Monday, July 25, 2011

فجر تاريخ جديد: ثورة 25 يناير

فجر تاريخ جديد: ثورة 25 يناير  
تقديم
فاجأتني الثورة المصرية كما فاجأت غيري بقوتها وعنفوانها، بسلميتها ووضوح رؤيتها، بمشاركة الشعب المصري بكل أطيافه وطبقاته وعقائده وأيديولوجياته. فاجأتني لأن المراقب لما آلت إليه حال البلد، كان يتصور أنها تموت، وكانت الكلمات الصادرة من الأقلام الشريفة تجد طريقها بعد طول لؤي وعناء، وبدت كما لو كانت تدوي في الفضاء دون ما أذن تسمعها. فاجأتني لأني وغيري لم نكن مستعدين للثورة، وكنا نعمل بكل ما أوتينا من قوة لإصلاح المجتمع على قدر الجهد والطاقة، ولكن آثار هذا الجهد المضني من شرفاء هذا الوطن كانت تتراكم ببطء مقارنة بتضخم السيطرة والإستبداد،  ولكن يبدو أن كل فكرة بناءة، وكل أمل إختلجت به النفوس الطيبة لهذا الشعب تحول إلى طاقة ألهمت الشباب أن يجمع إرادته ويتحدى المستحيل.
 لايعني أن الثورة كانت مفاجأة أنها قد إنفجرت دون مقدمات، فلقد ذخرت السنوات العشر الماضية بحركات إعترا ضية وإحتجاجية  كثيرة وتجمعات مهنية، ووطنية متعددة،  منها على سبيل المثال لا الحصر، حركة 20 مارس من أجل التغيير، بيانات حركة عمال من أجل التغيير، الحملة المصرية من أجل التغيير، حركة أطباء من أجل التغيير، الجماعة الوطنية للدفاع عن ثروة مصر، الحركة المصرية من أجل الديمقراطية، اللجنة التنسيقية للدفاع عن الحقوق والحريات النقابية والعمالية، جماعة تضامن، أطباء بلا حقوق، حركة طلاب بلا حقوق، شباب 6 إبريل، صحفيون من أجل التغيير، طلاب من أجل التغيير، عمال الاسبتوس، عمال غزل المحلة، لجنة التضامن العمالي، محامون من أجل التغيير، حركة 9 مارس، حركة أدباء وفنانون من أجل التغيير، حركة كفاية، ثم الجمعية الوطنية من أجل التغيير[1]. أي تراكم الغضب، والرفض للنظام البائد على مر السنين وكان التغيير مطلبا رئيسيا في ثورات الغضب المتعددة، ولكن عندما نقول أنها مفاجأة، فذلك لأنه لم يكن مخططا لها تخطيطا تنظيميا، أي لم تكن الطليعة التي خرجت يوم 25 يناير تتصور أن إحتجاجها سينقلب إلى ثورة. كان إندلاعها بهذه القوة وهذا الزخم دون قيادة واضحة، ودون أيديولوجية مهيمنة على الثوار مفاجأة وهذا ما جعلها ثورة فريدة. 
إذا أضفنا إلى هذا أنه كان يبدو أنه من المستحيل أن يترك الرئيس السابق مقعده قبل أن تتوفاه المنية، وكانت هناك خطة محكمة لتولي جمال مبارك الرئاسة من بعده، وهو ما أكدته النتائج الهزلية   لإنتخابات مجلسي الشعب والشوري المنحلين. ولم تكن أحزاب المعارضة على قدر المسئولية في تلك اللحظات الحاسمة، إذ أخذت تستكمل المظهر الديمقراطي بالرفض والشجب والهجوم على الحزب الحاكم دون الإتفاق على إستراتيجية موحدة لإحراج النظام، وفرض واقع جديد.  كان إستمرار هذه السلبية كفيلا بالقضاء على ما تبقي من أمل في الإصلاح من داخل النظام أو التغيير من خلاله. وأما على مستوى الشارع المصري  فإنه كان يغلي من الغضب المكتوم، وكان واضحا لأي خبير في العلوم السياسية والإجتماعية إن إستمرار الحال من المحال، وأنه لا بد أن تحدث قلاقل غير محسوبة العواقب.
كنت أخشى أن يفلت الزمام وتظهر جماعات عنف جديدة، وحركات تحتية مجهولة الهوية من حيث الفكر والغاية والهدف، وكنت أتمنى أن ينتبه الرئيس قبل فوات الأوان إلى هذا الغليان، فيمتص الغضب بحركة إصلاح حقيقية، ووجهت إليه كلمة من مواطنة مصرية تطالبه فيه بالتغيير وإتخاذ خطوات واضحة للإصلاح، وكانت المفارقة أن هذا المقال نشر يوم الثلاثاء 25 يناير.
