Saturday, June 25, 2011

فزاعة بين الدستور والإنتخابات د. علياء رافع


ترتفع أصوات من هنا وهنا تطالب بأن تشكل لجنة تأسيسية مباشرة للدستور، مؤكدة أن وجود دستور قبل الإنتخابات أمر ضروري، بينما يرد آخرون أن هذه المطالبة تشكل تحديا للإرادة الشعبية التي وافقت على تعديلات الدستور، والتي بمقتضاها تقرر أن تكون الإنتخابات في خلال ستة أشهر من ظهور نتيجة الإستفتاء ، ومن خلالها تشكل لجنة تأسيسية للدستور. لم تذكر هذه المادة كيف ستشكل هذه اللحنة التأسيسية التي ستتكون من مائة شخص، وتركت تلك الآلية لمجلس الشعب القادم أن يحددها. وهناك رأي ثالث يرى أنه حتى لا يبدو الأمر وكأنه إستهتار بنتيجة الإستفتاء الذي وافق عليه 77 في المائة من جمهور الناخيبين، فإنه ينبغي أن توضع مباديء عامة، لا يحق لأي نص في الدستور المقبل أن يتناقض معها، وتكون هذه المباديء محل إتفاق من القوى الوطنية جميعا.
وفي هذا المقال أريد أن أتناول الأمر بطريقة مختلفة، ذلك أن فكرة التعديلات الدستورية نفسها مهزلة بكل المقاييس. كان من المقبول قبل الثورة أن تجري هذه التعديلات في ظل النظام السابق، ولو كان حدث هذا لأصبحت تلك التعديلات قفزة إصلاحية هائلة، ولكن بعد الثورة، فإنه من الناحية اللوجسيتكية البحتة from a logistic point of view  فإن "كلمة تعديلات" في حد ذاتها، فيها تعدي وتحدي لشرعية الثورة التي أسقطت الدستور كاملا ، بدليل قدوم المجلس الأعلى العسكري لتولي إختصاصات رئيس الجمهورية. ولكن وجد الشعب نفسه مدفوعا إلى إبداء رأيه في أمر لم يكن يصلح أصلا أن يكون محل خلاف.  لم يكن هناك بد من أن تكون الخطوة الأولى هي كتابة دستور جديد تماما من الصفر. 
يمكن القول تلخيصا للفكرة أن المجلس العسكري على الرغم من موقفه الرائع في مساندة ثورة 25 يناير، ولكنه يدير الأمور من منطلق الإصلاح، وليس وجوب التغيير الجذري للنظام السابق، دون إسقاط الدولة. وعندما أقول "التغيير الحذري"، لا أغني بهذا أن نقع في فوضى سياسية وإجتماعية، ولكن الإعتراف بشرعية الثورة كان يستلزم رؤية واضحة، وخطوات عمل تتناسب مع هذه الرؤية، خطوات منظمة تراعي إستمرارية الدولة وشرعية الثورة.  ولم يكن هناك داع لهذا الإنهاك في تلبية مطالب الجماهير، وعدم الإستجابة لها  إلا بعد مظاهرات عديدة، أو التهدئة عن طريق إجراءات جزئية لا تتناسب مع ضرورة الحركة السريعة. كان خليقا بالمجلس الأعلى أن يسبق الجماهير في تثبيت أركان هذه الثورة، لأن شرعية وجوده نفسها مستمدة منها. وليس  لدي أي تفسير في هذه اللحظات عن سبب هذا التباطؤ سوى أن المجلس العسكري  لم يستطع أن يستوعب تماما دلالات هذه الثورة، ولذا جاءت سياساته "إصلاحية" مع الإبقاء على أساسيات النظام – ليس فقط من ناحية الأشخاص في مختلف المجالات الحيوية – ولكن حتى أسلوب العمل والتعامل مع الجماهير ومطالبها لم تتغير، وهو ما أشاع إجباطا عاما، على الرغم من حرص هذه الجماهير على عدم التصادم مع المجلس الأعلى.
والذي إستمع إلى اللواء فاروق شاهين وهو يدافع عن منطق التعديلات، سيدرك أنه كان يتحدث بمنطق الإصلاح وليس بمنطق الثورة,  وفي نفس الوقت سواء كان الأمر مقصودا أو غير مقصود، فإن الإبقاء على وزارة أحمد شفيق، وما كان يحدث في أثناء هذه الفترة من إستفزازات في أداء هذه الوزارة كان أحد الأمور الجوهرية التي شغلت الرأي العام، بدون مبرر أيضا. لأن إقالة هذه الوزارة كان أمرا منطقيا وطبيعيا، مهما كانت كفاءة رئيس الوزراء أو الوزراء (مع التحفظ).  ولا أدري لماذا لم يختار المجلس الأعلى أو د. عصام شرف بعض شباب الثوار الكفء. ذلك أننا عندما نقول شباب، لا يعني ذلك أن كلهم لم ينضح مهنيا وقكريا، فكثيرون من هؤلاء تتراوح أعمارهم بين الثلاثينيات ومنتصف الأربعينات,  ولهم خبرة وباع في مجالات تخصصهم. وكان من الأولى أن يأخذوا بعض المقاعاد الوزارية ليعطوا لأداء الوزارة حيوية الثورة وتطلعاتها. ولكن على أي حال يبدو أن هذا الأمر جانبيا في ظل خطورة  ما نمر به الآن، ذلك أن الأمر ليس مجرد إختلاف أراء، ولكنه تحديد لمسار هام في مستقبل هذا الوطن.  
