Tuesday, May 17, 2011

من المسئول عن الإحتقان الطائفي في مصر؟ د. علياء رافع


غير مفهوم ما حدث في إمبابة، وعندما يستعصى أمر على الفهم، فإننا يجب أن نبحث عن أشياء لا تراها العين ولا يقبلها المنطق. لن نقبل بعد أن رأينا كيف تآزر المصريون مسيحيين ومسلمين في الثورة، أن هناك طائفية في مصر. ولا نجد بدا  من التفكير في مغزى هذا الحدث وغيره من الأحداث التي سبقته، لنصل إلى أنه من الواضح أن تشويه صورة مصر من ناحية، وخلق إحتقانات بين المسلمين والأقباط من ناحية أخرى يخدم أعداء مصر، ولابد أن يكون لأعداء مصر يد في مثل هذه الحوادت .
 وتتجه أصابع الإتهام إلى جهات كثيرة، منها اسرائيل، أو أتباع النظام السابق، أو من لا نزال لا نعلمهم.  وقد يكون هؤلاء وأولئك كلهم مجتمعون من أجل ضرب الثورة، وشغل الرأي العام بهذه الأحداث بديلا عن الإنتباه إلى خطورة المرحلة القادمة التي سيتحدد بها مستقبل مصر لأعوام طويلة. ولأنني أكره نظرية المؤامرة، ولكن لا أجد بدا في مثل هذه الأحداث وتتبع تسلسلها من إدراج عناصر مختلفة في إشعال إحتقان كان يمكن ألا يكون له هذا التأثير المدمر. ومع ذلك فلا أرفع المسئولية عن وجود خطاب ديني متطرف بشكل أو آخر. أقول خطاب، ولا أقول تطرف شعب، ولكن هناك فئة أو فئات ما زالت تعيش في عصر غير العصر، وفي فكرلا بد أنه سيجرنا إلى الوراء، ولا يساعدنا على أن نخطو خطوة إلى الأمام.  
يؤكد تقرير لجنة تقصي الحقائق ما أفترضه . ونتبين أن الأمر قد بدا مثيرا للقلق، عندما إجتمع عدد من المسلمين مطالبين بالدخول لأنقاذ زوجه رجل مسلم، وهي من أصل مسيحي، وإدعوا أنها محتجزة في الكنيسة. وكان من الطبيعي أن يرفض المسيحيون أن تدخل جمهرة من المسلمين إلى الكنيسة، وبدأ الإصرار الذي يقابله رفض يخلق نوعا من التوتر. وفجأة وبدون مقدمات يضرب مجهول النار، إعتقد كثير من المسلمين أنه من المسيحيين في الكنيسة، وإعتقد المسيحيون أنه أحد المسلمين المتجمهرين أمام الكنيسة، وبدأت حدة الصراع تزيد، وإستخدام الأسلحة النارية وكوكتيل المولوتوف يثير إلتهابا، ويتسبب في إشعال النيران في الكنيسة.  وترتفع هتافات عدائية، لا تحمل روح مصر، ثم يتجه عدد من الملتحين إلى كنيسة العذراء القريبة من كنيسة مارمينا التي كانت المسرح الأول للحدث، مدمرين ما أمامهم.  ويتساقط قتلى وجرحي مسلمين ومسيحيين.
