Tuesday, January 12, 2010

تشكيل الوعي التاريخي لمصر د.علياء رافع


في غمرة الفرحة بعام جديد، مصر تنزف دما،  يقتل مواطن مصري أثناء أدائة لعمله على الحدود بين مصر وغزة، ويقتل ستة من الأقباط في طلق ناري وهم في غمرة الاحتفال بيوم ميلاد السيد المسيح رمز المحبة والسلام للمسلمين والأقباط على حد سواء.  مع كل حادث فيه اشتباه فتنة طائفية، سرعان ما ينبري الإعلام مؤكدا أن الأمر لا يتعدي أحداث بسيطة تنشأ من خلال شجار أو اختلافات عادية بين مواطنين مصريين، ويقال لنا عبر الأجهزة المسموعة والمرئية والمكتوبة أنه لا  يجب التركيز على الانتماء الديني والطائفي للمواطنين، وإلا كنا بذلك نخلق ونؤكد ونرسخ أن هناك فرقة بين عنصري الأمة. ولكن هذا الحديث لا يقنع الأقباط، وإلا ما خرج الفان منهم في ثورة عارمة يحطمون منشآت مدنية وذلك تبعا لجريدة الأهرام (8 يناير). وهذا الحديث يخفي واقعا نلمحه ونراه في الحياة اليومية من خلال ميكروفونات بعض المتطرفين في خطب الجمعة، ومن خلال هذا التمييز في الزي والمظهر الذي لم تعرفه مصر حتي في بدايات القرن العشرين عندما طالب قاسم أمين بتحرير المرأة، ذلك أن زي نساء الأقباط ورجالهم لم يكن ليختلف عن زي المسلمين من الرجال والنساء. ولكن ها نحن اليوم نشهد، ليس فقط انتشار غطاء الرأس، ولكن أيضا تسارع نمو ظاهرة التنقب. والتعصب بين بعض فئات المسلمين ، يقابله تعصبا آخر بين الأقباط ولن تتوقف الدماء ما دمنا نضع رأسنا في الرمال ولا نرى الواقع ونحاول إعادة تشكيله، فلابد أن نتنبه إلى الفتنة الكامنة قبل أن تنفجر.
إن الخطابات الدينية المتطرفة بين الجانبين المسيحي والإسلامي نابعة من التغافل عن قيم الديانتين، وكذلك من الجهل بشخصية مصر وتاريخها، فتلك الخطابات الدينية التي تفرق بين أصحاب الديانتين قادمة من فكر وافد متجمد وغريب على شخصية مصر، ولكن للأسف الشديد فإن ذيوع هذا الفكر أصبح خطرا يهدد أمنها بالفعل. لأن الصراع يبدأ من العقل قبل أن يأخذ طريقه إلى الواقع.
علينا أن ندرك أن الإسلام الذي دخل مصر والذي رحب به الأقباط  كان معبرا عن روح الإيمان الفطري التي تحلى بها هذا الشعب قبل الأديان، بل إن قدرة المسيحية على الولوج إلى أرض الكنانة ما كان ممكنا بهذه القوة وهذه السرعة لولا هذا التوافق العجيب بين ما دعت إليه المسيحية وبين العقائد المصرية التي آمنت بالحياة الآخرة البعث، ووضعت الأخلاق في أعلى قيمة يوم الحساب، وبلغت الرفاهة والحساسية بالمصري إلى الدرجة التي أصبح فيها مراقبا لفعله من داخل ضمير حي، وليس خوفا من عقاب اجتماعي، ولهذا فإن نية جرح مشاعر إنسان كانت تندرج تحت الآثام التي ينظر في شأنها يوم الحساب. إلى هذه الدرجة من الرقي الأخلاقي ارتفع المصري في سلوكياته، فكيف يمكن لمن كان هذا مقياسه أن يقتل أو يثأر أو يستخدم العنف بأي صورة من الصور.
وعندما جاءت المسيحية فإنها لم تغير من العقائد المصرية إلا الأسماء، ذلك أن الإيمان بأن هناك خالقا لهذا الوجود كان نتيجة فطرية توصل إليها المصريون بتأملهم في الوجود، بل إنهم رأوا أن كل المخلوقات هي آيات، ولكن تعبيرهم لم يكن كاملا، أو أن من ترجموا كلامهم أسقطوا عليهم أفكارهم، فتصوروا أنهم يعبدون آلهة، بينما هناك كثير من النصوص تشير إلى توصلهم إلى الإله الواحد الذي صمتوا عن إطلاق اسم عليه، لأن اسمه سر أعظم. هكذا كانت كلماتهم في كتاب الخروج إلى ضوء النهار، الذي ترجمه سير وليام بدج ووضع له عنوان "كتاب الموتي".  وجاءت الأديان السماوية لتنضج رؤية المصريين وتزول ما بها من شوائب. وهكذا عندما دخل الرسول مرقص الإسكندرية وبدأ بالتبشير، أقبل حوله المصريون وآمنوا بالدين الجديد بسهولة ويسر.
