Tuesday, February 15, 2011

توقف القلم وتحدث القلب د. علياء رافع


لم  أستطع في تلك الفترة السابقة أن أمسك القلم.. كلما أمسكت قلمي كانت الأحداث تسبقني وتتسارع أمامي فاجد أن كل كلمة لن يكن لها معنى عند النشر. وعندما جاء يوم الأربعاء الحزين الموافق للثاني من فبراير لم يعد قلمي قادرا على كتابة حرف واحد.. لم يكن عقلي قادرا على قراءة سطر واحد، لقد تحولت إلى عيون قلقة تترقب ما تأتي به الأحداث . لم تسعفني كلمات تعبر عن آهات القلب الذي كان ينزف بكاء .  كنت أصرخ صراخا عاليا وأنا أري أولادي .. أبناء مصر الموجودين في كل مكان في مصر..  يتصدون بصدور عارية وروح عالية لوحشية لم أر لها مثيلا،  ويتحول صراخي إلى دعاء من الأعماق أن يحميهم الله ويزيح الطاغية والطغيان.
في ذلك اليوم االحزين والفاصل  وفي الساعة الواحدة بعد منتصف الليل عاد أفراد أسرتي الذين كانوا في الميدان، رؤسهم مرفوعة، عيونهم مليئة بدموع غير مرئية، وعلى وجوههم دهشة ممزوجة بالغضب، وكانهم لا يصدقون أنهم قد عادوا أحياء. وأخذوا يتحدثون، يخرجون ما يعتمل في أنفسهم من حزن دفين وألم لم يجدوا أيضا الكلمات لتعبر عنه. "لقد كانت معركة مدبرة"، هكذا أكدوا "لم تكن بأي حال هجوم عشوائي، أو إستفزازات من مؤيدين سياسيين".  قالوا " صور الجرحي لا نستطيع أن تمحي من عقولنا.. لا يمكن أن تكون حصيلة الشهداء عددا لا يتعدى أصابع اليد ، لا بد أنهم عشرات الضحايا، وألاف الجرحي.. رأينا عبقرية ليس لها مثيل . في هذه المعركة التي إشتركت فيها الجمال والخيل وسارت من الهرم إلى ميدان التحرير (دون أن تلفت الأنظار!!!) هجم هذا الهمج على من مثلوا الوجه الحضاري الأصيل لمصر.. إستخدم المسالمون عقولهم ليدافعوا عن أنفسهم .. كان إيمانهم بأنفسهم وبالله سلاحا أرهب هؤلاء البلطجية. وكانت أخلاقهم العالية أكثر مما يتصوره عقل، فلم يكن الانتقام  والإساءة والقتل سلوكا لهؤلاء المسالمين المدافعين عن حقوقهم.
وظننا أن المعركة قد إنتهت بعد منتصف الليل، وأن المجرمين سيكتفون بما سببوه من دمار وخراب، ومن ضحايا عدوانهم بالجرحي والقتلى. وذهبنا لنخلد إلى النوم والراحة بعد يوم شاق، ولكن جفاني النوم.. كنت إذا غفوت أستيقظ فجأة وقلي يخفق بشدة، فأهدئة بالدعاء. وعندما إستيقطت في السابعة صباحا، أسرعت إلى التلفاز فإذا المعركة لم تنته، وظل القتال مستمرا.  حينئذ لم أستطع أن أتماسك، قلبي يخفق، صوتي يعلو بالدعاء إلى الله بكل ما يقفز إلى خاطري من تضرع وإبتهال.
أفرز هذا اليوم وضوحا لكل من تأثر بخطاب الرئيس الذي سبق هذا الحدث بيوم واحد. لم أكن من هؤلاء الذين تأثروا، لأن بداية الحديث كانت تحمل تهديدا ووعيدا بترويع من أثار الشغب، دون ذكر الخطيئة الكبرى التي إرتكبتها وزارة الداخلية بإنسحابها الكامل، ودون كلمة عزاء واحدة أو تاسف على وأرواح الشهداء التي أزهقت في المظاهرات المتوالية بدءا من 25 يناير، والتي تصاعدت بشكل خرافي في الجمعة الحزين. خلا الخطاب كذلك من أي تفسير أو إجراءات عن فتح السجون، وعن تلك الفوضى التي مرت بها مصر لمدة ثلاثة أيام. كنت أشتم روح الإنتقام القادمة، والتي سيدفع شبابنا ثمنا لها، وإتهامهم بأنهم هم المخربون، وهم الذين تسببوا في الشغب، ولصق تهمة فتح السجون لجماعة الإخوان المسلمين والإنتقام منهم. لا .. لم أتأثر على الإطلاق بتلك الكلمات الأخيرة التي حركت مشاعر هذا الشعب الطيب، والذي نسى تلك الأيام العصيبة التي مررنا بها على مدار أسبوع كامل. 