 وعلى الرغم من أن الرأي البراجماتي التوافقي الوحيد هو ضرورة إصدار مباديء عامة والسير تبعا لما جاءت به الأغلبية في الإستفتاء، ولكنه ليس كاف للمحافظة على نقاء الثورة وحيويتها. فهو خطوة إحترازية حتي لحماية الدستور القادم من إتجاهات فكرية راديكالية لا تعبر عن جموع آمال وطموحات وثقافة الشعب المصري. ويبدو أن هذا هو المحرج الواقعي الوحيد لهذا الإحتدام في الرأي بين دستور أولا أم  إنتخابات أولا. ولكن أعتقد أن منطق الثورة يستلزم من القضاة والقانونيين الذي كانوا جزء امن هذه الثورة، أن  يهبوا هبة واحدة، مؤكدين أن الإستفتاء في حد ذاته لم يكن يتناسب مع شرعية الثورة، أي أنه غير شرعي، وبالتالي فإن كل ما يترتب على باطل فهو باطل. ومن هنا تبدأ تكوين لجنة للدستور، ويلغي الإعلان الدستوري الذي قام به المجلس الأعلى والذي أعاد فيه بعد تعديلات طفيفة العديد من مواد الدستور الذي سقط، والتي صدم بعضها الجمهور، مثل الحفاظ على خمسين في المائة من العمال والفلاحين في مجلس الشعب. وهذا الإعلان أيضا لا يعتد به. لو أن المجلس الأعلى قد قام به وكان إجراء الإستفتاء عليه، لكانت شرعيته أقوى، ولأصبحت التراجع عن هذا الإعلان وعن الخطوات التي ينبغي أن تؤخد إلى أن يسلم المحلس الأعلى سلطات رئيس الجمهورية إلى رئيس منتخب، مستحيل.
ولكن لتدارك الموقف الآن وكي يمكن أن تكتسب الخطوات القادمة شرعية دستورية، ينبغي أن يكتب دستور جديد تماما ويتم الإتستفتاء عليه، وليكن أحد الدساتير التي شهد لها حكماء الدستور، وعامة القوى الوطنية بالتوازن والجودة مرجعية، يمكن البناء عليها.  وأعتقد أن الإهتمام يجب أن ينصب على شكل الدولة التي يتفق الكثيرون أن تكون رئاسية برلمانية للتناسب مع الثقافة والتاريخ المصري، وأن تنتهي اللجنة من دستور مؤقت يتم بناء عليه إنتخابات رئاسية. وتكون الإنتخابات البرلمانية هي الخطوة الأخيرة بعد قدوم رئيس مصري. ذلك أن وجود رئيس يأخذ إختصاصاته من الدستور الجديد سيخلق إستقرارا يمكن من خلاله أن تكون الإنتخابات البرلمانية معبرة عن الجماهير.  ويجب ألا ينتمي المرشح لرئاسة الجمهورية لأي حزب في هذه المرحلة على الأقل، حتى لا يؤثر على شكل البرلمان القادم.
قد تختلف أو تتفق معي الأراء في هذا الترتيب الذي أجده منطقيا وموضوعيا، ولكن ما أود أن يحدث إجماعا قانونيا عليه، هو أن الإستفتاء على التعديلات الدستورية باطل لأنه يتعارض مع شرعية الثورة، وبالتالي فهو يتعارض مع تولي المجلس الأعلى العسكري لإختصاصات رئيس الجمهورية.  وسيكون معنى ذلك تشكيل لجنة من أجل كتابة دستور جديد فورا وبدون تباطؤ.  هل يمكن أن تنطلق الصيحة والصرخة والطلب هذه المرة من القضاة والقانونيين ليلحق بهم الشعب كله في ضغط مباشر على خط السير نحو تحقيق مطالب الثورة؟ لقد تجاوب المجلس الأعلى العسكري مع كثير من المطالب، وهو مايحمد له، ونرجو أن يسير مع نبض الحماهير وآمالها، لأن الحفاظ على تلك الروح التي قامت بالثورة هو الذي سيدفع مصر إلى النهضة، وتخطي كل الآثار السلبية التي أتي بها النظام متعمدا كي يوقف من هذا المد الجماهيرى. أما إذا فقد الشعب نبضه، سنستمر لسنوات طويلة في عصور ظلام. وهذا ما لا يمكن أن يحدث إن شاء الله. 
لاينبغي لنبض الجماهير أن يهدأ حتى نحقق الأهداف التي رنا إليها الشعب عند قيامه بهذه الثورة الرائعة. لا أستعجل الزمن وندرك جميعا أن تلك الأهداف ستأخذ وقتا، ولكن حتي تطمئن قلوبنا فلا بد أن نسير في الطريق الصحيح بشرعية الثورة، وليس من منطلق "إصلاح نظام قد سقط" . 

No comments:

Post a Comment