Tuesday, October 25, 2011

قيادة من أجل السلام د. علياء رافع

عندما ينشر هذا المقال سأكون في الطائرة متجهة إلى لندن في مؤتمر عالمي عن القيادة، ودوري  هناك هو أن أجلس على مائدة حوار لأقدم رؤيتي عن كيف نعيد رسم أهداف القيادة لتكون من أجل السلام. مهمتى أن أتحدث عن الثورة المصرية. وقد دعيت إلى هذا الحوار في مارس من هذا العام، أي بعد قيام الثورة المصرية بشهرين، وذلك ونحن والعالم منبهرون بما حدث، وغير مصدقين لما رأينا. كانت الثورة مهيبة، وكانت شجاعة المصريين وتحضرهم مشهدا وقف العالم كله يتطلع إليه. 
وبإعتباري دارسة لعلوم الإجتماع، لم تكن هذه الثورة تعبر عن أي نظرية إجتماعية سابقة، ولم أعرف لها مثيلا في تاريخ الإنسانية، من حيث أنها لم تكن ذات قيادة مركزية. حتي إئتلاف الشباب الذي دعا إلى المظاهرات، لم يكن يتوقع أن يخرج الشعب كله بهذا الزخم وهذه القوة. لم يدبر أحد لهذه الثورة، لم تبدأ من تنظيمات تحتية من أجل قلب نظام الحكم.  وعلى الرغم من خروج الملايين إلا أنها كانت سلمية إلى أقصى الحدود. عبرت الثقافة والتنظيم في ميدان التحرير عما يمكن أن يكون عليه مجتمعنا، عن آمالنا وأحلامنا في أن نتعاون معا، نعيش بسلام، يرعى بعضنا البعض، يساعد من معه من ليس معه.  إنه مجتمع المدينة الفاضلة الذي تحلم به مصر وتحلم به البشرية كلها. 
ولكن أين ذهب المصريون الذي عاشوا معا في هذا الميدان وفي كل مكان في مصر، لماذا عدنا إلى الفوضى، والإعتداء والتزاحم، والأنانية، لماذا ضاعت الرؤية؟ هل سنعود القهقري مرة أخرى؟ هل يمكن لمن ذاق معنى الحرية، والكرامة الإنسانية، وكسر حاجز الخوف أن يختفي وراء السدود، ويعيش بلا أمل؟  لا أعتقد أن هذا يمكن أن يحدث. ومن يظن أن هذا ممكنا فهو لا شك قد فقد الرؤية والبصيرة. ولكن الخوف كل الخوف أن  تتحول مقاومة القوى المضادة التي تريد لنا أن نعود مرة أخرى إلى الجحور المظلمة إلى مقاومة تستخدم العنف.
لقد كتبت عدة مقالات معبرة عن قلقي لعدم وجود قيادة تأخذ بزمام الأمور، وتعبر عن طموح هذا الشعب، وتعكس شخصيته وأخلاقه الأصيلة التي تكاد تختفي عن أعيننا مرة أخرى، ولكن هذه المرة أريد أن أكتب عن مواصفات هذه القيادة بصرف النظر عن الأشخاص، تلك المواصفات التي يمكننا أن نستقرأها من تاريخ الإنسانية، عندما نحاول أو نضع أيدينا كيف بدأت التغيرات الكبرى التي أضافت إلى التاريخ الإنساني نقلة نوعية في التقدم الحضاري.
سنجد أن التاريخ دائما يبدأ من القدماء المصريين، ويبدأ بشكل خاص من مينا موحد القطرية، وهذا التوحيد له رسالة قيمية قبل أن يكون  حدث تاريخي، أن ينضم الشمال والجنوب في نظام واحد يعني أن هناك حالة صراع قد انتهت وحالة سلام قد بدأت، ولا بد أن يكون إنتهاء حالة الصراع قد تمت بنقلة نوعية أخرى في الوعي والأخلاق. وينقلنا هذا إلى إستخدام هذا المقيا س" ارتباط التقدم الحضاري بالوعي الأخلاقي" في تأمل اللحظات العظيمة التي حدثت فيها تحولات خطيرة.  