Tuesday, January 10, 2012

عام مصيري: مين اللي يقدر على القدر إذا حضر د. علياء رافع

هذا العام فريد لأننا نبدأه وقد ذابت الفواصل بين الماضي والحاضر بين عام وعام، وإذا كان هذا هو الزمن، ونحن الذي نضع له الحدود، إلا أن عام 2012 لن يمكننا من فصله عن العام الذي سبقه ذلك أن عام 2011 انطوي في لمحة خاطفة.. ماكاد يبدأ حتي انتهي. اختلطت الشهور بعضها بالبعض، وتداعت الأيام مسرعة تحمل إلينا أحداثا متوالية نصنعها ونلهث وراءها في نفس الوقت. في كل يوم في ذلك العام المنصرم عشنا نكتم الأنفاس مترقبين ما يحدث، ومتطلعين إلى تحقيق أمل أشعلته في قلوبنا ثورة لم يحدث مثلها في التاريخ- وكثير هي الثورات- ولكن ثورة المصريين أرسلت للعالم أجمع رسالة لخصت فيها حلم البشرية على مدى السنين عندما يقهر السلام أكثر النظم تعسفا وعنفا، وعندما يصبح الفرد أمة، والأمة فردا حيث ذابت أنا وأنت وهو في بوتقة واحدة "أنا المصري" "ارفع رأسك أنت مصري".. كلنا ذلك المصري، كلنا ذلك الإنسان الذي امتزج في هدير بشري ملأ مصر من أقصاها إلى أقصاها. عندما سقطت كل الأيديولوجيات التي تفرق، والطبقات التي تميز، والألقاب التي تخدع، وأصبح كل فرد نقطة في بحر بشري، يتعالي فيه نداء الحرية والكرامة الإنسانية.
 شعور بالمصرية خلا من العنصرية وامتلأ بقيم حضارية عاشت منذ بدأ المصريين يتعرفون على هويتهم على أرض طيبة شقها النيل وأصبح مجرى الحياة، وسطروا تاريخا امتلأ بالألم والمعاناة، بالقهر والاستعباد، للدرجة التي كانت فيها كلمة "بلدي"، تعني دون المستوى الراقي، تتداولها الطبقات المتفرنجة استهزاءا بأهل البلد. عاش المصريون تحت حكم أجنبي، إلى أن جاء أول رئيس مصري بعد آلاف السنين، ومنذ عام 1952، واستقبل المصريون الطليعة العسكرية التي قامت بالإنقلاب العسكري ضد الحكم الملكي بالفرحة والفخر، وانضم الشعب إلى جيشه في ثورة بيضاء مجيدة. وملأ الأمل النفوس في حكم رشيد، ينعمون فيه بالحرية التي تاقوا إليها، وجسد جمال عبد الناصر حلما انتظرته الشعوب العربية جميعا في قيادة منها، تدعو إلى الاستقلال عن المحتل الأجنبي، وأثرت الثورة في العالم الثالث كله، ولكن انقلب نظام الحكم إلى حكم شمولي لا يسمح بالتعددية والتعبير، وتوالت الأحداث التي لا نريد أن نذكرها تفصيليا، ولكن منذ ذلك التاريخ وإلى أن قامت ثورة 25 يناير، لم ينعم الشعب المصري بالحرية التي هفت روحه إليها. ولذا لن يتخلى الشعب هذه المرة عن تطلعاته في حياة كريمة، ولن تتمكن قوى الثورة المضادة من قتل هذه الروح العظيمة.
وتذخر الكتابات بالتحليلات والتوقعات، ولكنني توقفت طويلا أمام الشاعر العظيم سيد حجاب، وأذهلني بكلمات تعبر عن صوت مصر. وعندما يكون الشاعر صوت أمة تقف التحليلات السياسية عاجزة  عن توصيل الرسالة التي يوصلها الشعر في بساطة وعمق، فتعبر عما يجيش في العقول والقلوب من ألم وفرح، أمل ويأس، تطلع وانسحاب. يرتفع صوت الشاعر ليعلنها صريحة واضحة أن شعب مصر لن ينهزم، فتكون كلماته ريحا صرصرا، يرهب من يريد أن يحطم، وتصبح كلماته سلاحا أقوى من أعتى الأسلحة فتكا، تنادي بالحق وتشدو بأنشودة السلام. استمعت إلى سيد حجاب في ليلة ليلاء، خيم فيها الحزن، والأسى، مع طعنات ممن وضعناهم في حنايا القلوب مطمئنين، فإذا بالطعنات تجيء الواحدة بعد الأخرى في قلوبنا، فتقتل من تقتل وتصيب من تصيب، ويكون الألم مزدوجا، ألم لمن استشهدوا، وألم لمن جاء عل يدهم الاستشهاد، لأنهم خانوا الأمانة والعهد والود. يقول سيد حجاب :
سقط القناع وبرقع الحيا  شالوه ... واتعرت السوءات وشاهت الوجوه
رفعنا قامة وهامة  بانت الكرامة ... وانكسر سم االأفاعي والضباع
 وبان لنا  اللهو الخفي واللي خفوه... واللي في لحظة يحضروه واللي بمزاجهم يصرفوه
وعرفنا  مين فينا الجبان اللي اشتري فينا وباع ... واللي الجميع بيعرفوه
