Tuesday, January 19, 2010

مشروع قومي لإعادة بناء ثقافة مصرية أصيلة د: علياء رافع


منذ بدأت أحداث نجح حمادي  المشئومة لم تتوقف وسائل الإعلام عن تأكيد أن هذا الحادث لا يعبر عن واقع  العلاقات بين المسلمين والأقباط في هذا البلد.  وعلى صعيد آخر، نجد أن هناك نبرة ألم عند الكثيرين من الأقباط وهم يتحدثون عن ملاحظاتهم في كثير من الممارسات سواء على المستوى الشعبي، أو المستوى الرسمي،   فعلى سبيل المثال مازال مشروع قانون بناء دور العبادة الموحد عالقا، ولم يصدر في شأنه أي قرار. وهناك غياب واضح للأقباط في بعض المناصب الحكومية مثل "رؤساء الجامعات"،  وهناك شك وشكوى من التحيز ضد تعيين الأقباط في أماكن يستحقونها بكفائتهم، ولكن يحرمون منها لدينهم، وكذلك فإنهم يعبرون عن تحيز رجال الأمن ضدهم في أي خلاف أو مشكلة بينهم وبين المسلمين، حتى لو كانت تبدو من أجل خلافات مدنية وليست دينية. وعند الاستماع إلى  المرارة التي أصبحت تملأ أحاديث الأقباط بشكل عام وصريح في وسائل الإعلام، خاصة بعد هذا الحادث الذي جاء ليثير ألاما مكتومة،  يقف المرء متساءلا هل حقا  توجد مشكلة طائفية في مصر؟
وليست هناك إجابة قاطعة على هذا السؤال، فنحن نعلم جيدا أن هناك كثيرا من المسلمين ومن الأقباط الذين لا يشغلهم التصنيف الديني، والذين يعيشون في محبة وسلام دون أن يجعلوا من الهوية الدينية أمرايفرقهم عن إخوانهم في الوطن.  ولكن نحن نعلم كذلك أن هناك خطاب سائد يستخدم الدين ليفرق بين المسلمين والمسيحيين، وهو خطاب في كلا الجانبين.  وقد بدأ مع التغيرات الاجتماعية والاقتصادية التي حدثت في مصر في السبعينيات وبدأت آثارها تظهر في الثمانينيات.  وكلنا يعلم أن الرئيس السابق أنور السادات قد شجع الجماعات الإسلامية على ممارسة نشاط ديني، كي يضعف من التيار اليساري، ولكن للأسف فإن هذه السياسة قد انقلبت عليه، وأصبح هو ضحية من ضحايا التطرف والعنف. ومع سياسة التهجير للتخلص من كثير من المشاكل الاقتصادية الداخلية، عاد المصريون من بلاد المهجر العربية يحملون أفكارا لا تمت بصلة للإسلام الذي عرفوه وعاشوه على مدى قرون طويلة، فأصبح المظهر الديني أهم من أخلاقيات الدين، وصار التطرف جزءا من ممارسة الحياة اليومية. بل وتغلغل هذا الاتجاه داخل المدارس في حصص اللغة العربية وحصص الدين.  ولا أدل على ذلك من أن أحد أصدقائي، جاء يشكو من أن ابنه يتساءل لماذا سيعذب الله المسيحيين وهو يؤمنون بالله؟ وعند سأله والديه عن السبب وراء هذا القول، فإنه سارع قائلا، هذا ما تعلمناه في درس الدين اليوم، وذكر الآية التي يرددها المدرس تأكيدا لكلامه.
فما كان من والديه إلا أن تلوا عليه آيات أخرى تنفي ما قاله هذا المدرس، توضح أن من آمن بالله اليوم الأخر وعمل صالحا، فله أجره عند ربه، وهناك من الآيات الكثير الذي يحمل هذا المعنى، مثل الآية التي تقول" لَيْسُوا سَوَاءً ۗ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ . وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا ۗ أُولَـٰئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ." (آل عمران 11-12) ومن الملاحظ أن هذه الآيات لم تذكر أن أهل الكتاب قد تحولوا إلى مسلمين، ولكن تصفهم بدينهم الذي ينتمون إليه، ولكنها تؤكد على صحيح إيمانهم واستقامتهم.