ومما يدعم فرض أن هناك من يريد أن يشعل الموقف، هو وضوح التحضير والإعداد لمسرح الأحداث كي يأخذ طريقه نحو التصاعد،  فمثلا نحد أنه لا يتوقع أن تظهر الأسلحة النارية دون أن يكون هناك توقع لمعركة، وثانيا  يقال أن بلطجية قد دخلوا ليزيدوا الأمر إشتعالا، ولا نعلم من أين جاءوا، وكيف أعدوا أنفسهم لهذا الحدث، ثالثا نحد أن  الطلقة النارية الأولى لم يكن لها أي مبرر على الإطلاق، وكانت مجهولة المصدر، وهو ما يذكرنا بالرجل المجهول أيضا الذي دخل من قبل قرية أطفيح ليذكر أهلها بحدث غرامي بين مسلمة ومسيحي، كان قد مر عليه عدة أشهر. وذلك عندما إنطلقت شائعة بأن أحد الفتيات المسلمات تخرج مع شاب مسيحي،  وبدا أن هذا الدخيل الغريب قد أثارفي عقول أبناء عمومة الفتاة الأولى ضرورة الإنتقام من الشاب والفتاة المسلمة، قأخذوا  يطالبون الأب أن يسلم إبنته ليقتلوها دفاعا عن شرفهم، وعندما رفض فإنهم بدأوا يقاتلونه، وهكذا كان الإحتقان بين أفراد عائلة مسلمة، ولكن إذ بالأمر يخرج إلى القرية بأكملها، ويتحول إلى حرق للكنيسة.
وفي إمبابة وأطفيح نلاحظ أن حرق الكنيسة مستهدف، وهذه ظاهرة جديدة في حد ذاتها، فمنذ بدأت حوادت الكشح في تسعينيات القرن الماضي، كان الأمر لا يخرج عن مشاحنات، وتنحاز فيها الشرطة إلى جانب المسلمين على حساب المسيحيين، ويليها جلسات عرفية يقال أنها أصلحت بين الطرفين المختلفين. ومع حرق الكنيسة تظهر أصوات بعض السلفيين في فيديوهات على اليوتيوب، تدعو إلى حرق الكنائس، وتؤجج المشاعر ضد مسيحي مصر، زاعمة أن هناك أسلحة في الكنائس.
 لماذا تتكرر مثل هذه الأحداث ولنفس الأسباب تقريبا، وهو الدفاع عن فتاة مسيحية تأسلمت، أو فتاة مسلمة تقع في غرام شاب مسيحي. وفي كل الأحوال يتم تجاهل الضوابط الإجتماعية والشرعية المنظمة لمثل هذه السلوكيات، ويأخذ الأهالي على عاتقهم أن يحلوا الأزمة بأنفسهم، وبالعنف. سيقول البعض أن هذا يرجع إلى العادات والتقاليد المترسخة بين هؤلاء وهؤلاء، وقد يكون هذا صحيحا أحيانا، ولكنه ليس صحيح على المطلق، بالإضافة إلى أنه يستغل ليصبح الموقف ليس مجرد سلوك يعبر عن عادة، ولكن يخلق عداوات متأصلة.  وإذا إستمرت القناعة بأن كل فرد له الحق في أن يطبق ما يراه عقابا، فإن هذا الحال سيؤدي إلى فوضى مطلقة. وعندما نربط هذا الإتجاه الفوضوي، بذلك الإحتفاء الإعلامي بخروج عبود الزمر، ومحمد الظواهري، وتصريحهما بكل فخر بأنهما يعتمدا على "العلماء" في تبرير الإعتداء على الأشخاص أو النظام، تنتابنا الدهشة. لماذا يظهر مثل هؤلاء في هذا الوقت، وبهذه الجرأة، ولا يراجعهما أحد فيما يقولان، وينهاهما عن مثل هذا الأسلوب في التفكير.  ومحاسبتهما على مثل هذا الإتجاه لا يتناقض مع حرية الفكر والعقيدة، لأن هذا الأسلوب في معالجة الأمور يهدد أمن وسلامة المجتمع.  
