Tuesday, July 27, 2010

في ذكري ثورة يوليو: النظام العربي الجديد د. علياء رافع


يوشك العقد الخامس من ثورة يوليو أن ينقضي، أي أنه قد مضى أكثر من نصف قرن على ثورة غيرت مسار التاريخ في هذه المنطقة من العالم، بل وامتدت آثارها خارج نطاق بلاد العرب إلى شعوب العالم قاطبة التي كانت تتطلع إلى الحرية والاستقلال، ووجدت في شخصية جمال عبد الناصر وقدرته على المواجهة وإصراره على إستقلالية بلاده مثلا، سار على نهجه كثير من قيادات العالم الثالث الذي كان يرزح تحت نير الاستعمار. وبعد مرور هذه الأعوام تبخر الحلم إلى الحد الذي جعل الحديث عن التعاون العربي ضربا من الكلام الطائش، وإلى الحد الذي جعل شبابنا لا يري أي رباط يربطه بغيره من شباب العرب.
وإذا تأملنا ما حدث في خلال النصف القرن الماضي، لوجدنا أن إنطفاء شعلة الحلم العربي قد واكبت هزيمة الخامس من يونيو 1967، ولكنها شهدت مرضا عضالا بعد مبادرة السلام عام 1977، واحتضرت مع الهجوم العراقي على الكويت عام 1990، ولذا أصبح الحديث عن حلم عربي أو مشروع عربي ضربا من الكلام الذي لا يرتكن على الواقع. ولكن السؤال هنا هل يعني هذا أنه لا يمكن أن يكون هناك أمل في نظام عربي جديد، بأجندة مختلفة وأيديولوجية جديدة؟
تتطلب الإجابة على هذا السؤال رؤية الواقع العربي الآن الذي أصبح مشتت الانتماءات، متعدد النزعات، مختلف الأهداف. ولا ينبغي أن نقفز على هذا الواقع معللين الحال بالمؤامرة الغربية التي استهدفت هذا التشتت، ذلك أن هذا الانهيار هو نتيجة طبيعية لعوامل متشابكة، أهمها هو أن الأنظمة العربية لا تجد القاعدة الشعبية التي تستمد منها شرعيتها، فالأغلب الأعم في هذه الأنظمة أنها تفرض وجودها بشكل قسري، وتتحلي بواجهة ديمقراطية صناعية غير حقيقية، حتي تتجنب االنقد من عالم الشمال الغربي المتقدم، وحتي يمكن أن تفسح لنفسها مجالا داخل النظام العالمي الجديد.  في ظل هذه الأنظمة الشمولية التي تستبعد القاعدة الشعبية من المشاركة في التخطيط للمستقبل والمشاركة في الأمل، يصبح من الأهمية بمكان أن ينشغل المواطنون بحياتهم اليومية، ويسيرون في دائرة البحث عن لقمة العيش وتحسين مستوى المعيشة بكل السبل الممكنة، ولا يعيروا إهتماما بعد ذلك لأهداف كبرى وطنية أو إقليمية. ويتيح هذا الإنشغال لأنظمة الحكم أن تستمر في السلطة لأكبر وقت ممكن، إن لم يكن إلى الأبد.
ومع مضي الوقت إنطفأت تلك الجذوة التي كانت تحرك شباب جيل الثورة الذي أصبح الآن في سن الكهولة، والذي أخذ يتآكل مع الزمن، وأصبح شبابنا اليوم غير قادر على أن يرى أهدافا عظمي تحركه، أو آمالا كبيرة تجعل لحياته معنى وغاية.  وليس هذا حكما ناقدا لهذا الشباب، ذلك أن الكثيرين من شبابنا يسيرون في إتجاه المقاومة، ويبدعون في تكريس جهدهم لإعادة الانتماء إلى الوطن، عن طريق الفنون من ناحية، أو الأنخراط في أعمال تطوعية من ناحية أخرى، ولكنها جهود فردية، تلمع أحيانا، وتنطفيء شعلتها في أحيان كثيرة أخرى.
ونجد أيضا أنه في ظل الاتجاهات المتطرفة، وجد الشباب إنتمائهم خارج حدود بلادهم من خلال الأيديولوجيات التي تدعو إلى إستخدام العنف، والثورة على المجتمع بالكامل، أو تدعو إلى الإنسحاب إلى حياة العزلة وعدم المشاركة السياسية أو الاجتماعية، إنتظارا لتغيير النظام.