كان مقالي يظهر على إستحياء في جريدة  نهضة مصر، ومع إدراكي أن الكلمة لا بد أن تظاهرها قوة سياسية، وأن كلماتي لن تحرك الجبل من مكانه، إلا أنني كنت أؤمن كذلك أن الأفكار تطير بدون أجنحة، وإن بلورة الفكر عن طريق الكتابة سيؤثر على من يقرأ أو من لا يقرأ. وقد أصبحت أدرك وسأكرر هذه الفكرة مرارا وتكرارا أن الإصلاح من خلال بقاء النظام كان مستحيلا.  كان هناك تجاهلا مخيفا لإرادة الشعب، إفراغا لطاقاته.  كان المقصود مما كان يبدو أنه حرية كلمة وتعبير، إفراغا  لطاقة الغضب في كلمات حتى نتعب ثم نصمت، وهذا هو القتل البطيء. وكان لا بد للنظام أن يكف عن تلك التمثيليات التي كان يعلن فيها عن نوايا طيبة، ثم ما تلبث السياسات الفعلية أن تسير في إتجاه معاكس لها.
خلال الثلاثين عاما الماضية التي بدأتها شابة متطلعة إلى الحياة، كان أملي أن أكون أداة دفع في تحسين وتطوير أدائي المهني ونشاطي المدني من أجل خلق بيئة ولوصغيرة تعبر عن آمالي وأحلامي في خلق مجتمع يعلي من قيم الإتقان، والمحبة والتسامح والعطاء. وكنت ومازلت أؤمن أن زرع نبتة صغيرة هو بداية لإعمار الأرض كلها، ولا ينبغي أن نتوقف عن عمل الخير، مهما كانت قوة الظلام حولنا، لأن الإستمرارية والإصرار هي التي ستوصلنا إلى أهدافنا. وجرى العمر، ولم أفقد الأمل ، ولم أكن أتوقع أن كل كلمة كتبتها قبل الثورة سيكون لها رنينها وقوتها، من حيث أنها جسدت تلك الصورة التي كنت أرسمها سواء كانت تحليلا لواقع أو إستشرافا لمستقبل. 
لقد إنصب فكري وتفكيري، بحثي وجهادي، أملي وحلمي قبل الثورة حول كيفية بعث هذه الروح.. روح مصر الأصيلة،  كنت أتتبع آثارها في الأعمال المصرية الفنية، في الفكر السياسي، في الطالبات اللائي أتعامل معهن، في دلالات الإيمان بإعتباره حياة معاشة، وليس عبارات تقريرية، في البحث عن رعاية الفطرة في النشء، في التحرر من القوالب الجامدة، ومن الخوف. كنت بعبارة قصيرة أتطلع إلى أن يعيش بلدي ويعيش العالم كله في مناخ من الحرية الحقيقية التي كانت تعني لي إيمانيا شهادة التوحيد المعاشة، فعندما تمتليء النفس الإنسانية بالإيمان، فإنها تكسر حاجز الخوف، وتصبح نفسا حرة. وفي ظلال الحرية تنمو الحضارات الإنسانية.
في أعماق ما كتبت كنت أستشعرتلك القوة الكامنة في شبابنا وفي شعبنا، أدعوها أن تنتفض، أبحث عن بصيص نور هنا وهناك كي تهب، أدعو إلى أهداف كبرى تجمعنا، وأنا أراقب بألم تفكك المجتمع ومظاهر هذا التفكك. ألمح وأشير إلى مظاهر الإغتراب، وأرسم طريقا يعود بنا إلى الإنتماء.  كانت تلك المقالات تحلل حينا وتدعو حينا آخر، تشخص المرض الروحي للمجتمع،  وتحاول وصف العلاج في أحيان أخرى. هكذا راح قلمي يبحر هنا وهناك. كنت على وعي بأنه ستجيء لحظة يقظة، ولكن لم أرها قريبة، ولم أتوقعها في ثورة. وكيف لي أن أعرف أن هذه الثورة ستكون بمثابة الفجر الذي طال إنتظارنا له، والصحوة التي عبرت عن أجمل ما في الشخصية المصرية. 
تلك الثورة كانت بعثا لروح مصر، لأن تلك الروح التي ظهرت كانت تعبر عن سمات الشخصية المصرية الحضارية التي إمتدت عبر كل لحظات الإزدهار في التاريخ المصري. إنها تلك الروح التي صنعت الحضارة المصرية العظيمة، والتي إستقبلت المسيحية، وحولتها إلى نغمة حب للوطن فكان الإستشهاد في عصر الرومان كما هو في كل عصر، وكما هو الآن دفاعا عن الحرية والكرامة الإنسانية. أنها نفس الروح التي إستقبلت الإسلام، وعبرت عن سماحته وإتساعه ورحمته وإحتوائه لما سبقه من الرسالات، والتعامل مع أهل الكتاب بالمحبة والإحترام.
