Tuesday, January 17, 2012

الأيقونة التي خلقتها ثورة 25 يناير د. علياء رافع

منذ  أعوام طوال، قدم لي صديق من الهند ورقة عليها صورة غاندي، وبها "تعويذة" لزوال اليأس والاكتئاب. وتعجبت من مقولته ومن العنوان الذي كتب على الورقة، ولكن زال عجبي وامتلأ قلبي بالبشر بعد أن قرأت الكلمات، كانت مجرد قراءة الكلمات التي كتبت على هذه الورقة مبعثا للإنشراح، حيث قال غاندي في بساطة شديدة أنه إذا استبد بأي إنسان شعور بالحزن والاكتئاب واليأس، فليفكر في أكثر الناس تعاسة في العالم، ممن أهم أشد منه في المحنة والآلام، وليفكر جيدا وبعمق كيف يمكن أن يساعد انسانا ليخرج من كبوته وألمه ومحنته. لا شك أنه سيجد إنسانا ما قريبا منه في حاجة إلى مساعدته. عندما يفكر جديا في الخروج من محنته إلى مساعدة غيره، ستنقشع غمامة الحزن والاكتئاب.
إذن كلما اجتررنا أحزاننا وأخذنا ندور في دائرة مفرغة من الألم، نجد أن فكرنا قد أحاطنا بقيود وسجننا في دائرة النفس الصغري، والطريق الذي يخرجنا من هذا السجن أن نترك ما يحزننا وننطلق لنرفع الحزن عن غيرنا، وهذه الخطوة ستساعدنا أن نتغلب أيضا على أحزاننا. إنه تدريب بسيط ولكنه عميق في دلالاته وأثره عندما يصبح منهجا شائعا بين البشر. تذكرت هذه التعويذة وأنا أرى حرارة في المطار يستقبل رضا. كلاهما فقد نور عينيه، ومع ذلك ترى البشر على وجهيهما، وترى التصميم على استكمال الطريق. كيف يفكر هذان البطلان؟ إن أسوأ من أن يفقد الإنسان نور عينيه أن يفقد نور بصيرته، والخوف من الطاغية أسوأ كثيرا من أن يفقد إنسان عضوا من أعضائه، حتى لو كانت عيناه. لا بد أنهما يدركان هذا "الأسوأ" ويريدان أن يساعدونا على إدراك قيمة الحياة ومعناها. حقا لقد أضاء لنا هذان الشابان الطريق. ما الذي يمكن أن يكون أعظم من مساعدة الملايين على الرؤية؟
 لا شك أن تلك السكينة المرتسمة على وجهيهما نتاج للامتلاء الروحي والنفسي لأنهما قدما حياتهما من أجل هدف أكبر من الدائرة الضيقة التي تدور فيها النفس، فعلا ذلك بتلقائية شديدة، ووضوح في الرؤية، ولذا فإن الإطمئنان والبشر اللذان ينعمان به غمر روحهما وأعطاهما ذلك الضياء الذي ينضح به وجهيهما. هل ينتابهما القلق مثل الكثيرين ألا تحقق الثورة أهدافها؟ هل يندمان أنهما فقدا أعينهما بينما ترتفع أصوات تتهم الثوار بأنهم سبب الفوضى؟ هل يلمحان أولئك الذين يستخدمون فكرة الثورة من أجل التجارة والكسب؟ لا شك أنهما يدركان كل ما يحدث حولهما، ولا شك أنهم بشر يمتليء قلبهم بالألم، ولكن لا أحسب أنه يمكن أن يشعرا بالندم، خاصة وتلك القلوب حولهما تشد من أزرهما، وترسل لهم حبا وتقديرا حتي ولو على البعد.
ونظرا للظروف التي نمر بها، وبعد الأحداث الدامية التي أخذت تتوالي وتتصاعد في شدتها وعنفها، حتي أن معركة الجمل على وحشيتها أصبحت حادثا صغيرا بجانب أحداث ماسبيرو، وشارع محمد محمود، وأخيرا مجلس الوزراء، فإننا في حاجة إلى تعويذة مثل تعويذة غاندي، ولكن يبدو أنها لن تكون فاعلة في حالتنا. إن قلوبنا جميعا تدمي لتلك الأرواح التي خسرنا من خيرة أبناء مصر وشبابها. لم يعد الأمر يخص حزنا خاصا أو يأسا خاصا، بل تعدى الأمر إلى إحساس عام بعدم الأمان. وإذا تركت ما يكتبه المحللون عن السيناريوهات والاحتمالات، لن يبق أمامي إلا شعور مبهم بعدم الاطمئنان. من يقولون أن ستة أشهر ليست زمنا طويلا لتننتقل السلطة إلى مدنيين، لا يرون الأخطار المحتملة والتي لا نستطيع أن نشير إليها بالبنان، لأن الأحداث تجيء إلينا دون  توقعات. يُهاجم متظاهرون مسيحيون في ماسبيرو بمدرعات وبلطجية ويُقتلون بدم بارد، ويُعتدى على مصابي الثورة في التحرير بقسوة وغلطة تثير حنق الشعب كله، فينزل ويلاقي ما يلاقي في شارع محمد محمود، ويصرح رئيس الوزراء أن الاعتصام حق مكفول للجميع وأنه لن يتم الاعتداء على معتصمين، فإذا بنا نرى بأعيننا الطوب والرخام والمولوتوف يقذف بها من أعلى سطح مجلس الشعب على اعتصام سلمي، ويتم تعذيب الفتيات ومن يدافع عنهن من الشباب، ويصبح الضحايا بعد ذلك متهمين، ويستمر مسلسل ترويع المجتمع بمداهمات منظمات أهلية حقوقية بصورة بوليسية  لتخرس الألسن، ويتم اتهام النشطاء بشتى أنواع المخالفات والجرائم (الشيخ مظهر شاهين،  نوارة نجم، أيمن نور، طارق الخولي..