Tuesday, May 10, 2011

مستقبل مصر ما بين الحداثة والمرجعيات الدينية د. علياء رافع


عندما نتحدث الآن عن مستقبل مصر، يكثر الحديث عن الحداثة والليبرالية من ناحية، أو المرجعية الإسلامية من ناحية أخرى، وأما الديمقراطية فهي خارج هذا التصنيف، لأن الجميع يتفقون على ضرورة إنشاء مجتمع ديمقراطي, قد يختلفون على كيفية تحقيقه. ويعتقد الكثيرون أن المرجعية الإسلامية تقف حجر عثرة أمام الحداثة، ويعتبر ذوو الإتجاه الإسلامي أن الحداثة تؤكد على التجربة الإنسانية دون حاجة إلى إرشاد التنزيل الإلهي، أي أنهم يتصورون أن هناك ترابطا حتميا بين الحداثة والعلمانية، ومن هنا سيعتبون أن العلمانية نقيض للمرجعية الدينية.
والحقيقة أن هذه التناقضات الصارخة بين هذه المصطلحات تعود إلى إختلاط الأمور، والنظر إليها دون إلتفات إلى السياق التاريخي والثقافي لنشأة هذه المصطلحات. هذا من ناحية، وأما من الناحية الأخرى، فلا بد أن يكون الإسلام، بل وكل الأديان داعية إلى كل المباديء النبيلة من مساواة وعدل وحرية. وأيضا يجب أن نتفق أنه لا يمكن أن يكون هناك دين يأمرنا بالطاعة العمياء دون تفكر وتدبر، أو تقديس الأقدمين دون مراجعة. بإختصار شديد فإن هذا التناقض الحاد بين الحداثة والمرجعيات الدينية لا ضرورة له من الأساس. وقد يعود هذا التناقض إلى النظر إلى تلك المصطلحات بإعتبارها مفاهيم جامعة مانعة لا تتطور، وهذا مخالف لما يحدث على أرض الواقع.  
 نجد أن مفهوم الحداثة قد إرتبط بإعلاء قيمة العقل، وإتباع المنهج العلمي في كل مجالات الحياة، مما أدى إلى تقدم المجتمع الأوروبي في القرن التاسع عشر ، وقد وصل الغرب إلى هذه الرؤية بعد مراحل عديدة من محاولات  لفصل السلطة المدنية عن السلطة الدينية من خلال ثورات متعددة هنا وهناك. ومن ناحية أخرى فإن الحضارة الإسلامية التي أشرق نورها في العصور الوسطي، ودعوة الإسلام إلى إستخدام العقل، وتطور العلم والمعرفة عند العلماء المسلمين الذين أستوعبوا ما وصلت إليه الحضارات المختلفة شرقا وغربا، كان لهذه الحضارة العظيمة أثرها في إيقاظ وعي الأوربيين الذي أخذوا ينهلوا من معارفها في عصر النهضة، وتفتحت أمامهم أبواب للمعرفة ومناهج للبحث إستفادوا منها أيما إستفادة، والتي قادتهم لاحقا إلى "الحداثة". يمكن القول أن التقدم الغربي تقف وراءه الحضارة الإسلامية بما قدمته من علم ومعرفة وثقافة.
وإذا رجعنا إلى العالم الإسلامي، سنجد أنه قد أصابته نكسة إبان الدولة العثمانية، خاصة في شيخوختها،  وضاعت تلك الجذوة الحضارية للإسلام تحت تأثير الإهتمام بالحرفية الدينية وانحسار التعليم في العلوم اللغوية والفقهية.  وفي أعقاب الحملة الفرنسية عام 1801، إنتبه المصريون إلى تلك الفجوة التي قامت على غفلة منهم بين المجتمع المصري وبين المجتمع الأوروبي، وكان هذا الإنتباه دافعا لمحاولة القفز لسد تلك الفجوة.   ولذا قام به محمد علي بإرسال البعثات العلمية إلى فرنسا، والإستفادة منها في إنشاء دولة حديثة، وارتبط إسمه بها ، وإستمر النموذج الغربي للتنمية مهيمنا على أسلوب التقدم في المجتمع المصري من خلال إنشاء مؤسسات حديثة، مثل تحديث الدواوين الحكومية، وإنشاء جيش قوى، وتغيير النظام التعليمي. وتم كل هذا دون الإلتفات إلى القاعدة العريضة من الريفيين والفقراء من هذا المجتمع، وإستخدم الفلاحون عن طريق السخرة في حفر قناة السويس، حيث مات آلاف من المصريين، وإختلطت دماءهم بالأرض التي حفروها لبناء هذا الشريان الذي أصبح شريانا حيويا لصالح الإقتصاد المصري.  أقول قولي هذا لأن الحداثة التي ظهرت في مصر كانت على مستوى أسلوب التفكير بين الصفوة، ولكن لم تأخذ بعدها التنموى الشامل. 