نجد أن الأديان قد نقلت الإنسان أيضا من حالة وعي إلى حالة أخرى تختلف تماما عما قبلها، ولا أتحدث هنا فقط على الأديان الإبراهيمية، أو المنزلة عن طريق الوحي، ولكن أتحدث أيضا عن  معلمي البشرية العظام، التي جاءت رسالتهم الأخلاقية متوائمة ومتناغمة مع الرسالات السماوية.  كل هذه الرسالات قد غيرت تاريخ الشعوب، وتحول هذا التغير إلى العالم أجمع.
وعندما ننظر إلى الثورة المصرية، سنجد أيضا أنها قد أحدثت نقلة نوعية في رؤية المصريين لأنفسهم من ناحية، وقدرتهم على التعبير من ناحية أخرى. لقد كان ميدان التحرير بشهادة الجميع تعبيرا عن عالم مثالي خيالي كما سبق القول، ولكن إستمرارية هذا الوعي بوحدة المصريين، وتآلفهم مع بعضهم البعض، ومن ثم مع العالم أجمع لا بد أن يستمر من خلال توفير البيئة التي يمكن أن ينمو فيها، ومن خلال تواجد قيادة شعبية تلم الجمع، وتوضح الرؤية، وتساعد الشعب على بلورة الغاية. من أهم صفات هذه القيادة أن تكون قادرة على تجميع المصريين على أهداف قومية واحدة، نابعة من إرادتهم وليست مفروضة عليها، معبرة عن أحلامهم، وليس من أجل خدمة القيادات السياسية. هذه القيادة لا تنحاز لطبقة على حساب طبقة أخرى، ولا لدين على حساب دين آخر، ولا للرجل ليقهر المرأة ولا العكس أيضا. إنها قيادة صادقة، تستطيع أن تتخاطب مع الجماهير وتؤثر فيها، ليس عن طريق القدرة الخطابية التي تدرس في أماكن مختلفة، ولكن عن طريق التعبير بصدق عما يحتاجه المصريون، فهي قيادة منهم ولهم وبهم.
ومن أهم صفاتها أن تكون قيادة تعمل على السلام الإجتماعي، ليس بترديد كلمات قد مللنا الإستماع إليها، ولكن من خلال تجميع المصريين جميعا بدون تفرقة حول هدف قومي، يشعرون فيه بوحدتهم، وليس تفرقهم، تكون هذه القيادة واعية بالتاريخ المصري، وإمتداد الشخصية المصرية التي من أهم ما يميزها الإيمان بالله، وهو إيمان وجودي وليس شكلي.  إن القيادة التي ننتظرها تعيش هذا الإيمان دون أن تتشدق به، نشعر بقوة الإيمان مما تحمله هذه القيادة من قدرة على حل الصراعات، والتصرف التلقائي النابع من القلب، وليس من محاولة لاسترضاء أو إرضاء فريق على حساب الآخر.
قد لا تكون هذه القيادة متواجدة في شخص واحد، ولذا علينا أن نوجدها، لا بد أن نعمل على تجميع قوانا كشعب، لتتواجد هذه القيادة التي إذا تأملنا ما أشرت إليه من صفاتها، لوجدنا قد تجمعت في شعب عبر نفسه في لحظة تاريخية ستسجلها صفحات التاريخ باعتبارها حركة تحول في تاريخ الإنسانية، لأنها ستكون ملهما لكل العالم. وسواء إستطعنا أن نستكمل الطريق الآن أو بعد وقت ما، فإن هذه الثورة قد دخلت التاريخ بالفعل لتغيره، وتضيف إليه، ونحن نشهد ارهاصات هذا التحول الآن في العالم كله، وأصبحت هذه الثورة نموذجا سيعيش في ضمير الإنسانية وسيختزنها عقلها الجمعي من أجل المستقبل.   

No comments:

Post a Comment