Tuesday, August 17, 2010

رمضان وقراءة القرآن د. علياء رافع


في المقالة السابقة تناولت ما أثاره توجه د. نصر حامد أبو زيد في إجتهاده لإيجاد منهج في تأويل القرآن من إشكاليات، وأوضحت أن الاختلاف أو الاتفاق مع ما توصل إليه من نتائح ليس معيارا للحكم، الأهم هو أن يكون هناك حق للإختلاف. الإختلاف  يثرى الفكر ويجعلنا نعيد رؤية ما نعتقده من مسلمات قد لا تكون بالضرورة كذلك، ولنننظر على سبيل المثال كيف يمكن أن يكون حال المرأة اليوم، إذا ما إستمر فكر القرن التاسع عشر في حجبها عن العمل والتعليم تحت إدعاءات دينية؟ وقد ننتفض فزعا عندما نرى أسلوب طالبان في إدارة المجتمع الأفغانستاني، الذي أعاد أفغانستان قرونا إلى الوراء، تحت زعم  الإلتزام الديني، وهكذا.  نحن في حاجة إلى هزات فكرية من حين لآخر،  لتصبح إعادة التفكير في المسلمات الثقافية منهجا  لنتقدم في فكرنا، ونطور من إدراكنا بصورة مستمرة.   ولقد أثارت مقالتي عن نصر حامد أبو زيد عددا من التعليقات، إذ يبدو أنه قد حدث اختلاط بين تناول منهج التأويل وبين ما يحمله القرآن من معرفة تتخطي الزمان والمكان. ولذا فلا بد من العودة إلى الموضوع من زوايا متعدده.
لاشك أن مقولة أن القرآن يحمل معرفة تتخطى الزمان والمكان هي مقولة إيمانية، ولايمكن أن يوضع الإيمان في موضع جدل، ذلك أن الإيمان دائما ينتمي إلى التسليم بقضية ما، لا تخضع للتمحيص، وإلا تحول الإيمان إلى معرفة.  وأظن أن معظم المسلمين يؤمنون بأن المعاني القرآنية لا تخضع للزمان والمكان، ولكن القضية هي كيف نتناول نحن ذوي القدرة المحدودة والإدراك الذي يحده الزمان والمكان آيات القرآن. ولذا يجب أن أبدأ بالقول أن تلاوة القرآن تعبدا، لا تتطلب إطلاقا أي محاولة تأويلية،  لأن التلاوة التعبدية تتطلب فقط تهيأة نفسية وروحية، كي يستقبل من يتلو بعض فيوضات القرآن النورانية، وهذا التوجه يجعل القرآن يتخاطب مع الإنسان خطابا شخصيا بحتا، فما يقع في قلبي من فراءة آية من آيات الذكر الحكيم في لحظة ما، قد يختلف عن قراءتي لنفس الآية في لحظة آخرى. لا نستطيع أن نتحدث عن تلك المعاني التي تقذف في القلب أنها تفسير للقرآن ولكن هي إستقبال لبعض المعاني، وتظل نفس الآية قادرة على أن تولد معاني أخرى في لحظات أخرى، وهذا أحد الجوانب التي تجعل من تلك الأيات مصدرا للإستزادة في كل مكان وزمان.
ولأوضح ما أعنيه أذكر  حدث  هزني من الأعماق، فلقد جاءتني أم شابة توفت إبنتها البالغة ستة عشر ربيعا في حادث مأساوي، وقد استبد بهذه الأم حزن عميق، وأسئلة لا تستطيع أن تجيب عليها، وكان تسليمها لقضاء الله وقدره فوق طاقتها الإيمانية، فقررت أن تذهب إلى عمرة، لعلها تنقذ نفسها من إعتراضها الذي جعلها قاب قوسين أو أدنى من الكفر، وذهبت إلى الأراضي المقدسة، وبينما هي تطوف بالكعبة، إذا بمطر ينهمر من السماء، وإذا بها تشعر وكأن هذا الماء يهديء من غليانها النفسي، ويطفيء ذلك الحزن الذي يحرق قلبها، وتنتهي من الطواف، ويهدأ المطر، وتجلس في المسجد الحرام، فيغشاها نوم لطيف، فتستيقط من نومها، وتشعر براحة لم تشعر بها منذ وفاة إبنتها. نعم هي ما تزال حزينة، ولكنه حزن من نوع آخر، ليس ذلك الحزن الذي كاد يدفع بها إلى حافة الجنون. وتمسك القرآن وتقرأه فإذا به يخاطبها. "إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاءً لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَىٰ قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ" (الأنفال، آية 11). لقد شعرت أن الله يخاطبها جهرة من خلال هذه الآيات. وتركتني محدثتي وأنا أسبح بعظمة الله.  وعلى كثرة ما قرأت القرآن واستمعت إليه، بدا لي أنها أول مرة أقرآ فيها هذه الآية في هذا السياق.
