Tuesday, November 23, 2010

الحج والحياة د. علياء رافع


من المعروف أن الطواف حول الكعبة وكل شعائر الحج التي نقوم بها كمسلمين كانت معروفة قبل الإسلام، ولكن الإسلام قد أعطاها بعدا جديدا في ظل منظومة كلية تدعو إلى ألا يخضع البشر إلا للحق "الله هو الحق"، وألا يتعاملوا إلا مع الله الواحد الأحد، دون أن يرسموا له صورة أو شكل "جل جلاله"، بل يتعاملوا معه من خلال حضور روحي لا يعرفه ولا يفهمه ولا يخبره إلا من آمن بالله حقا لا قولا.  إذن الحج ليس مجرد شعائر نقيمها، ولكن يجب أن يكتسب دلالته من خلال هذا البعد الروحي، وإلا أصبحنا مثلنا مثل أهل الجاهلية الذين لا يدركون دلالة أو معنى لما يفعلون.
والبعد الروحي للحج لا يتوقف عند القيام بالفرض، ولكنه يجب أن يمتد إلى ما بعد ذلك،  فنحن نحمل أكفاننا ونتلفح بها، متجهين إلى بيت الله الحرام، مدركين عقلا أنه تعالي الله، فهو في كل مكان "أينما تولوا فثم وجه الله" وهو سبحانه  لا يحويه مكان، فهو فوق كل  الحدود والقيود، ولكن يصبح بيت الله رمزا يشدنا قلبيا إلى التجمع في وقت واحد – نحن المسلمين – في تلبية للنداء، وإستجابة للدعاء الذي بلغنا إياه رسول الله (صلعم)، وكأننا إنسان واحد وجسد واحد، نحن بني الإنسان بعضنا من بعض، لا فضل لعربي على أعجمي ولا  على أعجمي على عربي إلا بالتقوى. في هذا المكان نخلع كل رداء إجتماعي، ويقف الأغنياء بجانب الفقراء، والوزير جانب البسطاء، لا يعرف أحد أحدا، ولا يتعرف أحد على أحد معتمدا على أي مرجعية دنيوية، فالجميع عباد الله. إن هذا الموقف المهيب في يوم عرفات، وفي كل التجمعات التي تجمع المسلمين في شعائر الحج، كفيل بأن يوقظ في الوعي أهمية أن يحدد الإنسان لنفسه رسالة تنفع الناس على هذه الأرض، فلا يتركها إلا وقد إستطاع أن يقوم بعمل صالح، أو ترك وراءه علما نافعا، أو جاهد في أسرته فأثمر فيها، فأصبحت ذريته صالحة تدعو له، فيستمر عمله وكسبه حتى بعد خروجه من هذه الأرض.
الجج إذن تجربة روحية فردية فريدة،.وفي ظل منظومة الإيمان التي تربط كل عبادة إسلامية بالحياة، يأخذ الحج معاني مختلفة، لن تصبح الكعبة مجرد بناء، ولكنها رمز يشير إلى وحدة الهدف الذي يجب أن تجمع المسلمين، هدفهم أن يكون الحق والعدل وكل القيم النبيلة التي تمثلها رسالة الإسلام هي منشودهم. وأصبحت الدلالة الرمزية التعبيرية التي تشير إلى الكعبة بإعتبارها البيت الموضوع تلفت النظر إلى أن ما ينفع الناس يمكث في الأرض وأما الزبد فيذهب جفاء. أي أن توجهنا في هذا المنسك، وأيضا في الصلاة هو إلى قبلة على هذه الأرض، أهدافا نريد بها خير الإنسان، هي التي توصلنا وتربطنا بما وراء هذه الحياة، وما وراء هذا الوجود المادي من قوى قدسية عليا.
ويصبح رمي الجمرات هو جهاد نقوم به كلما غفلنا عن أن يكون الله من وراء القصد، ويأخذ السعي بين الصفا والمروة رؤية جديدة، حيث تصبح حياة الإنسان هي بحث عما يرويه روحيا، وهو بحث مستمر لن ينتهي، إذ أن الإرتشاف مرة من ذلك النبع الروحي، يدفع الإنسان إلى العودة إليه المرة تلو المرة. وذلك النبع الروحي ليس مجرد تذوق جمالي، ولكنه بحث عن ينابيع الخير داخل القلب الإنساني الذي يجعل الإنسان متجها في فعله وقوله إلى عمل يخدم به الآخرون، متخلصا من هواجس النفس وما تحمله من غل وكراهية وحقد، ونوازع الشر التي تظهر في الغضب والعنف والعداء. ببساطة شديدة يجب أن يأخذ الحج مكانا مستمرا في حياتنا، وتلهمنا رموزه الشعائرية رؤية من خلالها يكون توجهنا دائما إلى الله، من أجل أن نقوم في هذه الحياة بما ينفعنا وينفع الناس، وسنجد أن الصلاة حج مصغر، وتذكرة بكل المعاني التي يذخر بها معنى الحج.