كنت أتصور أن هذه الروح الوثابة المتطلعة إلى الله في كل لحظات تاريخها تكاد تختفي أو تموت من جراء الهجمات الفكرية القادمة من شبه الجزيرة العربية، أو بحثا عن فكر سياسي يعبر عن الهوية فإذا به يسيس الدين، ويستخدمه، ويضيع ما بين الدين والسياسة.  ولذا فإن بزوغ هذه الروح بدا وكأنه معجزة بكل المقاييس.  حقا كانت يد الله ورعايته ظاهرة وواضحة، إذ بعثت في هذه اللحظة روح مصر، وعندما أردد "روح مصر"، فهذا يجعلني أتذكر نظرية العالم السويسري كارل جوستاف يونج عن اللاوعي الجمعي، وما يختزنه البشر على مر التاريخ في اللاوعي. فنحن في اللحظة التي فقدنا فيها الأمل في أن تعود للمصريين أخلاقهم التي عرفناها من خلال التاريخ والقراءة، ومن خلال التعامل مع نماذج عظيمة من البشر تحمل هذه الأخلاق، وملأ اليأس  قلوبنا، إذا بالشعب يتعرف  فجأة على قوته وروحه. وهو ما جعل أحد الصحفيين الألمان  في أحد البرامج الحوارية يشهد  أنه على الرغم من تواجده في إيران أثناء الثورة الإيرانية، وفي تونس أثناء الثورة التونسية، وأيضا في السودان من قبل حين الإطاحة بنظام النميري إلا أنه يؤكد أن ما رآه في مصر كان شيئا آخر، بهرته سلمية الشعب، وإنتشار الثورة في أرجاء مصر مرة واحدة، ووضوح الرؤية والهدف دون قيادة واضحة  "إنه شعب يتعرف على نفسه وتعود إليه الروح".[2]
 أعتقد أن توفيق الحكيم الذي كتب في القرن الماضي روايته المعروفة "عودة الروح"، كان ينهل من هذا المعين القابع في أعماق تاريخ مصر، ويتحدث عن أمل، ظن أنه رأى بعضا منه في ثورة 1952 ، ولو كان موجودا بيننا اليوم، لأكتشف مزيدا مما لم يكتب عنه.  
إستعدت قراءة ما كتبته في السنين الماضية من مقالات متنوعة، ووجدت أن من واجبي في هذه المرحلة التي يمر به وطننا، أن أجمع ما كتبت في مجلد واحد أو كتاب واحد، يركز في الأساس على "ثورة مصر في 25 يناير".  إذ أنه من حق الناس حتى تدرك قيمة اللحظة الحاضرة، أن تستوعب المرحلة الماضية بكل ما فيها من أحداث وعبر،  وكيف كان الأمل والإحباط يتعانقان بشكل درامي في قلوب المصريين، إلى أن جاء هذا الحدث الزلزال.  وما زال أمامنا كثير من التحديات التي يجب أن نعبر فوقها، ولا نرجع إلى الوراء قيد أنملة. ينبغي أن نتذكر مصر قبل الثورة، ليكون لنا ذلك تذكرة، فلا نقبل مرة أخرى أن تقهر إرادة هذا الشعب، أو يستهان به.  أمامنا المستقبل لنبنيه بمشيئة الله.


[1]  أنظر ببلوجرافيا الحركات الإجتماعية في مصر: بيانات الحركات والكتابات النظرية عنها، باحث رئيسي أحمد خير،  صادرة عن مؤسسة دعم لتنقنية المعلومات، ومؤسسة فريدريش ناومن من أجل الحرية، بدون سنة نشر. أنظر أيضا عبد الغفار شكر: "حركات الإجتجاج .. من الأستعداد الماضوي إلى قلب الثورة" في "  د. عمرة هاشم ربيع (محررا) ثورة 25 يناير: قراءة أولية ورؤية مستقبلية، مركز الدراسات السياسية والإستراتيحية، مارس 2011.
[2]  في برنامج العاشرة مساء 

1 comment:

  1. رائعة و فى انتظار الجزء القادم نحن فعلا فى حاجة لتسجيل أحداث هذة الثورة وبهذا الصدق الذى يدخل القلب ويمس الروح

    ReplyDelete