Tuesday, June 21, 2011

الثقافة وبناء الرؤية السياسية د. علياء رافع


الثقافة كلمة واسعة فضفاضة قد يصعب تعريفها تعريفا جامعا مانعا، ولكنها في الغالب الأعم تستخدم من أجل الإشارة إلى النخبة التي  تعبر عو دائرة واسعة من المعرفة في مجالات شتى، مما يؤهلها على الرؤية الشاملة، وبالتالي فهناك من يفرقون بين المتعلمين وبين المثقفين، وبين العلماء في تخصص بعينه وبين المثقفين كذلك. وهذا التعريف الشائع يعطي للمثقف ميزة معنوية في مجتمعه، بإعتبار أن له قدرة على الإلمام بكثير من المعارف، مما يهيئه للتحليل والوصول إلى نتائج لها قيمة مضافة. ولكن قد يكون هذا التعريف أيضا غير دقيق، لأن الفروق المرجعية التي تدخلت في تكوين هذه الرؤية قد تقف حائلا عن قدرة من نطلق عليهم مثقفين. بعبارة أخرى سنجد أن بعضا من المثفقين الشيوعيين الذي تربوا فكريا في الستينيات، وقرأوا بغزارة في النظريات الإجتماعية، قد يصبحوا مقيدين في رؤيتهم، وغير قادرين على رؤية الآثار السلبية لتقديم خدمات مجانية تتحمل الدولة عبئها الأكبر دون تقييم مستمر لفائدة هذه الخدمة على المجتمع ككل. ظهر هذا مثلا عندما أعلن البرادعي أن التعليم الإلزامي يجب أن يكون مجانيا، أما ما بعد هذه المرحلة فيجب أن ينظر إليه من منظور آخر. هنا ثار عليه بعض المفكرين – المثقفين – ممن يحملون فكرا إشتراكيا. وينطبق هذا أيضا على كل فصيل ثقافي ينتمي إلى مذهب أو أيديولوجيا ما.  ومن هنا كان تعريف "المثقف" ، "والثقافة" لا يشير إلى إمتياز خاص لهذه النخبة، لأنهم مسجونون أيضا في إطار مغلق إلى حد كبير.  
وينقلنا هذا إلى التأمل في تعريف الثقافة من زاوية رؤية العلوم الإجتماعية،  لقد طور هذا المفهوم  أيضا فأصبحت هناك نظريات في "الثقافة" ، ولم يعد التعريف التقليدي الذي وضعه الأنثروبولوجي تايلور كافيا أو قادرا على تعريف الثقافة بإعتبارها كل مركب من العادات والتقاليد والفنون والعلوم وكل ما يتصل بالنشاط الإنساني. ورأي الكثيرون أن هذا التعريف سيقف بأي باحث عند المنهج الوصفي الذي يحاول الإلمام بالسلوكيات الإنسانية دون إعتبارات لدلالاتها الخاصة والمتنوعة. وذهب كثيرون إلى إتجاه معاكس تماما، إذ رؤا أن الثقافة مرتبطة إرتباطا لا يمكن فصمه بالبناء العقلي للإنسان الذي يشكل قدراته على الإدراك والتفكير، وأن اللغة هي الوسيلة التي يمكن من خلالها أن نتعرف على هذا البناء وكيفية تنظيمة، وطور آخرون ومنهم كليفورد جيرتس (الأنثروبولوجي الأمريكي) هذا الإتجاه إذا رأى  أن اللغة تتعدى الألفاظ المنطوقة إلى كل ما يقوم به الإنسان من سلوكيات، تؤخد على أنها رموز ترتبط بغيرها من الرموز، ومن خلال هذا الترابط نستطيع أن ندرك المعنى المستتر وراءها، أي البناء العقلي الذي ينظم هذه المفردات في علاقات منطقية مترابطة يمكن أن نطلق عليها "رؤية"، وأصبح تعريف الثقافة لديه أنها الكل المركب من الرموز التي تحتوي دلالات تشكل الوعاء الذي يرى الإنسان من خلاله العالم.
أعتذر للقاريء عن هذه المقدمة التي تبدو متخصصة إلى حد ما ولكنني إستطعت أن أبسطها بما يجعله يتواصل معي فيها، لأنها مقدمة ضرورية عندما نناقش أمورا على درجة كبيرة من الأهمية في هذا الوقت الحرج من تاريخ مصرنا الحبيبة، إذ أن هناك بلبلة فكرية خطيرة فيما يتعلق بالدولة المدنية والدولة الدينية، وأيضا بين الدولة المدنية كما يعرفها التيار الديني والدولة المدنية كما يعرفها الليبراليون أو غير المرتبطين عموما بالإطار الديني بإعتباره إطار مقيد إذا ما أوخذ حرفيا . وتجيء أهمية هذه المقدمة من أن القدرة على التواصل بين المختلفين في هذه القضية قد تكون مستحيلة، لأن كل منه له مذهب متكامل يستمد صدقه من تماسكه الداخلي، وكله محبوس في هذا الإطار المذهبي، ولأن كل منهم يحمل منطقا قويا في الدفاع عن رؤيته، ويؤمن بأنها الرؤية الأفضل التي تسير بالمجتمع إلى بر الأمان. ويظهر التخوف من التيار الديني قويا بين من يؤمنون بالحداثة وضرورة التطور مع متطلبات العصر، لأنهم يدركون أن هذا التفكير لن يحقق الحرية المطلوبة اللازمة في تطوير المجتمع وتقدمه. ومن ناحية أخرى فإن الذي يؤمنون بما يقولون عنه أنه مرجعية دينية، فإنهم يصرون على أن هذه المرجعية هي العاصم من إنزلاقات أخلاقية معروفة ومشهودة في المجتمعات التي لم تعتمد على الهدي السماوي، مما جعل بعض السلوكيات المرفوضة أخلاقيا وثقافيا ودينيا، مسموح بها في هذه المجتمعات التي لا تعرف أي ضوابط لمفهوم الحرية.