وأذكر في هذا الصدد أيضا  قصة للمفكر الأمريكي جيفري لانج الذي ولد مسيحيا، ولكن خرج من المسيحية متشككا في وجود الله أصلا، وذلك لأنه لم يستطع أن يعقل أن الإله الكامل يخلق الشر، ولأن الشر والأشرار موجودون فهذا يتناقض مع فكرة الكمال. وظل متشككا في وجود الله، إلى أن تلقي هدية من أحد أصدقائه، ووجد أنها "القرآن" مترجم بالإنجليزية، ففتح الكتاب لتقع عيناه على الحوار الذي يسرده القرآن بين الله والملائكة عندما أنبأهم بخلق آدم، وإذا به يجد أن الملائكة تسأل الله نفس الأسئلة التي يسألها قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ" (سورة البقرة آية 30) وإستمر يقرأ فإذا به يجد إجابة لأسئلته، وكأن القرآن يخاطبه هو. وزاد فضوله عن الإسلام، فأخذ يقرأ عنه بنهم، إلى أن أعلن إسلامه.
في الحالة الأولى التي ذكرتها عن تلك السيدة، فإن الرسالة التي وصلت إليها لتهدأ نفسا، وتطيب خاطرا،  لا تعني أنه كلما إنهمر ماء من السماء تجيء معه الرحمة، فقد يكون نقمة عندما يصبح المطر فيضانا مثلا. إضافة إلى هذا يمكن إعتبار أن نزول الماء من السماء تعبير مجازي يشير إلى الرحمة. وأما عن الحالة الثانية الخاصة بتفاعل جيفري لانح، فلن يستطيع إنسان أن يعرف طبيعة هذا الحوار الذي حدث بين لله والملائكة، أو أن يدرك كيف تحدث الله إلى الملائكة، ولن يمكنني أن أعرف طبيعة الملائكة وتكوينهم وشكلهم.  يكفي أن أستقبل ما يعطيه لنا هذا الموقف من معاني تؤكد أن هناك حكمة من خلق الإنسان فاقت قدرة الملائكة على الفهم، وأن هناك الكثير مما لا نستطيع أن ندرك الحكمة وراءه، وعلينا أن نتفاعل مع هذا العجز بإيجابية وليس بسلبية، أي نسلم بقدراتنا المحدودة دون أن يعني هذا التوقف عن التساؤل والبحث في حدود ما نحن مزودين به من أدوات عقلية وغيرها لنصل أو نكتشف ما نجهله.
وقد يقرأ الكثيرون القرآن وكأنهم يقومون بما ينبغي عليهم أن يقوموا به، دون أن تكون هناك تلك الشعلة الداخلية القلبية التي تتيح لهم أن يستقبلوا بعضا من فيوضات هذا الكتاب الكريم، فيقعوا في الحرفية المطلقة، التي قد تغلق أمامهم باب الاستقبال. أو قد يزج البعض من المفسرين بآرائهم في أمور لا نستطيع إدراكها مثل وصف الجنة أو جهنم أو يوم القيامة، أو غيرها إعتمادا على ظاهر اللفظ، وهو ما يجعل ما يقولونه رجما بالغيب، ويجعل من يملك عقلا نقديا تتوفر له أسباب الإعتراض والتشكك. الأيات التي تتناول الثواب والعقاب تستهدف أن تصل بنا إلى الإيمان بقانون محكم للجزاء، حتى لا يظن الظالم الذي افترى على الناس بأي صورة أن قدرته على الهروب من عقاب المجتمع الذي يعيش فيه، سيجعله يفلت من العدل الإلهي، ولا يظن من يعمل خيرا ولا يجني آثاره أن عمله قد ضاع هباءا. وأما إذا دخلنا في تقاصيل حتي مع أكثر العقول قدرة على التأويل فيما يتعلق بيوم الدين والجنة والنار والملائكة والخلق، فلن نستطيع أن نفك الشفرة القرآنية التي أريد لها أن تكون كذلك، لتقذف في قلوبنا مشاعر متجددة من الجلال والمحبة، تشعرنا بحدودنا وعجزنا وحاجتنا إلى العون القدسي. وهذه الشفرة مضمنة في اللغة التي نزل بها القرآن بما فيها من تركيبات خاصة، واختيار محكم للكلمات.
عندما نتحدث إذن عن القرآن، فنحن لا نستطيع أن نتعامل مع كل الآيات بنفس الأسلوب، إو بإستخدام نفس المنهج،  الإلمام بالمعنى اللغوي للفظ كما تداولته العرب هو فقط أحد الأدوات الهامة في تأويل بعض النصوص التي تحمل في طياتها أبعادا تطبيقية أو أمورا متعلقة بهذه الحياة. فالتواصل مع القرآن يتم في أحد جوانبه عن طريق التعبد، وفي جانب آخر عن طريق التفكر، وفي جانب ثالث عن طريق التأويل، وقد يتشابك كل هذا معا، وذلك لأن الآيات القرآنية تختلف في مقصدها وفي سياقها وفي تركيبها، فيجب أن نفرق في الآيات القرآنية بين آيات قد نزلت إستجابة لظروف أو لحدث بعينه، وآيات أخرى تتناول قضايا عقائدية، إذ نجد فاتحة الكتاب مثلا دعاء، ونجد أول سورة البقرة توضح أن قراءة هذا الكتاب تستلزم أن يكون الإنسان عنده قدر من الإيمان والتقوى، ثم نجد آيات الميراث، أو القيام بشعائر الحج، وغيرها من الأمور التي تتعلق بالعبادات والسلوكيات، وهكذا.
إننا ونحن في أنوار هذا الشهر الكريم في حاجة إلى تلاوة القرآن تقربا واحتسابا، وتعبدا وإنابة، واستقبالا لفيوضاته النورانية، والأمر أكبر من أن تكون القراءة هي إحاطة باللغة، على أهميتها، ولكن طهارة القلب، والإيمان بقدسية هذا التنزيل أساس وتهيئة للتواصل والتفاعل مع آيات الذكر الحكيم.    
  

No comments:

Post a Comment