Tuesday, August 10, 2010

نصر حامد أبو زيد وإشكالية تأويل النص د. علياء رافع


بعد إنتقال د. نصر حامد أبو زيد إلى رحمة الله، أخذت أقلام المفكرين والصحقيين تملآ الصفحات عن حياة هذا الرجل وفكره،  ومما قرأت أذكر 3 مقالات للشاعر أحمد عبد المعطي  حجازي، وأخرى للدكتور جابر عصفور، وثالثة للأديب والمفكر العظيم جمال الغيطاني وتحقيق في المصور مع زوجة د. أبوزيد، وعلى الشبكة الدولية (إنترنت) هناك موقع  تحت إسم رواق  قد جمع أغلب ما كتب عن نصر حامد أبوزيد،  وأتصور أنه هناك الكثير مما لم أقرأ.
ولا شك أن قضية د. أبو زيد أثارت ضجة كبرى في الثسعينيات، تعدت أصداؤها العالم الإسلامي إلى العالم الغربي، الذي وجد في التصدي له والهجوم عليه ثغرة، يهاجم بها قصور الدول الإسلامية عن تحقيق مبدأ هام من حقوق الإنسان ألا وهو حرية الفكر. وفي كل الأحوال فإن ما قدمه هذا الرجل من رؤية تستحق أن يعاد عرضها، وليتفق معه من يتفق أو ليختلف معه من يختلف، دون أن يكون الإتقاق أو الاختلاف هو المعيار الذي يتحدد معه أصحاب الفكر المستنير أو غير المستنير، ذلك أن عصر المطلقات قد انتهي، وأصبحنا نعيش في عملية مستمرة للبحث، دون إطلاق الأحكام جزافا، بل وإن قبول التناقض والاختلاف هو أهم ما يميز هذا العصر. وهذه بالفعل أحد القضايا التي حاول د. أبو زيد  أن يبرزها، مدافعا عنها ومهاجما من يعطون لأنفسهم أهلية للوصول إلى الحقيقة المطلقة.
وأنطلق من مناقشتي لتوجهات د. أبو زيد ليس من منطلق الإشادة به، أو الهجوم عليه، ولكن من بناء حوار يقوم على أساس مناقشة القضايا الأولية التي بنى عليه أطروحته في تفسير أو تأويل النص. ولقد لا حظت أن الكثيرين ممن كتبوا عنه قد أسقطوا بعضا من تصوراتهم على فكره، فالرجل حاول أن يضع قواعد لتفسير القرآن، ولم  يقل بأنه يشجع من يطلق العنان لكل من يريد أن يدلي بدلوه في إستخراج المعاني دون ضابط أو رابط. ولم يدخل د. أبوزيد في وضع تعريف للدين، وكذلك لم تكن كتاباته أراء، ولكن فاق اهتمامه بوضع منهجية قراءة النص المقدس وضبطها أي قضية أخرى.  ولأنني أريد أن أطرح توجهات هذا المفكر بصورة تبسيطية وأرجو ألا تكون إختزالية، فإنني سأطرح الفكرة الأولية في رؤيته للنص الديني، ولقد طرح هذه الرؤية كي يبني عليها نتائج فقهية وفلفسية أثارت حربا فكرية عليه.
أراد د. أبوزيد أن يتعامل مع النص في البعد الاجتماعي والبيئي الثقافي،  ولم يكن هذا سبقا تفرد به،  ولكنه من أجل أن يخرج بمنهج تفسيري جديد، أسرف في تأكيد أن لغة القرآن تخضع للبحث النصي من حيث أنها لغة العرب في ذلك الوقت، ومرة أخرى فإن قوله هذا ليس جديدا، ولكن إثارة هذه القضية في بعدها "الكلامي" أي فيما يختص بالفلسفة الإسلامية، من حيث إصراره على ماجاء به المعتزلة قبله أن النص القرآني  يخضع للتمحيص المنهجي اللغوي لأنه متقيد بظروف الزمان والمكان الذي ظهر فيه، لأنه خلق في الزمان والمكان، وقد أثار عليه  هذا الرأي حفيظة من هاجمهم وإتخذوا من هذا القول ذريعة يتهمونه فيها أن ينفي أن القرآن "كلام الله".  ومن ناحية أخرى فإن محاولته للتعرض وإعادة تفسير كلمة "وحي"، على الرغم أنه لم يكن يقصد بها نفي المصدر الغيبي للقرآن، إلا أنها قد جلبت عليه كثيرا من النقد الذي تجاوز في بعض الأحيان حد المعقول أو المقبول.
لم تكن الإشكالية التي طرحها د. أبو زيد ومخاصموه جديدة على الإطلاق، لأنها نفس القضية التي أثارها علماء الكلام عن "القرآن" هل هو قديم أم حادث؟ وأري أن هذا التساؤل تساؤل مختلق ليس له إجابة، لأنه يخلط بين أمور لا يصح أن نخلط بينها.  ذلك أنه إذا كان القرآن كلام الله، إيمانا بأن الرسول لم يبتدعه ولم يؤلفه، فهذه حقيقة يشهد بها الاختلاف الواضح بين أحاديث الرسول والأحاديث القدسية، وبين أسلوب القرآن. وكل من آمن برسالة الرسول صلى الله عليه وسلم، فهو يؤمن بأن القرآن قد تنزل على الرسول، ولسنا في حاجة إلى جدل في هذا الشأن، لأن من لا يؤمن بذلك فهذا شأنه، ولا جدوى من محاولة إقناعه. ولكن جوهر عقيدة  المسلم هي أن "القرآن كلام الله"، لأنه ليس كلام الرسول، وليس كلام يمكن أن ينتسب إلى بشر أو شخص معروف. لم يتعرض د. أبوزيد لهذه الرؤية لأنها تبدو له بديهية، على ما أظن.