إستيقظ الوعي بعد يوم الأربعاء عند الكثيرين, وإستمرت الرسالات الترهيبية من إرتباك الحياة لشعب مصر تتوالي: نقص في البنزين،وما يمكن أن يترتب عليه هذا من تداعيات على إنتقال البضائع والناس، إغلاق الطرق من وإلى القاهرة ومحافظات الجمهورية. وكنت أشعر أننا مهددون في طعامنا وشرابنا، نحن الكبار قادرون على الصمود، ماذا عن كبار السن، ماذا عن الأطفال. كان تضرعي إلى الله أن يحفظ هذا البلد من هذه الخطة الدنيئة.
أعتقد أن تحرك المجتمع العالمي بعد مذبحة الأربعاء وضع عبئا على هذا النظام، ولذا بدا أن هناك تغيرا واضحا في سياساته، وبدأ رمي الأوراق المهدئة، فإذا كان تغيير الوزارة وتعيين نائب كان أدوات لننسى ماحدث حتي يوم 28 يناير، فإن الإستقالات المتوالية من مناصب قيادية في الحزب الوطني، والإتهامات المتوالية لرجال الأعمال في الوزارة السابقة أصبحت هي المهدئات التي تثير الفتن، وتربك العقل. وظهرت جريمة أخرى لا تغتفر بالنسبة للإعلام الذي أخذ يضع على عاتق الشباب كل ما حدث من فوضى في البلاد، متناسيا أنه لو إستجاب الرئيس للمتطلبات الأساسية التي خرج بها الشباب يوم 25 يناير،  ولو لم يتعقب هؤلاء الشباب ويظهر لهم التهديد والوعيد بإغلاق كل منافذ الإتصال بينهم، ولم يدرس جيدا ما يمكن أن يترتب عليه هذا من تأثيرات سلبية على الإقتصاد ونشاط الشركات. لقد ضحي النظام بإقتصاد البلد في سبيل تأمين نفسه، والهجوم الشرس على شباب أعزل يطالب بحقه. وإمتزج إتهام الشباب بالتسبب في الفوضى مع إتهامهم بالعمالة لقوى أجنبية. هل يمكن أن نتصور إلى أي حد تم محاربة هذه الثورة.
إن هذا النظام يحارب الشعب كله، وإذا كانت النغمة قد تغيرت، وأصبح نائب الرئيس يشيد بهذا الشباب وبوطنيته، وينقل عن الرئيس رغبته في حمايته، فلماذا لم تكن هذه هي سياسة النظام منذ البداية؟  لماذا قتل ثلاثمائة من خيرة شباب مصر دون ذنب جنوه؟  لماذا ترك الشعب بدون أمن لمدة ثلاثة أيام؟ لماذا لم يتحرك الجيش عندما ذهب هؤلاء البلطجية ليقوموا بمذبحة تخجل منها إنسانية الإنسان؟  لماذا حرمنا من الإتصال بصور شتى؟  لا يمكن أن يكون الرئيس مبارك بريئا تماما من كل هذا؟  فهو إما مشارك في القرار، أو أنه وجوده أصبحا رمزيا، وغير فاعل، وفي كلا الحالتين، لا مناص من أن يرحل.  يمكنه ان يرحل سلميا بتلك المخرجات الدستورية التي وضعها له شيوخ القانون الدستوري. وشعب مصر طيب، سيقدر له أنه قد قام بشيء وطني في نهاية عمله المهني، ولن يلاحقه.  لقد تلازم نشر آخر مقال كتبته أنه نشر في يوم 25 يناير، وكتبت للرئيس أن عليه أن يعلن أنه لن يعيد ترشيح نفسه، ويقوم بالتغيير، ليدخل التاريخ من ضمن هؤلاء الذين يتركون السلطة بإرادتهم. ما زال النداء والرجاء أن تكون مصر في قلب الرئيس حقا، وأن يعجل بالخروج من السطلة بالطريق السلمي، ودون تدخل من الجيش.
لا أدري ما الذي سيحدث غدا.. وهل سيكون هذا المقال مناسبا حين نشره؟ ولكن أريد لقلمي أن ينطلق، ولروحي أن تنتعش، ولقلبي أن يهدأ وليدي أن تعمل، ولأبنائي أن يحلمون، ويأملون ويقومون بتحقيق أحلامهم، ولأحفادي أن يتنسموا نسيم الحرية.  هل سيكون الرئيس قد ترك السلطة حين نشر هذا المقال. أم أننا سندخل في حالة عصيان مدني، أو تدخل من الجيش لصالح النظام أو ضده؟  أسأل الله أن يلهمه الصواب وأن يترك السلطة، فليس هناك بديل آخر.   

No comments:

Post a Comment