Tuesday, August 9, 2011

خلط الأوراق وخلط المفاهيم د. علياء رافع


لعل النفوس قد هدأت وهي ترى مبارك في المحكمة مع ولديه ومعاونيه، وثبت أن علانية المحاكمة إستطاعت أن تعطي للشعب المصري ثقة في أن الأمور تسير سيرها الصحيح. وعلى الرغم من ذلك فإن الطريق مازال طويلا حتي تحقق الثورة أهدافها. وقد ولد هذا المشهد التاريخي مشاعر متضاربة بين الجمهور المصري، وأشار إلى نبل هذا الشعب وطبيعته السمحة، إذ هزني أب من أباء الشهداء في برنامج آخر كلام وهو يقول أن نفسه قد إطمنت بعد رؤيته لمبارك في المحكمة، ولكنه إنسانيا لم يكن يود أن يراه مريضا. هكذا تجاوز هذا الأب ذاته الصغيرة، وتخلص من مشاعر الإنتقام، وفي نفس الوقت فهو لم ولن يتخلى عن قضية إبنه الذي قتل، وضرورة معاقبة الظالمين القتلي. وأحسب أن الكثيرين حتى ممن زج بهم مبارك في السجون، فإنهم يريدون أن يروا العدالة قائمة، ولكن ليس لديهم شماته، أو فرحة خفية وهم يرون ضعفه الفيزيقي والنفسي.
ولكن البعض خوفا من خلق أي نوع من التعاطف مع هذا القاتل أو هؤلاء القتلة، فإنهم يصرخون قائلين لا تنسوا كم التعذيب الذي رآه المصريون في المعتقلات والسجون، ولا تغفلوا عن الشهداء الذين قتلوا بغير ذنب إلا أنهم نادوا بالحرية والكرامة الإنسانية،  لاتنسوا أن هذا الرئيس إستكثر أن يكن لهؤلاء المواطنين  صوت يعلو فأمر بقتلهم. لا تنسوا إنسحاب الأمن المريب، وتحطيم السجون ليخرج المجرمون يرعبون الآمنين في خطة دنيئة لإضعاف المظاهرات. حقا يجب ألا ننسى تلك اللحظات الدامية، وهذا التاريخ الخانق.  ويجب كذلك ألا ننسى يوم 12 فبراير حيث إستطعنا أن نستشق طعم الحرية في يوم بديع بكل المقاييس، وحيث خرج الجمهور المصري الثائر ينظف الشوارع والميادين، في حميمية بالغة، معبرا عن عودته إلى بلده وعودة بلده إليه. ولهذا فإن محاكمة الرئيس جاءت في سياق محاسبة من أراد أن يكمم أفواه هذا الشعب ليورث الحكم لولده من بعده. وسواء كان مبارك مريضا أم عفيا، فهذا أمر جانبي تماما. ولأننا لا يجب أن ننسي ما قاسيناه، فلن يستمر أسلوب مبارك في حكم مصر مرة أخرى. لأن محاكمة مبارك هي محاكمة نظام بأكمله وليس مجرد قصاص من شخص أخطأ خطأ جسيما في حق شعبه.
لن يقبل هذا الشعب الحرية المنقوصة التي تعطي على قدر التهدئة، ثم تستمر في سياسة القمع، ولهذا فإن الذين يقولون إن إعتصام أهالي الشهداء في ميدان التحرير أدى إلى الفوضي، أو الذين رأوا أن السير إلى وزارة الدفاع هجوم على المجلس الأعلى العسكري، فهم غير قادرين على تفهم ما حدث للمصريين بعد 25 يناير. لأن هذه الثورة خلقت عند كل مصري إرادة وتصميم من أجل بلوغ ما يراه صوابا وحقا من حقوقه. ولذا فعندما تُرك أهالي الشهداء في الميدان شهرا بأكمله دون أدنى إحترام لمشاعرهم، كان لا بد أن يلجأوا إلى نوع ما من التصعيد. كانت المظاهرة سلمية وقد يكون البعض قد إنقاد إلى مشاعره الثائرة الغاضبة، فأخذ يردد شعارات ضد المجلس العسكري، وهو ما لا أتفق معه،  ولكن المظاهرة في مجملها كانت من أجل لفت نظر المجلس االعسطري لحق الشهداء، ووضع مزيد من الضغط عليه للإستجابة.