 وبين هؤلاء الأباء المستنيرون له بطريقة بسيطة أن الإسلام هو دين الأنبياء جميعا، وهكذا تحدث عنهم القرآن، ولذا فإنه وأكدوا له  أن الإيمان بالله يجمع بيننا جميعا، وأن الإيمان هو الذي يساعد الإنسان على حسن الخلق. هكذا استطاع أصدقائي أن يزيلوا بعضا مما أثاره هذا المدرس في نفس ابنهم  الصغير من بلبلة، ولكن كم من الأبناء يتناقشون مع أبائهم في مثل هذه الموضوعات، وكم من الأباء قادرون على تصحيح هذه الترهات. ما أريد أن أؤكد عليه هو أن هذا المدرس هو مثال متكرر في كثير من المدارس.  بل إن كثيرا ما يتردد هذا الاستبعاد للأقباط في الدروس الدينية المغلقة، أو في بعض الجوامع. ومهما نشطت وزارة الأوقاف في منع مثل هذه الأحاديث، يظل هذا الفكر المسموم ساريا في الشارع المصري، وهو ما يودي بوحدة هذا الوطن إلى التهلكة.
وإذا كنت في مقالي السابق قد تحدثت عن ضرورة تشكيل الوعي في اتجاه خلق ثقافة مبنية على معرفة التاريخ المصري، والاجتماع على ما يوحد المصريين، لا ما يفرقهم، فمن الطبيعي أن تكون هذه الخطوة هي من خلال عملية تثقيف شاملة تقوم به كل وسائل التنشئة، وأدوات الإتصال الجماهيري والمراكز الثقافية. وفي نفس الوقت فلا بد أن نتذكر أن ما يقال عن سماحة الإسلام، والظهور الإعلامي المستمر لشيخ الأزهر مع البابا شنودة، وموائد الإفطار المشتركة بين المسيحيين والمسلمين، وغيرها من الصور التي تؤكد  حسن العلاقة بين الجانبين، أقول أن كل هذه المظاهر لا تنفي أن هناك الكثير مما هو شائع في الفهم الديني عن اعتبار غير المسلمين أيا كانت ملتهم "كافرين"، وهذا الفهم الشائع والخاطيء في حاجة إلى تصحيح من الأزهر الشريف الذي يحمل مسئولية التنوير الديني، وإخراج مصر والعالم الإسلامي من عباءة الظلام التي ستأخذنا إلى مجاهل لا يعلم إلا الله وحده مداها.
لا ينبغي أن نقف عند القول أن الدين الإسلامي دين متسامح دون أن نبين كيف أن هذا الدين يقبل الاختلاف، ويعلم المسلم أنه لا يصح  أن يحكم على عقائد الآخرين، وهكذا تعلمنا آداب القرأن وسلوك رسول الله صلي الله عليه وسلم، الذي  خاطبه الله سبحانه مبينا له أنه ما هو إلا مذكر وليس علي الناس بمسيطر، والذي قال له في مقام آخر "ذكر إن نفعت الذكرى سيذكر من يخشى ويتجنبها الأشقى"  والذي  أوصاه أن يقول لمن لا يقبل دعوته، إشهدوا بأنا مسلمون.  وأمرنا ألا نخاطب أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن.  لماذا تترك هذه الأمور معلقة ؟ ولماذا تكون السياسة البديلة هي التجاهل المطلق والاتجاه نحو إلهاء الناس بديلا عن الإيضاح.؟
إن المشروع القومي الذي يجب أن نتبناه في الوقت الراهن يجب أن يكون مشروعا تنويريا يعيد للعقل ازدهاره، وللوجدان إشراقه، وللدين عنفوانه، وذلك من خلال  تنمية الوعي بتاريخنا من ناحية، والتأكيد على جوانب المحبة في كل الأديان من ناحية أخرى. إنه مشروع جدير بأن تضعه الدولة في مقدمة خططها الاستراتيجية، وتفتح مجالا واسعا لإعادة مناقشة التفسيرات الدينية التي تشدنا إلى الوراء،  وتقديم رؤية  "الإيمان" بإعتباره حالة وجدانية تعبر عن نفسها في محبة الناس دون تفرقة بين دين أو جنس أو لون. وحتي يتم ذلك فلا بد من حركة ثقافية واسعة النطاق، يتحدث فيها الجميع،  ولايحتكر فيها رجال الدين الكلام عن الدين، وإنما يكون هناك مجالا واسعا للتعبير والمناقشة الحرة دون خوف من أي نوع.  إن التوتر الطائفي، لن تحله المسكنات، ولكن يجب أن نقتلعه من جذور الفكر الذي يؤدي إليه.

No comments:

Post a Comment