ولذا ونتيجة لهذا الإستقطاب بين الجانبين لزم أن نعالج الأمر ليس بإعتبار أيهما أصح من الآخر، ولكن بإعتبار أنه من الضروري أن يفهم كل منهما المسلمات الأولية التي ينطلق منها كل فكر على حدة. وسنجد أن تلك المسلمات قد تجذرت في بناء ثقافي متراكم، يجب أن نتفهمه من خلال البناء العقلي أو الرؤية العامة التي تنظم طريقة التفكير، وعن طريق "تفكيك" هذه الرؤية ليمكن فهمها، وبالتالي قد يكون تغييرها أو تطويرها متطلبا، لبناء فكري جديد  قائم على مسلمات مختلفة تماما.
إذا نظرنا إلى التيارات الدينية التي تختلف في شدة تعصبها، نجد أنها قد بنت كل نتائجها على مقدمات متشابهة، وهي أن الله قد ضمن كتابه الكريم وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام الأساسيات الصالحة لبناء مجتمع متكامل في كل زمان ومكان. ونجد على الصعيد الآخر أن المنطق المختلف أو المضاد لهؤلاء هو أن الواقع هو الأساس الذي يجب أن تنطلق منه النظم السياسية والتشريعية،  والذين يريدون منهم أن يجدوا أرضا مشتركة بينهم وبين التيارات الدينية، فإنهم يقولون أن هناك ضرورة في إعادة تأويل النص لكي يتواءم مع الواقع. وقد يحمل قولهم هذا لفريق التيار الديني إتجاها مشكوكا فيه، من حيث أنهم يصبحوا متهمين بأنهم يحاولون تشويه التعاليم الدينية، وإختراقها من داخلها، وبث منهجهم "العلماني" في التعاليم الدينية الثابتة.
أتعرض لهذه المقدمات الفكرية بهدف الكشف عن السلسلة التنظيمية المنطقية التي يتجه فيها كل من الإتجاهين، أحدهما يبدأ من النص والآخر يبدأ من الواقع، فكيف يمكن أن يتلاقيا؟ ستكون المسافة بينهما دائما هي مسافة ما بين السماء والأرض فهما يسيران في خطين متوازيين، ولكن الأمل الوحيد هو إستطاعة كل منهما أن يعيد الرؤية في المسلمات التي بدأ بها طريقته في التفكير، وإعادة النظر إليها وتأملها. من هذا المنطلق تصورت أنني من السلفيين الذي يؤمنون بأسبقية النص على الواقع،  وأدرت حوارا مع عدد من الأصدقاء، وأدهشهم قدرتي على الدفاع عن رؤية السلفيين المتماسكة داخليا، والتي لايمكن إختراقها أو تغييرها من داخلها، وبالتالي تكمن خطورتها في أنها قادرة على جذب وإجتذاب الكثيرين من المحايدين المتدينين تدينا أخلاقيا من المسلمين الذي يؤمنون في أرض مشتركة مع كل مسلمي العالم أن القرآن هو الكتاب المنزل الذي ينبغي علينا إتباعه. ولهذا فإنني إستخدمت أسلوبا مختلفا تماما ألا وهو أسلوب الدلالة أو المعنى، وليس الإختلاف في "الخطاب نفسه".  قلت لأصدقائي حقا أن إتباعنا للقرآن هو خطوة ضرورية، ولكن لنرى الآية الأولى التي تنزلت على الرسول ولتكون هي البداية لنا كما كانت بداية للرسالة،  سنجد أنها "إقرأ"، ولهذا فإن أيا ما كان يحمل هذا الأمر من دلالات تفوق القراءة اللفظية، فإن البداية من الإنسان، أي من محاولة أن يتعلم كيف يفسر (كيف يقرأ)، ولأن البداية هي من الإنسان (كما يقول النص) فإن  القراءة (التفسير) لتنزيل آيات الكتاب الحكيم لن تكون حرفية بأي من الأحوال، وإنما ستكون دلالية دائما. وستكتسب دلالاتها من خلال التطور العقلي والمعرفي المستمر.
لم يكن هذا النقاش إدعائيِ، ولكنه كان إعادة ترتيب للمنظومة العقلية التي ينطلق منها المنهج السلفي (المتشدد) لأننا كلنا سلفيون بالمعنى الإيجابي الذي يحترم تجربة الأسبقين دون تقديسها. بعبارة أخرى إذا إتفقنا على قدسية النص، فإن هذه القدسية تكسب دلالات مختلفة عندما ننظر إليها في قدرتها على إلهامنا وتقوية قدراتنا الفكرية والإبداعية في تحسين واقعنا، وينتج عن ذلك منظومة فكرية أخرى لا تتعارض مع إحترام الواقع والتجربة الإنسانية في كل مكان، ولكنها أيضا لا تسجن نفسها فيها. وأعتقد أن هذه الرؤية في حاجة إلى مزيد من المناقشة والشرح. 

No comments:

Post a Comment