Tuesday, October 11, 2011

25 يناير و6 أكتوبر : روح واحدة د. علياء رافع

كان العبور معجزة، كما كانت ثورة يناير معجزة، والإعجاز هنا يعتمد على تلك الإرادة التي وحدت المقاتلين وووحدت الشعب نحو أهداف واحدة، ذابت فيها الأثرة، وتجلى فيها الإيثار، وعمر القلوب إيمان عميق يحفز على الإبداع والعمل والفكر، وينشر الأمل والبشر في النفوس في أحلك اللحظات. إنها معجزة لأنه لم يكن لها مقدمات راسخة.  في أكتوبر 73، كان عار النكسة محبطا لآمالنا، وسالبا ثقتنا في أنفسنا. ولذا عندما جاء العبور وإستطعنا أن نكسر خط بارليف الذي كان بمثابة حاجز جبلي رملي يبدو إستحالة تدميره، فإن الشعور بالفخر عاد مرة أخرى إلى أرواحنا.  وعندما خرج الشباب يوم 25 يناير، كان الكثيرون وأنا منهم نظن أنها مظاهرة ستنتهي كما حدث من قبل مع مظاهرات مثيلة، ولكن أن يخرج ملايين البشر في هذه القوة وهذا الهدير البشري مطالبين بتغيير النظام، فلقد أظهر هذا أن إستمرارية حياة الشعب المصري بهذه القوة معجزة.
بالنسبة للسادس من أكتوبر فإن الآمال والأحلام والتطلعات لعودة الحلم العربي مرة أخرى كانت قوية للغاية، ذلك أن هذا التضامن العربي هو الذي حقق النصر، ولعبت كل دولة عربية دورها بتناغم وتناسق في ظل سيمفونية واحدة، هل ينكر احد دور المملكة السعودية والدول العربية البترودولارية في إستخدام سلاح البترول، وهل نستطيع أن نغفل دور ليبيا في شراء خراطيم المياه التي إستخدمت في هدم الساتر الترابي، محاولة بذلك أن تخدع المصدر، وكان التناسق بين الجيوش العربية التي تقف على حدود إسرائيل رائعا. وهكذا. فجر العبور أملا في أن يعبر الشعب العربي من مرحلة التخلف إلى التقدم. وكانت تلك التجربة نموذجا مصغرا على إمكانية تحقيق هذا العبور.  ولكن مبادرة السادة للسلام المنفرد مع إسرائيل ضربت هذا الحلم في مقتل. وتفرق العرب مرة أخرى، وبغياب مصر عن محيطها العرب ووضعها المحوري، أمكن حدوث حروب عربية عربية، تجسدت في غزو العراق للكويت، ثم بعد ذلك تآزر العرب مع القوى الغربية الأمريكية على إستعادة الكويت، وإتاحة الفرصة لجيوش أجنبية للدخول والتمركز في بلادنا العربية.
 بينما نجد أنه على مستوى الداخل المصري فإن إختفاء العدو الإسرائيلي من الوعي المصري، أفقد القضية لفلسطينية الدعم الشعبي المطلوب ، كما خلق جوا من الفراغ الوطني، حيث تحول تحرير فلسطين من حلم قومي إلى قضية هامشية، ولم يعد هناك بديل لحلم قومي آخر. في هذا الجو المليء بالفراغ المعنوي والأيديولوجي، جاء حكم مبارك ليكمل الحلقة التي بدأها السادات.  للأسف فإن نصر أكتوبر الذي جسد روح التضحية والفداء تم إفراغه من مضمونه، وإجهاض الروح التي كان من الممكن أن تبني صفحة جديدة تماما في تاريخ العالم. ومضى ما يقرب من أربعين عاما، وهي أعوام تعيد ميلاد أي أمة من جديد. كتبت أقول في أحد مقالاتي، كيف سنتقابل مع شهداء حرب 73 الذين قدموا دماءهم من أجل مستقبل أفضل لكل المصريين. لقد خذلهم نظام مبارك، وقتلهم مرة أخرى لأنه لم يحافظ على روح العبور.  بل على العكس فإن هذا النظام أخذ ينفث سمومه القاتلة حتي يحطم إرادة هذا الشعب، ويجعله في يأس مطلق، ومن ثم في إستسلام كامل لطغيانه. وفي اللحظات التي ظننا فيها أننا نقرأ المستبقل، إن غدا واضح المعالم، يجي الإبن ليأخذ مكان الأب، ويستمر النظام في سيطرته وإستبداده. في لحظات اليأس التي إنتابت الكثير منا، إذا بالشعب ينتفض إنتفاضة عظيمة، وتبعث فيه الروح التي ظن النظام أنه قتلها.  
نزلت غشاوة سميكة على الحاكم الظالم لم ير فيها أن إنتفاضة هذا الشعب العظيم أصيلة وحقيقية، ظن أنه أكبر من أن يخشى بعضا من هؤلاء المتمردين، وأن ترسانته البوليسية قادرة على قمعهم وإرهابهم. ولو أنه أدرك في تلك الحظات أن الأمر جد وما هو بالهزل، لكان تصرفه مختلفا تماما، ولتدارك الموقف، وحاول أن يتراضي مع الشعب الثائر من أول لحظة، منذ خروجه معبرا عن غضبه يوم 25 يناير.