وإذا ربطنا ما يحدث بكيف كان الإعلام الخارجي في بداية الثورة، يريد أن يظهر الإسلام السياسي، كما لوكان هو مفجر الثورة، والقادم إلى الأخذ بأمور البلاد، نجد أن هناك إتجاها ما ولأسباب معروفة، يحاول أن يبرز الإسلام السياسي بإعتباره صاحب اليد الطولى في مصر. ييبدو أن هذا هو أحد المقدمات كي  يعطي مبررا لإسرائيل كي تضرب مصر بصورة أو أخرى تحت مقولة الدفاع عن أمنها. هناك إذا تمنى خفي من جانب إسرائيل وأعداء مصر جميعا أن يجيء الإسلاميون إلى الحكم، وأن تظهر إحتقانات طائفية هنا، وهناك تبرر أيضا لدول أجنبية أن تتدخل.  هؤلاء وأولئك لا يريدون مصر قوية، ولكن للأسف فإنهم يعتمدون على المصريين في تحقيق طموحاتهم.
أين تقع هذه البؤر التي يخترقها أعداء مصر؟ إنها تقع بين الجهلاء الذي ينخدعون بأي شعار ديني، ويظنون أنهم يدافعون عن الدين، وذلك حتى في قضايا أخرى، مثل هذه التظاهرة التي قامت بها المتنقبات مطالبات بإستقالة شيخ ومفتي الأزهر، لأنهما لا يران أن النقاب عبادة، ويؤكدان أنه عادة. وهذا يدل على أن الجهل لا يتمثل فقط في عدم القراءة والكتابة، ولكنه يكمن في طريقة التفكير. وعندما يكون الآخرون أحاديي التفكير، واهمين أنهم يملكون الحقيقة المطلقة بإسم الدين – أي دين – فهذا يجعلهم عرضة لتغلغل الأفكار العدائية ضد بعضهم البعض.
لا ينبغي أن نبالغ في المخاطر، ولكن علينا أن نتحسب لها، ونضع سياسة طويلة المدى، تقضي على تلك الجهالة، لتخرج مصر أحسن وأحمل ما فيها. وحسنا فعل الشباب الذي خرج يوم الجمعة فوقف المسلمون مع المسحييين متضامنين، ومطالبين بمحاكمة كل ما تسبب في هذه الأحداث بعدل وشفافية، وعدم التباطؤ في تطبيق القانون. وإن كان هذا يدل على شيء فإنه يدل على أن مصر بخير، وينبغي أن نسير قدما نحو إستكمال أهداف الثورة العظيمة. 

Tuesday, May 10, 2011

مستقبل مصر ما بين الحداثة والمرجعيات الدينية د. علياء رافع


عندما نتحدث الآن عن مستقبل مصر، يكثر الحديث عن الحداثة والليبرالية من ناحية، أو المرجعية الإسلامية من ناحية أخرى، وأما الديمقراطية فهي خارج هذا التصنيف، لأن الجميع يتفقون على ضرورة إنشاء مجتمع ديمقراطي, قد يختلفون على كيفية تحقيقه. ويعتقد الكثيرون أن المرجعية الإسلامية تقف حجر عثرة أمام الحداثة، ويعتبر ذوو الإتجاه الإسلامي أن الحداثة تؤكد على التجربة الإنسانية دون حاجة إلى إرشاد التنزيل الإلهي، أي أنهم يتصورون أن هناك ترابطا حتميا بين الحداثة والعلمانية، ومن هنا سيعتبون أن العلمانية نقيض للمرجعية الدينية.
والحقيقة أن هذه التناقضات الصارخة بين هذه المصطلحات تعود إلى إختلاط الأمور، والنظر إليها دون إلتفات إلى السياق التاريخي والثقافي لنشأة هذه المصطلحات. هذا من ناحية، وأما من الناحية الأخرى، فلا بد أن يكون الإسلام، بل وكل الأديان داعية إلى كل المباديء النبيلة من مساواة وعدل وحرية. وأيضا يجب أن نتفق أنه لا يمكن أن يكون هناك دين يأمرنا بالطاعة العمياء دون تفكر وتدبر، أو تقديس الأقدمين دون مراجعة. بإختصار شديد فإن هذا التناقض الحاد بين الحداثة والمرجعيات الدينية لا ضرورة له من الأساس. وقد يعود هذا التناقض إلى النظر إلى تلك المصطلحات بإعتبارها مفاهيم جامعة مانعة لا تتطور، وهذا مخالف لما يحدث على أرض الواقع.  