وفي بدايات القرن العشرين، ظهر كثير من الرواد والمفكرون الذي حملوا شعلة التنوير والتحديث الفكري، ولكن دون إهمال الثقافة المصرية، وأذكر على سبيل المثال قاسم أمين الذي إقترن إسمه بتحرير المرأة، وقد خاض حربا ضارية ليدافع عن حقوق إنسانية للمرأة، أنكرها الكثيرون عليها تحت إسم الدين، والدين منها براء. ولم يجد قاسم أمين مناصا من اللجوء إلى المرجعية الدينية، وإستخدام أمثال من التاريخ، ومن القرآن والسنة ليعضد موقفه. وإذا كان رفاعة الطهطاوي شجاعا عندما دعا إلى تعليم المرأة، فإن قاسم أمين كان مجاهدا عندما دعا إلى رفع حجاب الوجه، وخروج المرأة إلى العمل.  لم يكن الدين سببا في هذا التدهور الذي أصاب حالة المرأة المصرية، ولكن أثر إستخدام الدين سلبيا على مكانة المرأة لأنه سخر في ترسيخ فكرة السيادة الذكورية، والتقليل من شأن المرأة، وحصر نشاطها في الإطار الخاص دون الإطار العام. ولهذا كانت دعوة قاسم أمين حداثية دون أن تكون خروجا عن المرجعية الدينية.
وظهرت حركة الإخوان المسلمين في نهاية العقد الثاني من القرن العشرين إستجابة لضرورة تواجد منبر إسلامي حضاري، يحاول أن يثبت أن الحضارة الإسلامية رافدا هاما من روافد النهضة. ولكنه تحولت الجماعة  تدريجيا من جماعة تعبر عن فكر إسلامي حضاري، إلى جماعة سياسية، تنخرط في صراعات القوى الموجودة على الساحة. ولكن ما يهمنى في هذا المكان هو أن أوضح أن الإحتياج إلى ربط بين الأصول الثقافية المصرية خاصة الإسلامية منها وبين التقدم كان ملحا حفاظا على الهوية الثقافية في ذلك الوقت.. وكان لرفض النموذج الحداثي الغربي ما يبرره.  وعلى الرغم من أن البنا لم يستخدم عبارة "مرجعية دينية إسلامية" بالمعنى الذي يستخدم به اليوم، ولكن من المؤكد أنه أراد أن يقدم نموذجا سياسيا شاملا منبثقا من مرجعية إسلامية.
ومع تطور طبيعة المجتمعات والتقدم التكنولوجي الهائل الذي كسر الحدود الزمنية والجغرافية، وأصبح تنقل الإنسان والأفكار والإعلام والبضائع وكل شيء متاحا للجميع، أصبحت هناك روافد فكرية متعددة للأفراد الذين يعيشون في المجتمع الواحد، ولم يعد ذلك التماسك الفكري الثقافي أمرا ممكنا، وهو ما أدى إلى ظهور مصطلح ما بعد الحداثة، الذي يصف هذا التشابك المعقد بين الإنسان والفكر والثقافات، ويرصد تداعي النظريات الكبرى والأيديولوجيات الجامدة، وتهاوي ما كان يطلق عليه مطلقات. وأخذ مفكرو ومنظرو ما بعد الحداثة في مهمة رصد الواقع، دون محاولة لدراسة كيف يمكن إعادة تشكيله، إذ أنهم باتوا ويدركون أن أي محاولة للتدخل من الخارج ومن فوق غير ممكنة، فلقد فلت الزمام، وأصبحت المجتمعات والأفراد يحددون إتجاه الحركة، ويطورون من أفكارهم بصورة ديناميكية.
