Tuesday, January 24, 2012

البرادعي ليس مرشحا محتملا بل قائدا روحيا للثورة د. علياء رافع

عندما علمت بإعلان د. البرادعي عن انسحابه من سباق الرئاسة، انتابني كما انتاب الكثيرون من مؤيديه -على ما أعتقد - غصة وألم أن نفقد أملا في أن يجيء رجل مثل البرادعي ليقود المسيرة في المرحلة المقبلة. ولكن عندما استمعت إلى كلمته التي ألقاها شرحا لهذا الموقف، أدركت أن اختياره يتناسب مع شخصيته الشجاعة المنحازة إلى المباديء قبل الأهداف الشخصية. أدركت أنه مرة أخرى يقف أمام الطغاة ويتحداهم دون خوف ودون مواربة، وأن موقفه سيكون مرة أخرى ملهما للجماهير العريض ألا تتخاذل عن تحقيق الحلم.
وأريد مع قارئي أن أتوقف لأحلل هذا الخطاب بروية، لأن الكثيرين ممن اعتصرهم الألم تقاذفتهم الأفكار السلبية أيضا تجاه رجل أحبوه ووضعوا آمالهم عليه، وظنوا أنه خذلهم.  ولكن قبل أن أعيد القراءة في الكلمات التي عبر بها د. البرادعي عن اختياراته، أحب أن أقرأ الموقف  نفسه. سنجد أن موقفه يشير إلى أنه قد خرج من موقع الهدنة مع من يحكمون مصر، إلى موقف المقاومة لسياساتهم. لم يكن انسحابه إذن تخاذلا أو هربا، ولكن كان بداية لعمل قادم واضح المعالم، لا بديل عن الحرية والكرامة الإنسانية.   
بعد هذه الرؤية المبدئية، نعود إلى الخطاب مرة أخرى لنجد أنه في بلاغة وقوة شبه الثورة بالسفينة والمجلس العسكري بالربان الذي قاد هذه السفينة دون أن يتوجه بها إلى المسار الذي يعبر عن رغبة أصحابها. واتخذ مسارا آخر ليعود بهم إلى نقطة البدء. هل فعل ذلك عن جهالة أو عدم خبرة، كما يقول الكثيرون؟  لو كان ذلك كذلك لسأل أهل الخبرة، ولكنه أبي أن يفعل.
نفهم إذن أنه كانت هناك محاولات من د. البرادعي  للمناقشة والنصح ولكنها باءت جميعها بالفشل. نذكر أنه قد قابل المشير في أعقاب أحداث محمد محمود، والتي أوقعت وزارة عصام شرف، والتي أسفرت أيضا عن وضع تاريخ محدد  لانسحاب المجلس العسكري من اختصاصات رئيس الجمهورية بعد انتخاب رئيس، وإنشاء المجلس الاستشاري. اقول أنا ما لم يقله البرادعي من أن ذلك المجلس الاستشاري شكلا خاليا من المضمون، لأنه لا يقوم بأي دور فاعل، بل إنه قد فشل في أول موقف اختبار، إذ أنه بعد أول جلسات انعقاده، تم ضرب المعتصمين في مجلس الوزراء، واستقال القليلون، بينما وقف رئيسه مزهوا بأن المجلس العسكري قد استجاب لطلبات المجلس الاستشاري، مخادعا نفسه قبل أن يخدع غيره، لأن مطاردة النشطاء واصطيادهم كانت تتم في الشوارع، والتعامل معهم بكل قسوة وكأنهم مجرمين كان سياسة واضحة.   
كان البرادعي قبل أحداث مجلس الوزراء مستعدا للتنازل عن الترشح لرئاسة الجمهورية وقبل أن يكون رئيسا للوزراء بأهليات كاملة غير منقوصة حتي تصل السفينة – على حد تشبيهه – إلى بر الأمان.  وكان المجلس العسكري يدرك أن شخصية البرادعي لن تكون تحت السيطرة،  ولذا فإنه جاء بمن يمثل الإتجاه السابق وينتمي إلى الفكر القديم، ويمكن التعاون معه، ومن أفضل من د. الجنزوري للقيام بهذا الدور؟  
إن موقف البرادعي بعد أحداث شارع محمد محمود يؤكد أن حبه لبلده يفوق تطلعه لأي منصب مهما كان، ولذا  فإنه لا صحة لتلك الآراء التي تربط بين انسحاب البرادعي من سباق الرئاسة وبين تخوفه من عدم الفوز . لا بد أن أحداث مجلس الوزراء كانت أحداثا صادمة له لأنها كانت كذلك للمصريين جميعا، ولا بد أنه كان يفكر كثيرا في الموقف الذي وصلنا إليه.  إنه موقف تحد مباشر للثورة ليس فيه أي إخفاء من المجلس العسكري لرغبته في كسر شوكة الثوار. كان من الواضح أن أكثر النشطاء وطنية وتحمسا مستهدفون، إما بالقتل  أو بإقتلاع العيون، والتسبب في عاهات مستديمة.   لقد ذخر خطاب د. البرادعي بالممارسات التي لا تتمشى مع اتجاه الثورة تصريحا  وليس تلميحا عندما  تحدث عن "اتباع سياسة أمنية قمعية تتسم بالعنف والتحرش والقتل، وعلى إحالة الثوار لمحاكمات عسكرية بدلا من حمايتهم ومعاقبة من قتل زملائهم".  وأضاف إليها نقدا لاذعا لسياسة إدارة شئون البلاد سواء على مستوى الاقتصاد، أو الأمن أو الإعلام  واستمرارية رموز النظام السابق في قيادة أماكن حيوية.