 نجد أن مفهوم الحداثة قد إرتبط بإعلاء قيمة العقل، وإتباع المنهج العلمي في كل مجالات الحياة، مما أدى إلى تقدم المجتمع الأوروبي في القرن التاسع عشر ، وقد وصل الغرب إلى هذه الرؤية بعد مراحل عديدة من محاولات  لفصل السلطة المدنية عن السلطة الدينية من خلال ثورات متعددة هنا وهناك. ومن ناحية أخرى فإن الحضارة الإسلامية التي أشرق نورها في العصور الوسطي، ودعوة الإسلام إلى إستخدام العقل، وتطور العلم والمعرفة عند العلماء المسلمين الذين أستوعبوا ما وصلت إليه الحضارات المختلفة شرقا وغربا، كان لهذه الحضارة العظيمة أثرها في إيقاظ وعي الأوربيين الذي أخذوا ينهلوا من معارفها في عصر النهضة، وتفتحت أمامهم أبواب للمعرفة ومناهج للبحث إستفادوا منها أيما إستفادة، والتي قادتهم لاحقا إلى "الحداثة". يمكن القول أن التقدم الغربي تقف وراءه الحضارة الإسلامية بما قدمته من علم ومعرفة وثقافة.
وإذا رجعنا إلى العالم الإسلامي، سنجد أنه قد أصابته نكسة إبان الدولة العثمانية، خاصة في شيخوختها،  وضاعت تلك الجذوة الحضارية للإسلام تحت تأثير الإهتمام بالحرفية الدينية وانحسار التعليم في العلوم اللغوية والفقهية.  وفي أعقاب الحملة الفرنسية عام 1801، إنتبه المصريون إلى تلك الفجوة التي قامت على غفلة منهم بين المجتمع المصري وبين المجتمع الأوروبي، وكان هذا الإنتباه دافعا لمحاولة القفز لسد تلك الفجوة.   ولذا قام به محمد علي بإرسال البعثات العلمية إلى فرنسا، والإستفادة منها في إنشاء دولة حديثة، وارتبط إسمه بها ، وإستمر النموذج الغربي للتنمية مهيمنا على أسلوب التقدم في المجتمع المصري من خلال إنشاء مؤسسات حديثة، مثل تحديث الدواوين الحكومية، وإنشاء جيش قوى، وتغيير النظام التعليمي. وتم كل هذا دون الإلتفات إلى القاعدة العريضة من الريفيين والفقراء من هذا المجتمع، وإستخدم الفلاحون عن طريق السخرة في حفر قناة السويس، حيث مات آلاف من المصريين، وإختلطت دماءهم بالأرض التي حفروها لبناء هذا الشريان الذي أصبح شريانا حيويا لصالح الإقتصاد المصري.  أقول قولي هذا لأن الحداثة التي ظهرت في مصر كانت على مستوى أسلوب التفكير بين الصفوة، ولكن لم تأخذ بعدها التنموى الشامل. 
وفي بدايات القرن العشرين، ظهر كثير من الرواد والمفكرون الذي حملوا شعلة التنوير والتحديث الفكري، ولكن دون إهمال الثقافة المصرية، وأذكر على سبيل المثال قاسم أمين الذي إقترن إسمه بتحرير المرأة، وقد خاض حربا ضارية ليدافع عن حقوق إنسانية للمرأة، أنكرها الكثيرون عليها تحت إسم الدين، والدين منها براء. ولم يجد قاسم أمين مناصا من اللجوء إلى المرجعية الدينية، وإستخدام أمثال من التاريخ، ومن القرآن والسنة ليعضد موقفه. وإذا كان رفاعة الطهطاوي شجاعا عندما دعا إلى تعليم المرأة، فإن قاسم أمين كان مجاهدا عندما دعا إلى رفع حجاب الوجه، وخروج المرأة إلى العمل.  لم يكن الدين سببا في هذا التدهور الذي أصاب حالة المرأة المصرية، ولكن أثر إستخدام الدين سلبيا على مكانة المرأة لأنه سخر في ترسيخ فكرة السيادة الذكورية، والتقليل من شأن المرأة، وحصر نشاطها في الإطار الخاص دون الإطار العام. ولهذا كانت دعوة قاسم أمين حداثية دون أن تكون خروجا عن المرجعية الدينية.
