Tuesday, August 16, 2011

الإخوان المسلمون : الأفكار والمواقف د. علياء رافع


دارت مناقشة حادة بيني وبين أحد الأكاديمين المرموقين عن الإخوان المسلمين والتيار الديني، كان هجومه ضد الإخوان شديدا، وكان موقفه مني غاضبا،  لأنني حاولت أن أفرق بين الفكر والموقف، بين السياسة والتدين، وبين تسييس الدين والدين بإعتباره منهج شامل لحياة الإنسان. ودهشت أن هذه التفرقة ليس واضحة في عقول الكثيرين، حتى بين هؤلاء الذين حصلوا على أعلى الدرجات العلمية.  
قام الإخوان المسلمين بخطوات إيجابية في نقدهم لفكرهم، وتطويره، وكثيرون منهم أقتربوا كثيرا من الفكر الليبرالي الحر، أو الإشتراكي المستنير على ما بين الإتجاهين من مسافة أيديولوجية واسعة. سنجد إخواني مثل د. عبد المنعم أبو الفتوح لا يتحرج من أن يطلق على نفسه أنه إخواني ليبرالي، وفي نفس الوقت يميل إلى ذلك الجانب الإنساني في الإشتراكية من حيث أنه يجد أنها تتفق مع الإسلام في إنحيازها للفقراء. هكذا حاولت أن أعبر عن رأيي،  وما كدت أنهي عبارتي، حتي قوبلت بقدر هائل من الهجوم على ما أقول، إذ أن صديقي العالم قد أغضبه أن أثني على هذا الإتجاه، وكأنني بذلك قد قمت بجريمة لا تغتفر. وكان ثائرا لأنه كان يرى أن الإخوان المسلمين لا يتحدثون بما يؤمنون به، وأن نيتهم غير خالصة، و.... و... وأخذ يعدد ويضرب الأمثلة بمواقفهم المتناقضة.
ولم أختلف معه كثيرا عن تلك المواقف المتناقضة، وكلنا يعلم ماذا فعل الإخوان عند الإستفتاء على التعديلات الدستورية، وكيف وزعوا بعض المواد التموينية في محاولة لإستمالة الجمهور لإختيار "نعم"، هذا بالإضافة إلى أن البعض منهم قد ربط في أذهان العامة علاقة غير حقيقية بين الموافقة على التعديلات وبين تأكيد أهمية مباديء الشريعة في إصدار قوانين البلاد. وفي الحقيقة أن مهما حاول البعض منهم إنكار هذه الممارسات، إلا أن الواقع يشهد بها.
وكذلك أتفقت مع محدثي فيما يتعلق بذلك البيان الذي أصدرته الجماعة قبل جمعة الغضب الثانية التي كان مقررا لها يوم 27 مايو الماضي، تلك التظاهرة التي  كانت تستهدف الإعتراض على بطء الإجراءات الخاصة بتحقيق أهداف الثورة وعلى رأسها محاكمة رموز النظام السابق. وبالفعل كانت مظاهرة مليونية إتسمت بالسلمية. ولكن بيان الإخوان كان إستفزازيا بالفعل إذ نص على أن  الدعوة على فعالية جديدة لا تعني إلا أحد أمرين، الأول أنها ثورة ضد الشعب أو أغلبيته الواضحة، والثاني أنها وقيعة بين الشعب وقواته المسلحة وقيادتها الممثلة في المجلس الأعلى. وبهذا البيان فإن قيادات الإخوان فصلت نفسها عن التيار الرئيسي للثورة، في محاولة واضحة للتودد للمجلس العسكري. وهو ما دعا البعض إلى تصور أن هناك إتفاق مبرم بين الجانبين. ولسنا في حاجة إلى الخوض في مثل هذه التكهنات لأنه لا يوجد دليل عليها. ولكن الواضح أن الإخوان كانوا يتطلعون إلى مكاسب سياسية على حساب التيار الثوري. لماذا أختلفت إذن مع صديقي؟
إنصب إختلافي على أننا يمكن أن نناقش الفكر مناقشة موضوعية خالصة، ومن ناحية أخرى، فعلينا أن ندرك أن كثيرين ممن ينتمون إلى هذا الجماعة قد توافقوا مع هذا الفكر، وهم يدعون إليه، وفي هذا مكسب ثقافي للمجتمع بشكل عام.  كنت أتحدث عن الفكر الذي يقدمه بعض الإخوان إنطلاقا مما يقولونه بالفعل من أنه ليس هناك دولة دينية في الإسلام، وأن التعامل مع النص هو تعامل إنساني، ولا يستطيع إنسان أيا ما كان موقعه أن يزعم أن رأيه أو رؤيته أو تفسيره لأي نص ديني إنما يعبر عن الإرادة والمقصد الإلهي. وأعتقد أن هذه القفزة على المستوى الفكري يمكن أن تشجع الكثيرين على التوافق مع الفكر "الديني" للإخوان، والذي أصبح يقترب إلى حد كبير مع فكر المستنيرين من رموز الفكر الإسلامي على مر العصور.
