Tuesday, June 14, 2011

بين سقوط دولة وسقوط نظام د. علياء رافع


بدا الأمر سهلا وبسيطا للغاية عندما تنحي الرئيس حسنى مبارك، لقد خيل إلينا جميعا أن فجر يوم جديد قد بدأ يظهر في الأفق، وكان نزول الثوار إلى الميادين المختلفة لتنظيفها يعبر عن فرحة حقيقية، وشعور عام أن البلد قد أصبحت بلدنا حقا وفعلا، وآعرف بعضا من الشباب الصغير المرفه، تحمس بشدة، وشمر عن ساعديه يريد أن يشارك في هذا العمل الجماعي، على الرغم من أنه لم يعتد أن يمسك بالمكنسة في بيته، ولكن عندما أصبح الأمر متعلقا بالوطن، كان لسان حاله يقول، هذا بيتي الأصيل والأوسع.  في تلك اللحظات التاريخية الرائعة، لم يكن هناك أي نوع من الشك في أن مواطني مصر قادرين على أن يبنوها من جديد بأفكارهم وإبداعهم وحماسهم.  
طالب الشعب بإسقاط النظام، ولم يطالب بإسقاط الدولة، ولم يكن سببا في إنسحاب الأمن من الشوارع، ولم يكن كذلك سببا في إستمرار عدم كفاءة الأمن في أداء دوره. لقد مرت أكثر من أربع شهور على الثورة، واليوم وحتي كتابة هذه المقالة نجد أن عناوين المصري اليوم تشير إلى خلو الشوارع من الأمن ليلا، بعد أن رفع المجلس العسكري حظر التجول نهائيا، وأن كثيرا من المواطنين يشكون من  إعتداءات تتم عليهم، خاصة في أطراف المدينة. والمحزن المبكي حقا، أننا نسمع صباح مساء أن المظاهرات هي السبب فيما تمر به البلاد من أزمة إقتصادية وأمنية.
وفي يوم آخر كنت أستمع إلى برنامج يسري فودة االمميز مع الرائع بهاء طاهر، وكان على خط التليفوني الآخر مسئول كبير من وزارة الداخلية، إتصل به البرنامج بعد إكتشاف أن ال19 جثة مجهولي الهوية الذين تم تشييعهم على أنهم شهداء، إذا بهم من المسجونين الهاربين تبعا لشهادة طبيبة قامت بتشريح هذه الجثث. وفي الوقت الذي يبحث فيها الأهالي عن ذويهم من المفقودين بعد مظاهرات الثورة المجيدة، والذي يبلغ عددهم ألف مفقود، فإن أبا لأحد هؤلاء ذهب إلى المشرحة مستفسرا عن إحتمال وجود إبنه، ولم يطلب منه تحليل لأي عينة للتعرف على DNA له لمقارنته بما قيل أنه قد تم أي أن كل الجثث قد تم تحليل الجينات الوراثية لها، حتي يمكن أن يتعرف عليها ذووها قبل دفنها أو حتى بعد دفنها، وقيل أن كل جثة به قطعة معدنية مكتوب عليها جميع المعلومات. ولكن معاملة موظفي المشرحة للأب تجعل كل هذا أمرا مشكوكا فيه.  وعندما عرض يسري فودة الأمر  على المسئول متسائلا كيف يحدث هذا اللبس والبلبلة، وكيف يشيع مسجونون على أنهم شهداء، كان رد المسئول مستفزا للغاية إذ قال: "أكنت تريد أن نرميهم ولا ندفنهم أليس هؤلاء مصريون"  والهدف من هذا الهجوم واضح، هو الهروب من الإجابة من ناحية، وتحميل كلام المذيع المحترم معاني لم يقلها، وبعد القيل والقال، والسؤال والإستفسار، قال بشكل مختصر أن هذا الأب يمكن أن يجيء إلى مكتبه، ويذهب إلى المشرحة لتؤخذ منه العينة، وإستشاط يسري فودة غضبا إذا قال له أنه كان من المتوقع منه أن يعلن أنه سيطالب بمسآلة الموظفين الذين أهملوا واجبهم، والإستفسار الجاد عما حدث في المشرحة من إستهتار بأهالي المفقودين الذي إختاروا أن يقفوا ضد الطغيان، ونزلوا حاملين رؤسهم على أكفهم في تلك الأيام المشهودة.