وظهرت حركة الإخوان المسلمين في نهاية العقد الثاني من القرن العشرين إستجابة لضرورة تواجد منبر إسلامي حضاري، يحاول أن يثبت أن الحضارة الإسلامية رافدا هاما من روافد النهضة. ولكنه تحولت الجماعة  تدريجيا من جماعة تعبر عن فكر إسلامي حضاري، إلى جماعة سياسية، تنخرط في صراعات القوى الموجودة على الساحة. ولكن ما يهمنى في هذا المكان هو أن أوضح أن الإحتياج إلى ربط بين الأصول الثقافية المصرية خاصة الإسلامية منها وبين التقدم كان ملحا حفاظا على الهوية الثقافية في ذلك الوقت.. وكان لرفض النموذج الحداثي الغربي ما يبرره.  وعلى الرغم من أن البنا لم يستخدم عبارة "مرجعية دينية إسلامية" بالمعنى الذي يستخدم به اليوم، ولكن من المؤكد أنه أراد أن يقدم نموذجا سياسيا شاملا منبثقا من مرجعية إسلامية.
ومع تطور طبيعة المجتمعات والتقدم التكنولوجي الهائل الذي كسر الحدود الزمنية والجغرافية، وأصبح تنقل الإنسان والأفكار والإعلام والبضائع وكل شيء متاحا للجميع، أصبحت هناك روافد فكرية متعددة للأفراد الذين يعيشون في المجتمع الواحد، ولم يعد ذلك التماسك الفكري الثقافي أمرا ممكنا، وهو ما أدى إلى ظهور مصطلح ما بعد الحداثة، الذي يصف هذا التشابك المعقد بين الإنسان والفكر والثقافات، ويرصد تداعي النظريات الكبرى والأيديولوجيات الجامدة، وتهاوي ما كان يطلق عليه مطلقات. وأخذ مفكرو ومنظرو ما بعد الحداثة في مهمة رصد الواقع، دون محاولة لدراسة كيف يمكن إعادة تشكيله، إذ أنهم باتوا ويدركون أن أي محاولة للتدخل من الخارج ومن فوق غير ممكنة، فلقد فلت الزمام، وأصبحت المجتمعات والأفراد يحددون إتجاه الحركة، ويطورون من أفكارهم بصورة ديناميكية.
في ظل واقع ما بعد الحداثة، لم يكن ممكنا توقع تلك الأحداث المتلاحقة في المنطقة العربية والتي بدأت بتونس، ثم مصر، وإنتشرت إلى باقي بلدان المنطقة. ولعبت التكنولوجيا ووسائل الإتصال الحديثة دورها الهام في التراكمات الإحتجاجية التي أدت إلى تجميع الشباب على الفضاء الإقتراضي أولا، ثم ظهورة على الأرض مؤيدا بجموع الشعب المصري في ظاهرة غير مسبوقة بهذا الزخم وهذه القوة. ولكن بعد تلك المرحلة الأولى نعود إلى  ما بدأنا به وهو مصر إلى أين؟ 
أقول أنه في هذه المرحلة الحاسمة من تاريخ بلدنا سنجد أن تلك الخطوط الفاصلة بين مباديء الحداثة والمرجعيات الدينية ليست بتلك الحدة، لأن المرجعية الدينية القائمة على محاولة فهم المباديء الأساسية للإسلام أو للمسيحية، ستصل بنا إلى المباديء الحقوقية التي إتفق عليها الإجماع العالمي بدءا من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وسنجد أن ثقافتنا المصرية سترفض بعضا من التجاوز الأخلاقي الذي ظهر في بعض المجتمعات التي لا تتقيد بالمرجعيات الدينية. ولهذا فإن تخطي بعض الإتجاهات الدينية التي تريد أن تحبسنا في سجن الماضي ضرورة من أجل القفز إلى ثقافة التقدم التي تآزرها المباديء الأساسية لكل الأديان وخاصة الإسلام. وهذا لايمكن أن يتم بقمع الأفكار السلفية، أو محاولة التحكم في المسار الفكري فوقيا، وإنما سيكون ممكنا في ظل مناخ حر، يتاح فيه للجميع أن يتفاعلوا فكريا وثقافية، ولن يكون ممكنا التكهن بما يمكن أن يتمخض عن هذا المناخ الحر، ولكن على الجميع أن يقدم رؤيته ويتفاعل مع رؤي الآخرين.