في ظل واقع ما بعد الحداثة، لم يكن ممكنا توقع تلك الأحداث المتلاحقة في المنطقة العربية والتي بدأت بتونس، ثم مصر، وإنتشرت إلى باقي بلدان المنطقة. ولعبت التكنولوجيا ووسائل الإتصال الحديثة دورها الهام في التراكمات الإحتجاجية التي أدت إلى تجميع الشباب على الفضاء الإقتراضي أولا، ثم ظهورة على الأرض مؤيدا بجموع الشعب المصري في ظاهرة غير مسبوقة بهذا الزخم وهذه القوة. ولكن بعد تلك المرحلة الأولى نعود إلى  ما بدأنا به وهو مصر إلى أين؟ 
أقول أنه في هذه المرحلة الحاسمة من تاريخ بلدنا سنجد أن تلك الخطوط الفاصلة بين مباديء الحداثة والمرجعيات الدينية ليست بتلك الحدة، لأن المرجعية الدينية القائمة على محاولة فهم المباديء الأساسية للإسلام أو للمسيحية، ستصل بنا إلى المباديء الحقوقية التي إتفق عليها الإجماع العالمي بدءا من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وسنجد أن ثقافتنا المصرية سترفض بعضا من التجاوز الأخلاقي الذي ظهر في بعض المجتمعات التي لا تتقيد بالمرجعيات الدينية. ولهذا فإن تخطي بعض الإتجاهات الدينية التي تريد أن تحبسنا في سجن الماضي ضرورة من أجل القفز إلى ثقافة التقدم التي تآزرها المباديء الأساسية لكل الأديان وخاصة الإسلام. وهذا لايمكن أن يتم بقمع الأفكار السلفية، أو محاولة التحكم في المسار الفكري فوقيا، وإنما سيكون ممكنا في ظل مناخ حر، يتاح فيه للجميع أن يتفاعلوا فكريا وثقافية، ولن يكون ممكنا التكهن بما يمكن أن يتمخض عن هذا المناخ الحر، ولكن على الجميع أن يقدم رؤيته ويتفاعل مع رؤي الآخرين.
أما على المستوى التنظيري البحت فيمكن القول أن خلق مجتمع يتطلع إلى المستقبل ولا يسجن نفسه في الماضي يتطلب الإستفادة من التجارب الإنسانية في كل مكان، وهذا هو المعنى العصري للحداثة. ذلك أن نموذج التقدم في القرن التاسع عشر لا يصلح أن يكون نموذجا للتقدم في القرن الواحد والعشرين، ولقد تبين للإنسان في أنحاء العالم أن الأخلاق وليس العقل وحده أساس للتقدم، ولذا إنبهر العالم بالثورة المصرية التي جمعت قيما أخلاقية حضارية عالية، وبين قدرة تنظيمية رائعة، ومهارات تكنولوجية عالية.
مصر في حاجة إلى الإيمان كمرجعية وجدانية تثرى سعي الإنسان المصري في بناء مستقبله، وهو إيمان سيساعد على قراءة التعاليم الدينية ليس بطريقة حرفية جامدة، ولكن بقدرة تأويلية عالية، ويكون الواقع هو الموجه إلى تلك القدرة الإبداعية على التأويل، وليس محاولة فرض الفكر على الواقع وإغلاق منافذ الإبداع في الرؤية والعمل. هذه القدرة الخلاقة ستصبح مهارة تساعد المواطن المصري أن يبدع في كل مجالات النشاط الإنساني الأخرى، فكريا وعلميا وفنيا، حينئذ لن يكون هناك تعارض بين الحداثة وبين المرجعيات الدينية.  

No comments:

Post a Comment