وجاء الإسلام إلى مصر ولم يقهر المصريين على التحول إلى شرائعه، لأن الإسلام هو دين اتسع ليحتوي كل الأديان ويؤيدها، ويدعو إلى الكلمة السواء، ونجد أن أمثال د. نبيل لوقا بباوي يبين بوضوح في كتابه "انتشار الإسلام بين الحقيقة والإفتراء"،  أنه إذا كانت هناك تجاوزات قد حدثت في تاريخ المسلمين قد أثرت على تحول الأقباط إلى الإسلام، فإن هذا أولا لم يحدث إلا في عصور متأخرة، وثانيا أن هذا التجاوز لا يشير أو يدل على أن الإسلام دين عنف. بل إن العنف الذي حدث في عهد الإمبراطور الروماني دقلديانوس (248م) ليس له مثيل، وهو اختراق لتعاليم السيد المسيح التي تدعو إلى السلام. فعلى الرغم من أنه كان مسيحي الديانة، إلا أنه انحرف تماما عن رسالتها، ويقال أن هناك مليون مسيحي قبطي قتلوا في عهده، وأطلق على هذا العام عام الشهداء، وأصبح بداية للتاريخ القبطي في مصر. 
إذن ينبغي أن يكون واضحا من خلال دراسة تاريخ هذا البلد أن أي عنف من قبل أي فئة هو نتاج الخروج عن تعاليم الدين الذي تنتمي إليه هذه الفئة، فكلا من المسيحية والإسلام يدعوان إلى السلام والمحبة. وإذا تحدثنا بلغة الإسلام، لقلنا أن رسالة المسيح عليه السلام، هي نفس الرسالة التي جاء بها رسول الإسلام سيدنا محمد صلوات الله وسلامه عليه، وهكذا قالها القرآن صريحة "لا نفرق بين أحد من رسله". فكيف يمكن لمن أدرك رسالة الإسلام وآمن بها أن يقتل روحا بدون وجه حق، أو يعتدي على أي إنسان لاختلاف العقائد. ليس هذا فقط خروجا عن تعاليم الإسلام، بل أن القرآن ليبلغنا في حسم أنه "مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا" (المائدة : 32). والانجيل مليء بكلمات السيد المسيح التي تنهى عن الآعتداء وتدعو إلى المحبة.
ولأن مصر والمصريون قد خبروا الإيمان في حضارتهم قبل الديانات فإن استقبالهما للمسيحية، وبعدها الإسلام، قد أنضج وعيهم بما آمنوا به، وعاش المسلمون مع المسيحيين أخوة متحابين، اللهم إلا في أوقات الأفول الحضاري والعتمة الثقافية، والهجمات الغاشمة لخلفاء نسبوا أنفسهم للإسلام ولكن لم يقيموا رسالته. ولكن في أغلب الأوقات فإن شخصية مصر المؤمنة لم تكن لتعبء بالأسماء، بل تؤكد دائما على روح الأخوة والعائلة الواحدة. لذا فإن الديانتان تعانقتا في مصر.
ولهذا فإنه عندما تحدث اليوم هذه الأحداث المتناثرة هنا وهناك، محاطة بصخب من الجانبين على المستوى الشعبي، يصبح الأمر خروجا عن طبيعة هذا الشعب، وحقيقة تاريخه. ولكن استعادة الوعي بهذه العلاقة الحميمة بين مسلمين وأقباط، لا يكمل إلا بوعي تاريخي بكيف انبثق الإيمان في مصر، إيمانا حقيقيا، نابعا من القلب، وليس مظهرا شكليا لدين.
 إحياء معنى الحضارة المصرية التي قامت على الإيمان، ورؤيتها أصلا من أصول نمو الشخصية المصرية، كفيل بأن يجعلنا نتفهم لماذا كان "الإيمان" تحت أي مسمى ديني جمع المصريين في محبة ووئام كل هذه السنوات، ولماذا نحتاج اليوم إلى استعادة هذه الرؤية لتلك الوحدة التي تميز مصر، وتجعلها قادرة على قيادة حوار بين الأديان في العالم أجمع.  إن استعادة هذا الوعي يبدأ من تعليم وإعلام الشعب المصري بتاريخه الطويل، وما يحمله قلب هذا البلد من حضارة قامت على الإيمان، واستقبلت كل الأديان وتفاعلت معها تفاعلا خاصا، عبر عن جوهر هذه الرسالات.  وهذا هو الدور الخليق أن يقوم به الإعلام، والرسالة التعليمية التي تحملها المناهج في كل مراحل التعليم، وذلك حتى نجابه هذه العصبية التي تبعد بنا عن روح الإسلام وروح المسيحية.. روح مصر المؤمنة.

No comments:

Post a Comment