أما على المستوى التنظيري البحت فيمكن القول أن خلق مجتمع يتطلع إلى المستقبل ولا يسجن نفسه في الماضي يتطلب الإستفادة من التجارب الإنسانية في كل مكان، وهذا هو المعنى العصري للحداثة. ذلك أن نموذج التقدم في القرن التاسع عشر لا يصلح أن يكون نموذجا للتقدم في القرن الواحد والعشرين، ولقد تبين للإنسان في أنحاء العالم أن الأخلاق وليس العقل وحده أساس للتقدم، ولذا إنبهر العالم بالثورة المصرية التي جمعت قيما أخلاقية حضارية عالية، وبين قدرة تنظيمية رائعة، ومهارات تكنولوجية عالية.
مصر في حاجة إلى الإيمان كمرجعية وجدانية تثرى سعي الإنسان المصري في بناء مستقبله، وهو إيمان سيساعد على قراءة التعاليم الدينية ليس بطريقة حرفية جامدة، ولكن بقدرة تأويلية عالية، ويكون الواقع هو الموجه إلى تلك القدرة الإبداعية على التأويل، وليس محاولة فرض الفكر على الواقع وإغلاق منافذ الإبداع في الرؤية والعمل. هذه القدرة الخلاقة ستصبح مهارة تساعد المواطن المصري أن يبدع في كل مجالات النشاط الإنساني الأخرى، فكريا وعلميا وفنيا، حينئذ لن يكون هناك تعارض بين الحداثة وبين المرجعيات الدينية.  

حزب يعبر عن روح الثورة د. علياء رافع


أثناء قيام الثورة، كانت أعصابي كلها مشدودة إلى الميدان، أتتبع الأخبار، أصلي وأدعو أن يكتب الله لهذه الثورة أن تحقق أمانيها، ولم يكن في إستطاعتي أن أمسك قلما أو أخط خطا، لأكتب مذكرات الثورة وأحداثها. واليوم عندما علمت عن تكوين حزب يريد أن يكون تعبيرا عن روح الثورة، دون الإدعاء بأنه الحزب الوحيد الذي يملك هذا الحق، تفجرعندي الكثير من الأحاسيس والأفكار التي ملأت وجداني أثناء الثورة. 
وعلى الرغم من النجاح العظيم لهذه الثورة لتحقيق خطوة كبرى في مسار آمالها وطموحاتها، كان هناك الكثير مما يجعل الكثير منh قلقا، خائفا، راجيا أن تكتمل خطوات النجاح على خير. وبدا أن بعض نقاط القوة في هذه الثورة، هو نفسه نقاط ضعفها.  ذلك أن خلو الساحة من قيادة تمثل القائمين بها،  أوجد تخوفات كثيرة من قدرتها على الإستمرارية، ومازال.  ذلك أنه على الرغم من السير الحثيث نحو تحقيق الأهداف، إلا أن القوى المضادة للثورة مازالت تعمل. ومع أن هناك تحسنا ملحوظا في الحالة الأمنية، إلا أنه لم يصل بعد إلى الدرجة المطلوبة. مازال المستقبل ضبابيا بالنسبة لقدرة الأحزاب الجديدة على التكوين وعلى بناء شعبية. ومازال التخوف قائما من أن يكون المجلس البرلماني غير معبر تعبيرا حقيقيا عن القوى الوطنية في مصر، وبالتالي لن يكون الدستور معبرا كذلك عن روح هذه البلد وتطلعاته. وهذه التخوفات ليست وهمية ولكنها تخوفات حقيقية.  تلك التخوفات زادت نتيجة لما يحدث على الساحة الآن، ولكنها بدأت منذ رحيل مبارك.  