ولم يكن 25 يناير إلا ومضة، وبداية لثورة هائلة عظيمة وقوية وهادرة. وبعد مضي تسعة شهور وعدد من الأيام على هذه الثورة، نجد أننا نسير في إجهاضها، كما حدث لإنتصار 6 أكتوبر. ويرجع ذلك إلى أن القيادات التي قدر لها أن تحكم هذا البلد لم تستطع حتي هذه اللحظة أن تستوعب ما حدث، فهي تتعامل كما لو كان الأمر المطلوب هو إصلاحات عجزت عن تنفيذها القيادات السابقة، وتسير في خط التغير إنطلاقا من هذه الرؤية، متبعة نفس أسلوب الحكم السابق وفلسفته، متجاهلة أن هناك ثورة حقيقية قد أحدثت تغييرا جذريا، ليس فقط عندما خلعت رئيسا وأجبرته على التخلي عن مهام رئاسته، ولكن لأن أهدافها كانت واضحة وصريحة، نادت بالحرية والكرامة الإنسانية، أرادت نظاما  لا يقهر، ولا يخرج العصا والجزرة تبعا لتكتيكاته، حتي يكسب موقف حينا، أو يفرض سياسته حينا آخر.  
أنا لا أخشى على الثورة الأنتكاس، لأنني على ثقة أن هذا الشعب العظيم قد عادت إليه روحه مرة أخرى، ولن تموت هذه الروح بسهولة، ولكنني أخشى على هذا الشعب من الفتنة، وقد إختلطت الأمور، وغابت الرؤية، وإنفض الجمع والتألف الذي نصر هذه الثورة. لقد تخطت مرحلة النضال في هذه الثورة ما يحدث من تجمعات هنا، وهناك، ينبغي أن تكون ثورة في عقول النخبة والشباب الذين قاموا بالثورة. إننا في حاجة إلى تآلف كل القوى السياسية في كتلة موحدة ترسم الخطوات القادمة التي تخدم معنى الثورة، أي تتوجه إلى تغيير كامل في فلسفة وأسس الحكم الذي قام عليه النظام السابق.
والسؤال هو: كيف يمكن أن يتحول هذا إلى سياسة على أرض الواقع؟
ليست لدي الإجابة الواضحة، ولكن ينبغي أن يكون وراء أي قرار يؤخد مبدأ أخلاقي واضح المعالم، فمثلا عندما تصور البعض أن الإجابة "نعم" على قبول التعديلات الدستورية، سيسرع بخروج المجلس العسكري من الحكم، فإن هذا الإختيار لم يكن متمشيا مع منطق الثورة، ولهذا أدت نتيجة هذا الإستفتاء إلى ما نحن عليه الآن. بل وأقول أنه عندما قبل الشعب أن يكون هناك إستفتاء على "تعديلات" ، فإن هذا في حد ذاته يعتبر تراجع عن معنى قيام ثورة. لأن سقوط الدستور القديم (وليس تعديله) هو الرمز الوحيد على أن هناك ثورة قد قامت، والتخلي عن هذا الرمز ودلالاته، يعني أن هناك تخليا عن "الثورة".
ولكن هل نستطيع أن نعيد الأيام مرة أخرى، بالطبع لا، ولكن ما يمكن أن نتمسك به اليوم، هو عدم إتخاذ أي قرارات قائمة على مجرد محاولة التخلص من الحكم العسكري، إنما يجب أن يكون إنتهاء هذا الحكم مبنيا على خطوات تتمشى مع منطق الثورة.  ليس مقبولا التجاوزات التي تحدث على مسمع ومرأي الشعب والعالم فيما يتعلق بالإعتقالات المتوالية، وإستمرار قانون الطواريء، وتوجيه الإعلام بشكل فاضح، وتهديد الإعلام المستقل.
في المقالة السابقة أشرت إلى ضرورة ظهور قيادة، وقد لا تكون القيادة المطلوبة شخصا واحدا، وإنما قد تكون القيادة التي نحتاجها في تلك الحظات الحاسمة قيادة جماعية تتألف من النخبة والقوى السياسية، لتحمل على أكتافها عبء هذه المرحلة الهامة من تاريخ الوطن. وتتجه بكل الطرق الممكنة التي تؤهلنا لتشكيل هيئة تأسيسية وطنية تجمع كل فئات الشعب من أجل تشكيل دستور يعبر عن آمال هذا الشعب في هذه المرحلة. لست أطرح هنا قضية الإنتخابات أولا أم الدستور أولا، بل أضع كتابة الدستور هدفا أوليا ضروريا، قد تكون الإنتخابات النيابية وسيلة لتحقيقه، ولذا يكون الإنتباه إلى كل ما يضمن نزاهة الإنتخابات، وآليات الترشيح هي المعبر كي يجيء مجلس شعب معبرا عن إرادة الأمة، وهذه هي مسئولية القيادة الشعبية التي أتحدث عنها، والتي قد تكون فردا أو جماعة. إنها قيادة لا تستهدف القوة والحكم، وإنما تعرف دورها في هذه الفترة الحرجة، ويجتمع عليها الناس جميعا.
إذا كان هذا يبدو مستحيلا، فليس هناك في ذهني أو فكري بديل آخر يستطيع إدراكي أن يصل إليه، ولكن عندما يصل الإنسان إلى منتهى العجز، فإنه يترك الأمور إلى القادر القاهر، لعله يلهمنا ما فيه خيرنا.  ولكن في كل الأحوال فإن الأمل أن  تظل روح يناير وضاءة قوية أمل لا يغيب، لأنه الله الذي أظهر هذه المعجزة، قادر على أن يلهمنا الطريق لإستكمال المسيرة بعونه وإرادته، فهو نعم المولى ونعم النصير. 

No comments:

Post a Comment