ما هو المخرج إذن؟
لم يقل الرجل أن الالتفاف حوله لقيادة الثورة واستمراريتها هو طوق النجاة، لم يشير إلى شخصة من قريب أو بعيد، كما يقول البعض في تعليقاتهم، ومنهم من يشهد له بتاريخ ثوري ونضال قوى، ولكنه عبر عن إيمانه بهذا الشعب الذي كسر حاجز الخوف و انه "استعاد قدرته على التغيير" وأدرك أنه "السيد والحاكم" كما جاء في نص الخطاب.  ويعبر د. البرادعي أو يذكر بأن "سلمية" الثورة كان وسيظل سر نجاحها. وأحسب أن العقلاء لن يجدوا سبيلا آخر.
يجب بعد ذلك أن ننتبه لقوله " أن ضميري لي يسمح لي بالترشح للرئاسة أو أي منصب رسمي آخر إلا في إطار نظام ديمقراطي حقيقي يأخذ من الديمقراطية جوهرها وليس شكلها فقط". لقد وصف د. البرادعي في بداية كلمته المناخ الذي خلقه الحكم العسكري منذ رحيل مبارك عن الحكم وإلى تلك اللحظات. حيث أدخلنا "ربان السفينة" على حد قوله في متاهات وحوارات عقيمة في حين تفرد بصنع القرارات وبأسلوب ينم عن تخبط وعشوائية الرؤية". أفهم متخبطا بشكل خاص، لأننا سنجد أن القيادة كانت تمسك بالجزرة والعصا معا، وتعطينا ما يرضينا حينا، لتضربنا مباشرة بعدها حينا آخر. وفي ظل العطاء والأخذ يتم تشويه الثورة والمطالبين بتحقيق مطالبها، مما أوقع المجتمع في فرقة لم نشهد لها مثيلا، وأضعف تأييد قطاعات كثيرة من الشعب لمطالب الثورة.  إنها نفس استراتيجية المخلوع، ولكنه بصورة أفظع كثيرا، لأن "الحرب" على المكشوف وليس في الخفاء، والتحدي يتم بالعنف المباشر.
يبدو واضحا أن البرادعي متوافقا مع نفسه، وصادقا معها، سنجده أيام مبارك طالب بتغيير الدستور قبل أن يقبل الترشح للرئاسة، ونجده اليوم يكرر مطلبه. ولكن الوضع اليوم أخطر كثيرا من أوضاع الأمس، ذلك أن اختلاق الفوضى أصبحا جزءا لا يتجزأ من دفاع النظام القائم عن نفسه. كلما هدأت الأمور وظننا أننا نسير في طريق آمن، هبت رياح العنف والضرب والاعتقالات،  في محاولة لاجتذاب الثوار إلى ساحة المعركة للقضاء عليهم، قتلا أو تشويها أو اعتقالا. ومن ناحية اخرى فنحن في اختيارات أحلاها مر، لأن الإسراع بكتابة دستور قد لا تلبي آمال الجماهير المتطلعة إلى الحرية، والتمهل في هذه الخطوة يطيل حكم العسكر الذي يصعب علينا التكهن بما سيفعلونه بنا. وانتخاب رئيس جمهورية بدون وضع الدستور سيجعل أي رئيس منتخب لا يعرف ما له وما عليه مما قد يوقعه تحت سيطرة المجلس العسكري بصورة غير مباشرة.
في كل الأحوال فإن انسحاب د. البرادعي من سباق الرئاسة لا يعني أنه ترك قضيته، ولكنها بداية جديدة للنضال مع الشعب الذي لن يهدأ حتي يحقق آماله وأحلامه. وهو ما لا يستطيع أن يستوعبه من يحكمون مصر، لا يستطيعون أن يدركوا أن العودة إلى الوراء قد أصبحت مستحيلة، ولا يدركون كذلك أنهم خلقوا قاعدة شعبية تتسع شيئا فشيئا مع كل شهيد أو جريح.  لن يرض الشعب بالحرية بديلا، ولن يتوقف عن المطالبة بالحرية مهما كلفه الثمن، وكلما ازداد القمع ستزداد المقاومة.  
منذ عام طلبت من مبارك أن يستبق الأحداث وأن يحدث ثورة بنفسه في نظام حكمه ترضي آمال الشعب، ولكن لا أظنني قادرة على أن أطالب المجلس العسكري بنفس الشيء اليوم، لأن السن الماضية قد خلقت فجوة من المستحيل سدها، إنها نفس الجوة التي اتسعت يوم 28 يناير الماضي عند الضرب الوحشي للمتظاهرين، وانسحاب الشرطة، وفتح السجون، وكان طريق اللاعودة قد تأكد يوم 2 فبراير.  ولكنني آمل أن يترك الجنرالات الحكم ويرحلون عن البلاد في سلام في أقرب فرصة ممكنة. نريد سلامة مصر قبل كل شيء وبعد كل شيء. ولا شك أن الخطوة التي قام بها البرادعي بطريق مباشر أو غير مباشر ستزيد من إصرار الشعب على السير قدما لتحقيق أحلامه. 

No comments:

Post a Comment