 وأعتقد أنه لا بد من تصور لنظام عربي جديد، يختلف في معطياته عن المعطيات القومية التي غذت الحلم العربي قديما، ويعتمد في الأساس على رؤية الانتفاع بهذا الامتداد الجغرافي والثراء البشري والمادي والبيئي للمنطقة في ظل عالم يسود فيه فكر تحالف الدول في كيانات كبرى. وعلى سبيل المثال فإن أوروبا اليوم تمثل كتلة إقتصادية قوية، ولا يعني هذا على الإطلاق أن هناك إندماج ثقافي أو إيديولوجي أو سياسي بين دول أوروبا. قد يكون التعاون الاقتصادي مقدمة لاندماج سياسي، ولكن لا يقود بالضرورة إلى هذه  النتيجة، وليس مطلوبا أن يثارحتى على المستوى الفكري  في هذه المرحلة.
ومن الأهمية بمكان أن يكون هناك مساحة في النظم التعليمية والإعلامية لقراءة هذه الحقبة من تاريخنا، تلك الفترة التي شهدت تصاعدا في الحلم القومي، والتى كانت فكرة الوحدة العربية أقرب إلى الحقيقة منها إلى الحلم، وكأنها قاب قوسين أو أدنى، وهذا ليدرك أبناؤنا لماذا اختفي هذا الحلم، وتكسر على أعتاب الهزيمة العسكرية، وليدركوا أنه عندما يلعب القادة بمستقبل الشعوب فإنهم يهزمون أحلامهم قبل أن يهزمهم عدوهم.  إن دراسة التاريخ ليس من أجل لعنة الماضي وما حدث فيه، ولكنها من أجل معالجة الواقع الراهن والإنطلاق منه إلى عالم مستقبل فسيح واسع.
إذا إتضحت هذه الرؤية يكون من الممكن أن يتغير دور جامعة الدول العربية، فبدلا من تحولها اليوم إلى كيان سياسي منهار، لا يقوم بدوره في تجميع سياسات العرب تجاه المشاكل العربية والعالمية بصورة فاعلة، يمكن أن يستهدف على المستوى القريب تسهيل التعاون الاقتصادي والاجتماعي والتعليمي، الذي يساعد على تنمية شعوب  هذه المنطقة بصورة مطردة ومدروسة. ولا شك أن هذا التعاون سيؤدي إلى مزيد من الاتصال والتواصل بين الشعوب عن طريق المنظمات المستقبلية المشتركة، وهو ما يؤدي إلى إعادة الشعور بالإقتراب الثقافي والوجداني بينها.  وإعادة بناء ثقافة تدعمها الأخلاق التي دعت إليها جميع الأديان، دون أن يكون هناك تعصب بأي شكل، ويغذيها الاطلاع على تاريخ هذه المنطقة من العالم، وأدوارها المختلفة في بناء الحضارة الإنسانية، وتتطلع هذه الثقافة إلى التفاعل مع الحضارات والثقافات في كل مكان، ليس من منطلق إستعلائي، أو من منطلق الشعور بالدونية، ولكن بإدراك ما قدمناه للعالم من معرفة، وإستعدادنا أن نتعلم منه ما ينفعنا، ونضيف إليه. أي لا يكفي أن نكون مستهلكين للمعرفة، ولكن لا بد أن نكون منتجين لها كذلك.
ولا يسعني في هذا الصدد إلا أن أشيد بدور المجهود الذي يلعبه قسم السكان والهجرة في جامعة الدول العربية، الذي  شاركت في نشاطه فيما يخص مشروع تمكين الشباب على مستوى العالم العربي، ولقد استطاع هذا القسم يجمع قيادات شبابية قادمة من المجتمع المدني من خلال مجهودات خاصة، وقد أقام بالفعل شبكة إتصالية بين هذه القيادات  على مستوى العالم العربي كله.
أتصور أن النظام العربي الجديد لا ينبغي أن يتغنى بالشعارات، أو يقوى من خلال تعظيم خطورة الأعداء، ولكن ينبغي أن يقوده التطلع إلى مستقبل أفضل لشعوبنا العربية، حتي نكون فاعلين ومساهمين في بناء حضارة إنسانية يمكن أن تغير العالم، فنحن نملك الزخم التاريخي الذ يؤهلنا أن نلعب هذا الدور. ليست هذه مبالغة، بل هي حقيقة لكل  من يقرأ تاريخ هذه المنطقة، ويستوعب الوعاء القيمي والأخلاقي الذي تحمله، والثراء الحضاري والعلمي الذي حققته.  

No comments:

Post a Comment