 ومن هنا تكون هذه الجماعة مثل أي جماعة سياسية أخرى نابعة من ثقافة هذا المجتمع  وتدينه وإحترامه للأديان عامة، وللإسلام خاصة متوافقة مع الفكر العام في الإتجاه نحو إحترام مباديء الشريعة الإسلامية. لأن هذا الإحترام لا يعني أن تستأثر جماعة بالقول أنها ذات مرجعية دينية، ولا تتخذ من غير المسلمين أعداء. وعلى الرغم من هذه الميزة المكتسبة للجماعة، إلا أنها في نفس الوقت تنزع تميزها، ذلك أن طبيعة المجتمع المصري ترفض بشدة أي إتجاه نحو إستبعاد المرجعية الدينية، وبالتالي فإن أي حزب لن ينكر أهمية مباديء الشريعة الإسلامية في صياغة الدستور، ومن ثم التشريعات القانونية، ويصبح الإختلاف في التعامل مع الفقه قديما وحديثا مصدر إثراء وتقدم، وليس مصدر تجمد وتخلف. وإنطلاقا من هذا التوجه تصبح النتيجة الطبيعية هي أن تذوب هذه الجماعة في الإطار العام للمجتمع، وتشترك في قواه الوطنية بإعتبارها أحد المكونات الفكرية (ليست بالضرورة متميزة على مستوى تمسكها بالإسلام لأن المجتمع كله يتمسك بالمرجعية الإسلامية)
وأعتقد أن أي حزب أو جماعة فكرية تريد أن تضع مباديء الشريعة جانبا وتنطلق فقط من التجربة الإنسانية كما هو الحال في تركيا مثلا، لن يكتب لها النجاح في المجتمع المصري، بل ولن يمكن أن تتكون أصلا. وحتى من يطلق عليهم أنهم علمانيون فإن نقدهم للتيار الديني ينصب على فكرة واحدة وهي أنهم لا يريدون أن يٌستخدم الدين في القضاء على الحرية الفكرية، أو يؤثر على حقوق المواطنة، وهم يخشون أن يكون هناك قمع خفي بإسم الدين، وهو ما حدث في الواقع في كثير من البلاد التي قالت إنها تتخذ من الشريعة مصدرا أساسيا للتشريع وتنظيم المجتمع مثل إيران، والسعودية والسودان، وباكستان. وسينكسر هذا التخوف عندما يصبح هناك مرونة دون تفريط في الإسترشاد بالمباديء الأساسية للشريعة، والإتجاه نحو تفهم المقاصد وراء الأحكام التي جاء بها النص، والتي لايمكن القول أنها قطعية الدلالة بشكل مطلق، خاصة عندما نخرج من النص إلى التطبيق.
