Tuesday, August 3, 2010

النظام السياسي القادم وبناء مستقبل مصر د. علياء رافع


إزدحمت الأفكار في رأسي وأنا في متن الطائرة العائدة بي إلى وطني الحبيب، بعد زيارة للولايات المتحدة، و في كل مرة أعود فيها إلى مصر وتقترب الطائرة من أرضها يخفق قلبي فرحا، وأتطلع إلى رؤية بلدي بشوق شديد، وينتابني شعور بالراحة والسلام والأمان. كانت أفكاري تدور في أكثر من اتجاه. فتلك الزيارة كان لها طعم خاص، ولقد اعتدت أن أذهب إلى العاصمة واشنطن كثيرا لأسباب عائلية في الأغلب، وعلمية في أحيان أخرى. ما تذوقته في هذه المرة كان مختلفا، ربما يكون ذلك لأنني إعتدت على رؤية هذه المدينة، وربما لأن حبي لبلدي وأملي في أن يعتني بها أبناؤها قد غلبني، وربما وربما ... ولكن في النهاية كنت أسير في واشنطن، وأتذكر الثراء المعماري والحضاري الذي تذخر به بلدي.
وبينما أنا في واشنطن، أخذت مخيلتي ترسم صورة مركبة من الشوارع العريضة والنظام المروري الدقيق الذي أستمتع به في هذا البلد وبين أحياء القاهرة القديمة، ووسط البلد، والجيزة، وكل حي من أحياء القاهرة وكل بلد في مصر.  أي أنني تصورت أنني أستطيع أن أسير في شوارع مصر بنفس هذا اليسر وأنه يمكن أن أقود أو أركب سيارة، واستمتع بقيادتها أو أشعر بجمال الانتقال من مكان إلى آخر وسط هذا الثراء الحضاري الذي تقف واشنطن خجلة أمامه. أسعدني هذا الخيال كثيرا، لأن هذا الحلم إذا تحقق، لأصبحت مصر بلا منازع من أجمل بلاد العالم. ولكن أفقت على الواقع فهناك الكثير من الجهد يجب أن يبذل حتي نستطيع أن نمزج بين الماضي العريق بكل ما يحمل من قيمة، وبين الحاضر الذي يذخر بالنظام والدقة في البلاد المتقدمة. ولكن ما جعلني أعتصر ألما أن هذا المزج ليس مستحيلا، ولكننا متهاونون في تحقيقه.  فهناك انتهاك لعظمة بلادنا واحترامها، وكل فرد منا مسئول عن هذا.
 في هذه الزيارة الأخيرة، تهاوت أمامي صورة أقوى دولة في العالم، وبرزت أمامي حضارة عظيمة يجب أن تعيش في الحاضر ولا تظل مدفونة في ذاكرة تاريخ ميت. إن كل حي من أحياء القاهرة يشهد بطبقة من طبقات التاريخ وبإنجاز  قدمته مصر. وسر الحضارة في قيمة الإنسان فيها، وقدراته الخلاقة، الحضارة ليس آثار، ولكن الآثار هي رسائل حية إلى الإنسان الآن في الحاضر. وقفز إلى ذهني ذلك الكتاب الذي أعطتني إياه صديقة للسير كنز روبنسون، والذي كان له أثر بالغ في ميدان التعليم والتربية، ويسمى بالإنجليزية The Element ومن الصعب ترجمة الكلمة ترجمة تنقل أراده الكاتب، فهو يريد بهذا المصطلح أن يشير إلى نقطة الإلتقاء بين الإمكانيات الخلاقة التي يتفرد بها كل إنسان وبين القدرة والرغبة على تفجيرها، وإذا حدث هذا أصبح الإنسان قادرا أن يعيش حياة مفعمة بالقيمة والخلاقية والعطاء، ويعطي هذا الكتاب أمثلة كثيرة لشخصيات معروفة في كل  الميادين سواء فن أو رياضة، أو اقتصاد وسياسية وغيرها، حققوا نجاحهم لأنهم وجدو نقطة الإلتقاء بين ما يتشوقون إليه، وبين ما حباهم الله به من إمكانيات، ويتحدث الكاتب عن دور التعليم في تدعيم الفرد أن يجد نقطة الإلتقاء هذه.  وإذا بالإفكار المشتته تترابط، فالتعليم هو أحد العوامل الأساسية لتحقيق نهضة لمصر. إنه تلك النوعية من التعليم التي لا تنظر إلى المواطن على أنه مجرد سلعة، ولكنها تنظر إليه من منظور إنساني، يفجر إبداعه وقدراته، فتعود الثمرة على المحيط الاجتماعي ككل.  
إن قدرات الإنسان المصري الكامنة هي رهاني دائما في كل مناقشة تسود فيها الأحاديث المتشائمة عن مستقبل مصر، وأومن من أعماقي أن هذا الشعب إذا أعطيت له الفرصة من خلال هذه النوعية من التعليم التي تحدث عنها السير روبنسون، وآمن أن النظام يقوم على العدل والمساواة، وشعر بأن قياداته تطبق على نفسها مبدأ الشفافية، وشعر أن حلمه القومي هو صمام الأمان لآماله وأحلامه، لحققت مصر في وقت قياسي وثبة كبيرة إلى الأمام، ولكان سباقها مع الزمن فوق الحسبان. أشعر بهذه النبضة الحية المبشرة في طالباتي اللائي يتجاوبن معي في المحاضرات، ويسعدنني بتعليقاتهن، وأري في أعينهن الأمل والحلم يتألق. وأشعر بنبض مصر في الفنون الجميلة، وفي محاولة الشباب أن يخرج من اليأس إلى الأمل بكل الطرق الممكنة، على كثرة ما يواجهه من المعوقات. وأرنو إلى المستقبل بشغف لأن كمية من أسعدني الحظ بلقائهن من المثقفين، والعلماء، ومن أقرأ لهن من الكتاب فخر لأي بلد.