إلخ).  ما الذي يمكن أن يكون أسوأ مما يحدث لنا؟ كيف يمكن أن نساعد أنفسنا ومجتمعنا في هذا الجو غير الآمن؟  حقا على المستوى المنطقي يبدو أنه لا بديل سوى الانتظار لانتخابات مجلس الشوري، ثم فتح الباب للترشيح للرئاسة في تزامن مع وضع الدستور. ولكن قياسا على ما حدث من قبل، لا ندري ماذا يمكن أن يحدث غدا؟ هل سيظهر بلطجية يهجمون على نشطاء؟ أم سيتم القبض على متآمرين؟ أم أن البلاد في وضع خطير يستلزم تأجيل هذا أو ذاك؟
عندما دارت بخلدي هذه الأسئلة التي يشاركني فيها الكثيرون بلا أدنى شك، تلاحقت أمامي صور الشهداء، بدءا من أول أيام الثورة وإلى اليوم، كلهم يبتسم ابتسامة اطمئنان وسكينة ورضا. لم تكن وجوها ساخطة ولكنها وجوه مستبشرة، لقد ظن جلادوهم أنهم قتلوهم، ولكن الحقيقة أنهم قد أعطوهم مزيدا من قوة العمل "لا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أموانا بل أحياء عند ربهم يرزقون".
 لم ولن يختفي هؤلاء الشهداء من ساحة الدفاع عن الحرية والكرامة الإنسانية، لأنهم قد أصبحوا أيقونة خالدة، تعطينا – نحن الذي ما زلنا نتسربل في الرداء المادي – قوة لا تنضب، كلما وهن العزم، واختفي الأمل تظهر لنا هذه الوجوه، هنا يبدو الشيخ عماد عفت، وهناك علاء عبد الهادي، ومينا دانيال، وكل من يعرف شهيدا سيجد روحه ترفرف وتبعث الأمل. كلهم يعطينا قوة مضاعفة في استكمال الرسالة، مدركين أن الحياة الحقة هي تلك التي تشع قيمة ومحبة، وأن الموت هو انكسار النفس والروح إذا ما انتابها الخوف، وانحنت إلى الجبابرة والطغاة.
كلما لاحت وجوه الشهداء في الأفق، انطلق نور يظهر الحق حقا، ويرينا الباطل باطلا، ويبدو هؤلاء الذين يخادعون أنفسهم، والذين يريدون أن يلبسوا الحق بالباطل واقفين في كهوف مظلمة مختفين ومهجورين، ويضحك منهم التاريخ ضحكة كبيرة، لأنهم اختاروا أن يكونوا ممن يلقيهم الزمن في غياهب النسيان، وينظر إليهم الحكماء على مر العصور باستنكار وشفقة متعجبا أنهم لم يتعلموا من حكمة الزمان وما حدث للأولين. ألم يدركوا بعد أن كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء، وأن الكلمة الخبيثة مثل الشجرة الخبيثة اجتثت من فوق الأرض وما لها من قرار. 
ما يبدو واضحا الآن أن معاقبة من قتل الشهداء على مدار العام الماضي بدءا من 25 يناير 2011 واجبا فوريا. وأنه لا مناص من إخلاء السجون العسكرية من المدنيين ومحاكمة المتهمين منهم أمام قاضي مدني. لا يحتاج الشعب اليوم إلى الوصاية أو التهديد، ولذا فإن الطريق إلى استعادة الثقة بين الحكام وبين الشعب لن تتواجد ما لم توجد  شفافية ومصارحة . عار على من ينكرون أن أخطاء لم ترتكب في حق هذا الشعب. عار على من يصدقون معسول القول ولا ينتبهون إلى قسوة الفعل.

ولأن قوة الشهداء مستمرة معنا، فلن تهدأ الثورة قبل أن تحقق جميع أهدافها، وسيخسر من يقف أمام هذا النهر الجارف الذي بدأ في السريان ولن يتوقف قبل أن يطهر الطريق أمامه. حقا لقد أصبح الشهداء أيقونة مستمرة في وجداننا، أنهم الملاذ الذي سنتذكره كلما لاح يأس أو اكتئاب أو احباط. أيقونة الشهداء تؤكد أنه بدون حرية لا حياة. حفظ الله مصر وجنودها الشرفاء وشعبها النبيل.   

No comments:

Post a Comment