أزعم أن كثيرين من شباب الإخوان قد إنجذبوا إلى هذه الصياغة المعدلة الواضحة من فكر الإخوان المسلمين، لأنها تتناسب مع التعددية الفكري حتى داخل إطار التفسيرات الدينية، ولأنها تتناسب مع طموح هذا الشباب إلى الحرية وعدم قهره فكريا. كذلك فإن هذا الموقف الفكري يضع الإخوان في إتجاه مخالف تماما لإتجاه السلفيين الذي يصرون على أن هناك أمورا واضحا وأحكاما قطعية بصورة مطلقة، ولا يقبلون أي تأويل أو تعديل في الفهم والتفسير والملاءمة بين الواقع المتغير المتزايد في تعقيداته، وبين النص. إذن من الممكن أن ينتشر الإخوان المسلمون على نطاق واسع في المجتمع المصري، ويصبحون قوة تساعد على حيوية الإختلاف الفقهي وقبوله. وقد يهيء لهم هذا الإنتشار الفكري قوة سياسية تدعم أحزابهم المتعددة. وفي هذه الحالة أستطيع أن أقول أنه لن يصبح هناك تخوف من أن تأخذ هذه الجماعة مركزا مرموقا في الإنتخابات القادمة، إذا هي التزمت بما تقول، ولكن هل ستلتزم؟  
يجيء التخوف مما ظهر من سلوكيات القيادة وإدارتها لمواقفها في هذه المرحلة، وهذا اللعب السياسي الذي ظهر يتناقض في الواقع مع خلق الإسلام ومبادئه، وبالتالي فإنه يمكن أن يهدد بتفسخ هذه الجماعة وتدهور شعبيتها. إذن أنا لم أختلف مع صديقي في أنه يجب أن نأخذ جانب الحذر عند التعامل مع جماعة الإخوان من المنظور السياسي، وذلك إنطلاقا من مواقفها المتناقضة مع ما تعلنه،  ولكنني إختلفت معه في أن نحكم على كل المنتسبين إليها بأنهم مراوغون.  
ولكن الأهم من ذلك كله أنه علينا أن نفرق بين "الفكر" ونكون موضوعيين في مناقشته، وبين ملاحظة سلوكيات جماعة سياسية والإلتفاف حولها أو الإنفضاض عنها. ويذكرنا هذا بالنظام السابق الذي كان يرفع شعارات الإنحياز إلى ذوي الدخل المحدود، بينما كل السياسات الإقتصادية والتعليمية والممارسات على أرض الواقع تغلق الطريق نحو حراك إجتماعي صاعد، ولهذا قامت الثورة، ليس ضد الشعارات المعلنة، ولكن ضد الممارسات القمعية. ولهذا فإن قيادات الإخوان تكون قد حفرت لنفسها طريق إنهيار الجماعة من داخلها، إذا ما إستمرت في هذا التناقض بين القول والفعل، لأن من سيؤمنون بالفكر الذي تقدمه الجماعة، سيدركون أن هناك خللا ما في تطبيقه عندما يغلب تسييس الدين على إتباع الصدق والشفافية والبحث الدائم عن الفهم الأفضل دون الإدعاء بالإمساك بالحقيقة المطلقة. لم أكن إذن مدافعة عن جماعة الإخوان بإعتبارها جماعة سياسية، ولكنني كنت أرحب بتغير فكري، كنت أتمنى أن تلتزم به الجماعة، وإذا إلتزمت به حقا لأعطت لنفسها مسمى آخر، لأنها لن تكون "جماعة الإخوان المسلمين" في مجتمع غالبته مسلمين، ومرجعية أفراد هذا المجتمع هو المباديء الأساسية للشريعة الإسلامية، وهي الشريعة التي لا تفرق بين مواطن وآخر على أساس الدين. إنها تلك المباديء التي قامت عليها حضارة عظيمة، والتي جعلت مكرم عبيد الوطني القبطي لا يتحرج من القول أنه مسيحي الديانة، ومسلم الثقافة. 

No comments:

Post a Comment