على قدر ما تبدو الأمور في غاية الوضوح لي ولغيري من الكتاب مثل علاء الأسواني وبلال فضل، على قدر ما يدهشني أنها ليست بهذا الوضوح عند الكثيرين الذين بدأوا يستنكرون المظاهرات والإعتصامات.  يكون خلط الأوراق مربكا، عندما يرى كاتب بقامة فاروق جويدة أن ما حدث يوم الجمعة 29 يوليو وهي جمعة الإسلاميين رد فعل للصوت العالي لمن يقولون أنه ليبراليون، يصبح الأمر جد خطير (الأهرام 5 أغسطس). ونكون قد جاوبنا الصواب تماما عندما تتساوى مظاهرات 8 يوليو في تلقائيتها ومطالبها العادلة، مع جمعة 29 يوليو التي بدأت فيها تجمعات غير تلقائية، وكان واضحا أنها قامت على إستجلاب الجماهير من كافة أنحاء مصر. وتكون الفتنة قد وصلت إلى أهدافها عندما يغمض علينا أن جماعات السلفيين والجماعة الإسلامية على وجه خاص، وجماعة الإخوان المسلمين بوجه خاص قد نقضوا عهدهم في جمعة وحدة الصف ولم الشمل، وبدلا من الإلتفاف حول المطالب المشتركة كما صرحوا، أعلنوها حربا على "الجاهلية" التي تبدو أنها أي فريق لا يتبع فكرهم.
ولا يصح أن نقول أن شعار "الدولة المدنية"  يتناقض على الإطلاق مع شعار دولة تتبع مباديء الشريعة الإسلامية، فالإسلام لم يعرف إلا الدولة المدنية، ولم يكن حتى رسول الله (صلعم) حاكما يمثل السلطة الإلهية في الأرض، لقد كان يقبل إستشارة صحبه، ويستفاد من تجارب قوم آخرين، مثلما حدث في غزوة الخندق التي جاء التخطيط لها بعد مشورة سلمان الفارسي. ومباديء الشريعة الإسلامية تؤكد جوهر الدين الحنيف الرحب الذي جعله الله سبحانه وتعالى رحمة للعالمين، وليس تقييدا وحجرا على حريتهم وفكرهم، وطلبهم لتحسين أسلوب حياتهم.
يتكرر المشهد مرة أخرى بنفس الألفاظ من أستاذ جليل في الطب النفسي هو د. أحمد عكاشة، وكان ضيفا في برنامج آخر كلام للإعلامي الرائع يسري فودة. وتحدث د. عكاشة عن صوت التحرير العالي الذي يريد أن يفرض رأيه، وعدم قبول الرأي الآخر. وتذكرنا هذه العبارات بما كان يقال عن الثائرين في الثمانية عشر يوما الأولى للثورة، إنها نفس الجمل ونفس الألفاظ. وكأن المطالبة بالعدالة تحتمل أن يكون هناك رأيان، أو أن الحفاظ على كرامة المواطن المصري وعدم الإستهانة به وإذلاله قضية قابلة للمناقشة. وشعرت أنني أضرب في مقتل عندما سمعت عبارات رائعة أومن بها بل وأقولها ولكنها تستخدم في غير سياقها، حيث يقول د. عكاشة أن الحب هو أساس العلاقات جميعها وأن من خلاله يمكن أن يتسع بعضنا للبعض، ولكن هذه العبارات قيلت في سياق حديث د. علاء الأسواني تعليقا على فيديو، يقوم فيه أحد ضباط الشرطة الذي يرتدي رداء مدنيا بضرب أحد المدنيين من المواطنين البسطاء، ويقبل شخص آخر قد عقد عزمه على توجيه مزيد من الإهانة والضرب للمواطن المسكين، ويبدو واضحا أنه لم يكتف باللكمات البسيطة، ولكنه لجأ إلى الركل، كل هذا على مرأي المشاهد، بينما يتحدث د. احمد عكاشة معلقا بهذه الكلمات التي ليس مكانها أو مجالها أن تقال في هذا السياق. إن الحب هو الذي يجعلنا لا نقبل أن يهان مصري، وهو الذي يجعل الحياة غيرذات قيمة إذا لم نتماسك معا لنبلغ غايتنا.
لا أريد أن أبدو مثل النعام الذي يضع رأسه في الرمال، نعم هناك أفراد أو تجمعات تريد أن تزايد على الثورة، وتستغل المناخ الحر في إشعال الفوضى، وهناك حاقدون يريدون أن ينتقموا من أي إنسان ناجح بوضعه إفتعالا وكأنه من أركان النظام السابق، وهناك من العلمانيين أو الليبراليين وكذلك من تيارات تسييس الإسلام من يتنازع على السلطة والقوة، ولكن التيار العام في مصر هو التيار الثوري الإيجابي، وسيقع هؤلاء عندما يستمر مناخ الحرية غير المنقوصة، وعندما نكون قادرين على التمييز بين الخبيث والطيب، وما قلته ما هو إلا قليل من كثير في هذا الوقت العصيب الذي أصبحت فيه حرب الكلمات أعتى الحروب.     

No comments:

Post a Comment