 ومين  قتلنا وافترى وأدمن الخداع ...  وشفنا مين  مع الحقيقة وشمسها
ومين سعى لطمسها..  لما سألنا عن ضميره... قالوا ضاع
طالعين وطالبين الشهادة ومن طلب حق الشهيد ...  بيجرموه وبيحرموه في سجنه من ابنه الوليد
 ويباركوا للي صاب نشانه عين أخوه ...  تسلم ايديك يا باشا صبته في النخاع
لأ قطع ايده وفض فوه.... وعار على اللي خلفوه
والقصيدة طويلة مليئة بكل ما انكوت به قلوبنا، ولم نستطع أن نعبر عنه مثلما عبر هذا الشاعر العظيم، كلماته ليست كلمات مسجوعة أو مصنوعة، ولكنه توحد مع عقل شعب وضميره، ولذا فإن كل بيت منها رنين انطلق صداه في أنحاء الأمة. أنه عام مصيري، لأن ما بدأ في يوم 25 بداية لحقبة جديدة، ومن لا يدرك ذلك سيجتاحه طوفان الغضب. أجمع هذه الكلمات المتناثرة من قصيدة هادرة:  
احنا بقينا بكرة والنور اتبدر .. وانتم يابعدة مكلبشين  في ظلام سنين غبرة وأيام غابرة
الحق الحق وحقنا وحق الشباب اللي تهدر .. واللي تكسر ما ينجبر
الدم حقه غالي وعمره ما بيروح هدر.. واللي خرج من قمقمة مارد محال تلجمه  أو ينجبر
الناس طوفان غضبان وهيجانه خطر
اسمعني يا بتاع .. يا اسمك إيه ..حتسيب لنا بكره احنا أدرى وأولى به .. عالم جديد ..حر وسعيد .. ما بقاش بعيد، فجره الوليد طاهر عفي
 مصر الضمير والحق دينه ومذهبه
والحق ظاهر ووشه طاهر .. والمصري مش حيلين لمن أرهبه .. وياويله من هان شعبنا أو أغضبه.. ارحلوا عنا بسلام أو جربوا غضب الحليم إذا غضب.. قومي يا أمة واهتفي ومصدقك يا أمي من غير ما تحلفي.
انزاح ياليل .. ارحل يا ليل .. ولم تعابينك ياليل .. ولم وطواطيك يا ليل .. كل الظلام .. شمعة وحده تغلبه.. ايدينا الحرة دقات القدر.. مين اللي يقدر على القدر إذا حضر.
عبر سيد حجاب ببلاغة عن أن هذا العام مصيري، وأكرر أنه عام مصيري لأن ذلك الهدير مازال مستمرا، وذلك الشلال مازال جارفا لكل ما ومن يقف في طريقه، ولهذا فإن من يخيل إليه أنه سيقضي على آمال وأحلام هذه الثورة، فإنه لن ينجح مها أوتي من دهاء ومكر وخداع، لأن صوت الحق يهزم الزيف دائما.. حقا إن ضوء شمعة كاف ليقضي على الظلام. ليست هذه أحلام الشعراء، ولكنها حقائق التاريخ.
ظن السفهاء أنهم قادرون على  حرق ابراهيم (عليه السلام)والتخلص من دعوته، ولكن الله جعل النار بردا وسلاما عليه، وظن آخرون أن صلب المسيح  (عليه السلام) سيقضي على تبليغه، ولكن رسالته أنارت العالم بالمحبة، واجتمع أهل قريش ليقتلوا محمدا (عليه السلام) فكانت هجرته بداية لانتصار رسالته. ويظن المستبدون أنهم قادرون على قتل ثورة نبيلة ضحى في سبيلها شباب طاهر، ولا يدرون أن من قتلوهم  سيظلوا جذوة تشعل القلوب بالإصرار، ولا يتصورون أن من أصابوا عيونهم قد أضاءوا بصيرة شعب بالرؤية والوضوح.
إن كل حديث ينزل بنا من الرؤية الشاملة إلى التفاصيل المملة، قد يجعلنا نفقد الطريق من تحت أقدامنا، وهذا ما يريده أعداء هذه الثورة تماما، يريدوننا أن نهلل فرحين، أو نعبس معترضين على فوز التيار الديني داخل البرلمان، وننسى القضية الأساسية "الحرية". يريدون أن نغرق في قضايا فرعية عن الشريعة وأحكامها، وننسى أن مباديء الإسلام بل وكل الأديان هي تحقيق العدالة واحترام الإنسان وحريته.  يأخذوننا إلى خندق الطائفية، والطائفية هي صنيعة وخدعة أدخلنا فيها النظام المستبد، وليست مرضا عضالا. إن الأمر واضح لمن يريد أن يرى، غامض لمن ينسى الهدف العظيم الذي جمع شعب مصر في لحظة حاسمة من تاريخ هذه الأمة، ويتصور أن "الاستقرار" أهم من "الاستقلال"، يريد أن يغرق في نعيم "العبودية" ولا يستمتع بنشوة المقاومة من أجل "كرامة الإنسان".  كلنا مسئول عن حمل الشعلة التي تخرجنا من ظلمات التفرق والتشرذم إلى نور التوافق والسير قدما، ننتصر لحقنا في حياة كريمة لا تهددها قوة الغاشمين، دعاؤنا إلى رب العالمين أن ينصر الحق المبين.. آمين. 

No comments:

Post a Comment