا ندري مع من؟ وإلى أين تتجه؟ ومن الذي جمع هؤلاء البشر في أرض مصر الطيبة التي لم تعرف في تاريخها إلا الإيمان السمح المتفتح.  وما مدي قدرة هذا التيار على تزييف وعي العامة من الشعب، حيث الدين وخاصة الإسلام منفذ للدخول إلى عواطفهم وبث روح الحماس في قلوبهم.  ولقد شهدنا في حالة الإستفتاء هذا الخداع الفكري الذي مارسه ذلك التيار في القرى والنجوع وبين أفراد الشعب، حيث ربط بشكل غير مفهوم بين الموافقة على التعديلات وبين تطبيق الشريعة. ولا أستبعد أن يكون قد نشر القول أن هناك مؤامرة من التيارات الأخرى لتهميش الدين الإسلامي، ونشر الكفر والإلحاد.  وإلا لماذا هذه الحماسة في الهتافات الدينية كما لو كانت هناك قوة مضادة تقاوم وتعادي الإسلام.
وعلى الرغم من القدرة على حشد مئات الآلاف من البشر بهذا الزخم في هذا اليوم، إلا أنني أعتبر أن هذه هي بداية النهاية لفاعلية هذا التيار في الشارع المصري. وذلك لأسباب عديدة، أولا لأنه فقد المصداقية بين الشعب عامة، وبين الإئتلافات السياسية على وجه خاص. ويعني هذا أنه سيعمل وحيدا وغير مدعم من أي قوى أخرى. هذا بالإضافة إلى أن قياداته قد خسرت ثقة الجموع التي تنتمي إليها خاصة الشباب، الذي إنضم إلى هذا التيار ظنا أنه سيعيد إلى مصر حيويتها من خلال ربطها بالحضارة الإسلامية التي هي جذر هام من جذور تاريخها. ولقد شاهدت أحد شباب الإخوان إبراهيم الهضيبي متأثرا من عدم إلتزام عبد المنعم الشحات وهو من قيادات السلفيين بما قاله له من عدم رفع شعارات تخرج عن الإجماع الوطني.
و ما قالته قيادات السلفيين والجماعات الإسلامية تعليلا لما حدث، فيه إدانة لهم وتشكيكا في مصدقياتهم. أولا فإنهم دافعوا عن حقهم في رفع شعارات دينية. وهذا القول هو خروج عن جوهر الموضوع، لأن القضية الجوهرية هي قضية السياق الذي تطلق فيه هذه الشعارات ومغزاها. وأما الأمر الآخر، فقولهم أن هذه الجماهير التي جاءت بشعارات غير متفق عليها، قد جاءت عفويا. وهذا فيه إدعاء لأن التحضير لهذه التظاهرة تم تحت إشرافهم. وأما الأمر الثالث فإنكارهم أنهم وافقوا على عدم رفع شعارات إسلامية، وهذا غير حقيقي، لأننا رأينا رموزهم على شاشات التليفزيون تؤكد أنه لن يكون هناك هتافات إلا على ما هو متفق عليه.
ما حدث في هذا اليوم سيوجه المصريين إلى إختيار قوى سياسية أخرى غير هذا التيار السياسي الذي مازال غير قادر على إثبات أنه يؤمن بالدولة المدنية، والذي أثبت أنه قد جعل الغاية تبرر الوسيلة، فلم يحترم كلمته ووعوده.