لا يعني هذا إطلاقا أنني مغمضة العينين عن انتشار الفساد، والتطرف، والجريمة، واليأس، والانسحاب من المشاركة المجتمعية، وتغلب القيم المادية، والاهتمام بالمصالح الفردية، والفوضى المنتشرة في كل مكان. بل إن كل هذه السلبيات هي التي يجب أن تخلق في نفوسنا التحدي، والرغبة في التغيير.  وعلينا أن نتذكر أن أثناء حرب أكتوبر 73،  توقفت الجرائم، وأن يوم 26 فبراير 87 ، أخذ الناس دور الشرطة في تنظيم الشوارع، عندما حدثت حركة عصيان في قوات الأمن المركزي. هذا ما يجعلنا ندرك أن مظاهر الفساد والانهيار الأخلاقي هي أعراض لمرض، ليس من المستحيل علاجه، ولكنه يتطلب رؤية جديدة، ويتطلب أسلوبا جديدا في النظام السياسي، قائم على الثقة بين الشعب وقياداته وحكومته.
أقول قولي هذا ونحن مقبلون على انتخابات مجلس الشعب، ثم انتخابات اختيار رئيس الجمهورية. وعلى الرغم من احترامي وتقديري للرئيس مبارك، وثقتي في وطنيته، ورغبته في أن يحافظ على أمن هذا الوطن، وعلى رفاهة شعب مصر، إلا أنني أتحفظ في مقاومته للمطالب التي يدعو إليها د. البرادعي، والتي أجد فيها الملاذ الوحيد الذي يمكن أن يخرج شعب مصر من السلبية إلى الإيجابية، وأعتقد أن الرئيس إذا استجاب لهذه المطالب لحفظ التاريخ له مكانته وإسمه. بل وقد يكتسب شعبية كبيرة قد تدخله إلى كرسي الرئاسة مرة أخرى، ولكن هذه المرة بإرادة حقيقية، وليس لأنه لا يوجد بديل له، أو للشك الذي يصل إلى اليقين في تزوير الانتخابات.
وقد تبدو كلماتي صرخات في الهواء، وعلى الرغم من هذا أقول ما أعتقد، وهذا مايبعث في قلبي الأمل. نعم .. فهناك تلك المساحة الصغيرة جدا التي لم تنطفيء بعد، إنها مساحة إبداء الرأي.  ولمن عاش عصرا كان يخشى فيه الأباء الحديث أمام أبنائهم منتقدين نظام الحكم، خوفا من التعرض لزوار الليل الذين يأخذون الناس إلى غير رجعة، يدرك أن هذا العصر على ما فيه من سلبيات، ولكن به كثير من الإيجابيات، منها أننا نقول ما نريد أن نقول حتي ولوكان صرخات يرجع صداها إلى آذاننا.
ولكن ما الذي يمكن أن يحدث لهذا الشعب إذا شعر كل فرد فيه أنه قادر على المشاركة في كتابة تاريخ بلاده، وتغيير نظامها؟  ماالذي يمكن أن يحدث إذا اشتركنا جميعا في حلم قومي واحد، واجتمعنا لتحقيقه؟ نحن –الشعب المصري – الذي يرسم ملامح هذا الحلم، كلنا يشارك في تحديد ملامحه، وكلنا يلعب دورا من أجل الوصول إليه. إذا حدث هذا لعادت مصر إلى مصر.  وأقول لطالباتي لقد حقق الإنسان المصري معجزة ببناء جبل عملاق إسمه الهرم، وهذا الصرح القابع في هضبة الجيزة يرسل لنا رسالة هامة، فلا يجب أن نجعل الهرم مصدر فخر لأنه يعبر عن الماضي العظيم، ولكن يمكن أن نجعله قيمة تعيش فينا لنخلق المعجزات، ولن يحدث هذا إلا إذا تجمعنا، ونحن نعرف إلى أين نسير، وما هو الهدف.  لا ينبغي أن يضع لنا أفراد أهدافا ويدفعوننا للسير إليها، أو يشترون صمتنا بخدمات هي حقنا. إننا في حاجة إلى قيادة تخرج هذا المارد القابع في أعماق المصريين، وتمكنه أن يأخذ دوره في الخروج من مأزق الانحدار، إلى تحدي التقدم والإزدهار، حينئذ يمكن أن يهنأ قلبي، وأستطيع أن أسير في شوارع مصر بتلك الراجة التي أسير فيها في واشنطن، ولكن شتان بين البلدين، فهذه بلد إذا أستعادت شخصيتها ستظل تحمل رسالة القيم الأخلاقية العليا والنبل والعطاء، وتلك بلد سيخجل أبناؤها لما سببته لبلاد العالم من أهوال وشقاء. ويتوقف الأمل فهو رهن بما ستحمله الأيام القادمة: هل سيتمكن شعب مصر أن يأخذ دوره؟ 

No comments:

Post a Comment