منذ نجاح الثورة في خطواتها الأولى، كنت أتساءل عن كيفية إستمرارية روح الثورة التي تجسدت في ميدان التحرير، حيث سقطت الأيديولوجيات والفروق بين الأدين، وبين الطبقات وبين المهن. وهي ثورة شارك فيها الرجال والنساء معا، وكان الإحترام والتعامل الراقي بين الجنسين على أعلى مستوى، حتي أنه لم تحدث حالة تحرش واحدة بين هذه الملايين التي تتجمع في مكان واحد، كان حب مصر قيمة عليا طهرت النفوس، لأنه حب مبني على قيمة الحرية التي جعلها الله معنى لإنسانية الإنسان. وكلنا يعلم كيف كان التنظيم داخل الميدان أعلى ما يكون من حيث الكفاءة والدقة، والمحافظة على نظافة المكان، وروح التعاون والتضامن، وتوفير الإحتياجات الأساسية للمتظاهرين من طعام وشراب، بل وإنشاء محطات علاجية، وتجهير حجرة عمليات للحالات العاجلة في مكان قريب من الميدان.
كنت عللى يقين أن هذه الروح إذا إستمرت، ستقفز مصر قفزات هائلة لا يمكن أن يتوقعها أحد، وكنت أناقش أحد الشباب معبرة له عن أملي في أن نجد وسيلة ونساهم فيها كي نحفظ هذه الروح الوليدة التي في حاجة إلى عناية ورعاية فائقة. فلا يكفي أن نفرح برحيل فرد، أو حتي نظام بأكمله، ولكن لا بد أن تعبر هذه الروح عن نفسها من خلال سياسات مستمرة، تشجع كل مصري أن يعمل بكل طاقاته من أجل صالح مصر، كل من موقعه، ولكن في تآزر ومحبة. 
كان من ضمن المخاوف التي بدت للعيان هو ظهور بعض الأحزاب التي تحمل إسم الثورة مثل الإعلان عن حزب "ثورة 25 يناير"،  وعلى الرغم من فرحتي الساذجة بالإعلان عن هذا الحزب في بداية الأمر، إلا أنني سرعان ما تبينت أن أي حزب يطلق على نفسه هذا الإسم، لا بد أنه حزب يريد أن يسرق الثورة، ولا يعبر عنها، لأن من قام بالثورة  الشعب المصري كله، وما أشعل بدايتها الأولي شباب لا ينتمون إلى حزب واحد، ولكنهم ينتمون إلى أيديولوجيات كثيرة، ولكن جمعهم هدف واحد. وأصبحت أكثر قلقا من ظهور أحزاب تتصارع على سرقة ما حققته الثورة وتعمل على الإستفادة من هذا النجاح  لحساب فئة قليلة، ولا تتجه إلى المجتمع كله. وإشتعلت في رأسي فكرة قيام سياسة للدولة لا تنتمي إلى أيديولوجيا بعينها، ولكنها تجمع المصريين من مختلفة الأيديولوجيات، ويكون توجهها إلى الأهداف والأولويات التي تحتاجها مصر، وأن تساهم في إستثمار روح الإنتماء الكبيرة التي ظهرت أثناء الثورة. سياسة تحرك كل قضايا المجتمع من خلال قضية محورية، وتصورت أن القضاء على الفقر قد يكون بداية حقيقية، ستساهم في تغيير السياسات التعليمية والخدمات الصحية، والتوجهات الإقتصادية، وغيرها.  أي أن روح الثورة يجب أن تستمر في نظام كامل. كانت تلك أفكار عامة تريد أن تتبلور في رؤية متكاملة، مدعمة بدراسات مختلفة.