 ولكن قضية التعامل مع كلام الله (القرآن) هي القضية الهامة التي أثارت الكثير من اللغط والاختلاف، قديما وحديثا،  حيث أنه لا يوجد إتفاق على ما إذا كان المعنى المقصود في النص واضح بذاته، أم أنه في حاجة إلى تأويل. ولو كان أبو زيد إكتفي بالقول مستشهدا بالتاريخ أن العلماء قديما وحديثا قد اختلفوا في تفسيرهم للآيات، لكان هذا في حد ذاته دليلا على أن الاعتقاد في قدسية المصدر،  لا تتعارض مع الاختلاف في تعدد التفسيرات بشأنه ، وقد قال ويقول كثير من الناس هذا الرأي دون أن يتعرضوا للمساءلة، ولكن أبو زيد أراد أن يضيف سبقا فكريا، عندما حاول أن يؤكد أن النص القدسي قد ظهر في زمان ومكان وتقيد باللغة التي كان يتكلم بها العرب، وحاول فلسفيا أن يؤكد هذا المعنى، وعبر عن هذا الفكر بأسلوب جديد وبعبارات مستحدثة، وذلك من أجل الإسهام في بناء منهج علمي لغوي في التعامل مع النص.
وأعتقد أن المنطقة التي ولجها أبوزيد، ليست فقط منطقة شائكة، بل هي منطقة يجب فك الخيوط فيها قبل الولوج إليها، حتي لا يختلط الأمر بين مستويين من الرؤية متوازيين، لا يلتقيان في نفس المستوى.  ذلك أن الإيمان بأن القرآن كلام الله لا يتطلب نفي أنه نص لغوي قابل للتفسير والتأويل، والقول أن هذا النص قابل للتفسير والتأويل تبعا للمعاني التي تحملها الألفاظ في الوقت الذي نزل فيه، لا يلغي عنه صفة القدسية، أو يجعل أحكامه نسبية. ولذا فإن المطالبة بوضع إجابة جازمة عما إذا كان القرآن مخلوقا أم قديما، مقدسا أم  يحمل لغة إنسانية، هو سؤال لا معنى له أساسا
ومن ناحية أخرى فإننا إذا تأملنا في التعبير "كلام الله"، فإن هذا التعبير يقصد به القدرة التي يتجلي بها الله لخلقه، والآيات التي يظهر بها في الوجود، بهذا الفهم يكون القرآن هو تعبير عن هذه القدرة. ومن ناحية أخرى، إذا آمن الإنسان بوجود تلك القوة القدسية فهل هو قادر على تصور "اللازمان" أو ما بعد الزمان، هل يستطيع العقل أن يصل أو يدرك معنى "الأزل". إنه معنى أفتراضي نسلم به، لأننا لا نملك من القدرة غير ذلك، لأننا ندرك أن الأزل يلغي الزمن تماما. وإذا كان حديثنا عن "القرآن" الذي نقرأه ونعرفه، فهو قد تجلى في زمان، بل ونزل منجما متفرقا، ليتجاوب التنزيل مع الظروف والأحوال التي كان يمر بها الرسول، ويمر بها مجتمع المسلمين.  إذن ببساطة شديدة فإنه من منطق الأشياء ألا نمزج ما ظهر من خلال الزمن بلغة يمكن قراءتها وفهمها وبين ما هو فوق الزمان. ولا يعني هذا أن نصل إلى فصل الخطاب بالقول أن القرآن مخلوق أو بفصل الخطاب أن نقول أن القرآن قديم، لأننا نجهل حتي ماهية خلق القرآن (تجلي المعاني في ألفاظ)، ونجهل كذلك  المقصود بتعبير "كلام الله"، إذا كنا نقول أن القرآن كلام الله، فإن هذا يدخل في دائرة المجاز وليس الوصف، مثل القول أن "عيسى كلمة الله وروح منه".
ولأن د. أبوزيد لم يكن يتحدث عن البعد العقائدي بالنسبة للمسلمين، لأنه قد إعتبر أن التعرض لهذا قد يخرج به عن موضوع بحثه العلمي،  ولأنه تحدي الكثيرين ممن يجعلون النص واضحا بذاته دون فهم للبعد الاجتماعي والتاريخي والثقافي، فإنه فتح الباب أمام المختلفين معه في الرآي ليكيلوا له إتهامات إذا كانت تدل على شيء، فهي تدل على عدم فهمهم للهدف الذي سعى إلى تحقيقه في أطروحته التي عرضها. كان من الممكن مراجعته في منهجيته وبيان قصورها في  التأويل. ذلك أن القرآن مع أنه لغة، فهو ليس لغة فقط، وليس تركيبات بنائية لفظية فقط،، فهو قبل هذا وبعد هذا نص يحمل طاقة روحية، ولذا كانت قراءته تعبدا، وأما ما يختص بمعالجته لأحوال البشر والمجتمع، فإن البحث في الظروف الاجتماعية والثقافية والبيئية والتحقيق اللغوي ينبغي أن تكون أحد آليات البحث عن "المقصد"، وهو بحت متصل ومتواصل ولاينتهي. وليختلف المختلفون بعد ذلك في فهم "المقصد" أيضا، أو التعبير عنه تطبيقيا من خلال التشريعات. وليكن هذا الاختلاف مصدرا للإثراء وليس للإلغاء. لقد حرك أبوزيد المياه الراكدة، ومازلنا في حاجة إلى مزيد من الاجتهاد والحوار.

No comments:

Post a Comment