لقد تعرضت لهذه الحادثة بالتفصيل، لأنها تدل على أن النظام ما زال موجودا، يتلاعب مسئولون بالألفاظ، ويتخذون من الهجوم وسيلة للدفاع، ثم يبدأون بتقديم حلول فردية، دون النظر إلى أخطاء المؤسسة والموظفين الذي لا يقومون بواجباتهم. وذكرني هذا الموقف بما كان يحدث قبل الثورة، عندما يقع على مواطن ظلم من أحد الجهات، وإذا به يصرخ مطالبا مبارك بالتدخل، بإعتباره كبير العائلة، وحامي حمى البلد، ويستجيب الرئيس السابق، وسط شكر المواطن المستضعف وتعبيره عن الإمتنان. كان هذا المشهد يحدث بشكل متكرر مستفز، ويثير في رؤسنا جميعا سؤالا لا يجد إجابة، لماذا لا يكون هناك نظام يعامل المواطنين جميعا سواسية، ومن تخلف عن أداء واجبه،  يحق عليه أن يحاسب، ويعاقب تبعا للقانون.  ويبدو أننا لا نزال نعيش في نظام فاسد، ذلك أن مرض الفساد قد تخلل جسد الدولة، فأصبحت عملية إقتلاعه عملية عسيرة للغاية، تتطلب علاجا قد يطول أو يقصر – يعلم الله – ولكن أرى أن الجراحة في هذه الحالة أفضل من المسكنات، والكلمات الفضفاضة التي نسمعها من هنا أو هناك، سواء من المجلس العسكري، ومن رئيس الوزراء، ووزرائه. وهذا ليس قدحا في أي من هؤلاء، ولكن توصيف لما يحدث على أرض الواقع.
في وسط هذا التقهقر الواضح للثورة وتقدمها، تثار مسئلة الدستور، وهل يجيء أولا، أم بعد الإنتخابات النيابية. والواقع أن هذه المشكلة قد وزججنا بأنفسنا فيها دون ضرورة، وذلك لأنني عندما إستمعت للواء فاروق شاهين قبل الإستفتاء، كان يتحدث وكأن النظام لم يسقط،  فهو يشير إلى القانون وإحترامه، وإلى ضرورة القيام بالتعديلات. هل كان اللواء شاهين يشير في هذا الوقت المبكر أن النظام هو الدولة والدولة هي النظام؟ أعتقد أن هذه هي الرؤية التي تسيطر على القائمين على الحكم، حيث أن شبح مبارك ما زال متحكما في الخطى البطيئة التي لا تتناسب إطلاقا مع مطالب ثورة إستشهد فيها من إسشتهد، وسالت دماء، وإنهارت شركات، وأصحابها الوطنيون غير نادمين في ذلك الوقت، لأنهم كانوا أمام مستقبل وطن. وبالرغم من كل التضحيات التي قدمت والروح التي بهرت العالم، مازال البعض يخلط بين الدولة والنظام.  وإلا لماذا كان علينا جميعا أن نذهب إلى صناديق الإستفتاء، ثم بعد ذلك يقوم المجلس العسكري بإصدار إعلان دستوري. ألم يكن من المنطق ألا نتعرض لهذا الإستفتاء على الإطلاق، وأن يكون أمامنا إختياران لا ثالث لهما، إما كتابة دستور جديد بالكامل، وإما أن يصدر المجلس العسكري هذا الإعلان، ويفرضه علينا بحكم اللحظة التاريخية التي نمر بها. وإذا حدث هذا لأصبح الأمر أكثر وضوحا. هذا بالإضافة إلى أن دلالة الإجابة بنعم أو لا لم تكن واضحة على الإطلاق، ولقد إستمعت إلى د. حسام عيسى الذي كان يفسر أن إجابة "لا" للتعديلات الدستورية، تعني أن هؤلاء لا يوافقون على التعديلات، لأنهم يريدون الدستور القديم كما هو. وأنا وغيري كثيرون أجابوا "لا" للتعديلات الدستورية، ونحن نتطلع أن يكون هناك دستور جديد بالكامل، لأن شرعية دستور 1971 قد سقطت عندما تخلى الرئيس عن مسئولياته للمجلس العسكري، وليس لنائبه، أو لرئيس مجلس الشعب.  والتناقض الذي وقع فيه المجلس العسكري وأوقعنا فيه هو أنه إذا كان معترفا بوجود دستور 1971، إذ لأصبحت شرعيته في إدارة شئون البلاد غير دستورية، ولو أنه إعترف بسقوط هذا الدستور، لكانت كلمة تعديلات متناقضة مع هذه الرؤية.  ما الذي حدث بالضبط ولماذا؟  إنه ذلك الإختلاط بين سقوط نظام وسقوط دولة.
إذا كان النظام السابق قد نجح في أن يتغلغل ويتشعب في أركان الدولة، فلا يجب أن نجعله يتغلغل ويتشعب في عقولنا، ونظن أننا مازلنا عاجزين عن التغيير، وأن المجتمع ينهار، والإقتصاد في خطر، ورفع الصوت من أجل الحق تعدي على القانون. إن تغلغل النظام السابق في عقولنا أخطر كثيرا من تغلقله في أجهزة، لنا القدرة على تطويرها، والقضاء على الفساد فيها، أما فساد العقول فهو الأمر الأصعب والأشق. حفظ الله مصر من كل سوء. 

No comments:

Post a Comment