وفي محاولة لرؤية ما يحدث على أرض الواقع، راعني تلك الإئتلفات، والإتحادات، والجبهات، والتجمعات المختلفة التي أصبحت تدرك أن الفرقة والتفكك هو السلاح الذي سيتمكن من خلال القوى المناهضة للثورة أن تضربها، وتعيد البلاد إلى القوى القديمة تحت أسماء جديةد، وبشعارات خادعة. ولهذا فلقد طرحت هذه الرؤية جانبا، وأصبحت أكثر إهتماما بتدعيم الشخصية الرئاسية التي أشعر أن مصر ستكون في أمان معها، ولم أجد خيرا من د. البرادعي مرشحا، محققا لتلك الرؤية، ولم يكن عندي شك في أنه سيكون ممكنا لكل فرد أن يجد مكانه الذي يتمكن فيه من العطاء لمصر.
و في يوم الجمعة 6 مايو، جاءني خبر سعيد أن هناك حزبا قد أعلن عن وجوده بالفعل، وأخذ العدد المطلوب من التوقيعات الضرورية، وهو حزب العدالة ويتبني روح الثورة من حيث عدم الإنتماء إلى أي أيديولوجيا بعينها، ولكنه يجمع تحت مظلته كل الألوان والأطياف، ويرفع شعر العدالة بإعتبار الرؤية المحورية التي توجه برامجه الإستراتيجية. ولا تتمثل رئاسته في فرد، ولكنها هي مجموعة من المؤسسين الذين يحلمون بأن تستمر روح الثورة. وسعدت ببعض أسماء الأعضاء المؤسسين الذي أعرف وطنيتهم وأطمئن لإخلاصهم. ويعتبر هذا الحزب فريدا من حيث أنه إختار من الشخصيات العامة مستشارين دون أن يكونوا بالضرورة أعضاء في الحزب. وكذلك فإنه إلتزم بالإعلان عن الجهات التي تمول الحزب من خارج الأعضاء.  وأتمنى أنه إذا تواجدت تجمعات تحمل هذه الروح، أي تحمل "روح الثورة" التي تهتم بالهدف، وتسعي لتحقيقة عن طريق الدراسة والتلاحم مع المجتمع، وليس عن طريق فرض نظرية، وإتجاه، والصراع من أجل الغلبة والقوة، أتمنى أن تتحالف كل هذه القوى الحزبية المتشابهة في كتلة واحدة، وتنظم نفسها الأن لكسب شعبية على أرض الواقع، حتي يجي مجلس الشعب القادم معبرا عن روح الثورة، وليس عن أيديولوجيات أحادية الرؤية، تناور من أجل السلطة، ولي من أجل مصر.
ويبقي العمل السياسي أوسع كثيرا من العمل الحزبي، إذ أن العمل السياسي هو العمل المؤثر في المجتمع بصورة فعالة، وهو ذلك الذي يطور من البناء القاعدي فكريا وعلميا وإقتصاديا، ولقد إتفق بعض من منظري علوم السياسة والإقتصاد أن المجتمع المدني والنشاط الأهلي سيكون له قوة مؤثرة في التوجهات السياسية في مرحلة ما بعد الحداثة. وفي الواقع فإن حزب العدالة الذي إستطاع أن يتخلص من الأيديولوجيات الحاكمة فإنه يعبر عن عصر ما بعد الحداثة، وسيكون نجاحه رهن بإستمرارية قدرته على جمع المختلفين أيديولوجيا نحو أهداف، والتوافق المبدع من أجل حل الكثير من قضايا المجتمع المتشابكة.