إن العبادات الإسلامية لها خصوصيتها من حيث أنها تنظم للإنسان الوقت وترتبط بحركة الأرض حول الشمس، أو دورانها حول نفسها، فهي بشكل غير مباشر تربط الإنسان بحركة الكون، وتجعله على مستوى عميق في تناغم مع الطبيعة. وهذا التناغم كفيل بأن يخلق سلاما داخليا يجعل رؤية الإنسان للحياة أكثر وضوحا، فيركز ويتوجه إلى هدفه دون تشتت وخداع. وهذه العبادات من ناحية أخرى فيها تذكرة مستمرة كي يعدل الإنسان مساره كلما طرأ عليه طاريء يبعده عن الهدف. 
ومن الملاحظ أن تحول العبادات إلى عادات وإلى فلكلور شعبي، يفقدها هذا البعد الأخلاقي الروحي، وهو التحدي الذي يجب أن نواجهه دائما مع أنفسنا حتى لا نقع في هذه الخدعة، فنظن أننا قد أدينا الفروض لأننا إتبعنا الشعائر، وإذا بالشعائر لا يكون لها تأثير حقيقي علينا، بمجرد أن نؤديها نعود مرة أخرى إلى الدنيا فنجعلها تبتلعنا. ويتصور الكثيرون أن أداء الحج يعني أن كل ذنوب الإنسان قد غفرت وأنه عاد كما ولدته أمه، ولا يدرك أن هناك فرقا كبيرا بين إتمام الشعائر، وبين قلب يهرع إلى موقف الجمع، فيعيش لحظات جلل وهو يحاسب نفسه، وقد إستعرض حياته بكل ما فيها من هنات وذلات وأخطاء، فتاب وأصلح، وأصبحت نيته أن يعيش حياة جديدة في ميلاد جديد. إن هذا الإنسان هو من يمكن أن نطلق عليه أنه قد قام في الحج.  وقد عرفت رجلا كان يذهب إلى الحج كثيرا، ولكنه لا يتورع عن أكل حق الناس بالباطل، ويقول ببساطة شديدة، سأشد الرحال إلى بيت الله وأحج فهو سيغفر لي، ثم يحج، ويعود بعد ذلك إلى سابق عهده. وهناك من يريدون أن يحصلوا على اللقب "الحاج"، حتي يثق فيهم الناس، ولكنهم يخدعونهم ويغشونهم، وهناك غيرهم وغيرهم ممن يأخذون الأمر بشكل سطحي. وقد أصبحت هذه سمة من سمات التدين الذي لا يأخذ من العبادة إلى شكلها. أقول سمة عامة، لأن الناس لو أقاموا العبادات محققين أغراضها في أنفسهم، لتغير العالم الإسلامي تماما، ولنهضت البلاد الإسلامية نهضة لا يجاريها فيها أحد. لأن فلسفة العبادات في الإسلام تجعل الله سبحانه وتعالى حاضرا في كل لحظة في وعي الإنسان، فيكون الإنسان على نفسه رقيبا حسيبا، متقنا لما يقوم به من عمل، متطلعا دائما إلى ما يضيفه إلى الحياة، ليكون لكرته الأرضية أثر دائم مستمر في حياة الناس. ولكن عندما تصبح العبادات هي عادات أو حركات نقوم بها، ظنا منا أننا نرضي الله، والله غني عن العالمين، فإن هذا يأخذنا بعيدا عن الهدف الذي من أجله شرعت لنا تلك العبادة. يترك الطبيب عيادته المزدحمة بالمرضى ساعة أو يزيد ليؤدي صلاة الجماعة، ويزداد الاهتمام بالشكل فيكثرالنقاش حول إرتداء النقاء هل هو فريضة أم فضيلة، وهل الأفضل أن نرتدي الجلباب القصير، أم البدلة، ويختزل الدين في أطر خالية من المضمون. هذا هو حالنا. أما إذا ربطنا كل العبادات بالحياة، وكيفية تأثيرها على رؤيتنا وأدائنا لأعمالنا، وانطلاقنا العقلي والفكري وتفتحنا لنستمع ونتعلم دائما، ولقدرتنا على إقامة علاقة بيننا وبين الله من خلال قدرة على إحياء الضمير فينا، سيتغير حالنا وسيتغير المجتمع كله، فأساس كل الحضارات العظيمة أخلاقيات تحث على الإتقان والخدمة والبذل، ويكون عمل الخير هو الجزاء وهو الجنة الحاضرة.  

No comments:

Post a Comment